رواية سودانية ساخرة ...

حيثيات وصل الأمانة..رواية..محمد خير عبدالله
( 1)

الصدفة، كلمة كالماء الفاتر، مثل أختها الصغرى كلمة حظ، يتشبّثُ بها الفقراء والحالمون والكسالى: أنا حظي سئ، ذاك أصبح ذو مالٍ من غير جهد؛ أي، صدفة يقولون، والكلمتان لهما عدو شرس كفيلٍ سرق أنياب ذئب وركّبهما بفمه، هو الجهد، أيضاً ابنه التعب تطاله عداوتهما، هل للإنسان دخل في العداوة التي بدأنا بها؟ قبل التسرُّع نحو الإجابة، التي أعرفها، عن السؤال السابق، أرجو إحاطة القاريء المتخيل أن ما سيقرأه بعد هذه الأسطر- قصة صنعتها الصدفة، ولم يتدخل هذا المدعو (الجهد) لننسب له أي فضل، فقد شاءت الصدفة أنْ ألتقي بكاتبٍ فاشلٍ يحمل قلماً عاطلاً؛ وشاءت الصدفة أيضا أن يشاهد معي ويشارك في القصة التي تبدأ هكذا...
(بأرجلٍ مغبّرة، وملابس أخفت لونها أوساخ تراكمت، وشقاوة أنجبها الفقر، وتعاسةٌ ينوء بحملها جسديهما، ومسيرةُ مسافة أتت على ما تبقى لهما من قوة فاستبدلتها بالإنهاك؛ الإنهاك الذي أجلسهما في تلك البقعة الخلاء بطرفِ القرية، اتخذا منها منتجعاً يُفرغان فيه إحباطات أحاطت بهما، جلس سعيد بالجهة اليمنى، ظهره تلسعه شمس الضحى، أشعتها تدفقت عرقاً نزَّ بصدره، التصق عراقيه المبلّل بالعرق، والاتساخ رسم على هذا العراقي الشقي خرطا تشبه تلك الأوطان الخربة، وجسده النحيل طبع عليه منخفضات ومرتفعات تشبه الحدود التي يصعب ترسيمها ؛ فتنشب لذلك الحروب، فأصبح، منظره بعراقيه الخرب، أشبه بأوطان أنهكتها سنابك خيول الغزاة وحرائق أبنائه الطالحون، أما صاحبكم المبجل فقد أعطاها جبينه، ليس جبيناً ناصعاً، فقط أعطاه هذا الاسم ليشير إلى مكان ما بجسد تعارف الناس على تسميته جبينا، اشتركت أيديها في خربشة الأرض الرملية، كلُّ واحدٍ منهما يُفكّر في ذات الموضوع؛ بل الموضوع يُفكّر فيهما، أعينهما ضاق اتساعها الضيِّق في الأصل، وضربات قلبيهما لها أزيزٌ يُساند زفير صدريهما في تنفيس غضبهما، غضب انصبّ على مدير المدرسة الذي هو أعلى سقفُ معرفتهما، يلوكان لعنات أرسلاها له عبر السماء؛ علّها تقفُ حائط صدٍ بين يده ومايسمى خد يحملانه، دعواتهم عليه خابتْ، دعواتٌ استجارا بها لتُقلّل بطشّه العشوائي، في ظنهما، بجسديهما، نفض سعيد يده من حبات رملٍ التصقت بها، إلا أن أثرها ظلّ بائناً كندوب على باطن كفّه، لم يكن باطن يده ناعماً؛ إنّما حبات الرمل كانت أكثرُ قساوةٍ،
مرسلاً بصره للبعيد، تراءت له بيوت يعرف ساكنيها، كيف لايعرفهم وهو أحد الحيوانات، كما وصفهم الكاتب، التي عاشت فيها، وهي بيوت بالإسم الذي دائماً لا يدلُّ على ما نُريد، بها يقطن رجال متزوجون، ونساء متزوجات،وبها عانسات وبالتأكيد يوجد بها أطفال بأعمار مختلفة، الذي عمره يوم، ومَنْ عمره شهر، وبعضهم عاش سنوات، وبها أيضاً حيوانات أليفة، غنمٌ وماعزٌ، وقليل من الأبقار. في نظرته اتجاه البيوت، تذكّر سعيد معاناته فيها، لا، لمْ يتذكّر معاناته لأن المعاناة بهذه البقعة كلون الجلد الذي يكسو العظام، شملها بحقده وثورته، ستقولون طفلٌ يحمل حقد وثورة، هذا من حقكم، واجبي الذي أعرف هو إعادة الحكمة المهترئة (في الثورة يولد الأطفالُ رجالاً) إلى أصلها (في الفقر يولد الاطفال رجالاً)؛ ليتوازن العالم. نقل مصطفى بصره إلى صديق جلسته وغضبه، تملكته رغبةٌ في الصراخ بصوتٍ عالٍ، تكوّرت الأحرفُ بحُنجرته، تجمّع مخاطٌ بلهاته منعها الخروج، اتكأ على جانبه الأيمن ليقذف بالأحرف المخاطيّة على الأرض، لامس أذنه صوتٌ جعله يبتلعها، فخفّف امتعاضه. نقل بصره إلى مصدرِ الصوت الذي يعرف صاحبه كما يعرف عادات مدير المدرسة حين يهمُّ بصفعه : وجدت الحل، هتف مصطفى الطالب الذي صحبته ركلاتٌ، وعشقتْ مؤخرته قدم المعلم، وأدمن خدّه الأيمن صفعات مدير المدرسة، ولهذه المدرسة قصة، إذا وجدنا الوقت سنكتبها، اختلف معي الكاتب زاعماً أنّ مصطفى لم يهتف بل زفر حرقته في الهواء حيث كان يجلس، وبما أن كلمة هُتاف تعجبني، سأثبتها وليذهب الكاتب إلى الجحيم، وهو حقٌ مؤكدٌ لمنْ اتخذ الكتابة مهنةً. هُتاف مصطفى قطع صمتاً طال تلك الجلسة المغطاة بغضبٍ عاجزٍ يحمله طفلان بصدريهما، كما قالت الأسطور السابقة، انتبه له صديقه سعيد الذي كان يقاسمه الوجبات اليومية، وجبات تبدأ عند طابور الصباح وتُختتم عند باب سور المدرسة المتآكلُ الأطراف، سور به صدوعات وثقوب أحدثها الطلاب المشاغبون ، كما يصفهم المدير، للهروب عبرها، ونسي نفسه، في طفولته التي حمل معها لقب الطفل المشاغب، هؤلاء المشاغبون، إذا استعرنا ماوصفهم به مدير المدرسة، كتبوا على السور كلماتٍ بذيئةٍ تخصُّ الجزء السفلي للإنسان، بذاءاتٍ أخذت المرأة نصيبٌ وافرٌ منها. سعيد ومصطفى من الطلاب الذين تركوا آثاراً فجة على السور الوحيد الذي تبرع به أحد وجهاء المدينة، سورٌ في مدينةٍ لا تعرف الأسوار، ولا تعرف إلّا وجيهين ، هما : العمدة الذي راقت له فكرة السور في زيارته اليتيمة للعاصمة. والوجيه الآخر هو الذي تبرّع ببناء السور، وقد نال لعنات بعدد الصفعات على خدي مصطفى وسعيد، لعناتٌ لم تُخفّفها كلمات المديح التي يتفوّه بها البعض، يُصرُّ الكاتب أن يَقُصّ سيرة وجيه السور ، ويصر كذلك على تصنيفه مُحسناً، أحسستُ بتهكُّمه وهو ينطق كلمه (م ..ح ..س ..ن)، لم تكن عندي رغبة لسماعها؛ لأن الكُتّاب يعشقون السخرية حقداً في علية القوم ورموز النجاح، ويبغضون فعل الخير، هل يهتم الكُتّاب برغبات الآخرين؟ سؤال لاتحتاج إجابته إلى كد ذهن. قلتُ للكاتب، بنفاذ صبرٍ حين رأيت إلحاحه على الحديث، باختصار لو سمحت؟، اتخذ هيئة العالِم وبدأ يطنب مرة أخرى: إنّه يعملُ مُهرّباً عبر الحدود. عن من تتحدث ؟ سألته، وكنتُ قد نسيت قصة المحسن؟ حدّجني بنظرة وصفتها سراً بالبلهاء، تنهد زافراً وقال: الشخص الذي تبرّع ببناء سور المدرسة، هل عرفتْ؟ أجبته بنبرةٍ هامسة: نعم، عرفت!! ثم واصلت حديثي، وأعرف أيضاً أن هذه المدينة التي نحن بها ....، قاطعني قائلاً مدينة حدودية، ضحكت؛ كلنا نعلم أنها مدينة حدودية أنا والكاتب ورجل الشرطة الوحيد والعمدة ومصطفى وسعيد وذلك المهرب الذي يسمي محسنا وكبيريسة التي تروج أخبار الثورة في جلسات القهوة الصيفية ، عدا سكانها ، فإنهم يجهلون موقعها في الخريطة ، ويشاركهم في هذا الجهل السيد الرئيس الذي يعتقد وأهلها أنها مدينة ، وأنا أتفق معهم ، ليس يقينا مني، ولكن ليس من الحصافه أن تُنكر على شخصٍ معتقده؛ فالفوارق بين المدن والقرى ليست في النوع وإنما في المقدار كما قال أحد مشايخي الذي لم أرو له شيئا ذا بال. ومن الأشياء التي يهربها المحسن، كما رواها لي الكاتب الذي أخذها بدوره عن كبيريسة، مخدرات وخمور يُخفيها بين تلافيف ملابس باليةٍ وروث بهائم، وأشياء أخرى تُعدُّ حراماً حتى عند العلمانيين (وهو اسم التخفيف للمُلحدين الذين وقف الجهل والأمية بينهم وهذه المدينة)، لكنها تجارة تجد رواجا كبيرا بالمدينة ، وتدر أرباحا طائلة أفاد منها العمدة ومدير المدرسة ورجل الشرطة والكاتب، عدا كبيريسة؛ فإنها حرمتها على نفسها نكاية في العمدة وحليفه المهرب المحسن، فهي تعتقد اعتقادا جازماً أن كل البلايا والفساد الذي ظهر في المدينة والذي سيظهر كان بسبب هذا الحلف . وقد حدّثني الكاتب، حين مرّ سعيد ومصطفى بالمسجد وهما يلوكان فكرتهما التي هزّت المدينة، واتخذها البعض وسيلة مبتكرة للتخلص من الحاكم، إنّ الحمّامات التي بالطرف الأيمن للمسجد تبرّع بها هذا المحسن، وهذه المئذنة بها بعض طوبات من إحسانه إيضاً؛ وذلك كله وسط احتجاج بعض أهالي المدينة ورفض آخرين منعتهم هباته من الجهر برفضهم، أمرني الكاتب أن أذكر في الرواية أن الأقلية رفضت التبرع، سألته بغباءٍ: لماذا امتنعوا؟ الغباءُ أصابني لصُحبتي الطويلة للكاتب، هذا موضوع يطول شرحه أجابني. قلت له ساخراً، خيرُ الكلام ماقلّ ودلّ. ستقولون: كيف يجتمع الغباء والسخرية؟ هل أحتاج لتذكيركم بأنّ لكل قاعدةٍ شواذ؟ زعق الكاتب بأذني التي كانت قريبة جدا من فمه: سأختصرها كما اختصر أحد أجدادي زوجته. رغبةٌ طفوليةٌ قادتني لمعرفة كيف اختصر جده زوجته، حاولتُ جهدي أن لا أسئلة عنها حتى لا تشغلني عن متابعة سعيد ومصطفى، يبدو أنّ المكر الذي يحمله هذا الكاتب لا يُضاهى، لأنّه سألني: هل تُريد اختصار جدي؟ كنتُ أودُ أنْ أرفض، لكن شيئاً ما جعلني أُجيبه، نعم، قلتها بتمهلٍ وكسلٍ، أستجمع الكاتب خبثة :هل تُريد اختصار جدي لزوجته، أم تريد معرفة احتجاج الأهالي على تبرُّعِ المُهرّب لبناء حمامات المسجد؟ الإثنان معاً، أجبته بسرعةٍ هروباً من لزوجة كلامه، ولسبب آخر ليس لدي أدنى رغبةٍ لكتابته هنا، رفع إبهام يده اليسرى إلى أنفه، قلتُ في نفسي، سأفعل مثله ذات يومٍ إذا سألوني، لكني سأرفع إصبع يدي اليمنى وأحكُّ به أنفه، لا عليكم المهم أنه رفع إبهام يده اليسرى إلى أنفه وقال: إن أصل الحكاية، كانت لجدي زوجة، جعلت حياته جحيماً، فطلّقها بكلمتين هما، كنتِ فبنتِ، أراد الكاتب شرحهما لي فزجرته؛ لأنهما واضحتان كوضوح الوضوح، إلا أن الغريب في الأمر من أين (لغف) جده كلمتي الحجاج هاتين وهو شخص أمي لم يزر مجالس الأدب ولم يستمع إلي أخبار القدماء؟! تركت هذه الأسئلة الفضولية وحاصرته مرة أخرى؛ حدثني يا كاتب القرن عن قصة الاحتجاج؟ نفض حجنيه كثور اعتلف ليلا بمزرعة حريص غفل عنها وقال: القصةُ ياسيدي، فرحتُ بوصفه لي ب(سيدي) إن هذا الوجيه الموسوم بالمحسن تاجر مخدرات ومهرب معروف لدي معظم أهالي المدينة، اشتري لقب المحسن هذا بالتبرُّع للمسجد، إلا أن كربيسة شمرت قربابها وسط دهشة الجميع بما فيهم العمدة نفسة وقالت: إنّ المساجد لا تبنى بالأموال الخبيثة؛ سرت همهمة أحرجت العمدة أمام نسيبه المرتقب؛ فحاول أن ينقذ زواجه ببعض الكلمات الحازمة: إلا أن الهمهمة تحولت إلى ضجيج مسوع ؛ امتعاضا من حديث العمدة، أحست كربيسة بالعظمة فارتفع صوتها: ياعمدة، الكبير بكون دليل الناس، ولو إنت ما خايف من قروش الحرام ما تبني لينا بيت الله بيها.نهض الجميع وكاد جمعهم أن يتشتت لولا عودة العمدة الي حكمته قبل أن يفسدها حلفه الجديد؛ كدي أقعدوا ياجماعة نتفاكر وألعنوا إبليس، اتو ما شايفين الحلال الجنبنا دي كلها سوت ليها جوامع، حتى حلت دافيس الكلها سكر وقمار بقت عندها ميدنة. عاد الجميع إلى هدوئه ، عدا كريبيسة التي لم تهتم بإصلاح ثوبهاالذي سقط عن جسدهاالنحيل كاهتمامها بإصلاح منطق العمدة الأعوج في رأيها؛ وقفت وسط الجميع كالوتد وإصبعها موجه نحو العمدة:هوي ياعمدة تراه كان نقعد للحول بيت الله ما منبنيه بي قروش الحرام . ضحك العمدة في محاولة لتحييد حديث كريبيسة: والله يا كريبيسة يا اختي غلبتينا بالحديث عديل كدي، لكن كدي نسمع رايكم يا رجالة.وقف الوجيه المحسن مبتدرا الحديث: الراي رايك ياعمدة. والله راي نبني بيها حمامات؛ أها قلتوا شنو؟ راقت هذه الفكرة لمعظم الحضور، إلا أن بعضهم أشترط بألا تُستعمل هذه الأموال في غير ذلك. أما كربيسة فقد باركت الفكرة على غير رضٍ: غايتو ابنوا بيها الحمامات؛ لكن حرمانة عيشتي كان أجي جنبها. سار البناء بسرعة فائقة ؛ وقبل أن يكتمل البناء بأيام أوعز الوجيه المحسن للعمدة بإقامة كرامة للمسجد. رحب العمدة بالفكرة؛ لكنه خشي من لسان كربيسة اللاذع لأن هناك أشاعة قد سرت في المدينة بأن بعض الطوب قد أُستعمل في بناء المئذنة، وأنّ العمده قد نال نصيبه من تبرّع المهرّب مقابل هذا. فكر العمدة طويلا في كيفية إقامة الكرامة بغياب كريبيسة، أخيرا اهتدى إلى فكرة عبقرية؛ نعم سنضبح كرامة المسجد، لكن حتكون بعد العشى، وعشان ما تحصل جوطة وهدريبة سندعو نفر من كل بيت. وقد أخبرني الكاتب أن العمدة اهتدى إلى هذه الفكرة لتجنب حضور كريبيسة بدعوة زوجها خامل الذكر، إلّا أن الأمور لم تسر كما كان يشتهي العمدة؛ فقد شاءت الأقدار أن يصاب زوج كريبيسة، في تلك الليلة، بحمي حرمته من المشاركة في الكرامة، الأمر الذي جعل من حضور كريبيسة شر لا فكاك للعمدة منه. بدأت كرامة المسجد هادئة في ليلة مقمرة، وقد تحلق العمدة ونسيبه الوجيه المحسن حول مائدة خُصت بكامل كبدة ذبيحة الكرامة؛ يتوسطهما رجل غريب يبدو في هيئة رجال الدين، واكتملت مائدتهم ببعض وجهاء المدينة؛ طاب لهم الأكل فاسترسلوا في المؤانسة الفكهة، وقد شهد الجميع أنهم لم يروا العمدة بهذا السرور منذ ذلك اليوم الذي نصب فيه عمدة بعد رحيل والده. إلا أن هذا السرور لم يدم طويلا ،إذ سرعان ما عاد إلى وجومه؛ ولم ندر أنه رأى كريبسة تتخايل بجوار السور إلا بعد أن تهيأ الحضور إلى سماع كلمات الترحيب والشكر التي ألقاها كل من الوجيه المحسن وإمام الجامع الذي استعاروه من القرية المجاورة لهذه المناسبة ، وعندما بدأ العمدة بإلقاء كلمته :الحمد لله بقى عندناجامع بحماماته، لم يكمل حديثه؛ فالجميع انشده من سماع صوت المرأة الوحيد بين هذا الحضور، فعرفوا أنها كريبيسة التي أتت ممثلة لبيتها؛ لمرض زوجها،كشفت شعرها وقد زينته بتسريحة المهندس، أطلقت كلماتها كالصاعقة:خلاص دخلتوا الحرام في بيت الله، والله ماني مصلية في مسجدكم دا كان ما هدّيتوا الميدنة التميتوا طوبها بى قروش الحمامات الكلكم عارفين حرمتها وساكتين. انطلقت كلماتها مرتفعة في تلك اللحظة، علت الرؤؤس، أصلح إمام الجامع المستعار من عباءته وتنحنح فقرأ (...إذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا...) .أجابت كريبيسة : كلام الله كلو سمح ، لكن بناية بيت الله بي قروش الحرام حرام؛ وكان دايرين تباروا العمدة وشلتوا على كيفكم اتوا أحرار. هذه الكلمة أشعلت الغضب بقلبٍ المُهرّب، واضطرب لها جسد العمدة، وانسربت كنسمة علي الحضور ، فأحسّوا بلذةٍ لم يعدوها في حياتهم، هكذا قال الكاتب، وقد زعم أنهم تناقلوها بفرحٍ فيما بينهم، وحكوها بسعادة لأطفالهم. وكما تشربُ الأرض الجرداء ماء الأمطار شربتها أفئدتهم، ولاكتها ألسنتهم، وحمل الأطفال الذين ولدوا بعدها اسم حرية؛ إذا كان المولود ذكراً أم أنثى،ويقال إن خمسة أولاد ٍ حملوا اسم "حريّة" ليس بينهم ابن للعمدة أو للمُهرّب، ثلاثة منهم توفوا بعد إطلاق الاسم مباشرة، أما البنات اللائي حملن اسم حرية فكثيرات، نُقرُّ بجهلنا أننا لم نعرف عددهن.هذه هي القصة التي حدثت بحذافيرها؛ رغمًا عن إضافات الكاتب التي لم ولنْ أُصدّقها مهما اجتهد، ولكي لا تُكذّبوني فهذه واحدة منها، يقول الكاتب اللعين إن المهرّب بشبابه كان يُطلق عليه حمامة المسجد؛ لملازمته له، كان يُنظّفُ سجاده، ويؤذن للصلوات الخمس، ويؤم الناس، وحدثت له حكاية عجيبةٌ مازال مَنْ حضرها، وهم جميع الذين شاركوا في هذه القصة، يتذكرها بحسرةٍ حين يُشاهدونه، مسكينٌ، لعنةٌ وأصابته، لايستاهل، هكذا يرددون هذه الكلمات، بعضهم يسخر، وآخر متضامناً، وقليلهم بين بين؛ هكذا جرت القصة يا سادتي ، ذات فجرٍ كان المهرب يُسرع الخطى إلى الصلاة، في طريقه استوقفته فتاة ذات جمال خلاّب أربك من انتظام خطواته المتزنة، كما حكي الأهالي، تلك الفتاة كانت السر الخفي الذي غير من مساراته الإيمانية، رافقته الفتاة إلى حيث يشتهي، دون ممانعة، إلى الشجرة الكثيفة التي تقع خلف حمامات المسجد، والتي يقال إنها مسكونة، دغدغت جسدة بدلكة ناعمة لم يألفها في حياته ، قضى وطره في هياج ولذة مجنونة لم يفق منها ، اختفت الفتاة بغتة، تلفت يمنة ويسرى،أسرع في ارتداء ثيابه، صعدت إلى أنفه رائحة نتنة، تحسس جسده، وهنا تكشّفت له بشاعة ماكان يفعل؛ فالخراء عالق بجميع أعضاءه، هم بالرجوع إلى بيته دون أداء صلاة الفجر، لم يجد وسيلة لذلك؛ فالمصلون قد توافدوا على المسجد، عثروا عليه ملتصقا بالحائط ، ظنوا أن لصا يحاول الهروب، انقضوا عليه بجمعهم، حاولوا الإمساك به ، إلا أن الرائحة الكريهة صدتهم عن ذلك، عرفوه من هيئته،حارهم الأمر فظنوه قد جُن، أما صاحبنا فلم يعد يرتاد المسجد بعد هذه الحادثة. هل هذا كلام يُصدّق؟ هذا الكاتب اللعين لا تخونه ذاكرته في نسج القصص المزعومة، وقصته هذه أقرب قصة، من قصصه الكثيرة التي حكاها لي، إلى الواقع. دعونا عن هذا الكاتب الأفّاك وثرثرته التي لا تنتهي. فلنعد إلى حكاية الطفلين المشاغبين، فهما الوحيدان اللذان لم ينشغلا بتلك الأحداث، نفض سعيد يده من عقب سيجارته الوطنية التي يؤكد الكاتب أنه سرقها من مكتب مدير المدرسة حين سهوة، كان مزهوا بانتصاره على المدير الذي يفرغ جل غضبه من قرارات الحاكم بصفعات عنيفة على تلاميذه، إذ كلما أصدر الحاكم قراراً كلما زاد توتر المدرسة. اتكأ سعيد على حقيبته المدرسية التي كانت، فيما مضى، قميصاً لوالده، قميص مهتريء عاش ربع قرن من الزمان على جسده، فتح سعيد فمه الذي تبقت به سنان بجوف إحداهما مزرعة للسوس، وعلى شفتيه بقايا طعام شعبي رخيص له رائحه تُزكم الأنف، صعد دخانُ السيجارة نحو وجه مصطفى قائلاً: (ماهو حلُّك ياصديقي؟)، اعتدل مصطفى بجلسته وهمّ أن يُخبر صديقه بالحل، ولكنّه عدل عنه لسببٍ لا أدريه، وذلك لابتعادي عنه لشئ لا أرى داعياً لذكره، ليس سراً كما يتوقّع القارئ ألحَّ عليه سعيد (ماهو الحل؟) سأله بضيقِ من أحس ألماً ببطنه، نظر إليه مصطفى نظرة وصفها الكاتب بالعميقة وقال: اكتب لي وصل أمانةٍ، وأنا أكتب لك مثله. ضحك سعيد الذي راقته الفكرة، وأردف قائلا: نعم، ولنفتح بلاغا في بعضنا. قال مصطفى: وهكذا نكون قد خلصنا من المدرسة والمدير الأحمق، أكمل جُملته ويده اليمنى ترتفع إلى خده الأيسر، كان يجد لذة في حك نتوءاته البارزٌة التي كثيرا ما تنزُّ صديداً له رائحة تُهيّج التقيؤ، يقول الكاتب إن هذه النتوءات كانت هي السبب الذي جعل صفعات المدير تنصبّ على الخد الأيمن. أشاح سعيد بوجهه ونهض، لم يكن سعيد سعيدا، فهذا الاسم يناقض حياة حامله، رمى عقب سيجارته ، مدّ مصطفى رجله اليمنى وداسها، يقول الكاتب إنه أفرغ فيها غضباً حمله منذ أن كان نُطفة برحم أمه، فمصطفى هذا من أشوم خلق الله ؛ يوم مولده ماتت المعزة الوحيدة لوالده، وعضّ كلبُ العمدة القابلة الوحيدة وهي تسرع لإنقاذ والدته من عسر الولادة، فتأخر ميلاده وماتت والدته في نفس لحظة صراخه. أما سعيد الذي فارق السعادة، يأمرني الكاتب، بكتابة (فارقته السعادة) وهو يساعد أمه في القضاء على والده لتتزوج بآخر، كتبتها على مضض انصياعاً لأوامره التافهة، فبعض الانصياعات الصغيره تُفرحُ الكُتّاب. سعيد ومصطفي نضجت لديهما فكرة وصل الأمانة، أسرعا نحو المدينة وهما يلوكان الفكرة حتى لا تموت طزاجتها. حتى هذه اللحظة يجب أن أطلق عليها فكرة مصطفى، والكاتب يُصر أن وراءها مدير المدرسة، ومصطفى وسعيد أداة فقط يُنفّذ بها مأربه، حمدتُ للكاتب امتناعه عن وصف تآمر المدير كما زعم، لعلمي ضحالة قاموسه اللغوي، وفقر ذاكرته التي لاتعرف إلا مفردات الشتائم والسباب، مفردات وقحة اكتسبها من قاع المدينة حيث لا يزال يعيش. هاهما مصطفي وسعيد يسيران ويلوكان الفكرة بشبقٍ، مصطفى يحذف منها، وسعيد يضيف إليها، توقفا عند سور المدرسة، كان يجب علينا التوقف هنا لنُذكّركم بقصة المدرسة؛ لكنّنا أجلنا ذلك إلى الفصل القادم، أعذرونا، وهذا يعني أنهما لم يصلا المدينة بعد. أودُّ توضيح التالي: إنّ المدرسة كانت تتوسّط القرية التي أصبحت مدينة؛ لبُغض أهلها للتعليم، فرحلوا تاركين أماكنهم وسكنوا بعيداً عنها. رفع سعيد عراقيه وبال على سور المدرسة، جرى بوله بين رجليه، وفي ذات الوقت طمس به الحرف الأخير من كلمة حمار المكتوبة على السور، تدخّل الكاتب قائلاً: إنّه لايرتدي ملابس تحت العراقي، ضحكتُ لتدخّل الكاتب وسألته باستنكار: هل ترى تدخلك هنا مهماً؟ صمت الكاتب. تركت الكاتب في وجومه وتابعت حكاية سعيد الذي انحني وحمل فحمة، تأمل الكتابات المهترئة على سور المدرسة؛ فهي كتابات تحمل تواريخ وأسماء كاتبيها وسماتهم، فالجبان منهم أشار لاسمه بحرفٍ أو أكثر، والذين لديهم نزعات فنيّة ثبّتوا رسومات معظمها لنساء يحملن نهوداً كالجبال، وأرداف مثل كثبان الرمال، وشفاه ممتلئة، رسومات بالفحم والطبشور. وسط هذه اللوحات كتب سعيد جملة سمعهاعن والده الذي سمعها بدورة في ببيت العمده، ولا ندري أين سمعها العمدة؛ المهم أنه كتب جملة ( هنا تعيش الحيوانات المدجنة). خطُّ سعيد كحياته؛ ليس جميلاً، قرأ عبارته بصوتٍ عالٍ، التفت إلى مصطفى ليرى أثر كتابته فيه، قابلته ضحكة صافية تبعها تعليق أعجب به، (ينقصهم رؤوس حمير)، رمى سعيد ما تبقى من الفحمة وأثرها باقٍ بأصبعيه (السبابة والإبهام)، رماها أمامهما وسارا متجاوزين المدرسة بسرعة شخصٍ اقترف ذنباً ما، اقتربا من بيت العمدة، تهامسا بشئ لم أتبيّنه، لكن ما ارتسم على وجهيهما يُنبئُ أنه سيرة أنثى كما علّمتني ثرثرة الكاتب، والبسمات المتبادلة بينهما، توقفا برهة قبل تحركهما إلى مكانٍ مجهولٍ سنعرفه بعد قليل، ربما ذهبا إلى بيتٍ المُهرّب وربما مرا ببيت مدير المدرسة، هاهما يسيران بنفس السرعة التي ابتدأ بها، مصطفى يسير في المقدمة وبعده بخطوات قليله يمشي سعيد، يتبادلان كلمات ملغزة ، مثل هل وافقت؟ والإجابة على السؤال بسؤالٍ آخر وهو هل نبدأ؟ هل لديك حل غيره؟ حكّ سعيد رأسه، ضحك الكاتب وقال: لا تتخيّله يُفكّر، كل ما في الأمر إنّ قملة سوداء تحركت برأسه، وبعد قليل سيُحرّك يده إلى سرواله، ضحكت أنا من نبوءة الكاتب؛ فظننت أن خياله قد خزله، لأنّه زعم أنّ سعيد لا يرتدي ملابس داخلية، كِدْتٌ أقول له ذلك، لكن سعيد أنزل يده عن رأسه وحكّ بها المكان الذي قاله الكاتب قبل قليل. نهره مصطفى: انزل يدك، علينا أن ننفذ الفكرة مهما كلّف الأمر، اقترب مصطفى أكثر وسأل سعيد: هل أعجبك حلي؟ أمسك سعيد القملة التي فارقت الحياة بين إصبعيه ودمها يلطخهما، وقال: كأنه حلي أنا! هاهما يقفان أمام بيت العمده الثاني حيث تسكن زوجته الصغرى ابنة المهرّب الوحيدة؟ أحسّا بذلك لتعثُّر أرجلهما بروث بقر وأغنام، واستنشقا رائحه بولها، وسمعا أصوات هذه الحيوانات. كانا صامتين، لا نعرف ما يجول بدواخلهما، قال لي الكاتب: إنهما لا يفكران في شئ محدّد، لم أسأله كيف علم؛ لاستعداده الفطري في التبرع بالجهل، تحرك الشابان من وقفتهما، تقودهما رغبة قوية إلى مبنىً بطرف القرية، أو المدينة، لافرق، قال مصطفى لسعيد: كدنا نصل. أراد سعيد القول هيا أسرع قبل مغادرة العاملين، لكنّه لسبب لا ندريه صمت، أو بلع جملته كما قال الكاتب، وأنا في استماعي لجملته هذه شاهدتهما يسرعان الخطو نحو المبنى، قال لي الكاتب: هيا بنا نسبقهما. قلت له: لا، يجب أن نتابعهما عن بعد. فكره جيده، أجابني، اندهشت لتبنيه فكرتي، ها نحن خلفهما نسير؛ نقف إذا وقفا، ونتحرك إذا تحركا، فجأة سألني الكاتب، هل تعرف لماذا هما ذاهبان إلى ذالك المبنى؟ قبل أن أُجيبه، بتهكُّمٍ أضمرته، واصل حديثه: هذا المبنى هرب بسببه المهرّب من المدينة، هل تعرف لماذا؟ صمت لأمنحه فرصة للقول، هل تُصدّق أنه شارك في إنشائه؟ تجاهلت حديثه لانشغالي بالشابين اللذين يقفان جوار بيت مدير المدرسة. أخبرني الكاتب أن المدير نُقل إلى هذه المدينة عقوبة له؛ فقد كانت تحوم حوله شبهات بمساندة جماعة سرية أزعجت السلطات. هل هذا الرجل النحيف الصموت يزعج؟ سألته، أجاب الكاتب: (ياما تحت السواهي دواهي). هل تحكي لي قصته؟ هذه أمنيتي، سأقصها عليك ذات يوم: هل تعدني؟ أعدك. بالتأكيد لن أصدقه، هل مثلي من يثقُ في كاتبٍ
(2)

الدنيا إناء مليء باللبن للذي يجهلها، قد تتساءلون: هل يجهل أحد الدنيا؛ وهي التي تحضن بجوفها الناس والبهائم، وحين تغضب تنفعل ابنتها المسماة سماء، يسيل بولها أمطاراً كما يُطلق عليه عادة، ونحن هنا لن نهتم بشيء قدر اهتمامنا بالناس، وتحديداً الذين يقطنون الدولة التي جرت فيها القصة، لن نذكرهم جميعاً؛ حسب أهمية الشخص ودوره يأتي ذكره، منهم من ينال سطراً ومنهم الذي سنفرد له فصلاً كاملاً، ومنهم من تجدون أخباره موزّعةً بين الأسطر، وكثيرٌ منهم نصيبه التجاهل؛ لأنه لا يستحق حتى حرفاً واحداً، رغم أنّ الحروف تُباع مجاناً، فلو كان لها ثمن لزاد افتراء الكتّاب. فلنعد إلى الدنيا التي بدأنا بها، نستقطع جزءاً مما حدث فيها، أليست الأرض من توابع الدنيا؟ نعم الأرض والناس والسماء والحكّام وأشباههم والعاطلين والكُتّاب، كل هذا الخليط تجدونه في القصة التي شغلنا الاستطراد عنها، فلتسامحونا، ها نحن نعود للقصة. لسبب معروف للبعض، وبطبيعة الحال مجهول لآخرين، أنا أول الذين يعرفون، والكاتب مع الآخرين، قررت السلطة الحاكمة بسط هيبتها على هذه المدينة، والسلطة عادة تتجلى في الوجود الشرطي، وبعده تأتي بخدماتٍ؛ رشوة للسكان، مثل ما يُطلق عليه مدرسة وحفر آبار ومشافي. والوجود الشرطي يحتاج لمقر يُباشر سلطاته فيه؛ لا سلطة بلا مكان، المكان والناس هما عكازتان تحملان السلطة. وكحتميةٍ طبيعيةٍ تكونت سلطة حاكمة بعاصمة البلاد؛ فقبل قيام السلطة لم تكن عاصمة، هذه من كرامات السلطة، وبالأحرى قام بعض الأفراد بطريقة فيها مكر ودهاء بإعلان أنفسهم سلطةً تتحكّم بمصائر قاطني البلاد. نعم، هم سكانها وليسوا أجانب، ولهم مبررات مقبولة بثُّوها بين الناس، هل يعيش قطيع دون راعي يحرسه؟ فحكمة الأجداد تقول بأنكم إذا كنتم خمسة فاختاروا من بينكم أمير، ونحن مجرد أفراد من الشعب قررنا التضحية براحتنا، وسنستلم السلطة نيابة عنكم؛ لينعم الجميع بالطمأنينة. ورغم ما تزعمه المعارضه من علاقه للحكام الجدد تربطهم بدولة مجاورة، فإنهم فتية مغامرون، حبتهم الطبيعة بشئ من الذكاء في قضية لا تحتاج، في رأي الكاتب ، إلى ذكاء ، فالحكم من أبسط مصائب الدنيا وأيسرها، وهذا كلام مجاني يتبنّاه الكاتب، بإمكاني ذكر أشياء كثيرة لا تحتاج إلى ذكاء، أوّلها الكتابة، ما أكثر الكلام المجاني الذي يتفوّه به الكُتّاب.أحكم الحكام الجدد قبضتهم على العاصمة، وكشئ طبيعي تمدُّدت السلطة شمالاً وجنوباً بعد أن آلت إليها العاصمة؛ لذا أرسلت أحد مندوبيها، سرا، لزيارة المدينة الجنوبية، يقول عنه الكاتب إنّه شخص مثل طعام المرأة العزباء، هذ وصف غريب لم أستوعبه واستحييت أن أسأله هروباً وتحاشياً للزوجة كلامه، قابل هذا المندوب بعض المنتمين للسلطة أو من لهم أشواق تلاقت مع مصالحها، لا يجب علينا ذمهم كما يفعل الذين كُتب عليهم الفقر وأذعنوا له، كل قوتهم بلسانهم الذي كالحرباء، هولاء خونة، وأولئك حرامية، هكذا يصفون الآخرين. كان نتيجة هذه الزياره اختيار موقع لإنشاء مبنى تمتد يد السلطة عبره لمن ترغب أو تود إرهابه، كما قال الكاتب، أو لتنظيم الناس وتعليمهم الحضارة واستتباب الأمن، كما تقول الحكومة، طبعاً الحكومة لاتقول إنما الذي يقول هم أنصارها. وقد شاءت الصدفة وحدها، وليس التخطيط، أن يكون ذلك المبني بالطرف الأيمن للمدينة، ويزعم الكاتب أن العمدة هو الذي أشار للمندوب بهذا الموقع، فقام بوضع علامات جُلها جذوع لأشجار قتلها الظمأ قبل يومها، وليست فأس غاضبة؛ تبرعا منه وتأييدا للعلاقة مع الحكام الجدد. هذا كله هراء فالذي قام بوضع جذوع الأشجار أشخاص جلبهم المندوب معه، المهم أن هذه الجذوع قد أخذها العمدة إلى بيته الثاني، فالعمده أحد مواطني المدينة الجنوبية، حباه الله بسطة في الجسم وقلة في الفهم، وبطريقة نجهلها نصّب نفسه عمدة، مع علمنا جميعا بالصفات التي تجعل من الشخص عمدة؛ فأولها قساوة القلب، وحب النفس، والافتخار والتباهي، وهي نفس الصفات أو العلامات عند العشّاق. فبعد أن أصبح ذلك المواطن عمدة صارت له كرش ولدانة ببدنه، أسرّ لي الكاتب أنه قبل العمودية كان قاطع طريق، أجبته كاذباً: أعرف ذلك. وبعد مغادرة المندوب المدينة ؛ أشاع العمدة أنّ الذي زاره شخصية نافذة بالعاصمة، وسعى جاهدا أن يفهم حاشيته بماهية المشروع، وأن الحكومة استشارته، وأقسم أنه لولا هذه الاستشارة لمنعهم من زيارة المدينة. وبالتاكيد صدقته الأقلية وتجاهلته الأغلبية،وسخرت عليه كريبيسة. ومهما يكن فإن الأهالي قد تناسوا الموضوع لعوامل كثيرة لا نحب الخوض في تفاصيلها؛ إلا أن أهم هذه الأسباب: شيخوخة البعض، وموت آخرين، ومرور السنوات، وذهاب تلك الحكومة التي أطلق عليها الأهالي (حكومة الشقاوة)؛ لطول تمسكها بالسلطة، وقد أعجبني وصفهم هذا، لأن الشقي، كما هو معروف، من ساء عمله وطال عمره، فقد نسوا أنّها أنشأت مدرسة تُحارب الجهل، وهي المدرسة الوحيدة بالمدينة، وحان الآن وقت كتابة قصتها كما أشرنا في الفصل السابق.أخبرتنا كريبسية أنه في ذات يومٍ ماطرٍ جاء أحد الشبّان المتعلمين زائراً المدينة، وكما هو معلوم نزل ببيت العمدة الذي أكرم وفادته، فالعمدة ليس بخيلاً كما همس البعض،وكما أصرت كريبيسة ، مكث الشاب عدة أيام، نمت بينه والعمدة مودةٌ فكّر في حبل يربطه بها، أخيرا اهتدى إلى الزواج من بنت العمدة، وفي لحظة صفاء، وبذكاء يُحمد له، سأل العمدة عن بناته، ثم سأله عن العشيرة والأهل والأحوال والتعليم والحياة عموماً. بطمعٍ ودهاء عرف العمدة مقصده، كما عرفتم أنتم الآن، فكال المديح لبناته؛ إنهنّ يجدن العواسة، وجُل اهتمامهن بشؤون البيت، وقد ربيّتهن على الطاعة العمياء، والواحدة منهن لم يُشاهدها إنسان غيري وأمها. للعمدة، كما قلنا، بنتان؛ الأولى تزوجها قريب لها، أو هكذا علم الشاب، والأخرى في سن الزواج، وختم العمدة حديثه، لو دايرها هسع نعرسها ليك، واتم جملته بضحكة يداري بها تسرعه، كان رد الشاب الحصيف، أو هكذا أردنا أن نصفه، هذا شرف عظيم لي، صمت مسافة كالتي تستقر بها اللقمة في المعدة، والعمدة ينظر فيه مليا وهو ويهمس لنفسه أنا السعيد بك. نسينا القول إن العمدة كان أكثر ميلاً للشاب، فرك الشاب يديه وقال: نحن بالعاصمة أهم شروطنا أن تكون المرأة متعلّمة، لم يستوعب العمدة مقصد الشاب، بعد عدة أسئلة وأجوبة بينهما علم العمدة أن بالعاصمة شي اسمه مدرسة تُعلّم الإنسان، وأن ابنته يجب أن تدخلها؛ لذا ذهب إلى إلى العاصمة بصحبة الشاب لينشيء مدرسة تتعلم فيها ابنته. واذا تجاوزنا تفاصيل زيارة العمدة بمعية الشاب للعاصمة؛ كدهشته لسلوك أهلها ونعومة أجساد بناتها، وتعجبه من بيعهم الطعام ، فقد التقى في تلك الزيارة بعض المسؤولين، وعاد يحمل تكاليف أخرى ومطالب من السلطة ، وبيمينه تصديق ببناء المدرسة. ولنتجاوز في هذه اللحظة كيفية إنشاء المدرسة حتى لا تقطع سيولة السرد، فالمدرسة قد شيدت ، وتم تعيين مديرٍ وأستاذ واحد، وبدأ العام الدراسي مغيرا من حركة المدينة. أدخل العمدة ابنته الصغري المدرسة طمعاً فى الشاب المتعلم ، الذي لم يتزوجها، بسبب كريبيسة التى أشاعت، في المدينة، أن بنت العمدة لها أكثر من عشيق؛ فقد ضبطتها مرة مع مدير المدرسة، ومرة أخرى مع التاجر الأصلع. وبالتأكيد دخل المدرسة مع ابنة العمدة آخرين، كسعيد ومصطفي، واستفاد منها كُثر؛ آخرهم التنظيم المعارض الذي نصّب أحد أعضائه مديراً لها، وهو المدير الذي حدثت في زمنه الثورة التي اتفق الناس جميعاً علي وصفها ب (الثورة العجيبة). ومن نتائج زيارة العمدة المدينة ظهور كثير من العادات التي لم يألفوها ،والتي اختلف الناس في تقييمها، فلأول مرة يأخذ منهم أحد مالا دون مقابل ملموس؛ أسموه الأتاوات، وهم يقصدون الضرائب التي يلحف العمدة في جمعها باسم السلطة. وقد زعم الكاتب أن كريبيسة قادت أول تمرد ضد العمدة بسبب هذه الأتاوات، فالعمدة، في رأيها، وراء هذه البلية لينعش تجارته المنهارة، فقد كان يخفي الجزء الأكبر منها عن الحكومة، ويأخذ نصيبه غير منقوص من الجزء المتبقي. أتت حكومة أخرى، بعثت مندوباً آخر أكثر سمنة وأقل لؤماً، ترك أثراً حسناً عند مواطني المدينة ومازالوا في جلساتهم بحضرة العمده يجترون كلماته التي أدهشتهم، كلمات جديدة على مسامعهم مثل لوسمحت ياسيدي ناولني ذاك الكوب، ومن فضلك أسقني ماءً، أعذرني ياسيدي، وحبذا لو فعلنا ذلك؛ فأطلقوا عليه لقب (لو سمحت)، والأطفال يُنادونه ( أستاذ حبذا). ومن إنجازات حبذا التي لا ينكره الجاحد أنه أقام السور في ذات المكان الذي اختاره المندوب السابق. مرّت سنوات ولم يأت أحد من السلطة إلى زيارة المدينة، أمرني الكاتب بكتابة التوضيح التالي، أن الحكومات تتجاهل لكنها لا تنسى، قلت له وبهذا تشترك مع البؤساء الذين لايتناسون ليال جوعهم، ويشاركهم أيضاً العشاق؛ لأنهم لا يمسحون أثر الحبيب الأول من قلوبهم، تحوصل الكاتب في صمته ، نتركة مع صمته الذي يعد من أهم حسناته القليلة ونتابع حبل السرد. تراكمت الأتربة على الحائط الأيسر للمبنى لأن الجانب الأيمن يُقابل بعض البيوت، (دائماً الغبار والسخام نجدهما باليسار)، وفي يسار المدينة، أيضا، نبتت بعض الشجيرات كما ينبت سكان المدينة، أخذن نصيبهن من الأوساخ والأتربة. ولطول فترة غياب السلطة زادت جرأة بعض الأهالي باقترابهم من المبني، وبعض المشاغبين، ومعظمهم من الأطفال، دخلوه ليتخلّصوا من فضلاتهم، وأصبح مكاناً يهرب إليه العشاق ليلا، وهو المكان الذي تزعم كريبيسه أنها ضبطت فيه بنت العمدة أكثر من مرة، وكان المُهرّب ينظر إلى هذا المكان بطمعٍ بالغ، وقد ساوم العمدة في ذلك. ولو تتبعنا الإشاعات التي تربط بين العمده والمُهرّب لترهّلت هذه القصة، ويُقسم الكاتب أن المهرّب قد أخفي مرات عديدة ما جلبه من بضائع في المبنى الحصن، ويبدو أنّ الحقيقة لم تُجانب الكاتب، فقبل أن يُباشر المُهرّب الاستيلاء على المبنى حضر مندوب آخر من السلطة؛ سلطة جديدة، والجديد شديد، هذا مثلٌ يُؤمن به أهل المدينة الجنوبية، ويعشقه الكاتب الذي أراد أن يستعرض بعض الأمثال والحكم التي جاء فيها ذكر كلمة الجديد، فقد صبَّ على أذني المئات منها. حضر المندوب الجديد وبمعيته عدة أشخاص بعربات محمّلة بالطوب والأسمنت، مكثوا عدة أيام تمّ فيها بناء مكتبين داخل سور المبنى، لم يسمحوا لأحد من المواطنين مشاركتهم، رغماً عن إصرار العمدة المُضجر، وإلحاحه المميت بإيعاز من المهرب الذي أحضر شحنة لوري من الطوب الفاسد الذي استلم منه بعد لأي؛ تخلصا من سماجته، فصار، بعدها، يفتخر ويباهي بمشاركته التي كلفت السلطة أموالا وجهدا للتخلص منها. لا يهم أن السلطة قد أفادت من طوبه الفاسد أم لا، المهم أنه أصبح أحد المساهمين في بناء المبنى الذي ذهب إليه الطالبان مصطفى وسعيد، مبنى، كما أخبرتكم، له سور عالٍ وغرفتان بجانبه الأيمن، لكل غرفه نافذتان، وبالطبع لكل غرفة باب، ظلَّ المبنى مغلقاً فترة من الزمن. يقول الكاتب إن أحد المسؤولين قد همَّ بفتحه؛ لكنّه أُقيل فجأة. وقد سألني: هل تود معرفة كيف أُقيل؟ كِدْتُ أقول له لا، ولكني حين التفتُ نحوه أحسستُ بتعاطفٍ معه. أخبرني: كيف أُقيل؟ انتفخ مزهواً وقال: إثر انقلاب عسكري أقاله ورماه في السجن كالكلب، لا أدري سبب حنق الكاتب على هذا المسؤول، رغم معرفتي اللصيقة به، إنه لم ينتم إلى أي حزب سياسي. سألته ثانية: متى ولماذا فُتح المبنى؟ انشرح لسؤالي وقال: كما هو معروف إنّ السلطة الجديدة تُفتش في آثار السلطة السابقة لإزالتها وفضحها؛ لهذا السبب أو لآخر لا أحد يعلم كيف تفكّر السلطة، فاجأته، حتى أنت لا تعرف كيف تفكر الحكومة؟ ألجمه سؤالي المباغت، رأيت تحرك زوره مرات عديدة وبفمه بحيرة لعاب. أرسلت السلطة الجديدة وفد ألى المدينة الجنوبية، يقوده أحد المهندسين ، وهو شخص طويل القامة، أسمر اللون، له شارب كث وصفه الكاتب بعانة امرأةٍ مجنونة، ضحكت من بلاغة الوصف؛ لذكريات لي مع إحدى المجنونات أيام مراهقتي، ولولا مرارتها لسجلتها هنا. أعجبت نساء المدينة بالمهندس، صار ملح ثرثرتهن، رسمن حناء على أرجلهن أسمينها (ضحكة المهندس)، دخل في شجارهن مع الأزواج، فصرن يُقارن ماعند رجالهن من شعر بشعر المهندس أما الفتيات فأطلقن علي تسريحاتهن اسم (بسمة المهندس). أما الرجال فقد أصابتهم الغيرة من هذا المهندس الملعون الذي ترى كبيريسة أن اللعنة ليست عليه وإنما على زوجاتهن اللائي جارين بنت العمدة. وقد ترددت أغنية المهندس على كل فم، وفي الأعرس يفتتحون بها الحفل ويختتمونه ، وكانت فواصل لا بد منها لإشعال فتور الراقصين؛ وقد أعجبت كربيسة بهذه الأغنية، فأفردت لها رقصة خاصة بها؛ نكاية في العمدة ورجال المدينة السجمانين. جاء الوفد مع شروق الشمس، طاف بالمبنى وحوله، تهامس أعضاؤه فيما بينهم بلغة لايعرفها العمدة، مما حدابه إلى العزوف عن المشاركه في الحديث، أخرج المهندس ورقة عليها رسومات للمبنى، نظر فيها مدققاً بقلم تحمله يده اليسرى، همهم لهم بتلك اللغة الغريبة، وقبل نهايه اليوم قرر الوفد ترك مايدل على سلطته، أشار إليهم المهندس بعمل لافتة تُلصق أمام الباب؛ تُعلن عن كنه المبنى، ويكُتب عليها بخط واضح (المركز الحكومي للعسس). كان المهرب أول من رأي تلك اليافطة، ورغم أميته عرف ما تعنيه، يقول الكاتب إن المهرب عرف محتواها لتجارب سابقة بمباني تشبه هذا المبنى، نقل المهرب معلومته إلى أهل بيته، توجّس من إخبار العمدة؛ فالمهربون يشتهرون بكتمان الأسرار، وهذا ما جعل الكاتب لا يفهم لماذا أخبر المُهرّب أهل بيته، ولو سألني لأخبرته كاذباً بأني أعرف؛ كذبة مثل هذه لا تؤثر في علاقتي به، ولكني لن أخبره، وهي علاقه لن تستمر بعد الانتهاء من سرد هذه القصة. عدنا أنا والكاتب للمبنى الذي افتكرته حكومة غير الحكومة التي أرسلت المهندس، بثت فيه الروح، نفضت الغبار الأسود عن اليافطة، بعثت له جندياً يسكن قرية مجاورة للمدينة، وشابا من الذين تخرّجوا حديثاً في أحد الكليات، شاباً طري العُود، يُصرُّ الكاتب أنّه رياضي الجسد وليس نحيفه كما تقول كريبيسة ، أجمل مافيه، كما قال الأهالي، مشيته، كان يمشي بخُطواتٍ تشبه كل خطوة منهن الأخري في انفراجة القدمين، وفي استقامة الظهر وبروز الصدر، لا يلتفت كثيرا، نظره مشدود إلى الأمام، مضى على وجوده أكثر من أسبوع في هذا المبني، في يومه الأول قام بزيارة تفقديّة للمدينة؛ إعلانا لسلطته، تبعه فيها الجندي الذي سار خلفه، في هذه الزيارة سمع بكريبيسة ،كانت الزيارة إلى العمدة الذي أحس أن سلطته قد تقلصت بمجيء هذا الشاب، أخفي تبرمه باحتفاء مفتعل، سانده المُهرّب وبعض حاشيته، ذبح العمدة خروفين أبيضين أقرنين أملحين، استمتعوا بالشواء، وعند خروجه تقدّم العمدة خطوات معه تنمّ عن أهمية الزائر، شرّفتنا، قال العمدة، الدار دارك، قال المُهرّب، ولم يكن يعرفه ساعتها، رد الشاب ، مجاملا، سأعود، وجّه كلامه للعمدة والمُهرّب، وشمل كلامه بقية الأشخاص بالطبع، لا داعي لذكرهم الآن، خرج معه العمدة حافي القدمين ،عند الباب ألتقت ايديهما في مصافحة سرب العمدة خلالها وصيته للشاب أن يحتاط من مكر كريبيسة المجنونة، أو كما قال، .:من كربوسا دي ياحضرة العمدة؟ افرج العمدة ضحكة شبعة: ماكربوسا هي كريبيسة ، واحده مجنونة لسانها فالت .أبتسم الشاب للعمدة واطلق سراح يده عنه وعاد الي مكتبه .عودته حدّث نفسه عن غياب النساء، صفق بيديه متعجاً، يقول الكاتب إنّ هذا الشاب تم إبعاده لهذا المركز من شخص صاحب نفوذ لسبب يرتبط بالنساء، وأنا اكتفي بهذه المعلومه التي تحتاج لتفصيل ممل؛ ربما نعرفها في الفصول القادمة لو تابعنا القصة، وربما لن نعرفها، هذا مرتبط بعلاقتي بالكاتب مضطرب العواطف كمعظم الكتاب. وفي اليوم الثاني مكث الشاب بمكتبه، لم يغادره، أتاه طعام من بيت العمدة، يحمله رجلان بصينيةٍ مغطاةٍ بطبق السعف الملوّن المنسوج بعناية، قابلهم الجندي عند الباب، قادهم نحو المكتب وأنفه تسيل، أشار إليهما على طاولةٍ قُرب المقعد وضعا الطعام عليها باهتمام واضحٍ ، هذا من أبونا العمدة؛ قال الرجل الأكبر سناً، أضاف الرجل الآخر، العمدة بقول لولا المشغوليات كان جاء فطر معاك، تدخّل الرجل الأكبر سناً، كمان قال ليك تجي تتغدى معاه. الرد الوحيد الذي حملاه معهما (بلّغاه شُكري). تبعا الجندي الذي أوصلهما إلي باب السور وعاد ككلبٍ عقور إلى مكتبه، وقبل أن تمتد يده لرفع الغطاء عن الوليمة سأله الشاب: هل هذه رشوة؟ ردّ الجندي ساعتها، وقد سال لعابه من رائحة الطعام، لا، وبعد أن مسح أثر اللعاب المتدلي قال: هذا كرم العمدة، تبسم الشاب، نهض من جلسته المهملة على المقعد وأزاح الغطاء بنفسه، تناول الطعام دون شهية واضحة مع الجندي. هتف الكاتب، فلتسقط الرتب، وحكى أن آخر منْ من غادر المائدة وبصره عليها هو الجندي الذي خرج إلى مكانه أمام الباب، تجشّأ وذاكرته تقوده إلى لحظات امتلأت فيها بطنه، يقول الكاتب إنّها لحظات تُعدُّ على أصابع اليد الواحدة، أما الشاب فقد قضى بقية نهاره في تصفح بعض الكتب التي تدل أغلفتها السميكه المصقولة الأوراق على أنها كتب دينية، ولا يدرى الكتاب إلى أي دين تنتمي. وفي اليوم الثالث نهض الشاب فجراً، ارتدى ملابسه الرسمية لأول مرة، نادى الجندي، وعند حضوره نسي السبب الذي ناداه من أجله، وقف الجندي بعينين مصلوبتين على الأرض، أمره بحزم: لو أرسل العمدة طعاماً أعده إله، حاضر سيادتك قالها بعدم اقتناع قتل أمنيته بدوام طعام العمدة. وهنا حار الكاتب في تعسف الشاب ؛ فلماذا يأمره بإعادة الطعام؟ أليس من الأجدي أن يأمره بعدم استلامه؛ لكني أرى أن الكاتب ضحل لا يعرف طبيعة المؤسسات؛ فالعسس هكذا يتصرفون؛ أذية للرتب الأقل. تحرك الشاب الذي لا نعرف له اسماً حتى هذه اللحظة، ولجلهنا بالرتب أطلقنا عليه ضابطا، تحرّك الضابط إلى مكتبه والجندي يتبعه ككلبٍ ريفي، هذا الوصف يتحمّل وزره الكاتب، فأنا أود القول، تابع الجندي الضابط كظله. وقف الضابط أمام الباب ويديه على وسطه، هل فعل الجندي مثله؟ لا، وقف الجندي مستقيماً كتمثال، مشّط الضابط الساحه التي أمامه بنظرة كصمتٍ بخيلٍ أحس بضيفٍ، لم يخرج فمه كلمة ، دخل مكتبه، خلع ملابسه الحكومية واستلقى على السرير، امتدت يده لكتابٍ فوق نافذة مكتبه، فتح صفحة وبدأ يقرأ، هكذا انتهى اليوم الثالث. وفي اليوم الرابع انتابه ضيق كثيف، أحس بتفاهة حياته، تَفَّ على الأض متأفف، كلمة وحيدة تعلّقت بشفته؛ قرف، قرف، قرف، ردّدها سراً وعلانية، صاح في الجندي يا إنت؟ ركض الجندي كعادته إلى مكتب الضابط، أدى التحية العسكرية، قال الكاتب مُعلّقاً على هذه التحية: تحية غريبة بمكانٍ غريبٍ وفي زمان أغرب، أدخل الضابط يده في جيبه، أخرج عددا من الأوراق النقدية، مدها للجندي الذي استلمها قبل أن يعرف أمرها، خاطبه، اذهب للعاصمة وأحضر لي صحف ومجلات، هكذا استهلك الضابط يومه الرابع في تفاهات شخصية وتصرفات عاديةٍ، مثل: الإفطار والغذاء والعشاء، ودخول الحمام والخروج منه، ارتداء الملابس وخلعها. وصادف اليوم الخامس أن يكون يوم الخميس؛ فهو اليوم الذي خصّصه سكان المدينة للصفقة والرقص، لم يرقص فيه الضابط، ولكنّه صفّق بيديه؛ تعجباً من هذه المقادير التي رمتْ به بمكانٍ عشعش فيه القُبح والغباء. أما الجمعة فقد استهلكها في قراءة كُتبه واستحضار أيّامه بالعاصمة، هكذا مرَّ أسبوعه الأول. وفي الأسبوع الثاني، وعند شروق الشمس، نهض بنشاط فيل، نادى الجندي، هرول نحوه قبل تحيته الرسمية، سأله: هل سجّلت بلاغاً ؟ لا، أجابه الجندي بسرعة تلميذٍ بليدٍ عرف إجابة سؤال لأول مره في حياته، هل تُريدنا أن نقضي أيامنا بلا عملٍ؟ لم يفهم الجندي مقصد الضابط، تدخّل الكاتب بسخرية لم أعهدها عنده، لو فهم لأصبح ضابطاً، أردف الضابط :اليوم لابد من فتح بلاغ، فاهم؟ فاهم. خرج الجندي وهو يلوك في إجابته، فاهم، فاهم ، وقف أمام سور المركز بقامة منصوبة، متوتّر الحواس، منتبهاً مشدود النظر، يتلّفتْ بجميع الاتجاهات المعروفة منها وغير المعروفة لأهل الجغرافيا، رفع بصره إلى السماء، شاهد سرباً من الطيور تُعبّر فوق المبنى، دغدغته رغبة أعادته لشبابه، هم بإطلاق رصاصته الوحيدة عليها، كما كان يفعل بنبلته أيام شبابه، اصطيادها ، تذكّر رائحة شواءها، فهي اللحوم الوحيدة التي دخلت بطنه، وقبل اتخاذ قراره بإطلاق الرصاص اختفت الطيور، أعاد بصره لمقره الطبيعي، حدّق في الساحة التي تفصل المركز عن المدينة، لا إنسان ولا حيوان، بعض الشجيرات العجفاء كما وصفها الكاتب، تنهّد كمن كُتب عليه الشقاء وأذعن، بخفة عصفور مطارد من صقر نقل بصره ألى مكتب الضابط، شاهده عبر النافذه، وجده، كعادته، يقرأ في الصحف التي أحضرها إليه ليلة أمس من العاصمة، أشاح بصره عنه، وضع سلاحه على حافة الباب، جلس على ركبتيه، رفع يديه للسماء، يارب بلاغ، هكذا أخرجها، أو زفرها مشحونةً بمسكنة وانكسارٍ بائنٍ على نبرتها، تمتم يارب بلاغ، رفع يديه أعلى مما كانتا عليه، أعادهما ومسح بهما وجهه، انتابته لحظة فرحٍ وهو يُشاهد البعض يتحرّك نحوه، تعجّب متسائلاً كيف استجاب له الرب بهذه السرعة؟ لمعرفة الإجابة عن سؤاله اجتر تاريخه، تنهّد بحزنٍ؛ لم أعمل شيئاً صالحاً لتُستجاب دعوتي، أتمَّ جُملته، وهو ينفضُّ عن ذاكرته مواقف مخزيةٍ ارتكبها في مسيرة حياته، رغبة ساقته للضابط ليُخبره نيته القبض على بعض المارة بتهمة اقترابهما من المركز وإزعاج السلطة، قبل أن يفتح فمه عاجله الضابط: هل فتحت بلاغ؟ فرك يديه، يُصرُّ الكاتب أن بهما مخاط لزج، بعد قليلٍ ياسيادتك، أجابه. خرج يحمل فرحته اليتيمة يُهمهم أبناء الأفاعي، سأذيقكم الويل، قال الكاتب إنّ الجندي المسكين لم يعلم أن الرجلان اختفيا حين دخوله على الضابط، أنهى الجندي همهمته عند الباب، وكما توقّع الكاتب وجد أنّ الرجلين اختفيا عن مشهده الحالم، أصابه غمٌّ، أظلمت الدنيا، قاطعني الكاتب قائلاً: مفردةٌ أظلمت الدنيا مفردة مستهلكة، لكزته بكوعي، هكذا أريدها، أظلمت الدنيا أمام الجندي الذي زاد ارتفاع يديه وصاح بصوتٍ سمعه الضابط: يارب بلاغ بسرعة، مطَّ شفتيه وهو يناجي الرب، هل يستجيب له؟ سألني الكاتب. لم، ولن أجيبه عن سؤاله الماكر هذا، فهو كمعظم الكُتّاب لديه جُنوح لاستفزاز الآخرين، وأنا أعلم الناس بهم، كلما ضاقت بهم وبأفعالهم الأرض يرفعون احتجاجاً نحو السماء، الجندي في انتظار الاستجابه له. بهدوء تحرك الضابط من مكتبه، وقف خلفه، رأى الجندي ظله؛ وهذه يعني إنّ الوقت ليس ليلاً، رفع الجندي بصره لصاحب الظل كملسوع ثعبان نهض متلعثماً، لا يعرف كيف يتصرّف، نفض ملابسه من غبار تخيّله علق بها، يده ممسكة بحزامه، همهم بكلمات متداخلة الأحرف، حرك سلاحه من يده اليسرى إلى يمناه. أما الضابط فقد كان صامتاً بحيادية واضحة على جبينه، ضحك حين سمع الجندي يناغي (سأفتح البلاغ): آي آي، سأفتح بلاغ. أنهى الضابط ضحكته، كسا وجهه بصرامة لا يتطلبها الموقف، قال بأمر واضح النبرات: أمامك دقيقه لفتحه. قال ما قال وعاد إلى مكتبه تاركا الجندي مرتبكا مع بلاغة، هل أذهب للسوق وأقبض أي واحد أجده؟ سأل نفسه هذا السؤال، وأمنيته أن يسمعه الضابط، حدّثته نفسه، هكذا قال الكاتب، رغم اعتراضي على هذه الجملة لأننا لا نعرف دخيلة نفسه، وبما أنها لا تؤثر في السرد، وكثر استعمالها عند الكُتّاب سنثبتها. حدثت الجندي نفسه أن يُخبر الضابط برغبته تلك، حرَّك قدمه اليسرى، وقبل أن يُتبعها بالأخرى سمع صوت أرجل قادمة نحوه، التفت إلى مصدر الصوت، رأى مصطفى وسعيد، كما نعرفهما أنا والكاتب، أما بالنسبة للجندي فقد شاهد شابين يتقدمان نحو باب المركز، انشرح وجهه ببسمةٍ فارقته سنوات، وكحرباءٍ سال لُعابها لحشرة شهية، اختفى خلف باب السور ويده تقبض على الزناد، تسلّل نظره عبر ثقوب أحدثها القدم على الباب، بتحفز وصمتٍ جلس، أو بالأحرى أحنى ظهره حتى لامست جبهته ركبته، وضع سلاحه في حضنه كرضيعٍ ملتصقٍ بصدر أم شفوقةٍ. الشابان يتقدمان بخطوات مسرعة تجاوبت معها خفقات قلب الجندي ، ثالثهما فرحٌ طفولي، يتبادلان كلمات مرتبطة بفكرتهما، ، فكلما اقتربا خطوة ارتفعت دقات قلب الجندي وزاد ضغط أسنانه وبان عرقٌ ينز عرقاً بعنقه، وعندما وصلا قرب الباب قفز أمامهما صارخاً: مكانكما، مكانكما!!! أطلقها عليهما وقد اختلطت حروفها بزبدٍ أبيضٍ يقذفه فمه، صرخة أيقظت الضابط من أحلام يقظة اشتهر بها، كما يزعم الكاتب، تسمّر الشابان استجابة لصرخة الجندي الذي تحرك وأغلق الباب، أمرهما بهمة جائع امتلك الدنيا، هيا أمامي إلى المكتب، صوّب فوهة سلاحه لصدريهما، أحياناً يدفعهما بيده اليسرى على ظهريهما فيتعثران كسكران غبٍّ، أطل الضابط الذي كان يُتابع تصرفات الجندي مبتسما، سأله: هل فتحت البلاغ؟ هاهما المجرمان أمامك سيدي، بسخريةٍ قال الضابط: إنهما طفلان، تقدّم الضابط نحو الطفلين راسماً ابتسامة لا تشبه حالته ، سألهما: لماذا أتيتما الى هذا المركز؟ تكلّم مصطفى قائلاً: لنفتح بلاغ، سانده سعيد بكلمة وحيدة، أيوه، جلس الضابط على الأرض وجلست ضحكته معه، ركض الجندي بخفة أرنب مرتاع، أحضر كرسياً من المكتب، مدَّ الضابط يده ولامست شعر سعيد، من ظلمكما؟ هل أحد ضربكما؟ وكانت إجابتاهما بهزة رأسيهما نفياً، أخبراني الحقيقة يا أبنائي؟ قال سعيد: أريد فتح بلاغ خيانة أمانة في صديقي مصطفى، وقال مصطفي: وأنا أيضاً أود فتح بلاغ خيانة أمانة في صديقي سعيد، نهض الضابط وعاد إلى مكتبه تتبعه ضحكته، ترك معهما الجندي الذي تلبسته حالة لا يعرف كيف يتصرف معها، أخيراً تغّلبت أمنيته بفتح بلاغ، قبضهما بوضع يديه خلف عنقيهما، قادهما إلي المكتب الذي دخله الضابط قبل قليل، هنا تدخّل الكاتب، انتبه جيداً لتعرف عقدة القصة، فهنا مربط الفرس، أردت مداعبته، أين هو الفرس الذي تتحدث عنه؟ رمقني بنظرة تعني أصمت ياغبي، تحمّلت إهانته البصرية، وانتبهت محدقاً في وجه الضابط، كان حيادي القسمات، نقلت نظري إلى الجندي، اضطرابٌ بائنٌ عليه، وهويقول بانكسارٍ: بماذا تأمر سيادتك؟ صمت الضابط وهو ينقل بصره للسقف ويرميه على الشابين، رمق الجندي فتح صفحات من كتاب قانون العقوبات الذي به ثلاثه قوانين فقط؛ كما علمنا أنا والكاتب، أعاد الكرة. لكزني الكاتب، انتبه؟ انتبهت انصياعاً لرغبته، نهض الضابط ويديه تحركان حزام بنطاله، دعهما يخرجان، فتح الجندي عينيه دهشة، والبلاغ ياسيدي؟ اتخذ وجه الضابط صرامة وخاطبه: افتح بلاغ ضدك أو ضدي، لابد من بلاغ، لم يعرف الجندي، أيضحك أم يتكلّم، خرجت أنا والكاتب وتركناه بفمه الفاغر. في الطريق همس لي الكاتب، انتظر قليلاً، ببلاهةٍ سألته: لماذا؟ لم يجبني، إنّما تحرّك نحو شجرةٍ تنمو قرب المركز، تبعته، وقبل أن نجلس قال لي: بعد قليل سيخرج الضابط، وقبل استيعابي لمكره شاهدت الضابط يخرج راكضاً، نقلت نظري إلى الكاتب، وجدها سانحة، ألم أقل لك؟ أومأت برأسي، أي نعم.












(3)





من يتأمل في الدهر وصروفه، يجتهد في شبابه ليرتاح عند شيخوخته، ويعمل صالحاً لينال المحبة. هذه المقولة البسيطة لايدركها الحكّام، ويغفل عنها العاجز، والاجتهاد أنواع: منه الذي يجهد البدن، ومنه الإجهاد الذي يجهده الانسان بعقل نافذ كضوء بعتمة، وبما أن الدهر لا أحد منا يعرفه، فهو كالأفكار التي يحبسها داخل العقل الإنساني الموت لحظة حضوره المهيب، هكذا تعودنا أن نصف الموت بالمُهيب، وهو وصف لاندري، أينطبق عليه أم لا؟ الموت ليس كالريح نحسها ونراها، أو إذا شئنا الدقة نرى أثرها في الأشجار وفي أجسادنا، فالموت يأتي ويذهب كما أراد، لانعلم بحضوره إلا حينما يُغادر أحد دنيانا، لحظتها نعلم أن الموت قد حضر وذهب. بعض التصرفات تزيد من وتيرة الموت، مثل: قرارات السلطة التي يعتبرها الكاتب موت آخر لبني البشر الذين هم حيوانات تفهم. تفتقت عبقرية أجدادنا القدماء ببناء أكواخ تقيهم صروف الدهر، هكذا صرنا نقلدهم بالمباني، حتى أصبحت تُبنى لأغراض أخرى؛ ولولا الاستطراد، وهو أكبر عيوب السرد، لكتبناها لكم، فالمكان له دور كبير في حضور الموت وغيابه، كمركز العسس الذي ستطالعون دوره في الأسطر القادمة.
وكما هو معروف لي، وبالطبع للكاتب، وكما ستعرفون أنتم لو تابعتم هذه الأسطر، أنّ مركز العسس بالمدينة الجنوبية، ومركز آخر بالمدينة الشمالية يتبعان لمركز أكبر بعاصمة البلاد، وهذا يعني أن العاملين بهما يرأسهما مدير عام بالعاصمة، رغماً عن تفلسف الكاتب، في زعمه، بعدم وجود إنسان يرأس إنسان؛ فهناك وظيفة ترأس وظيفة، وهذا يتطلّب رفع تقارير عن سير عملهما بصورة يومية، تقارير تحوي المعوقات والقضايا الاستثنائية والمشاكل التي يرتكبها، عادة، المواطنون، والقضايا التي يختلقها الضباط لينالوا مديحاً أو ترقية. أما ما أحدثه ظهور سعيد ومصطفى ستكون نتيجته توبيخ الرئاسة للضابط. قال الكاتب: إن الضابط دخل في حيص بيص، وأحسّ باختناق وهو بداخل المكتب، خرج وبيده منديل، وهو أول منديل نُشاهده؛ لذا اسمحوا لنا بتثبيته، مسح عرقاً بطعم الملح ،وقف الجندي لتحيته، أشار بيده: مكانك. تصلب الجندي في مكانه، عيناه خرجتا عن طوعه وتابعتا الضابط الذي يمشي بخطواته الصارمة والمستقيمة وهو يتجه نحو المدرسة الوحيدة بالمدينة. أقسم الكاتب أن الضابط قد أخبر رئاسته بقصة الشابين عبر الهاتف الحكومي؛ وهو الهاتف الوحيد بالمدينة ، وأنّ الرد أتاه سريعا مصحوبا بانفعال المدير العام؛ لك أسبوع في المدينة ولم تفتح بلاغ؟ ألا يوجد بالمدينة شجارٌ أو سرقة؟ أم أنها مدينة فاضلة؟ نحن أرسلناك لتقبض على المجرمين وليس الأطفال. أغاظه تهكُّم المدير العام وسخريتة،. يصر الكاتب أن الضابط بعد وضع السماعة حرك يديه بعصبية؛ كالذي ينفض ذبابة حطت علي خده وقال: هل يوجد مجرم أكبر منك؟ هذه المكالمة التي استمرت دقيقة تكلّم فيها المدير العام تسعٌ وخمسون ثانية، نصفها كان تهكُّما وسخرية، رفع مؤخرته عن مقعده الوثير، خرج يحمل تهكمه وهو يلعن ويسب ضباط هذا الزمن وجهلهم، أخبر سكرتيرته، كما يفعل أمثاله، بقصة ضابط مركز المدينة الجنوبية الذي لم يفتح بلاغاً طيلة أسبوع كامل، لوت السكرتيرة فمها وردّت: هذا شخص خائب، جفل المدير العام عند سماعه كلمة خائب تتلوى بينه والسكرتيرة؛ لأن هذه الكلمة التصقت به كثيراّ، أول مرة ناداه بها والده، وبعده مدير المدرسة الأولية، ولكن التي لصقت بقلبه كلمة الحاكم حين؛ أوكل إليه منصب المدير العام وهو يقول: أعرف أنك إنسان خائب. نعم قالها الحاكم الذي تبعها بضحكة خفّفت وقعها، شاهدت السكرتيرة تجهم المدير العام، ظنت أن سوءً ينتظرها، اندفعت تُبرر: ياحليل ضابط المدينة الشمالية الذي فتح عشرة بلاغات قبل أن يدخل مكتبه، نطقت يا(حليل) بغنجٍ فتاةٍ شبقةٍ. اندهشتُ لتمايلها وهي تنطقها، أحسَّ الكاتب بحالتي، ربّت على كتفي قائلاً: كانت بينها وضابط المدينة الشمالية علاقة، فهو أول شخص غافلها وقبّلها قبلة صغيرة المدة، لم تُشبعها، ونفّر منها، هل تعرف لماذا كانت القبلة قصيرة ولماذا نفر منها؟ تجاهلتُ أسئلته، ظن أني أجهل ذلك، وجد سانحة ليفرغ احباطاته الناجمة عن خيباته في علاقاته العاطفية؛ استرسل في الحديث:يقول ضابط المدينة الشمالية إن فم السكرتيرة أبخر، هل تعرف معنى أبخر؟ قلت له لا أعرفه ، قال وكأنه أرسطو زمانه: أبخر يا جاهل معناها عفن، امتعضت لتذكري تجربة مررتُ بها مع فتاة يسيل اللعاب لجمال جسدها، اقتربت منها، إلّا أن رائحة فمها لفحتني فماتت رغبتي، واختفت انتعاظة قضيبي، وقبل الخروج من جحيم ذكرياتي، همس الكاتب وتعلوه ابتسامة أعرف مآلاتها، انتظرته حتى نمت إلى ضحكة لا داعي لوصفها: لها مؤخرة رطبة مثل أنف كلب وجد لذة النوم في مكان خلى من الأطفال الأشرار، سألته باندهاشٍ صادق: من هي؟ قال وقد فارقته الابتسامة، السكرتيرة طبعاً. فلنعد إلى الضابط، همس الكاتب: إن الضابط لم يفهم معنى المدينة الفاضلة، واستحى أن يسأل الجندي، هل عرفتم الآن لماذا يهرول الضابط نحو المدرسة؟ وهل عرفتم قصة علاقته مع مدير المدرسة، كان يمكن إخباركم عنها في الفصل السابق، لكن لأسباب أجهلها أجّلتها إلى هذا الفصل ، هل يؤثر ذلك في سرد الأحداث؟ وهب أنه أثر؛ هل ستخسر روما الحرب؟ المهم أننا سنذكر قصة المدرسة الآن؛ ففي الأسبوع الذي حضر فيه الضابط ليشرف على المركز قابل العمدة ومرّ قُرب المُهرّب وأخبرتكم أنه قابل أناساً لاداعي إلى ذكرهم، منهم مدير المدرسةالذي كنت اعتقد أن ذكره ليس مهما آنذاك، تأكّد لي الآن أنه اعتقاد سمج، والسماجة هندام الفاشلين، هكذا عزيتُ فشلي في هذه النقطة بحكم كريبيسة التي تطلقها في وجه المهرب وهي تطعن ظل العمدة، ذهب الضابط، وهو يرتدي كامل زيِّه، إلى المدرسة الوحيدة بالمدينة، مدرسة بها غرفة واحدة مبنية من الطوب، وحتما هي مكتب المدير، وأخرى من القش يدرس تحتها الطلاب، مرّ الصابط وسط طلابٍ نحاف تعلوهم غبرة، التوت أعناقهم تتابعه، شاهد أحد الأساتذه يحمل سوطاً؛ وهو المدرّس الوحيد بالمدرسة، لم يطرق الباب، أعلن المدير اهتماماً مفتعلا بحضور الضابط، اجتهد في إخفاء تعابير وجهه التي تنم عن خليط متجانس من البغضٌ والكراهيةٌ لمهنة زائره؛ كراهية لم يلجم فورانها البرقية التي استلمها من التنظيم قبيل الزيارة بيوم، برقية تفيد أن هذا الضابط لا يضر ولا ينفع، قرأها مراراً وفتّش بين سطورها، نمي فيه إحساس بأن تمدد التنظيم ، في المدينة، لن يواجه عراقيل، انتشى بتخيله انتصارات التنظيم التي سيقودها بنفسه داخل المدينة، طوى الرسالة بحرص بخيل، وضعها بمكان تخطئه العين الفاحصة، نهض بعاطفة امرأة خؤون: كنت متوقع حضورك، لم يسأله الضابط لماذا توقّع حضوره، كما توقّعت أنا والكاتب، وربما أنتم أيضاً انتشي لكونه حاضرا في خاطرة المدير، بيده اليسرى حكّ مقدمة رأسه، وأمسك بيده اليمنى قلماً أحمر اللونة يخص المدير، أعادته ذاكرته وهو ممسك بالقلم إلى سنواته بالمدرسة، سنوات تمني خلالها أن يخط الأساتذه على كراسته شارة تدل على إنجاز جيد؛ وقد ناله، بعد سنوات من الجهد،عن موضوع إنشاء سرقه عن مجلة أجنبية، خطّ بعض الكلمات المبهمة على دفتر مدير المدرسة، واصل خربشاته، أحس بنظرات المدير تحاصره، وضع القلم من يده، تعلق بصره بإبهامه الذي تسرّب إليه لون الحبر الأحمر، أعاد ذاكرته لسنوات مراهقته التي تعلق فيها ببنت الجيران، كان يعجبه طلاء شفتيها باللون الأحمر، أعلن ذلك مرات عدة في جلسات الأصدقاء وهم يتحدثون عن حبيباتهم، هذا يفتخر بنهود حبيبته، وذاك يقول لحبيبتي عيون عسلية، وآخر يُعلن عن جمال ساقي حبيبته، وحين يأتي دوره يعلن إعجابه بلون شفاه بنت الجيران، يوحوح، آه من لونهما الأحمر. نهض مدير المدرسة وخرج من المكتب إلي ساحة المدرسة، نادى المعلم، طلب منه أن يشغل الطلاب بأي شئ حتى يكفوا عن الإزعاج. صاح الأستاذ: يا أولاد. تقاطرت عليه: نعم، نعم، نعم، وهم يتراكضون نحوه، قفوا صفاً واحداً وأنشدوا النشيد الوطني. وحين عاد مدير المدرسة كان الضابط قد أكمل اجترار ذكرياته، أول ما تبادر إلى ذهنه سؤال المدير عن معنى كلمة المدينة الفاضلة، أمسك حياءً عن ذلك السؤال. كانت عيون المدير تقرأ في وجهه، تنحنح وسأل المدير، هل لديك طلبة باسم سعيد ومصطفى؟ هنا تدخّل الكاتب منفعلاً، قائلاً: يجب أن يسأله هل لديكم بالمدرسة طالبان وليس طلبة، وبما أنني أعلم جهله ببواطن النحو تدخلت أنا أيضاً مخالفاً له، الصحيح أن يقول هكذا (هل لديكم بالمدرسه طالبين)؟ لدهشتي اتفق الكاتب معي في جهلي أنا أيضاً؛ فقد كان مُصيبا في جملته. قهقه المدير بصوتٍ عالٍ نال اهتمامنا، وهل في المدرسة طالب لا يحمل أحد هذين الاسمين؟ واصل حديثه، كلهم إما سعيد أو مصطفى، نهض المدير، أمسك الضابط من يده وقاده خارج المكتب، كان الطلاب في تلك اللحظه قد ملوا تكرار النشيد الوطني، وصاروا يلهون ويتراكضون، شاهد أحدهم المدير، نبّه الآخرين، سجل الصمت حضوره الكثيف، التصقت الأعين والأفواه الفاغرة بوجه المدير،صاح المير: يا أولاد، قفوا صفين؛ مَنْ اسمه سعيد يقف باليمين، ومَنْ اسمه مصطفى فليقف باليسار، انقسم الطلبة بسرعة الذي اعتاد علي الصفوف. شاهد الضابط كل ما جرى، لاحظ أن أحد الطلبة لم يقف في أي صف من الصفين، ناداه، تردد الطالب، تدخل المدير وناداه: تعال يا سعود، هنا قهقه الضابط. قبل رجوعهما إلى المكتب داعب مدير المدرسة الضابط: أوعى تكون تحمل أحد الاسمين؟ نطّ الضابط، ليس خوفاً كما قال الكاتب، مع جهلي بسبب نطته هذه، نهض الضابط وخاطب مدير المدرسه، لا تزعج نفسك بسؤالي، نهض المدير أيضاً: أجلس ياسيدي وأخبرني عن الموضوع، أنهى الضابط تردده وجلس، يصر الكاتب بخفة أن عقل الضباط لايتردد، يقصد بكلامه: تجريدهم من إنسانيتهم، وهذا إجحاف كما أراه أنا، دنا منه المدير، سأله بصوتٍ هامسٍ، ماهو الموضوع؟ خرج السؤال مخلوطاً بضحكة خبيثة، هنا اتفقت مع الكاتب في وصفه لضحكة المدير، أخرج الضابط حشرجةً لها صوت أبعد المسافة بين وجهيهما، وحين عادا إلى وضعيهما قبل الحشرجة أخبر الضابط مدير المدرسة بقصة الشابين ، ودون حرّج بائنٍ أطلق المدير ضحكة متموجة النبرات، هكذا وصفها الكاتب وصفاً أجمل من وصفي لها بالضحكة الدائرية، ضحكة حاول أن يخفي معها دهشة ارتسمت على وجهه، وقال: إنه لعب أطفال، واسترسل يقص حكايات أبطالها أطفال فشل أهاليهم في تربيتهم، وهي ذات الحكايات التي كان ينسبها إلى ظلم السلطات، فقط أجرى عليها بعض التعديلات لتتلائم مع بيئة الأطفال، نهض الضابط وقال: أنا أيضاً قلت ذلك. غادر الضابط المكتب بمصاحبة المدير، عند الباب الخارجي التقت أيديهما بمصاحفة طويلة، تبادلا همهمات لم نتبينها أنا والكاتب الذي شطح بزعم كاذبٍ؛ أنهما تواعدا على تكرار الزيارات، عاد الضابط من حيث أتى دون أن يطرح سؤاله عن معنى المدينة الفاضلة، تابعته بعض العيون، بينها عيوني أنا والكاتب، وعيون التلاميذ الذين وجودها فرصة سانحة للهروب من زعيق المدير،وعيون المارة الذين تطايرت أسئلتهم عن كنه شخص يرتدي ملابس تختلف عما ألفوه، والضابط لاندري فيما يفكر. نفرت عصافير كانت تلتقط الحب حين مر بها، علّق الكاتب قائلاً : سبحان الله ؛ حتى العصافير تهاب السلطة؟ عاد المدير إلى مكتبه بفرح عالم آثار اكتشف خبيئه قديمة العهد، تأكد من إغلاق الباب، كتم ضحكة مهزوم أتته الفرصة لينتصر، اتصل برئاسة التنظيم: أتاني الضابط، لم يذكر كلمة الضابط؛ بل أشار إليها بكود سري، نعم، نعم، ماذا حدث بالضبط؟ لم يحدث شئ ذو بال. هل وجدته ذكي ؟ لا ، إنه أقرب إلى البلاهة، ها ها. قطعت المكالمة نقرات متواصلة على الباب، تلصّص بثُقب المفتاح، إنه الأستاذ يقف بتوتر واضح، سمح له بالدخول سأله المدير قبل أن يجلس، هل تعلم لماذا أتى الضابط؟ كنت أود أن أسألك؟ ، تخيل؛ هذا الضابط الأهبل أتى ليسألني عن طفلين أرادا فتح بلاغ، حب استطلاعٍ قاتلٍ تملّك المعلم، تساءل بنبرة متعالم مزهوٍ بعلمه: طفلان يفتحان بلاغاً؟ هذه هي الحقيقه. أكاد لا أفهم. يقول الكاتب إن بفم المدير هذه اللحظة جملة (متي كنت تفهم)، دنا المعلم، وها نحن نشاهد المدير يهمس في أذنه، يصر الكاتب إنه في همسه، الذي نشاهده الآن، حكى له قصة الطفلين. سجل المدير كلمات الضابط في إحدى الأوراق صغيرة الحجم، خرج من مكتبه واتجه نحو منزله، أما المعلم فقد توجّه نحو السوق. فجأة انطلق الكاتب في ضحك متواصل، سرى إلي فحيحه، في البدء قاومتها، لكن استمراره فيها أصابني بالعدوى، هل تعرفون لماذا ضحك الكاتب؟ ضحك لفكرة جالت بخاطره كما قال، لن أخبركم بها رغم وضوحها، لو تابعتم المدير الذي وصل الآن إلى السوق، بعد أن غيّر اتجاهه، ستعلمون ، تسابقت نحوه التحيات، وهو يسرع في سيره، هاهو يدخل دكان تاجر، نهض التاجر، أدخله في حضنه، التصاق أعيننا، الكاتب وأنا، شغلنا عن دخول كريبسة حاملة له القهوة وهي تدندن بأغنياتها التي تتنشئوها لتلائم طبيعة الشاربين، فقد حكى الكاتب أنها أنشأت أغنية البنات المشهورة( يا الماشي لي باريس جيب لي معاك عريس من هيئة التدريس) خصيصا في هذا المدير، كما حكى أن كثيرا من الفواصل التي تغمز في العمدة والمهرب تم إسقاطهاعن الأُغنية. جلس المدير فخورا ببنطاله أمام الجلابيب والعمامات، استرخى متشياً مع ترنمات كريبسة التي ختمتها بزغرودة، أعجب التاجر بظرفها فوضع على رأسها ورقة نقدية في سخاء لم يحظ به أهله، التفت إلى المدير: هل تريد شيئاً؟ ارتبك المدير أمام لاعبي الضالة الذين تركوها وهم يحدقون في هذا الشخص المتحذّق، همس في أذن التاجر: أريدك وحدك، دخلا الدكان، اندلق كوب القهوة حين لامس رجل أحدهما؛ لا نعرف لأي منهما تنتمي، هرعت كريبيسة وهي تصدح بأغنيتها ( سيد الجزيمة السودة، كشح البن خلاني ماشي موضة، كشح البن)، صفّق التاجر متعجباً، تبسم المدير لظرف كريبيسة. سمعناه يردد نفس الكلمة التي قالها المدير للضابط، لعب أطفال. وكان رد الضابط الكاذب، ساعتها، أنا أيضاً قلت كذلك. قبل أن يختفي المدير عن بصر التاجر الذي لا نعرف له اسماً فأطلقنا عليه (صاحب الكرش)، وكنتُ أود إطلاق لقب الأصلع. قبل اختفاء المدير خرج التاجر ونادى كريبيسة، نفضت كريبيسة يدها المبتلة وأتت، أعاد النظر في الاتجاه الذي ذهب به المدير، اطمأن قلبه، هل تعرفين لماذا أتى؟ أكمل سؤاله بإشارة وهو يشير بلسانه نحو الاتجاه الذي ذهب به المدير، أجابته نافية بهزة من رأسها وردفها، وتضامن معهما الخصر، تخيلي؛ أخبرني أن الضابط الأهبل يريد إدخال طفلين السجن، انفتح فم كريبيسة عن أسنان بيضاء، أراد الكاتب التغزل فيها، منعته أو في الحقيقة قهرته، ولم تغلق فمها حتى بعد إنهاء التاجر لقصته التي لم تنفعل معها كثيرا. جلس التاجر على الأرض؛ بينما كانت رغبته الجلوس على المقعد، لا نعرف لماذا جلس على الأرض، يصر الكاتب أن الذي أجلسه على الأرض تجاهل كريبيسة لحكايته، وعدم تفاعلها مع حديثه، أجلسها قربه، حكى بتفاصيل مملةٍ، بالطبع لي أنا، والكاتب أيضاً زعم أنها مملة بالنسبة له. أخيرا استدار نحوها وصرخ: ألا تعنيك قصة الطفلين ووصلي الأمانه ، نهضت كريبيسة بنصف انفعال، أو كما قال التاجر لنفسه، وهو لم يشبع رغبته في الحديت عن السر الذي أودعه عنده مدير المدرسة. بعد قيام كريبيسة نهض التاجر أيضاً، أغلق دكانه، قال لي الكاتب: سيذهب إلى بيته ليخبر زوجته بالموضوع، صمتُ عن مخالفته، أنهى التاجر إغلاق الدكان، وضع المفتاح في جيب جلابيته، أدخل يده في الجيب الآخر، أخرج بعض النقود، ناولها كريبيسة ثمناً للقهوة. في هذه اللحظة أتى المعلم مهرولاً نحو التاجر، فقر فمه ضاحكا وهو يقطع الحديث : صا...حبااا...ك قد. هاا هاااه قد هي هي هي.. سبقك. قال المعلم: هل أخبرك؟ نعم أخبرني، هل أتيت من أجل الموضوع ذاته. جلس المعلم جوار التاجر وحكى له ماحدث كما سمعه من مدير المدرسة، طبعاً أضاف خياله بعض المحسّنات الدرامية، وحين همَّ بالمغادرة أمسكه التاجر: لازم تشرب القهوة معي، صاح في كريبيسة التي تخلّت عن عادتها بإحضار القهوة لكل من يأتي الدكان، قال المعلم وهو يغادر: المرة القادمة سأشرب معك القهوه والشاي، أرجو أن يكون كلامي سراً، اطمئن، قال التاجر، علّق الكاتب قائلاً: متى اطمأن سر بجوف تاجر؟ الإعياء جعلني أمسك فمي، وهذه الجملة تعني صمتا تاما عن الجدال مع الكاتب. تلبست الضابط، عند عودته للمكتب، حالة لم أرها إلا عند ديكٍ هُيّء للذبح، جلس واضعاً ذقنه الذي نبتت عليه شعيرات بيضاء أسماها ذقنا تشبها بأولئك الذين يفدن من باكستان، وضعها بين يديه، فكر في الأحداث التي جرت أمامه، فكر كما شاء الخيال المحدود من رسم خواطر شبقة لعوالم سمع عنها عند شيوخ باكستان.











(4)





يحق لنا القول بأن المدينة تحولت إلى همسات، والهمس تجارة الجبناء، ولكنه أيضاً وقود الثورات،وشرارة التمرد، صار جميع سكان بالمدينة الجنوبية يمارسون الهمس،الرجل يهمس بأذن الرجل، والمرأة بأذن أختها، وبعض الرجال الخبثاء انتهزوا الفرصة وهمسوا بآذان النساء، هل سمعت بهذا من قبل أيها الكاتب المغرور؟ هل لديك رغبة في الانضمام لنا؟ هل تشتري مني وصل، حفر حفرة لنفسه، أقسم لك أن العمدة أول من اشترى، المهرّب اشترى أكثر من أربعة، هل تصدق أن الجندي نفسه اشترى واحدة، هل يقدر الحاكم إفسادها؟ الكثرة غلبت الشجاعة، ألم تسمع بهذا المثل؟ تخيّل الفكرة دي حقت شفع صغار، لو تتبعنا همس الناس بهذه المدينة؛ لن نفارق الحقيقة بزعمنا أنه يدور عن فكرة الشابين، كما طالعتكم في بداية هذه الفصل، فكرة جهنمية، قال الكاتب، وهو هنا يختلف مع وصف التاجر لها، إنها لعبة أطفال، والبعض أطلق عليها أوصافا أخري متهكمة، حتى الذين لم يبالوا بها، وصفوها بأوصاف تخصهم وحدهم، أما أنا فلدي يقين بأن أكثر الشفاه التي رددت الموضوع شفاه كريبيسة؛ ولو تجرأ الكاتب وسألني عن علاقة كريبيسة لحدثته عن الطبقات وفلسفة المقهورين، حمدت له صمته عن سؤالي، يلي كبيريسة، في تداول الموضوع، ذلك المُهرّب المأفون الذي يصطاد في النكايات والوشايا، هنا اتفق، لأول مرة، معي الكاتب بقوله: إن المُهرّب أكثر السعي بين الناس يبث الموضوع بإضافات يجيدها، فهو ينكر، بصورة فطيرة، الدور الذي قام به الطفلان في التمهيد للثورة؛ فهما اللذان أشعلا شرارتها وإن جهلا ذلك، المُهرّب افتخر أمام زوجته، حين نقلت له همس أحدهم بأذنها، أن الفكرة اتي بها الطفلان، والحقيقة التي يجهلها الجميع أن الذي أوحى لهما بفكرة خيانة الأمانة هو أنا؛ قال لها. هل صدقته؟ هذا سؤال غبي نعتزر عنه. مضي في حديثه ملغزاً في الضابط والمكتب الذي لا يأتي منه خير، هذه قناعة المهرب، قالها للعمدة، وقبله سقاها لزوجته، وقد اشترك سعيد ومصطفى في قص ما قاما به؛ محاولة للهروب، وتخفيفاً من معاناتهم بالمدرسة، قصا فكرتهما ببراءة وهما يضحكان. ولا تنسوا مدير المدرسة الذي أراد الإفادة القصوى من فكرة الصبيين بطريقة ماكرة؛ فقد أقنع الضابط بأنها لعب أطفال، وبداخله يردد أنّها طريقةٌ لم يسمع بها الرفاق، ولم تخطر على بالهم، يقول الكاتب، بوثوق، إنّ مدير المدرسة أخطر رئاسته بالفكرة، وهذه إحدي هفوات المدير، متناسياً الوصايا التي ألزمه التنظيم بها؛ فقد حذره التنظيم من استعمال الهاتف إذا أراد الاتصالات؛ فالسلطة تراقب جميع الهواتف. يقول الكاتب إن مندوب الاتصالات بالتنظيم قد تجاهله في البدء؛ رغما عن معرفته برقمه، ولكن إصراره على معاودة الاتصال أو إلحاحه كما يُصر الكاتب؛ فكلمة ( ألحّ ) أصدق تعبيراً لوصف حالة مدير المدرسة، وفي المحاولة الثالثة رفع مندوب الاتصالات بالتنظيم سماعة الهاتف ورد عليه؛ بعد أن أحدث تغييراً في نبرات صوته، واضعاً قطعه قماش وليس منديلاً بين فمه وسماعة الهاتف، ألو.. ألو .. كاد مدير المدرسة أن يغلق الهاتف؛ لشعوره بغرابة الصوت على أذنه، تمالك نفسه، توكّل على شجاعة متهورة وذكر اسمه الحركي، عندها عاد صوت مندوب التنظيم إلى وضعه الطبيعي، استمع إلى كلمات يقذفها مدير المدرسة بأذنه عن قصة خيانة الأمانة بالمدينة الجنوبية: أرجوك أغلق الهاتف، سأتصل بك بعد قليل؛ قال له مندوب الاتصالات بالتنظيم. يقول الكاتب إن مندوب الاتصالات نقل القصة إلى رئاسة التنظيم التي حمّلته بدورها نقل توصياتها إلى مدير المدرسة، اتصل مندوب الاتصالات بالمدير، نقل إليه وصية التنظيم بنقاطها وشولاتها وعلامات استفهاماتها، وأضاف إليها حضور شخية منسية في أضابير الحزب التآكل؛ أمره بتعميمها على سكان المدينة بحذرٍ، ونقل إليه أنهم سمحوا له باستعمال طابعة المدرسة لطباعة إيصالات الأمانة، وأن يكون مهيأ لأوامر أخرى سيرسلها له التنظيم بالعاصمة. همس الكاتب آه لو كنت مكانه؛ لعرفت ما يرمي إليه الكاتب، وأظنكم تعلمون مايُفكّر فيه، من المؤكد أنه يفكر في طباعة إيصالات الأمانه التي انتشرت بين سكان المدينة، حتى الجندي لم يصمد أمام إغراء الحديث؛ حيث وجدها سانحة لبسط سلطته التي تزداد كلما ابتعد عن الضابط، وقد أخفى عن مستمعيه أن الضابط هو الذي أمره بإخلاء سبيليهما،الطفلين أعني، فالضابط قد أيقن، بعد رد مدير المدرسة، أنها لعب أطفال، وصار يرددها في طريقه إلى مبنى المركز: لعب أطفال، لعب أطفال، حتى دخل مكتبه. لم تغادر فمه، قمع هاتف بداخله يُطالبه بألّا يصدق مدير المدرسة، وهاجس آخر يُطالبه أن يتريّث، خلع ملابسه وهو يرددها، جلس على السرير يجتر تفاصيل الأزمة، كما أطلق عليها، ويستحضر طريقة يقنع بها المدير العام الذي يطالبه بفتح بلاغات حتي يرفع أسهمه عند الحاكم، فكّر، ذات ضيق، أن يفتح بلاغاً ضد مجهول، تراجع عن هذه الفكرة، لتذكره ما سمع قادته يرددونه بالمحاضرات، أغبى ضابط من يسرع بفتح بلاغ ضد مجهول، همهم، وهو على السرير، بكلمات مبهمة أظنها ( الصبر مفتاح الفرج )، كلمات أعادته إلى طفولة عاشها ببيت والده الذي لا تخلو شفتيه عن ترديد الصبر مفتاح الفرج، لم يستوعب عقله الطفل علاقة الصبر بالفرج، أول مرة سمع كلمة فرج عند أنداده وهم يهمسون؛ ويعنون شئياً لا يستطيع الرجال الصبر عنه، كاد ذات جهلٍ أن يسأل والده عنه، ولكن ما جعل عقله شعاعاً أن أمه أيضأ تجهر ب ( الصبر مفتاح الفرج )، لا يذكر متى علم ماذا تعني كلمة فرج، بكل تأكيد قبل تخرجه من الكلية. بتكاسلٍ لايشبه الضباط نهض عن سريره، زجرني الكاتب بقوله يجب أن تكتب نهض من سرير الحكومة، انصياغاً لرغبة الكاتب، نهض الضابط من سرير الحكومة بتكاسلٍ لا يشبه الضباط، في ذات اللحظة دخل الجندي، سيادتك أرى جماعة كثيرة من الناس قادمين نحو المركز، لم يسأله عن هيئتهم؛ ليقينٍ سكن بداخله، هذا الجندي أغبى من حمار، يبدو أنه صادق ؛ وستتأكدون من ذلك عندما ترون ، بأم أعينكم تصرفات الجندي، علّق الكاتب أنهما متساويان في الغباء رغما عن فارق الرتب، وقف الضابط، أرسل بصره عبر النافذة، لمح جمعاً من الناس يُسرع الخطى نحو المركز، قال في نفسه: شجارٌ بين اثنين لا أكثر، أغلق النافذة، أمر الجندي بإحضار دفتر البلاغات. خرج الجندي وهو يجهد في التفكير:كيف يتسنى لهذا الضابط إدخال هولاء القوم الحراسة، تساءل سؤالاً يشبهه: هل تستوعبهم؟ هنا يجب توضيح ما سهى عنه الكاتب، رغم مطالبتي له في الفصل الأول من هذه القصة بوصف مبنى المركز؛ فهو مكون من سور عالي وغرفتين، غرفة مستطيلة لها نافذة تضيق عن إدخال عصفور، قال الكاتب لي أكتب تضيق عن عصفور حامل، كدت ألطمه هل يحمل العصفور؟ إنّ العصافير تبيض ياجاهل، أغاظني رده، هذا وصف شاعري ياغبي، مضغت كلمة غبي تخرج منتنة ملوثة برائحة فمه. لها باب، الغرفه أعني، له درابزين من الحديد الصُلب، آسف له سياج حديدي، وما يميزها عن الغرفتين ارتفاعها المنخفض؛ يصر الكاتب أن ارتفاعها متر واحد وسبع سنتمترات، تحرّك الجندي وطاف بها، في الحقيقة طاف حولها، حدّثه قلبه أن يُخبر الضابط، قبل اختمار الفكرة، التفتُ نحو الكاتب وقلت: إن الجندي يفكر، ربّت الكاتب على كتفي برفق، هي خاطرة وليس فكرة، قبل إفاقة الضابط من قصة رومانسية كان يلوكها- وقف أمامه الجندي وبيديه دفتر البلاغات، قال: إنها ضيقة سيادتك، بحلق فيه الضابط مشمئزاً، ورغم محدودية عقله عرف أن الضابط لم يفهم مقصده، هذا ما جعل يده تُشير نحو الغرفة، وقال بانحناءةٍ كاملة الهيئه: إن غرفة الحراسة لا تستوعب كل هذ العدد، زادت بحلقة الضابط، أخيراً فهم الجندي أن الضابط لم يتخيّل عدد الأفواج التي تتقدّم نحو المركز، فتح فمه، هو أصلاً مفتوح، قال الكاتب، سيادتك إن أناساً كُثر يقتربون بخطى مسرعة نحو المركز. ماذا يريدون؟ سأله الضابط. قبل رده المتوقع لا أعرف، نهض الضابط ويده تتحسّس المسدس الحكومي، كِدْتُ أكتب تحسّس مسدسه، مدّ بصره عبر النافذة، شاهد حشود الناس، نساء ورجال وأطفال، أعاد بصره للجندي، كحرباء ترتجف، قال الكاتب: في هذه اللحظة أحس الضابط بخوف ولسانه يردد مثلاً متداولاً، طلبت أرنب وأرى أمامي فيل، لا إرادياً تحركت يده نحو الهاتف، أعادها لسبب لا يعلمه أحد، يتدخل الكاتب بقوله: إنّ الضابط لديه نزعات أدبية، وحكى لي إنه كان يكتب شعراً ركيكا، أغاظني تدخله، كاد يقطع متابعتي للقصة، كظمت غيظي وقلت: مثل شعرك؟ لم يرد على سؤالي؛ ولكنه تابع الضابط بنظرات كلب جائع، تابعته أنا أيضاً كفيلسوف عميق الفكر، لا تندهشوا من وصفي لنفسي، امتدت يده للهاتف؛ وقبل ملامسته له تحرك خارج المكتب والجندي المسكين يجري خلفه، فلو كانت الرتب توزع بالأعمار لأصبح ضابطاً، وقف الضابط عند الباب ويديه على وسطه، ألح الكاتب أن يده اليمنى لامست زناد المسدس الحكومي، والجندي بجواره يرتجف، والناس في مسيرهم نحو المركز، قال الجندي تطفُّلاً وهو يمسك دفتر البلاغات بغلافه السميك: أنا جاهز سيادتك، لم يفعل الضابط سوى مد يده ودفعه للخلف، ترنَّح بطريقة وصفها الكاتب بالتمثيلة، اختلفت معه ليقيني إنها مفاجأة لم يتوقعها، اشتبكت نظرات الجندي والضابط، احتراماً للوظائف سأكتب نظرات الضابط قبل نظرات الجندي، والناس يتحركون نحو المركز، صامتون لاهتاف يبين، صف الرجال بالميمنة، والنساء كمعظم الأقليات بالميسرة، والأطفال بين بين، ما أدهش الضابط التنظيم الدقيق للمسيرة، كأنّهم بُنيان مرصوص، قال للجندي، وقد بلغ خوفه القمة. نظر الجندي، بعينين جاحظتين، إلى الضابط، الناس يقتربون بصمتٍ وقورٍ، كما قال الكاتب، يتقدمون بإصرار ثوّارٍ وجدوا ريحا مواتية، قلت أنا، كلما اقتربت خطواتهم من المركز تراجع الجندي خطوة للخلف، اصطدم بالضابط في تراجعه، غفرها له الضابط ببسمة ارتسمت على محياه، وهو يُحدّق في الناس أمامه، لا يبدوا على جباههم غضباً، مسحهم بنظرة فاحصة، كأنَّهم في فرح، قال الضابط لنفسه أين مدير المدرسة؟ ليس معهم، وامتدت همهماته، أيضاً، أينة العمدة والمُهرّب اللعينين؟ بل أين كريبيسة أم لسانا طويل.ومادري الضابط المسكين أن كريبيسة كانت وسط الجموع تنشد قصيدتها التي تشعل الحماس بقلوب الناس وهم يزحفون بنفس الخطى، والضابط يبحث عن شخص يعرفه بينهم، علّق الكاتب، للفقراء وجه واحد، لكزته بكوعي قل للثوار وجه واحد؟ وحين تبقّت بينهم وباب المركز أمتار قليلة؛ والعيون الأربعة تكاد تخترقهم، عينا الضابط وعينا الجندي أقصد، توقف الزحف أمام المبنى، وبحركةٍ واحدة متقنة أدخلوا أياديهم في جيوبهمِ؛ أخرج كل واحد منهم ورقة، عليها كتابة، ورفعها في اتجاه الضابط والجندي، بناءً على رغبة الكاتب، النساء أدخلن كل أياديهنّ بين صدرهن وأخرجن أوراقهن ورفعنها، ضحك الضابط؛ كما درّبوه على الابتسام في الأوقات الحرجة؟ حكمة حفظها في الكلية، تقدم خطوات حاول أن تكون ثابتة ومطمئنة، سألهم: ماذا تحوي هذه الأوراق؟ هاتوها لأعرف، لم يتقدّم أحدٌ بالتنازل عن ورقته، الضابط يطلب مرّة أخى أعطوني واحدة. الأوراق ترتفع إلى الأعلى كلما ردد طلبه، قال له شخص لم نتبينه، ربما أراد إخفاء نفسه: إنها وصل أمانة، وصل أمانة؟ بحث الضابط عن سؤال وجيه يجعل الحوار مدنيا؛ لم يجده، زعم الكاتب أن الضابط تذكر زملاءه الذين يصفونه، ساخرين منه، بالمدني، أقصد الملكي في لغتهم؛ لذا أبتسم حين نطّت نحوه كلمة نعم، نعم، نعم، ولم تُبارح أذنيه إلا بعد ابتعاد آخر واحد منهم.ولكن قصيدة كريبسية الثائرة ،وهي قصيدة الثورة الوحيدة،حركت وتراً حساساً بدواخل الضابط،








(5)

المصائب يجمعنَّ المصابينا، والمصيبة هي ابنة شرعية للظلم، والظلم ليس أصلاً في الكون، وهو في بعض الأحيان يكون مباحاً ومحببا؛ً كأن تظلم ظالماً، وهذا يحدث كثيراً ولا يُعدُّ شاذاً، ولولا الظلم لماحدثت الثورات؛ كالتي نتحدث عنها الآن، فقد شاءت إرادة مجهولة، لنا، أن تجعل من فردٍ عاطلٍ عن موهبة حاكماً، وشاءت هذه الإرادة أن يكون جاهلاً، ومع ذلك يتحكّم في مصير آلاف من الناس، ومستشاريه الكثر يزيّنون له تصرفاته الخرقاء في حق شعبه، وهو دائما عندما يصدر قراراً يصمُّ أذنيه لكي لا يزعجها طنين التذمر الذي يعقب قرارته، هنا تذمر الكاتب وقال لي: قول تفرعن وكفى، كان نصيب الكاتب مني ابتسامة مقتصدة، فلنتجاوز الخلافات الصغيرة والحماقات التي أضحت سمة للكاتب، ولنتتبع همهمات الناس وأدوارهم ببث الفكرة؛ أو المصيبة التي ألمّت بهم، بعضهم يهمس، وآخر يُلغز، وأجهر الذي يدعي النضال من الشباب المحبطين، وشابات أنزلهن قطار الزواج في محطات صدئة، فلكل واحد قصة يجب أن تُحكى، ودور، قام به، يحق له تسجيله. خشينا أن يترهل السرد، لكن لابأس من إثبات بعضها لأنها أدخلت الحكومة، هنا نقصد الحاكم،في مأزق، المُهرّب انشغل ببث الخبر متمنياً إغلاق المركز ليستغله في إخفاء بضاعته، ومدير المدرسة ليرفع أسهمه عند رؤوسائه بالعاصمة حتى يسجل أسمه مع المناضلين.
الضابط بالمدينة الجنوبية تراخى أو تضامن مع الجماهير، أحد الشُبّان لا نعرف أسمه قام بدور كبير، دور حرضه عليه الفقر الذي أورثه انتهازية مخلوطة بغباء، كل غبي نشط، هذه حكمة يؤمن بها الكاتب، نفثها في وجهي مراراً، كنت أنتهره أين نشاطك أنت؟ يحتج هل أنا غبي؟ أرُدُّ عليه، وكسولٌ أيضاً. يُقهقه ليخفي اضطرابه ويسألني: هل تحتاج إلى دليل على حكمتي هذه؟ لم ينتظر إجابتي، استرسل في استحضار أشخاص نعرفهم كنا قد وصفناهم بالغباء، كلهم نسخة مكررة؛ كأنهم الشاب الذي سبق مدير المدرسة في طباعة ملايين إيصالات الأمانة، معلومات استخلصتها بجهدي ومكري الذي أكسبتني له متابعتي الكاتب، وعن مدير المدرسة، إذا استبعدنا قصر قامته التي لا تخلو من فتنة ودهاء، فقد علمنا أنه شخص حذر؛ وذلك لانتمائه إلى جماعة تقاوم الحكومة وتسعى إلى إسقاطها، بالإضافة الى أنه رجل غريب بهذه المدينة، وأنتم تعلمون حال الإنسان المُبعد عن موطنه ومطاردٌ من جسم هلامي، لا تُعرف له هئية، يُسمى حكومة.
على الرغم من مطالبة رؤوسائه له بطباعة إيصالات الأمانة؛ إلا أن إحساسه، بأنّه مراقبٌ من أجهزة خفية وعلنية، يُثير الفزع، ذكر اسمها ،وقفت حاجز صد بينه وطاعة الرئاسة، لا تنسوا أن لدي بعض الثوّار تمرد داخلي ضد الثورات؛ فالثورات تحمل في داخلها أنواعا عديدة من الثورات الصغيرة الموؤدة، يُصر الكاتب على زعمه بأن مدير المدرسة هو الذي أوكل إلى الشاب الغبي، في وصف الكاتب، المهمة، وأنا على استعداد لإثبات كذب الكاتب، لمعلومات امتلكتها بجهدٍ خاص في إحدى غفلاته، وهو كما أعلم كثير الغفلات، معلومات تؤكد نفي الغُباء عن الشاب، وأكاد أقسم أن مدير المدرسة لم يُقابل الشاب، ربما ساعده المُهرّب؛ ليس ربما، بل بكل ثقة، أحياناً قلبي يُحدّثني أن الكاتب هو صاحب فكرة طباعة إيصالات الأمانة، وأنا لا أثق بالقلب، والمضحك في الأمر أن الجندي قد اشترى إحدى هذه الإيصالات، لماذا؟ هذا تشويق فقط لمتابعة القصة، وإذا أردتم تشويق أكثر ستجدونه حينما دخل الناس مبنى المركز، كانوا يرفعون أيديهم بلا مهابة أمام الضابط، كما رأيتم في الفصل السابق، كل يد تحمل وصل أمانة؛ وبعضهم تجرأ وحاول دخول الحراسة، وكريبيسة تقف بامتعاض من النسوة الكسالي اللائ يتهامسن أن كريبيسة واحدة طالقة مع رجل خيبان؛ ومنحاها هذا فيه خراب لبيوتهن؛ اندهشت من خطورة دور كريبيسة؛ ففي رأي بعض أعيان البلد الذين لا تعجبهم الفكرة ولم يشاركوا فيها- أن هذا الأمر برمته من تخطيط كريبيسة. انتقل الذعر الذي أصاب الجندي إلى الضابط، ارتخت يده التي كانت على صدره، تحسّس المسدس الحكومي وذاكرته تجتر تاريخه غير المرضي له هو شخصيا، فاكتشف في هذه اللحظة أنه لا يملك تاريخا ناصعا كما كان يوهم نفسه، شاءت ظروف معروفة لنا أن تجعله ضابطاً؛ فهو ابن رجل خامل الذكر، وامرأة جاهلة غبية سمجة، ومن سماجتها حديثها عن كيفية إنجاب ابنها الوحيد الذي أصبح ضابطا؛ تقول: إن زوجها ، والد الضابط، كان ضعيفا جنسياً، وأنها بعد جهد ليلة كاملة استطاعت أن تستخرج من قضيبة نقطة مني، تصفها بالصغيره وادخلتها في رحمها ، هي لم تقل رحمها بل قالت شيئاً اخر اظنكم تعرفونه، واسترسلت في حديثها: هذه النقطة من زوجي انجبت ولدي ، وتختم حديثها بضربة علي صدرها: هاهو ضابط قدر الدنيا، أفاق الضابط على مطالب المتجمهرين وحديث أمه الذي تمنى أن لا يكون قد سمعه خلسة في أحد جلسات البن التي تجمع لها نسوة بائسات الحظ ؛ كنّ رفياقاتها في البؤس قبل أن ينتشلها ابنه العظيم، كانت مطالب الحشود واضحة وبصوت واحد: نريد أن ندخل السجن، قالت امرأة في مقتبل العمر، نقل الضابط بصره نحوها؛ ولو شئنا الدقة: نقل نظرة إلى صدرها، برز نهد مكتنز، أو هكذا تخيّله، توتّر جسده من مرأى النهد المكشوف، يقول الكاتب رغم اختلافي معه، جرى لعاب بفم الضابط، ونط من قاع ذاكرته أحاديث رفاقه عن شهوة النساء الثائرات؛ ونطت حكمة يؤمن بها الجنود في كل العالم، ويبررون بها عتداءاتهم الجنسية على النسوة الثائرات، حكمة فحواها أن المرأة تنفعل في السرير بقدر انفعالها، غاضبة، في المسيرات الاحتجاجية، ورافع بها محام فاشل في القضاء المدني أمام محاكمات عسكرية مشهورة لمصلحة جنود مغتصبين؛ هذه الأحاديث نمّت فيه رغبة مضاجعة فتاة مناضلة، قطع هذيانه، كما ظننت أنا، أو، لو شئنا الدقة، قطع حبل ذكرياته ،كما يحلو لاستاذ حبذا القول، يقول الكاتب أن صياح الأطفال، وهم يرفعون أوراقهم في الهواء، كلنا نريد السجن-هو الذي قطع عليه تأملاته الشهوانية، فالأطفال، في رأيه، دائما يعكرون اللحظات الحميمة، وهذه حكمة أمه التي تنضح بالشهوة مع رجل خامل الجنس؛ وشافع لا يكون صاحيا إلّا عندما يصعد المني النادر في عروق أبو عيالها. التفت الضابط نحو الجندي، همّ الجندي أن يقول له: كنت تتمنى بلاغ واحد الآن أمامك ألف، إلّا أن الخوف من فقدان وظيفته ألجمه، قال بصوت منحني كظهره: هل تأمر بشئ سيدي؟ وأشاح بوجهه إلى الجهة الأخرى؛ واضعاً يده على فمه يكتم ضحكة فاجأته، قبل أن يُعيد لفتته تحرك بسرعة حسبها الناس هرولة، ارتفعت أصواتهم: افتح، افتح بلاغا. دخل الضابط مكتبه ويده ترتعش بوضح فاضح، هاتف المركز الرئيسي، بعد دقائق حسبها ثواني، أتاه صوت أنثى: مَنْ المتكلم؟ اندهش ويده تضع سماعة الهاتف، همهم غاضباً مكاتبكم تمتلئُ بالنساء وأنا مرمي في هذه الخرابة، رفع يده ولامس أذنه يستحضر انسراب الصوت الأنثوي إليها، تذكّر أنه قبل نقله من الرئاسة لم يشاهد أنثى تعمل بها، تساءل هل هذه مستجدات؟ ارتفع صوت الكاتب بقهقهةٍ مريرة انزعجت منها، رمقته غاضباً، أحس بحياء لا يعرفه أمثاله من الكُتّاب، حاول التقرب إلي أكثر، هذا الضابط خائب، ثم واصل حديثه لي: هل تعلم أنه لا علاقه له بالنساء، والفتاة الوحيدة التي مال استهوته كانت سببا في نقله إلى هذه المدينة؟ رغم معلوماته المفيدة في التشويق صرخت فيه: كفي يا أنت. دار حوار بين الجندي و بعض المواطنين، لاندري عنه شيئاً، بعد جهدٍ علمنا اتفاقهم أن يدخل ثلاثة منهم لمقابلة الضابط،كاد يحدث خلاف في أختيار الثلاثة، أقسمت كريبيسة الا يختار أحد العمدة أو نسيبه المهرب اللعين، علت أصوات الاحتجاجات ،المهم في الامر ياسادتي تم أختيار الوفد من كبار السن،الذين دخلوا علي الضابط كوفد مفاوض، وستعلمون أن الجماهير رغم اتفاقها مع الجندي لم تلتزم بالاتفاق، فكلما طالت مدة المناديب بالداخل كلما تسلل أحد المواطنين؛ تسوقه رغبه معروفة، وستعلمون أن جُل المواطنين تسلّلوا؛ بل وشاركوا في الحوارات بين مناديبهم والضابط. دخل الجندي وخلفه ثلاثه أشخاص، شاهدهم الضابط الذي رسم نصف ابتسامةٍ على جبينه، تكلّم أكبرهم سناً: نحن انتخبنا لنُخاطب سيادتك بخصوص موضوع مطالبنا، رغم معرفته بمطالبهم سألهم: ماهي مطالبكم؟ ثم واصل حديثه بصوتٍ مرتفع، سأُنفّذها لكم، انحنى يلتقط بعض الأوراق التي سقطت على الأرض، رماها أثناء دخولهم عليه، وهذا هو دليل الارتباك الذي وصفته لكم قبل قليل. تكلم الثلاثه: نريد أن تُطبّق فينا قانون خيانة الأمانة، قبل أن يرد عليهم تساءل سراً، علي حد زعم الكاتب، كيف أدخلهم بغرفة لا تتسع لهذا العدد؟ انعكس هذا التساؤل همهمة بفمه، قلت شنو؟ تكلم ثلاثتهم ثانية: نريد أن تطبق فينا قانون خيانة وصل الأمانة، رسم بسمة جافة وهو يشبك يديه، لامانع لدي. رأى السرور يغطي الوجوه العابسة أمامه، هذا السرور أغضبه لسبب معروف بالطبع، كتم غضبه وقال لهم باسطاً كفيه وتقاطيع وجهه: لكن لدينا مشكلة، قاطعوه : ماهي المشكلة؟ همَّ الجندي بالتدخل؛ لإحساسه بتجاهلهم لوجوده، مطَّ الضابط بسمة كادت تنتحر وهو يقول: إن غرفة الحراسة لا تستوعبكم جميعاً، تدخل الجندي مسانداً: إلا إذا عملنا ليكم وردية، طرافة تدخله لم يستجب لها أحد، علت أصواتهم: عارفين عارفين، عارفين، زاغت عينا الضابط تبحثان عن شئ يستنجد به، التقت بعيني الجندي، أشاح بوجهه للحائط، أعاد النظر فيهم، بغتةً كأنما وجد حلاً معجزاً: ما الحل؟ سألهم. قال كبيرهم: نحن على استعداد للحبس داخل هذا الحوش، تدخل الجندي، لو لم يتدخل سيتدخل الكاتب، كيف أحرسكم في الحوش الواسع دا؟ نطّت كريبيسة، كاشفة عن صدر أبعد الضابط بصعوبة بصره عنه: لا نحتاج إلى حراسة، سانتدها أخرى تقف خلفها: أيوه أيوه. اقترح أصغر القوم، بعد أن شمّر كُم جلابيته، خلاص نبني حراسات جديدة، قال الضابط بطريقة توحي لسامعها بعجز قائلها: ليس لدينا ميزانية لما تقول. ردَّ الجميع: نبنيها نحن، هنا أطلقت كريبيسة زغروة أهاجت النسوة فأطلقن زغرودات أقوى. وجد الجندي فرصة لإثبات وجوده: تبنوها لتدخلوا فيها محبوسين؟ سألهم الجندي وهو ينظر للضابط مندهشاً. قال الكاتب إنّ الجندي افتعل الاندهاش ولم يندهش، رفع أحد الرجال عصاه وكاد يهوي بها على رأس الجندي، تراجع الجندي للخلف وعيونهم تحاصره، انقذه الضابط حين قال اذهبوا لبيوتكم، وفي الغد سنجد حلاً. قبل شروق الشمس سنكون هنا، قالوها بإصرار وهم يغادرون مبنى المركز قبل شروق الشمس سنكون هنا. قبل خروج آخرهم، قال الجندي جملة كادت تُحدث أزمة: أعطوني أوراقكم لأسجلها. التفتوا جميعاً نحوه وهمهموا: تسجلها؟ زجره الضابط، وخاطبهم برقةٍ: خذوا أوراقكم معكم وأحضروها صباح الغد. قال شيخٌ مُسنٌ: المتغطي بالأيام خسران، قال لي الكاتب هذا من أمثال هذه المدينة. بذات الترتيب الذي دخلوا به خرجوا تاركين خلفهم همهمات وكلمات احتجاجيةٍ: بكرة قريب، ونحن مصرين ندخل السجن، سجن سجن غرامة لا، لن ندفع مليم، هو ذاته يدخل معنا، بعد اليوم لا خوف، ليذهب الحاكم إلى الجحيم، نحن قرفنا، الموت ولا المذلة، هو متخيل نفسه خالقنا؟ الخلاص قرّب قرّب، بعض الهمهمات لامست أذن الضابط. أول من قابلهم المهرب يجر زوجته وخلفة العمدة؛ وبالأحري بطن العمدة المنتفخة: بماذا عدتم؟ سألهم؟ حين ألمّ بطرف الاتفاق ابتهج قائلاً: أنا متكفّل بتكاليف المبنى الجديد، قال ما قال وهو يتوجّه نحو مكتب الضابط، مرّ بالجندي مسرعاً؛ خلفه عدد من الرجال ليس من بينهم العمدة؛ لأنه عاد مهرولاً إلى بيته،وشتائم كريبيسة تلاحقه، ولم تكتف بذلك بل أنحت للارض وملأت كفها بالتراب وقذفتها في وجوه الحاضرين وربطت قرقابها علي وسطها وغادرت الساحة. لم يقف المهرب بالباب أو يطرقه، كان الضابط لحظة دخوله منكفئا على يديه بسطح الطاولة، أحس بصوت أنفاسهم، رفع عينيه نحوهم: خير، ماذا تريدون؟ خرج منه هذا السؤال كخروج غائطٍ غليظٍ من مريض بواسير، تنحنح المهرّب، فرك يديه وأدخلهما بجيب جلابيته، وحين أخرجهما كانتا تحملان رزمة أوراق مالية، وضعها على طاولة الضابط؛ استجلب بسمة وزّعها على الحضور، أجاب عن سؤال الضابط. هذه لبناء الحراسة، الضابط ألمّت به حيرة كامرأة أمام أخرى تنقل لها خبر زواج زوجها من أخرى سراً. ضحك المُهرّب ضحكة سرّب من خلالها، لو احتجت إلى زيادة أنا جاهز، همّ الضابط بضرب الطاولة وطرده، امتدت يد الجندي للإمساك بذراع المُهرّب، رمقه بنظرة ارتخت لها يده وانفرج فمه عن بسمة بلهاء، هذا الوصف يتحمل وزره الكاتب، لمح الضابط ما جرى، أحنى رأسه محدقاً في الفراغ، هكذا قال الكاتب، حين رفع رأسه قابلته بسمة المُهرّب المصنوعة، قال في نفسه، كما زعم الكاتب، لقد قابلت أناساً مثلك ياهذا، والصمت شمل الغرفة، كل واحد من الموجودين ينتظر من يطرد الصمت، مزّق الضابط الصمت بقوله: أنا موافق ولكن يجب أخذ رأي الرئاسة، تبجّح المُهرب، أعتبرها مضمونة، تساءل الضابط بدهشةٍ حقيقية، كيف ضمنتها؟ امتدت يد المُهرّب وأخذت رزمة الأموال التي على الطاولة وحرّكها في الهواء وهو يُحدّق في تعابير الضابط، كظم الضابط غيظه، قال وهو يُحدّق بقسوة في وجه المهرّب: إذا فلننتظر حتى يأتينا ردّ الرئاسة. أدخل المهرب الأموال في جيبه وأومأ لمن خلفه، انتظروني بالخارج، بطاعةٍ متوقعةٍ خرجوا مطأطيين رؤوسهم ويجرون أرجلهم، خرجت معهم ضوضاء أحدثوها، حين أصبح المُهرّب وجهاً لوجه مع الضابط، قال له بصوت مهموس اتفقنا؟ ارتفع حاجبا الضابط بدهشة ليست مصطنعة كما تخيل الكاتب، اتفقنا على ماذا؟ بجمودِ سنوات من المكر قال المُهرّب: هل ترفض تنفيذ قرارات الحاكم؟ اهتز الضابط منفعلاً لوقاحة المُهرّب، كاد يسقط، امتدت يد الجندي الذي دخل لتوه وسندته، ضحك المهرّب بسخريةٍ ارتفع لها ضغط دم الضابط؛، دنا المُهرّب واضعاً يديه على طاولة الضابط، وعيناه تقابلان عينيه: أنت عارف، دقَّ الضابط الطاولة بيده، ضربة أفرغ فيها غضب كامن منذ أعوام، ونهض قائلاً: عارف شنو؟ ارتبك المُهرّب فاتجه إلى الباب تاركا خلفه جملة مبهمة بجوف الضابط؛ اهتز لها جسده كثوب مُبلّل أتت عليه عاصفة هوجاء؛ وبفمه سؤال، حائر ماذا يُريد المُهرّب بالحراسة؟ والجندي خلفة يكتم ضحكتة،.















(6)








الظروف أكسير عند البعض، وحنظل لدى آخرين، تأتي لمن تشاء كيف تشاء، تجعل الغبي عالماً؛ والفقير ثرياً، والذي خُلق ليعيش مسكيناً ذليلاً تجعله يأمر وينهى، وتجعل من تشاء ضابطاً وآخر مديراً عاماً، كل هذا معروف لنا ولكم، وشاءت ظروف أن نكون على مرأى ومسمع من الآتي: في بداية المكالمة الهاتفية التي أجراها الضابط، لم تفارق المدير العام ابتسامته الساخرة، بدأت حين علم رقم المتكلم، ختم الابتسامة بردٍ جافٍ وهو يبتلع لقمة طعام، هل فتحت بلاغ؟ أحسّ أن الطرف الآخر تململ في جلسته، لا ندري كيف عرفه جالس، سيادتك، سيادتك، جاوبه الصوت الذي أحس بذبذباته متقطعة، رفعت حنقه درجة، ضابط يتلعثم؟ تساءل وعلى وجهه ارتسمت تعابير تنمُّ عن دهشة مفتعلة، قال الكاتب طالما ارتجف في أيامه الأولى بالوظيفة، وقص حكايات تؤيد زعمه، في إحداها بلّل ملابسه الداخلية وسط سخرية الزملاء، ردّ على الضابط، بنبرة مسؤول كامل الحيوية، أنا أسمعك يا إنت، دونية أصابت الضابط، جعلته يتساءل: هل أنا مجهولٌ إلى هذه الدرجة؟ قبل انبثاق سؤال آخر زادت وتيرة السخرية التي سرت عبر الهاتف؛ ينفثها المدير العام، أحسّها الضابط فاضطر إلى رفع نبرته: كل سكان المدينة هم الآن أمامي؛ لديهم إصرار غريب بدخول الحراسة. هل أنت جاد في قولك أيها الضابط؟ نعم سعادتك. ماتت بسمة المدير العام وهو يضع سماعة الهاتف بعصبيه لا تتوافق وسنّه، ذهل عن إكمال وجبته، يقول الكاتب تبقى له شهر قصير وتصدمه الإحالة إلى المعاش، صرخ منادياً سكرتيرته التي كانت ساعتها، كمعظم العاملات بالمكاتب، تنظر إلى وجهها في المرآة، وتحديداً كانت تُمعن النظر في شفتها السفلى، كانت تمسح أثر قبلةٍ مكتبية طبعها موظف دنجوانيّ بامتياز، ندم الموظف على تقبيلها على فمها الذي تفوح منه رائحة بصل جلبته خصيصا لفتح الشهية؛ حتى تستطيع ازدراد فول بوفيه الشرطة في القسم ، قال الموظف فيما بعد إلى خاصة خاصته: لقد ردّت علي حين وصلها تعليقي على رائحة فمها –أن رائحة فمي تنذ خمراً بلدياً رخيصاً. وضعت السكرتيرة المرآة داخل حقيبتها ونهضت، حرّكت رجلها اليسرى قبل أن تلحقها باليمنى ناداها المدير العام ثانية، اضطربت وهي تضع خمارها؛ لتغطي شعراً أصابه شيب، فهي عانس لئيم، وأخطر البنات هُنَّ العانسات، هذه حكمة الكاتب التي حاولتُ أن أزحزحه عنها دون جدوى. عند ولوجها باب المكتب قابلها المدير الستيني بتجهُّم لا تخطئه العين، كان جالساً على كرسيه الوثير؛ واضعاً رجليه على كرسي آخر، على فمه غليون أجنبي يتصاعد دخانه نحو الباب ليلامس سقف المكتب، بانكسارٍ قالت: نعم سيادتك، وعيناها مركّزتان على كرشه المترهلة، كلما كبرت كرش الرجل كلما ضمر قضيبه، بالتأكيد نطَّت هذه الجملة إلى رأسها الآن، وذلك لسماعنا لها مرات عديده تقولها بفخر أمام زميلاتها؛ لتثبت لنفسها ولهن أنها ذات علاقات مع رجال كُثر، يقول الكاتب إنها حاولت تبنيها في علاقاتها مع الرجال، سألته هل هذا تبرُّع بجهلٍ منك أم صادق؟ ضحك وقال: هذه السكرتيرة المعنّسة، أعرف عنها علاقتين فقط: الأولى لم تتجاوز قبلة قصيرة، والثانية مع زميلها بالمكتب، وهو كما تعرف لا كرش له ولا ظهر، ختم الكاتب استطراده الممجوج عن السكرتيرة بشتم لم يسلم منه أبواها، لا أعرف لماذا شتمها الكاتب. صمت المدير ويده تلامس أوراقاً أمامه، حرّك بعضها من يمين الطاولة الى يسارها ثم أعادها إلى ذات المكان في اليمين، مزّق بعض الأوراق بعد كرمشتها بغضب واضح على جبينه، رفع رأسه نحوها، اندهش لوقفتها أمامه، فتح فمه، بغباءٍ، مستنكراً: يبدو أنه نسي مناداته لها، ضرب جبينه بكفه، أنجدته بما يُفكر فيه، تنهّد وجبهته اتكأت على يده، خاطب السكرتيرة، كأنما يُخاطب نفسه بصوت أراده أن يكون جهيراً: في أقل من دقيقة واحدة أريد جميع الضباط بالقسم؛ اجتماع مهم، المدير العام لم يقل مهم إنّما قال هام، لكن لأن الكاتب مغرم بالنحو، أصرّ على تبديلها بمهمٍ. كما دخلت السكرتيرة خرجت، فقط اختلاف قليل ظهر على جبينها، سهت عن حمل أواني إفطار المدير العام. ملحوظة يجب تسجيلها عند دخولها على المدير العام، كانت تضع يدها اليمنى على فمها تُخفي بها تورماً علي شفتها السفلى؛ ولم تفارق يدها وضعها هذا وهي تحادثه، ولم تُنزلها إلا حين وجدت نفسها خارج المكتب، لم تعلم حتى الآن أن المدير العام شاهد تورم شفتها، ولو كان الزمان غير الزمان، والمكان غير المكان لتمادى في بثها هموم تصيب من هم في مثل عمره. كيف اتصلت برؤوساء الأقسام؟ هذا سؤال قد يتبادر للأذهان، لكن خشيتي من الحشو سأكتفي بأنّها بلغتهم طلب المدير العام، يُصر الكاتب على أنها حرّفت فيه بعض الكلمات، وهذا معلوم بالضرورة، قبل حضور الضباط للاجتماع، كما تفعل السكرتيرات عادة، كانت السكرتيرة قد سرّبت الخبر إلى العاملين بالرئاسة، المدير العام هائج اليوم، لقد أمرني بدعوة كل الضباط، زمان كان يناديني بإسمي، فقط ناداني يا إنت، بالتأكيد أخبرت الذي أدمى شفتها السفلى أولاً، يصر الكاتب إنه سألها عن سبب الدعوة، لم يُعلّق على أثر قبلته، التي رفعت ساديته درجة، أجابته الفاجرة، هذا الوصف يتحمّل وزره الكاتب فأنا برئ منه، فتاة في سن العنوسة نصيبها قبلة وحيدة وضمّة صدر رجل كحيان، يصفها بالفاجرة؟ هذا تجني منه، أجابت السكرتيرة بالنفي، كادت تخبره بالقصة كما سمعتها، لكنها حين رأت لهفته على جسدها أمسكت عن الإفصاح، نهض الموظف العاشق ليُشبع رغبة أخيرة في ضمها، تمانعت كما تفعل العاشقات المبتدئات. بعد نقلها لما جري عادت السكرتيرة إلى مكتبها، ولحظة دخولها وجدت بعض الضباط يجلسون على الكراسي، رسمت بسمة عملية، لم ينهضوا لها كما هو متوقع؛ بل سألها أحدهم سؤالاً تسمعه كثيراً قبل كل اجتماع، ماهو سبب الدعوة، رغم معرفتها بتفاصيل القصة التي كانت السبب إلى الدعوة- إلا أنها أجابت: أنا ذاتي ما عارفة حاجة، طبعاً لم يُصدّقوها؛ لأن لكل واحد منهم سكرتيرة يبثها حتى همومه العائلية، وأحياناً تكون السكرتيرة الزوجة السرية للمدير، وأطلقوا حكمة بينهم في هذا الشأن تقول: إن من يصدق السكرتيرات يكذب المدراء، تركتهم بجلستهم ودخلت عليه، علّق أحدهم: حرام أن تكون سكرتيرته المدير العام كهذه، سانده آخر له زوجة صعبة، يقول زملاؤه إنها تتدخل في اختيار سكرتيرته؛ فلو أحضر سكرتيرة جميلة لجعلته عبرة لمن يعتبر، تدخّل آخر قائلاً: صدقت. حين دخول السكرتيرة كان المدير العام يلامس خده سماعة الهاتف، التقطت كلمات من المكالمة، وحين ربطتها مع بعضها أيقنت أنه يتحدث مع المركز الجنوبي؛ حيث المشكلة التي أقلقته، قلت إن أول من عمل هذا طفلان؟ هل استجوبتهما؟ هل كل المدينة بالمركز الآن؟ هل بينهم نساء وأطفال؟ وضع السماعة وقال: كأنما يُكلّم نفسه، لو كنت مكانه لأدخلت حتى الحيوانات. بجرأة لا يتوقعها أحد قالت السكرتيرة: المفروض هو ذاته يدخل معهم، تعليقها كاد يضحكه، كتم ضحكته، شبك يديه وسألها: هل حضر السادة مدراء الأقسام. نعم حضروا؛ جميعهم؟ ليس كلهم، إذن دعيهم يدخلون. حين خرجت نحوهم كانت جلستهم قد طرأ عليها بعض التغيير الذي إذا تجاهلناه لا يضر بسير القصة، قبل جلوسها على مقعدها، الكاتب يصر أن أكتب أشارت إليهم بالدخول قبل جلوسها، ، محتجا على استعمالي كلمة أمرتهم، بحجة أنهم ضباط برتبٍ عالية؛ فكيف تأمرهم سكرتيرة أكل الدهر عليها وشرب وبال وتغوّط، وتكرمش وجهها وذبل خدها الأيسر.هل لاحظتم مفردات الكاتب وهو يتحدث عن السكرتيرة؟ نترك احتجاج الكاتب ونتابع ماجرى بالمكتب الرئيسي، أنزل المدير العام رجليه من على الكرسي المقابل؛ لاستقبالهم لا احتراما، فهذه عادة عنده، وضع غيلونه بالجانب الأيمن للطاولة، يحب دائماً أن تكون أشياءه بيمناه، أنا أمقت اليسار يقول. بيده البضة أمرهم بالجلوس بترتيب مزعج للمدنيين ومحبب للعساكر، جلست الرتب العليا في المقدمة، وفي المؤخرة جلست أدنى الرتب، بتوسلٍ قال لي الكاتب: أرجوك أمسح كلمة مؤخرة حتى لا يُسئ القراء مقصدنا، أحياناً لا يبتعد الكُتّاب عن الحقيقة، هذا التعليق لي وأنا مسؤول عنه. قطع المدير العام الصمت، دعوتكم لمناقشة مشكلة حلّت بأحد مراكزنا. همّ أحد الحضور من الذين تسلّموا مناصبهم قبل أيام قليلة بالتدخل، لكن صرامة على جبين المدير العام قتلت رغبته، بعد جملته هذه دخل المدير العام في الصمت العام، جال بعينيه فيهم، التفت بلا سبب واضح نحو باب المكتب، حين عادت لفتته واصل حديثه، باختصار: إن تمرداً قد حدث بالمدينة الجنوبية الحدودية... يتدخل أحد الضباط لم نتبيّنه؛ لانشغالنا بالتمعُّن في كرش المدير العام التي يبدو معها كضفدعة، قال هذا الضابط المجهول بالنسبه لنا ولكم بالطبع: هذه مسؤولية الجيش؛ لأن المدينة حدودية، قال ضابط آخر نعرفه، ولكننا لا نُسجّل اسمه هنا لشئ يخصنا أنا والكاتب، قال مسانداً: معك الحق كله، ضحك المدير العام وهو يُعلّق علي الزعم الأخير، قلت الحق كله معه ماذا تركت لنا؟ ضحكات نفاق ومجاملة صاحبت تعليق المدير العام، همس ضابط آخر متعجباً، لمعرفته بالقائل، سبحان الله. هذا التعليق أثبت أننا على حق حين لم نحفل بتسجيل اسم الضابط المتعجب، نقر المدير العام طاولة الاجتماع بأصبعه السبابة، هذه متأكدٌ منها الكاتب، أولوه كل اهتمامهم، إنّ التمرد حدث داخل مركز يتبع لنا، هذه الجملة جعلتني أحترم تواضع المدير العام، احترمته لأنه لم ينسب المركز له، اختلف معي الكاتب باحتجاج واضح النبرات، إنه نسب المركز لهم بسبب المشكلة، ولو كان حدث خبر مفرح لقال إن المركز يتبع لي، هل فصلت لنا، سيادتك، نوع التمرد؟ هذا السؤال نطَّ فوق رؤوس المجتمعين، تلّقاه المدير العام بأريحيةٍ، وأد موجة تثاؤب اجتاحته، حرّك ردفه بالمقعد، أحدث المقعد صريرأً من سمعه ظنّه فسوة، وقال: التفاصيل كما أتتني هي أن أهالي المدينة الجنوبية قد أتوا بفكرة لم تخطر على بال المشرّع حين أصدر قراره العجيب، نطق كلمة العجيب بصوتٍ هامسٍ خفيضٍ، همس أحدهم بأذن جاره، يقصد قرار خيانة الأمانة. صمت بعد جملته، وأخذ كوب الماء وعبّه في جوفه، مصمص شفتيه بمنديلٍ ورقي، واصل حديثه، تخيّلوا تفتقت عبقريتهم، وهنا أعني سكّان المدينة، بأن كتب كل واحد للآخر وصل أمانة؛ وتقدموا إلى المركز مطالبين بتطبيق القانون عليهم، تدخل ضابط مركز حديث الإنشاء رافعاً يده، تفضّل تكلّم، أعتقد أن هذا الموضوع يخص القضاء، قاطعه أحدهم، وهو شاب كل مؤهلاته أن أحد الوزراء تزوّج أخته، يجب تطبيق القانون عليهم، سأله المدير العام: جميعاً؟ أجاب بحماسٍ الشباب: نعم جميعاً. ضحك المدير العام أو تجشّأ؛ فالفرق بين ضحكته وتجشئه لا يبين. ارتفعت همهمات الصفوف الخلفية مستنكرة، ارتخت لها بعض الآذان، إني أسمع همهمات، قال المدير العام، تسربلوا بصمتهم، والهمهمات تحولت الى وسوسة، كرر المدير العام حديثه: إني أسمع همهمات، تشّجع أحدهم ووقف، تكلّم بصوت تحس نبرة الخوف تسربله: أرجو استدعاء رئيس القسم المذكور ليفصل لنا ماحدث. ظهرت تعابير تجهم على وجه المدير العام وبقية الوجوه، التفتت نحو المتكلم، أحس بأن اقتراحه مرفوض. هل لديكم اقتراح آخر؟ سألهم المدير العام متجاهلاً الاقتراح الأخير. رفع أحدهم يده، وحين أُذن له بالحديث تقدّم للأمام خطوات، وهذا يدل على أنه يجلس بالصفوف الخلفية: هذه التصرفات أعتقد اعتقاداً كاملاً أن وراءها جهات أجنبية. شجّعته بسمة ارتسمت على جبين المدير العام؛ ليُواصل: كيف لمدينةٍ صغيرةٍ بها، كما هو معروف، الأمي والمتعلم والشجاع والجبان والمريض والصحيح، وفيها من هو مع السلطة، وبها أناس ضدها، نعم هم أقلية التي تؤيدنا، كيف تجتمع على أمر واحد؟ خطبتك جميلة، تعليق، يجهل قائله، صدمه وصك أذنه، أيقن أنه أحد المشاغبين الذين يجلسون خلفه، تلفّت يبحث عن مصدر الصوت، كانت العيون مرميةُ على الأرض بما فيها عيون المدير العام، نهض آخر يبدو أنه بكرشه المترهلة في العقد الخامس، وله خبرة كما توقّعنا، وقال: كلام الزميل جميل ومنطقي، فقط لدي إضافة... صاح به صوت أجش، :قول؟ التفت إلى مصدر الصوت، وواصل إضافته: الجهات الخارجية التي عناها الزميل حرّكت أذيالها بالداخل، ارتفعت همهماتهم. نعم نعم. قالت السكرتيرة التي تفاجأ الجميع من حضورها شأنا أمنيا خطيرا، قالت السكرتيرة :والدليل على ذلك أنّهم بعثوا وفد مقدمةٍ مكوّن من طفلين، صرخ فيها المدير العام بأي صلاحية دخلت هذا الاجتماع؟ تلجلجت: أنا؟ نعم أنت؟ كشئ متوقّعٍ انفجرت تبكي وخرجت، نظر المدير العام للساعة بمعصمه وقال: أقترح أن نبعث بأحد رجالنا إلى المدينة الجنوبية ليأتينا بالحقيقة، حظى بموافقة أغلبهم علي مقترحه، باستثناء أحدهم، قال الكاتب إنه مدير قسم الأمور السرية. ضحكت سخرية للجهل المركّب عند الكاتب، انتظرني حتى أكملت ضحكتي ليسألني عن مغزاها؟ قلت له: ليس مدير الأمور السرية ياجاهل، لم ينفعل لوصفي له بالجهل، إنه مدير الأمن أو البوليس السري كما تقول العامة، سألني: لكنه معروف للعامة. قلت: نعم. أصلح مدير قسم الأمور السريّة من جلسته وقال: أرى أن نطلب من زميلنا هناك الاجتهاد في معرفة الأسباب؛ لأن ذهاب واحد منا إلى مدينة صغيرة سيكشف أمرنا ، ونحن في قسم الأمن السري سنمده ببعض الخيوط. مثل ماذا؟ تساءل المدير العام،أجاب ضابط اخر ضاحكاً : مثل كريبيسة، دق المدير العام الطاولة بقلم كان يعبث به علي الاوراق :من كريبيسة هذه؟ أحسّ مدير البوليس السري بأهميته، تنحنح وقال مولياً اهتمامه للمدير العام: كريبيسة أمراة تحوم حولها شبهات نحن سيدي نرى أن نطلب من زميلنا متابعتها ومتابعة مدير المدرسة، نطّ سؤال متوقّعٌ: لماذا مدير المدرسة؟ قال: لأنه أكثر الناس بالمدينة تعليماً، وقد تم إبعاده لأسبابٍ أمنيةٍ وشُبهات تحوم حوله، وله ميول إلى جماعة سرية. والشخص الثاني الذي نطلب متابعته شخص مشهور بتجارة المخدرات، وهو ومدير المدرسة متساويان في الضرر بعقول الناس،اكثر من قصائد كريبيسة، ويمكن لزميلنا الاستعانة بعمدة المدينة، قاطعه المدير العام: هل تعلم أن العمدة متزوج بإبنة المهرّب الذي تطالب بالقبض عليه ؟ أجاب بتبجُّح ٍلا تتحمّله الجلسة. أنا أعرف كل شئ. سأله أحد الحضور: كل شئ؟ نعم كل شئ. أجاب باقتضاب وحزم، وواصل حديثه: سيدي المدير العام لا تنسى أن مصالح العمدة معنا أضعاف مصالحة مع المُهرّب؛ ولطالما استفدنا وأفادتنا خدماته كثيراً، ولاتنسى أننا نصّبناه في العمودية، شكراً لخطبتك العظيمة، هكذا علّق مدير قسم الجنايات، تعليقه جعل عقولهم تمنحه اهتماماً يبحث عنه، هل تود إضافة شئ؟ سأله المدير العام، قال الكاتب معلّقاً: لو لم يكن عنده إضافة سيُجيب بنعم، لم يخب توقّع الكاتب، أجاب: نعم سيدي، نطّ مدير البوليس السري قائلاً: ادخل في الموضوع. لم يهتم به ولا بتعليقه ومضى يقول: هذا موضوع لا يستحق كل هذا الاهتمام، فليدخل السجن مَنْ يريد، نحن تنحصر مهمتنا في القبض وحبس الذي يأتينا بحكم قضائي، وأنا أقترح الاتصال بقسم المدينة الجنوبية ليوجه سكانها للقضاء، والذي يأمرنا به القضاء سنُنفّذه. عين الحق: هتف الكاتب. فتح المدير العام كفيه مستسلماً هنيهة؛ يُفكّر في الأقوال المختلفة التي سمعتها أذنه. والآخرون بصمتٍ تامٍ وغير ناقص؛ به تململ بسيط. هم المدير العام بفتح فمه ليختم الاجتماع بقراراتٍ واجبة التنفيذ، رنَّ الهاتف، توجس خيفة، وبيد مرتعشة أغلقه، قال الكاتب: إنّ المهاتف هو ضابط مركز المدينة الجنوبية. تملموا في جلستهم التي طالت، أطّلت السكرتيرة، أو أطل رأسها الصغير ونقرت الباب. أدخلي؟ أمرها المدير العام، تقدّمت خطوة، شعرت بعيونهم تنهال على جسدها، وهذا يفرحها؛ كأي واحدة من الإناث، تستوي في ذلك أنثى البشر مع أنثى أتفه الحيوانات، هذا قول منسوب إلى الكاتب، وقالت: رئيس القضاء على الباب، نهض المدير العام قائلاً: فليدخل. انسحبت السكرتيرة مفسحة المجال لرئيس القضاء، دخلت كرشه قبله، وبعدها صلعة احتلت مقدمة رأسه، صلعة هربت منها جزيرة للخلف، ثم دخل بقية الجسد، هبوا لتحيته، صافح المدير العام، أرسل للآخرين تحية من مكانه بيمين المدير العام، إن شاء الله خير؟ هذا سؤاله، وأردفه بالثاني، عندكم اجتماع؟ ردّ المدير العام، نعم، نحن في اجتماع، وسعدنا وتشرفنا بحضورك، همّ رئيس القضاء بالوقوف لينصرف، سآتي في وقتٍ آخر، قال، مدّ المدير العام يده وأمسك به، نود، بل نرغب في حضورك هذا الاجتماع؛ لنفيد منكم، وتساعدنا في حل مشكلة المدينة الجنوبية. عند جلوس رئيس القضاء بمقعده ارتفعت درجة النفاق، ماذا حدث بالمدينة الجنوبية؟ سألهم وهو يخص المدير العام بسؤاله. تدخل الكاتب معلقاً: إن رئيس القضاء أتى من أجل نفس الموضوع، أخبره أحد أعوانه؛ شاب نحيف له تطلعات برجوازية يمقته العاملون ويطلقون عليه الفتى الباهت، وهو كما قال الكاتب مدمنٌ على قراءة الصحف، ويخص صحيفة اجتماعية جُل وقته. قصّ المدير العام مشكلة المدينة الجنوبية، مركزاً على أن كل هذا بسبب الفهم القاصر عند الشعب لقانون العقوبات الأخير... قاطعه رئيس القضاء: المادة السابعة؟ نعم سيادتك: ردّ المدير العام. أقسم بالله لا علاقه لي بها، قال رئيس القضاء. أتاهم تعليق يتلّوى؛ أرسله الصف الأخير، يعني نزلت من السماء؟ جرأةٌ مثل هذه لا تمر مرور الكرام، كما يقولون، لو عرف قائلها. ضرب المدير العام طاولة الاجتماع بقوة، سبقه رئيس القضاء وقال بحسم الواثق: أصدرها الحاكم. قال جملته هذه وعيناه تمسحان وجوههم، تدخل المدير العام: هل من معترض؟ وقف مدير البوليس السري وقال: هذا القرار كالقشّة التي قصمت ظهر البعير، حرّك رئس القضاء رأسه يميناً ويساراً لجهله مايعنيه هذا المثل، أحنى المدير العام رأسه نحوه وهمس: أمثال قرويين وبدو، لم يعر مدير البوليس السري أهتماما لهمسهما المسموع، مضى يقول كلاماً تخيّله يفحمهما به: نحن بعد أو مع كل قرار يصدر نبثُّ عيوننا وسط المواطنين لمعرفة ردات أفعالهم، والذي تحصلنا عليه بعد هذا القرار توقعنا أن يحدث شغباً؛ لذااستعنا ببعض الإعلاميين في نشر مواد تُخفّف وقعه، والذين حامت حولهم شبهات، ونحن لا نأخذ بالشُبهات، أبعدناهم، ومنهم مدير مدرسة المدينة الجنوبية. ضرب المدير العام الطاولة وصاح، إنّه هو، هل ألقيتم عليه القبض؟ صاح أحد الجالسين بالمقاعد الأمامية أنا مع هذا القرار، تساءل رئيس القضاء: أي قرار تقصد؟ تدخّل المدير العام قائلاً: ليكن مفهوماً أنّ القرارات يُصدرها سيادة الحاكم وحده، وكما شرحت لكم قبل حضور، أخي، رئيس القضاء أن الطريقة المتبعة هي: بعد صدور القرار يأتي لرئيس القضاء، وهو بدوره يُنزله لنا، وختم جملته بأن ربّت على كتف رئيس القضاء كصديقين. اغتنم رئيس القضاء السانحة قائلاً: نحن بدورنا نُتابع معكم؛ وأشار، ملغزاً بعينيه، إلى المدير العام، واصل حديثه: وفي تعاوننا جميعاً مصلحة البلاد والعباد... قاطعه المدير العام: بفضل سماحتكم وتكرمكم، ولا تنسى يا مولانا: نحن في خدمة سيادته وشعبه، ردّ عليه: كلنا نعرف تفانيكم، وقد حدثني سيادته عن إعجابه بتفانيكم وإتقانكم لعملكم. عاد الصمت لانتفاخ المدير العام بالإطراء الذي صادف أهله، كما صرخ أحد المنافقين الجالسين بالصف الأمامي، انعكس الإطراء بريقاً لامعاً بعيني المدير العام، كما قال الكاتب، قلت له: هل شاهدت بريقاً بالأرجل؟ وقد اندهشت عقول الحاضرين من نفاق رئيس القضاء في مدحه المدير العام، وأكثرهم تعجباً كان مدير الأمور السرية؛ لعلم سابق عنده بتقرير سري رفعه رئيس القضاء عن المدير العام، كال فيه شتائم وتوصيه بإقالتة. تشجع أحد الحضور وقال: حتى لا تتأزم الأمور وتفلت؛ علينا اتخاذ تحوطات، علينا محاصرة المدينة الجنوبية، حدّق فيه المدير العام، فكرة لا بأس بها، ردّ رئيس القضاء، قاطعه صوت من الصفوف الخلفية بأي حُجة نحاصر هذه المدينة المسكينة؟ مسكينة! انفجروا فيه، لم يتراجع وزاد بأن نهض وأكمل حديثه واقفاً: نعم مسكينه، فهل بلغ بنا العجز حتى لا نعرف من يقف خلف هذا التمرد، نعم أنا أسميه تمرد. حديثه أحدث بعض التململ. تدخل رئيس القضاء؛ وبصره جال في وجوههم، نحن لم نأت لنسمع خطباً، وإنما لنجد حلاً، أكمل جملته وخبط بيده على طاولة الاجتماع: وجدتُ الحل، قال المدير العام؛ قال جملته بانتفاخ واضح اهتزّت له بطنه، أعينهم مشتركة مع أفواههم سألته: ماهو حلك؟ سعد بأنهم نسبوا الحل إليه، الحل أن نكتب مذكرة للحاكم، بئس الحل، علّق الكاتب، رغم وجاهة حل سيادتك أرى ألا نُزعج الحاكم بأمور باستطاعتنا، إذا تعاونّا، حلها، قال رئيس القضاء. وقف أصغر الضباط سناً وقال عندي اقتراح، لم ينتظر تعليقهم: أقترح أن نفوّض المدير العام ورئيس القضاء باتخاذ ما يريانه مناسباً. انطلقت بعض الأكف بالتصفيق، وسط بسمة المدير العام التي بادلتها شفاه رئيس القضاء ببسمةٍ أخرى، مسح المدير العام بطنه بيده، وهو ينظر لرئيس القضاء، على بركة الله. بعد جملته هذه التي فهموها كما فهمها الكاتب بعد جهد تفسيري أرهقني، هبوا هبة رجل واحد نحو الباب، هل وجدوا السكرتيرة؟ كيف وجدوها؟ هنا اختلفتُ مع الكاتب؛ لأنه زعم أنهم لم يجدوها، لأنها كانت بمكتب آخر بحضن عشيقها، هذا اتهام لا أتحمّل وزره أنا؛ لأني على يقين تام بأنها غادرت إلى منزل أهلها، وليس منزلها، هل نسيتم إنها عانس؟ خرج الضباط صامتين حين لامست أرجلهم الساحة الخارجية لمكتب المدير العام، تشابكت أعينهم وانفتحت الأفواه، فكرتي فيها الحل، لا فكرتي أنا، كلا بل ماقلته أنا، الظلم يعمل أكثر من ذلك، ونحن لماذا ندافع عن الظالم ؟ مثل ما فشلت ثورات سابقه ستفشل هذه، لا، لا، هذه ثورة كُتب لها النجاح. رئيس القضاء والمدير العام دخلا في صمتٍ حين اختفى وقع الأحذية الخشنة، التفت رئيس القضاء إلى المدير العام، كان الله في عونك، ليس بينهم من يدل على ذكاء، ارتاح المدير العام وانتشي، جعل عقلة الباطن يرغمه علي القول: بل يحملون غباءً أكبر من غباء رئيس القضاء المتوارث. حملق المدير العام بوجه رئيس القضاء متسائلاً، هل أنا أورثتهم الغباء؟ جفل المدير العام مرتبكاً: عفواً سيدي؛ لا اقصد الاساءة لك ، أقسم لك أن هذه الجمله خرجت دون إرادتي ، تظاهر رئيس القضاء بتسامح لا يشبه سلوكه: أعرف ذلك سيدي المدير العام، وحتي ينتقل المدير العام من مرحلة الإحراج إلى مرحلة أخري قال: إن هولاء الضباط ورثوا الغباء عن آبائهم، واستطرد: أنت تعلم أنهم أبناء قرى وأحياء شعبية. ردّ رئيس القضاء بكلمة واحدة: نعم أعرف، استطرد المدير العام: وهذه هي وصية الرئيس لنا، استعينوا بالفقراء والمنبتي الجذور، ضرب رئيس القضاء جبينه، هل هذه وصية تُنسى؟ وبعدها اشتبكت غمزات أعينهم، وربطت بينهما ضحكة شبعة انتهت بقيام رئيس القضاء، ويده تمتد لتستلم على يد المدير العام، قال: سأتصل بك. يسعدني ذلك بالتأكيد. غادر المكتب يحمل صلعته وابنتها وكرشه أمامه. قام المدير العام من مقعده الذي قد ابتلّ بعرق نزفته مؤخرته، أغلق الباب، تنهّد بارتياحٍ أعقبه بحركة من يده يشاركها فمه تأففاً، تَفّ الكاتب: تُف، وقال: كبير في النفاق، كبير في السن، أضحكني تعليقه، ضحكتي ساعدته على الاستمرار في ذم الجميع: رئيس القضاء ناقص شعر ودين، المدير العام كبير في السن كبير في النفاق. سألته: والحاكم؟ فتح فمه وشهق شهقة أدخل ذبابة مسكينة اتخذت فمه مقبرة وقال: أمر أعطته له الصدف الوسخة بلا جهد ولا قدرات.





(7)




الحياة كالغانيات، تلهو بمن تشاء، وتغدر وتخون من تشاء، رغم ذلك قليل الفهم يظن أنه يلهو بها، وما الحياة إلا شجرة أوراقها الأيام، وغصونها الأسابيع، وجزعها السنوات، منّا الذي ينشعل بالتمعُّن في فروعها وهي تضحك عليه، والذي تمكر عليه تمد له فروعها، لكنّها تصب غضبها على من يتعلّق بجزعها، وأحياناً تتلوّن وتكسو نفسها ثوباً ذاهياً كالثعبان، تلدغ ضاحكة من ينتظر أمنية يسيل لها اللعاب، ولكنها لاتخلو من رحمة، هي ليست كالموت؛ تنذرك قبل حضورها، يتساقط شعر رأسك ويحدودب ظهرك، ويهتز المقعد الذي تجلس عليه، نعم إنذارها أو تدخلها في حياتك يأتي بلطف لا يشعر به بعض الناس. مرت هذه الجمل برأسي قبل كتابة وقائع جرت أمامي وأنا أتجه نحو مكتب المدير العام، رأيت رئيس القضاء يحمل كرشه وصلعته وابنتها مغادرا المبنى، شاهدته السكرتيرة يمر عبرها، رفعت رأسها، تتبعته بنظرها حتى اختفى، المدير العام تمطّى في مقعده الذي أدمنت مؤخرته الجلوس عليه، بجواره إفطاره الذي ذهل عنة بسبب المكالمة الهاتفية التي سردتها لكم في الفصل السابق، وسيجارته تسلل دخانها، اختلط برائحة زهور طبيعية تعوّدت سكرتيرته وضعها صباح كل يوم، أود التوضيح التالي: السكرتيرة لا تضع الزهور حباً في المدير العام؛ إنما لأنّ شخصا تحوم حوله أقاويل بأن له علاقة بالغيب؛ كانت تأتي له بالزهور لينفث فيها طلاسم تحميها من غضب المدير العام، وأنه لن يستطيع فصلها، وقد نال ذاك الرجل مبالغاً طائلة من المال، حين استعصمت بجسدها قبل العنوسة ، ليس حفاظاً علي شرفها كما قد يتبادر إلى القراء ، وإنما لأن تلك الأيام كانت تحلم بقطف ثمار علاقتها العاطفية مع زميلها بالمكتب. تلفّت المدير العام في أرجاء المكتب، يده تمسح بطن امتلأت بالحرام وقليل من الحلال، قطّب جبينه، كاتماً انشراحاً بمغادرة رئيس القضاء ثقيل الظل، هذه قناعته التي خذلته الشجاعة في النطق بها في حضور رئيس القضاء. همهم بحسرةٍ وبصره يمسح أركان مكتبه، لوحات على الجدار الأيمن، والأيسر مغطى بستائر اجتهد في اختيارها، خلفه مكيف هواء تعلو فوقه صورة الحاكم بإطار مذهّب؛ تحتها، بخط جميل، بعض أقوال الرئيس، وهي أقوال ينشرح لها الوجه العبوس، يزعمون أنها لكاتب مجهول اختص بكتابة خطابات الرئيس، لولا خوفي من ترهل السرد لأثبتها لكم. نهض المدير العام لينفض غباراً تخيّله عليها، حدّق فيها لأول مرة منذ استلامه المكتب قبل عدة سنوات. يقول الكاتب: في هذه اللحظة أحسّ بحقدٍ وضغينةٍ على الحاكم.أنا أفصح منه، قال لنفسه مراراً، نقل بصره إلى طاولته، طاولة منحوتة بعناية المساجين الذين يحلمون بمكافئة على إجادتها، على التربيزة آله حاسبة كهربائية، ومقلمة أقلام، أمامه مقاعد وثيرة، تنهّد حين تذكر الأيام القليلة التي تبقت له بالمنصب، لعن المعاش ومن فكّر فيه، قريباً سأفارق هذا النعيم، أخشى أن يؤؤل بعدي إلى شخص خائب، يقول الكاتب إن الجميع خائبون في نظر المدير العام. هنا تلبسته عدة أفكار، هل سيُغادر المكتب؟ أم سيجلس في مكانه وينادي سكرتيرته ليلهو بها؟ أم يتصل عبر الهاتف بمنزله. طرح جميع الأفكار التي راودته، تبنى فكرة جديدة، امتدت يده إلى الهاتف، أعاد الاتصال بمدير مركز المدينة الجنوبية، وهو ما أطلقنا عليه لقب الضابط، لجهلنا برتبته واسمه، الجهلُ مريحٌ، قال الكاتب. أجبته، أحياناً، ماهو الجديد عندك؟ حاول مدير المركز تخفيف دمه، لا جديد تحت الشمس، أقسم الكاتب إنه سمع هذه الجملة من مدير المدرسة، صرخ فيه المدير العام انضبط يا أنت، جاوبت صرخته لعثمة منكسرة، أنا؟ أنا؟ أنا؟ ذكّرته بأيامه الأولى في الخدمة، كان يرتجف رعباً حين يناديه رئيسه، يقول الكاتب: إنّ الخوف ساكنٌ داخله، وتمادى قائلاً: رضع من ثدي أمه الخوف قبل اللبن، والمدير العام يجتر ذكرياته التي ليس بها ما يسر، سال عرق يده، بلّل سماعة الهاتف وساعده، أعاده رد الضابط، الوضع مازال في تأذمه، ماذا تعني في تأذمه؟ تلجلج الضابط، هل يقول له إن كلمة تأذمه هذه تمنى منذ زمن أن يُدخلها في جملة؛ لإعجابه بها؟ عاجله المدير العام: هل طلبت منهم الذهاب إلى القضاء؟ طلبت، طلبت، طلبت، ردّدها بنبراتٍ مختلفةٍ؛ جميعها لا تخرج من دائرة الحزن والانكسار . لم يرحم المدير العام حزن وانكسار الضابط، ملأ فمه واستوضحه، بجلافة: ماهو ردهم؟ صمت الضابط، ليستجمع قواه، وجدها المدير العام فرصة ليضحك عليه؛ وذلك بوضع يده على سماعة الهاتف وضحك طويلاً، سادي، قال الكاتب، قطع ضحكته السادية كما أطلق عليها الكاتب، عندما أتاه رد الضابط، قالوا إنهم يعرفون القانون جيداً، وقد حكموا على أنفسهم، قاطعه المدير العام: هذه فوضى. رد عليه: نعم فوضى. لماذا لا تحسمها؟ كاد الضابط أن يبكي وهو يقول: بجندي واحد أحسم مدينة؟ لو امتلك الضابط شجاعة لرد على هذا السؤال. كيف أحسمهم ولم يرتكبوا جُرماً؟ قال الكاتب معلقاً على تعليقي: متى كانت السلطة تحسم المجرمين وحدهم؟ صمتٌ طال بينهما؛ لن تسمع فيه إلا أنفاس الضابط المتهدجة وفحيح المدير العام عبر الأثير. المدير العام يجتر في أيامٍ سابقةٍ لتعيين هذا الضابط؛ وذلك عندما احتج أحد الضباط: نرجو بعث مدير له خبرة ودراية، ليتني أيّدته، همهم المدير العام الذي إنحاز في تلك الأيام لمن رفض إرسال الضابط لإدراة مركز المدينة الجنوبية، لكنه رضخ كعادته؛ لأمر أتاه من فوق، ونحن الآن نتابعه، وقد سرح بتفكيره في قضايا قابلته عبر عمله وقارنها بما حدث الآن، أنزل يديه وحرّكتا حزامه، علّق الكاتب كيف لا يرتخي الحزام؟ أراد بتعليقه أن أجاريه، قلتُ سراً: تجدها عند الغافل. تحرّك المدير العام نحو مكتب السكرتيرة، همّ بسؤالها عن أي شئ؛ ليُذهب ضجراً أحس به، تراجع عن فكرته أو نسيها؛ لا أحد يدري، وهو يعود إلى مكتبه. يقول الكاتب أعاده رنين الهاتف المتواصل، وضع أصبعيه السبابة والإبهام على السماعة ونظر إلى رقم المحادث، همهم: اللهم اجعله خيراً. هنا اسمحوا لي بتسجيل كلماته؛ وذلك لاستحالة معرفة حديث الطرف الآخر. ألو، أيضاً؟، هذه مؤامرة كبرى، أيضاً أطفال؟ هل تشك في شخص معين؟ اكتم الخبر، قلت كل المدينة؟ النساء والأطفال؟ هل مدير المدرسة معهم؟ والمهرّب أيضاً؟ ألو.ألو.ألو. قطع الخط لرداءة فيه، لا ينبغي لأحدٍ الزعم بأن المتحدث أغلقه في أذن المدير العام، بعصبيةٍ وضع السماعة وجلس ككلبٍ خرج لتوه من جماع قطعه إمام المسجد بحجر في رأس الأنثي؛ هكذا وصفه الكاتب، حلس بتلك الهيئة وهو يضحك بانتشاءٍ غريب، رنّ الهاتف ثانية، بسرعة رفع السماعة، أتاه صوت آخر لم يتوقعه: من المتكلم؟ انشرح وجهه، وهذا يدل على معرفته به، طالت التحيات بينهما، والكاتب ينظر إلي متوجساً، وأنا أتابع شفاه المدير العام، أوقفتني كلمة (ما معقول) ؛ تبعتها ضربة يده، بقوة، على الطاولة، ثم أردفها بسؤال: كيف انتقلت الفكرة حتى وصلتكم؟ لا، لا، هذه قضية كبرى، وطفلان ابتدراها أيضاً؟ هل جميع السكان الآن بالمركز؟ التزم الهدوء، أغلق الخط بانزعاجٍ واضحٍ، السكرتيرة سمعت ضربة يده على الطاولة، نما بداخلها حب استطلاع، حملت رجليها النحيفتين ودخلت عليه، ما الحصل؟ سألته وذهنها مشغول بأشياء لا تمت بصلةٍ بمايدور بعقل المدير العام، لدهشتي أنا قبل الكاتب ردّ عليها المدير العام: الموضوع انتقل إلى المدينة الشمالية، جلست في المقعد أمامه واضعة يدها على جبينها المنحني نحو الأرض، تدخل الكاتب بقوله إن جبينها انحنى على السجادة وليس الأرض، قلت له لا تهتم بصغائر الأمور، أجابني ببجاحةٍ يعشقها الكُتّاب وهي التي تُميّزهم عن الآخرين: إنّ الشيطان يسكن في التفاصيل، ضحكت وأنا أسأله: متى سرقت هذه الجملة؟ نزّ جبينه عرقاً له رائحه نفاذة. رفعت السكرتيرة رأسها نحو المدير العام، تلبستها شفقة احتكرتها لعشيقها، بيدها نفضت شعرة سقطت على جبينها، أصرّ الكاتب أن أكتب: سقطت شعرة من شعرها الصناعي على جبينها، رفعتها نحو أخواتها وقالت، أو تبرعت بجهلها: أكيد جهات أجنبية خلف هذه الأحداث. لم يرد المدير العام، كيف يتنازل ليُصدّق فتاة لا علم لها، قلت أنا: قال الكاتب إن هذه السكرتيرة تفوق المدير العام علماً؛ فهي خريجة كلية جامعية محترمة. خالفته مقاطعاَ: المدير العام أيضاً خريج كلية، انطلقت قهقته مخلوطة بسخرية لا أدري من أين أتته، وقال: اسمع، يا جاهل، الذي لا تسمعه إلا مني أنا، بلعت إساءته لي: أخبرني أيها الحبر الفهّامة؟، نعم، أنا حبر وفهّامة. أجبته بضيق: خلاص صدقتك. قال: إن الكلية التي تخرّج فيها المدير العام، ياجاهل، قاطعته: تاني ياجاهل؟ لم يتهم بالرد؛ بل واصل شرحه: هي ليست كلية؛ وإنما مدرسة عاديه، فيها سنتان دراسة، والباقي جري وركض، طلبت منه الكف عن تمدشدقاته غير المؤصلة، حلوة هذه الكلمة؛ قلها لوزير الثقافة أو لمديرها، فحتما ستجد كلاما فارغا لم تأصله قد طبع ووزع وحاورتك جميع الإذاعات والتلفزيون القومي. المهم أني قلت له: دعك عن هذا ولنتابع ماجرى بمكتب المدير العام والسكرتيرة أمامه، هل يهجم عليها ليُثبت فحولته، كما توقّع الكاتب؛ بحجة أن الأشخاص في هذه الأعمار تنتابهم رغبه جنسية عندما تضيق أمامهم الحلول الممكنة، أم سيطلب منها استدعاء الزملاء لمناقشة المستجدات؟ وكما توقعت أنا، لكن الذي حدث غير ما توقعنا، نهض سيادته وخرج من مكتبه تاركاً السكرتيرة في وقفتها. صرّت وجهها برهة، وسرعان ما ارتسمت بسمة فرحة انشرح لها جبينها، سألني الكاتب: هل تعلم لماذا هذا الانشراح؟ أجبته: هل قلت لك عندي علم غيب؟ ضحك بصوتٍ مستفزٍ وقال: انتظر لترى خُبث هذه السكرتيرة، تعجّبت منه، وبما إنّه زرع بداخلي شوقا إلى معرفة ما سيجري، انتظرت، تقدّمت السكرتيرة وجلست، أو في الحقيقة احتلت مكان المدير العام، بيدها نزعت إحدي زراير قميصها، أبرزت نهدها مبتسمة، هصرته مرتين وثلاث، وبجرأة تُحسد عليها اتصلت عبر الهاتف بشخصٍ ستعرفونه بعد قليل، أحضر فوراً أمنيتنا ستتحقق الآن. قبل مفارقة السماعة ليدها دخل العشيق، التفت نحوي الكاتب وقال: أصل الموضوع أنهما تمنيا ذات وجد أن يُمارسا العشق بمكتب المدير العام، هل تُسجّل هذه اللحظات الحميمية؟ سألني الكاتب، ولو أردت التلاعب به لأجبته بالإيجاب، لا أرى داعياً لذلك، كانت هذه إجابتي له، فقط سأُسجّل أثناء ممارستهما غير الأخلاقيه، رنّ الهاتف عدة مرات، الأولى اثناء خلع ملابسهما، والثانية في القبلة الأولى، أما الأخيره بعد أن قضى العاشق منها وطره، اختلف معي الكاتب قائلاً: هي التي قضت وطرها وليس الموظف العاشق، يبدو أنه على حق، لو شاهدتموهما ورأيتم انفعالها كما شاهدتهما، همس الكاتب متمنياً: ليتني كنتُ مكان العاشق، خرج العاشق بسرعة، كما يفعل عادة الرجال، ترك السكرتيرة تلملم بعثرة ما تبعثر منها؛ شعراً ونهداً، استوقفني الكاتب وطلب مني أن أكتب (شطرها)، لم أطاوعه لأني شاهدتها حين تعرّت إلى عشيقها، وكرمشة واضحة بفستانها، تحركت نحو ثلاجة مكتب المدير العام، اخذت قطعة ثلج ودلكت بها شفتيها اللتان تورمتا، علّق الكاتب: إنها فتاة خبيرة، أعادت مكياجها، نظرت نظرة مستكشفه لوجهها في المرآة، هذه النظرة أعادت لها طمأنينة افتقدتها، أدخلت المرآة في حقيبتها، حرّكت رجلها اليسرى للخروج، قبل مفارقة رجلها اليمنى سجّاد المكتب- امتدت يدها لتفتح الباب، اندفع المدير العام يلهث وعرقٌ بلّل ملابسه الرسمية أو الحكومية، حسب رغبة الكاتب، هل لاحظتم رغباته الصغيرة؟ هل جميع الكُتَّاب مثله؟ برقة حانية هرولت السكرتيرة وأتته بكوب ماء بارد ونقي، آه ما أجمل المرأه الخؤون، علّق الكاتب. أخرج المدير العام منديل أحمر، مسح جبينه وهو يتنهد: هل اتصل أحد؟ سألها، لا لا، نعم، لا. أعاد سؤاله بنرة واضحة: هل اتصل أحد؟ قبل إجابتها رنَّ الهاتف، وبسرعة ملهوف رفع السماعة، وبنفس السرعة قال: ألو، سمعناه أنا والكاتب، نعم، أنا موجود بالمكتب، هل من خدمة؟ لا، لا، هذا موضوع بسيط، أغلق الخط ورفع رأسه نحو وجه السكرتيرة وليس صدرها كما يفعل صغار المراهقين، نسي سبب دخولها، ماذا تريدين؟ ردّت لا، لا أريد شيئا، يُصر الكاتب أنها تخابثت عليه: ألم تطلبني سيادتك؟ أنا؟ لا، لم أطلبك. همّت بالخروج، أعطته ظهرها، بتثنٍ اجتهدت أن يكون مغرياً، تحركت نحو الباب، خُطوة، خُطوة حتى وصلت مكتبها، وضعت حقيبتها بتأفُّفٍ، زاويةُ الطاولة أمسكت خمارها فأحدثت به أثراً، صكّت وجهها، لعنت المدير، ومَنْ فوقه ومَنْ فوقهما، صبت بقية غضبها، جلست على الكرسي لتُرتيب هواجس انتابتها، سمعته يُناديها، شهقت بهلعٍ حقيقي ويدها سبقتها إلى صدرها، كتمت صرخةً متوقّعة، ضحك الكاتب وقال من خلال ضحكته: إنها تركت بمقعد المدير العام قطعة من ملابسها الداخلية، نهضت بفوضى هواجسها ودخلت عليه بتوتر؛ٍ خشية أن ترى ما نسيته بيد المدير العام، حتما سيُشهره أمامها، تمتمت بتعاويذ تحميها من الفضيحة، تعاويز أعطاها لها ذلك الرجل الذي أوهمها بعلاقته بالغيب؛ مقابل نصف راتبها، واجهها المدير العام بكرشٍ تعرفها، أشار لها على المقعد الخاوي بيده طالباً منها أن تجلس، تحركت بسرعة وأغلقت خلفها الباب، عادت إلى المقعد أمام المدير، جلست واضعةً يدها اليسرى على طاولته، واليمنى اتكأ عليها جبينها، افتعلت تثاؤباً لا تحتاجه الجلسة، تمطت لتكشف، ما يُسمّيه الكاتب، شطرها، وأُسميّه أنا نهدها، تأوه المدير العام ورمي رأسه علي الطاولة، وهي صامتة واضعه يديها بين فخذيها، رفع المدير العام رأسه ملتفتا نحوها، شبك يديه ووضعهما علي بطنه وقال: ماذا ترين في ماحدث؟ ابتسمت وقالت: يجب اعتقال ضابط المدينه الجنوبية. بلا مقدمات سألها: هل تتزوجينه؟ سوال لم تتوقعه، رفعت إصبعها الخنصر وحشرته بين أسنانها ، واصل مداعبته أو دغدغته لمشاعرها؛ كما قال فيما بعد، الصمت دليل الموافقه ،أرادت نقل الحديث إلى مجرًي آخر، سألته: لماذا أتي رئيس القضاء؟ اعتدل بجلسته وقال: استدعيته أنا، هل سيرفض؟ استرسل يعلي من شأنه ويسئ إلى رئيس القضا، بالتأكيد لن تُصدّقه. فجأة نهض وخرج تاركاً السكرتيرة بالمكتب ، لا أحد يدري لماذا خرج ، لا أنا ولا الكاتب. نهضت السكرتيرة بسرعة أدهشتني نحو مقد المدير العام، وجدت قطعة ملابسها الداخلية قد هصرها ردف المدير العام ، نفضتها ،وهمت بارتدائها ، هنا أغمضت عيني











(8)



بين المرأة والعواصم، علاقات لا تحتاج إلى فطنة، المرأة طاحونة لإنجاب البشر، والبشر هم الذين يأتون بكل عجيبة، نعم، فيهم الصالح، ومنهم الطالح، والعاصمة تدعو كل واحدٍ، إغراءً له، حتى يأتيها، وكما هو معروف كلما كثُر عدد الناس؛ كثُر التنافس بينهم، ولولا الناس لما حدثت الكوارث، حتى الطبيعة كوارثها ردات فعل لعملٍ بشري، والمرأة أو الطاحونة، كما وصفناها تلقي بما داخلها على الأرض، يدبُّ الجميع بحثاً عن رزقٍ، منهم من يغلبه رزقه، ومنهم من يحتال أخيه، والمرأة، هنا نقصد الغانية، يمر على جسدها أرتال من الرجال، يتركون بصماتهم جنيناً بالبطن، وعناءً ورهقاً على جسدها، والعاصمة يتكثَّفُ فيها المجموع البشري الغاضب والمستكين، ومن هنا ينشأُ الصراع الطبقي، والسياسي، والاجتماعي. وكلما زاد عدد السكان ارتفعت وتيرة الصراعات. ومن بين الذين تتكوّن منهم العواصم الكُتّاب، كالذي أُبتليت بصحبته،ومنهم امثال كريبيسة المناضلة ، وأكثرهم ضرراً الحُكّام، والرؤوساء وبطانتهم. الحاكم والعاصمة متلازمان؛ لا وجود للأول دون الثانية، ورغما عن ذلك سنتجاوز العاصمة التي دارت بها بعض أحداث هذه القصة، سنجود عليها بأسطرٍ تفرح الكاتب. عاصمة البلاد تقع على ضفة نهر صغير موسمي، هذه معلومات لا تحتاجها القصة، فقط للتوضيح، لا تبحثوا عن النهر لن تجدوا له ذكراً، من الأفضل تجاهله أو نسيانه، ضفة النهر اليمني حيث المدينة، لاتجد أثراً من آثار الطبيعة، لا شجر ولا حيوان؛ وذلك لسبب معروف لكم، لاداعي إلى ذكره هنا. وبالضفة اليسرى بعض الشجيرات الجافة والمخضرة، وبعض أعشاب برية تعيش بها بعض الحشرات، حشرات تتطاير ليلاً فتحط فوق تماثيل الحاكم التي تُزيّن ضفة النهر اليمنيي. يقول الكاتب إن بالضفة اليسري كانت توجد تماثيل للحاكم، وقد أزيلت في ثورة التعري الشهيرة التي أطاح الحاكم بقادتها بطريقة مبتكرة. والتماثيل زينة للنهر كما يظن الحاكم وبطانتة، والمعارضة تقول إنها تشويه لمنظر النهر الطبيعي، والبلاد التي حدث فيها ما سجّلته أنا بمعاونة قليلة أمدني بها الكاتب- بها ثلاثة مدن، وبالتأكيد بها بعض القرى، المدينة الجنوبية، والمدينة الشمالية، وبالطبع فإن المدينة الثالثة هي العاصمة، شاءت الصدفة وحدها أن يبدأ التمرد في المدينة الجنوبية، وانتقل إلى المدينة الشمالية، وهذا يُطابق ما يحدث في الحياة، وشاءت الصدفة، أيضاً، أن يحدث التمرد في عهد ضابط يفتقد الخبرة، رغما عن قول الكاتب أن ظروفاً موضوعية قادت إلى هذا التمرد، الجفاف الذي أصاب البلاد كان أحد العوامل، والتصرفات الرعناء التي ارتكبها حاكم البلاد في سنواته الأخيرة كانت القشة التي نخرت أذن الفيل المتهالك. عجبا لتصريف الأمور في هذه البلاد؛ فكيف صار هذا المنبعج الكرش حاكماً؟ لا أحد يدري، والاحتمال الأكبر، أنه صار حاكما إثر انقلاب عسكري. يقال والعُهدة على الكاتب: إن أول عهده نال محبةً من الجماهير؛ لأنها رأت فيه نفسها،وقد تناست، والشعوب دائماً تنسى، نسيت قول مأثور لم يُغادر الأفواه، لا خير في بطونٍ جاعت ثم شبعت، وايضاً تقول مصادر تاريخية لم أطلع عليها ، أن كريبيسة لها عدة قصائد في هذا الحاكم أيامه الاولي. هذا الحاكم ولد لأب فقير وأمٍّ، بالتأكيد، أكثر فقراً، ماتت وهي تضعه بقريةٍ بائسةٍ في الحدود الجنوبية؛ حيث حدث التمرد. والرواية الرسمية تقول بأنه سليل أسرة لها نضال وتاريخ ناصع، وهي كمعظم التاريخ الرسمي تعتبر رواية كاذبة. لكن دوام الحال من المحال، هذه حكمة تنطبق على سيرة الحاكم، لسبب يعرفه الجميع كارتباط الترف بالفساد، والحكم المطلق فساد مطلق، أصبح يأتي بتصرفاتٍ رعناء وتهوُّر. يقول الكاتب عنه: كلما تذكر أيام طفولته التعسة، وما أكثرها، أتى بتصرفٍ أرعن وقرارات خرقاء تتابعها الجماهير مندهشةً في بادئ الأمر، ولكن كثرتها أحدثت بلبلة؛ استطاع الحاكم إخمادها، وتمادى في تصرفاته بشكل غير اعتيادي، بنى قصوراً شامخةً لعشيقات جميلات، وخيول مسومة وبغال؛ بغال حتّمتها الضرورة اللفظية، هذه التصرفات وسلوك أخرق من بطانة الحاكم عجّلت بالتمرد الذي استفدت منه أنا في كتابته. والكاتب الذي سمحت له بمصاحبتي طيلة هذه الفترة، وربما استفاد القارئ. وبما أن التاريخ لا يحفل بسيرة الضعفاء، والذين يعيشون في الظل- لن تجدوا في هذه القصة تفاصيل التصرفات الرعناء لبطانة الحاكم، خاصة الوزراء، فللوزراء قصة شيقة فحواها أنه حينما استولي علي السلطة- جمعهم وأقام لهم مأدبة كثر فيها الطعام والشراب ، فحين امتلأت بطونهم خاطبهم سيادته ،أشكر لكم حضورلكم، والأسبوع الذي مكثتم فيه بمناصبكم، أما الآن فلا احتاج وزيرا، وسأمدكم بمخصصاتكم ، التهبت اكفهم تصفيقاً وهم يغادرون القاعة؛ وهذا آخر عهدهم بالسلطة، لذا أسمحوا لنا بالصمت عن ذكر الوزراء، وكذلك سنتجاوز ماقام به بعض المواطنين في إشعال التمرد؛ لأن هذا من المعلوم بالضرورة، كما يقولون، هل التمرد أو الثورة تقوم بها الحيوانات؟ أكيد أن ما يُسمى شعب هو الذي يقوم بالأشياء المخلّة بالآداب وتُزعج الحكّام الذين أرادوا القيام بهذه الأعباء من أجل الشعب؟ هل يظن ظانٌ في تعب الحكام الذين يسهرون الليل ويعملون بالنهار، وبالذات هذا الحاكم؛ فقد سهر الليالي وشهد أرقا علي أرق، وكان يظن أنّ مثله لا يأرق ،فكان لاينام الليل، قاطعني الكاتب بقولة كل لياليه حمراء، كتمت ضحكة فاجأتني وقلت للكاتب: وهذا، أيضا، يعد سهراً. نعم أنفق الحاكم نصف ثروة البلاد في الاحتفال بعيد ميلاده الأربعين، احتفالٌ دام شهرا قمريا، أُتخمت فيه بطون بطانته البطينة أصلاً، والبطنة ضد الفطنة كما تعلمون، لا تظنوا كما ظننتُ أنا: أن هذه الحكمة ألّفها الكتاب لحقدٍ طبقي يعشقونه، وشارك عدد لا يُحصى من الشعراء، أرجو ألاّ تسألوني عن شعرهم، هل هو ركيك؟ سيقول الكاتب نيابة عني: إنه شعر والسلام، وسيضيف: إنه أطرب الحاكم، وهذا يكفي، وقد خلع عليهم، مع الهبات السلطانية، بعض الألقاب، مثل شاعر السلطة، وشاعري المفضّل، وشاعر الجماهير، وشاعر الميل القلبي، بأستثناء كريبيسة لأن قصيدها لم تبلغ مسامع الحاكم الذي أهدر النصف الآخر من الثروة في نصب تماثيل له، أكبرها بزي عسكري، ونياشين وأوسمة تُزيّن كتفيه. يقولون: إنّه لم يكن ضمن الجنود، وتمثال آخر له قد زرع التململ بين الجماهير، تمثالٌ استفزّ عقيدتنا، كما كانوا يُرددون عند مشاهدته، تمثالٌ بالحجم الطبيعي للحاكم، بيده كأس من الخمر، وحوله عشيقاته الأجنبيات، وقد قام بعض الأشقياء بعملية تخريب به، مما اضطر الحاكم ليُعيّن البعض علي حراسته، وهؤلاء البعض من الشعب، وهذه فائدةٌ أخرى، بالإضافه إلى القرارات المجحفة بظنّ القلة المتمردة، أو القرارات التي تفتّقت عنها عبقريته، كما يقول أنصاره، وحماقته كما يُصرُّ الأعداء؛ مثل القرار الذي يُحاكم بإعدام كل شخص يمر جوار تمثال من تماثيله ولا ينحني أمامه، ومرسومٌ آخر، أصدره، يُحرّم على المواطنين نطق اسمه قبل أن يتمضمض الشخص سبع مرات، إحداهن بالصابون، يقول الكاتب: إنّه ألحق هذا المرسوم ديباجة توضّح أن الصابون المعني هو صابون الرونق،وهو معلوم للجماهير أنه ينتج في مصنع إحدى عشيقاته، وأصدر قراراً يُلزم سكان دولته بالدعاء له، وترديد ما أطلق على نفسه من ألقاب، الفارس، البطل، أمل الأمة، القائد الأعظم، الأب، الرازق، السعيد، وكان يرتاح إلى اللقب الذي أطلقته خاصته: فجق فجق بول الجمل الستو فركتو وخمسين سنة ما ضاقتو. أما القانون الذي فجّر التمرد، أو القشة التي قصمتْ ظهر البعير، كما قال الكاتب، امتعضتُ وقلتُ له بامتعاضي الواضح، هذا مثل رعوي أو بدوي، ونحن نتكلّم عن مدينة، لذا سأُبدّله بمثل مديني يخصني، لن أكتب مثل طبقة الحاكم (جوّع كلبك يتبعك)، بل إن الشعوب تجوع ولا تسقط في التبعية، وسأردفه بمثلٍ آخر التقطته من أحد المعارضين يهمسُ به في أذن زميل له، إذا جاعت الشعوب أكلت قادتها. القانون أو المرسوم الذي تسبّب في التمرد أو الثورة- له قصة أحب أن أقصها عليكم، أنتم أدرى بأن الاختلاف بين الثورة والتمرد اختلاف مقدار؛ وليس اختلاف نوع كما يتوهّم الجهلة، تفجّر التمرد لأن الحاكم انصاع لرغبة إحدى عشيقاته، وهذا يكذّب ادعاء البعض بأنه بلا رحمة، يقول الكاتب عنها: إنها عشيقته الوطنية الوحيدة، كان ذاك في ليلة شتوية، الشتاء نادر في البلاد التي خاصمها الخريف أيضاً، تقول المعارضة: بسبب ظلم الحاكم هجر الخريف البلاد، وبما أنني أنحاز للمعارضة، فلن أسجّل أنها كاذبة في ادعائها؛ لأن هذه البلاد تكسوها الصحراء، ولم تشهد أمطاراً تُذكر قبل هذا الحاكم. تناول الحاكم في تلك الليلة حبوب منشطة للجنس، أحضرتها العشيقة الوطنية، يُقال والعهدة على الكاتب: إنّ ثمن هذه الحبوب يُعادل نصف دخل البلاد من العملة الصعبة لعامٍ كاملٍ، وأنا لا أصدّق هذا الرقم، رغم إلحاف الكاتب في القسم بصدقه. ابتلع الحبوب المنشطة بالمساء داخل غرفته الرئاسية كما أطلق عليها، خلع ملابسه بسرعة قطٍّ أعورٍ شاهد فأراً، كان من عادتة أن يخلع شخص آخر ملابسه ، إنها تتعبني يقول، أما الآن فقد خلعها بنفسه، والعشيقة تقف خلفه عارية الجسد ،استلقى على السرير كاشفاً عن بطن منتفخة كضفدعة حمقاء، فتح يديه لترتمي على صدره، وبسمة لزجة بفمه، قال عنها الكاتب مشروع ريالة، تمنعت العشيقة وهي راغبة فيه، كماتعلمت من النساء الوطنيات، وضعت أصبعها الصغير بين شفتيها، وبصرها مشدود إلى قضيبه المنتعظ، ارتفعت شهوتها، كادت ترتمي بحضنه، خُيّل لنا، أنا والكاتب، أنها عانت حتى لا ترتمي عليه، لأن معرفتنا بها مستمدة من التنظيم المعارض، مهرفة تقول عنها: إنها لا تستطيع الصوم عن الجنس، وإن أعصابها ترتخي لمجرد مشاهدتها قضيباً منتصباً. لذا كانوا يطلقون عليها( وقف النكاح) أحذر القارئ من معارضة المعارضة، تمالكت نفسها بطريقة جعلتنا نستبعد حديث التنظيم المعارض عنها، وقالت: لا، لا، ارتفعت رغبة الحالم، ولأنه لم يعتاّد كتمان رغبته؛ نتيجة لحرمان عاطفي صاحبه في طفولته- ألح عليها تعالي، تعالي، تعالي الثانية كانت أخف نبرة من تعالي الأولى، تمنعت بإغراء مستفزٍ، تعالي تعالي ، لا لا. قالتها بغنجٍ، توتّر جسده، خاطبها بحُرقة: ماذا تريدين؟ يقول الكاتب: إنها لم تكن تود شيئاً؛ إنما تلبّستها حالة مرضيه يقول علماء النفس: إنّها تُصيب بعض العاهرات اللائي أجهدن أنفسهن في سن الثلاثين: ماذا تريدين؟ سألها الحاكم. صمتت، بـانكسارٍ قال لها: لو ترغبي ذهباً فإن خزائني هذه أمامك، خذي ما تريدين منها، ولو نفسك في منصب فأنت الآن نائبة لي، والعشيقة تبتسم وتهز رأسها رافضة لمغرياته، قولي ماذا تريدين؟ بخبث أنثوي أطلقت عقلها بسرعته القصوى ليبحث عن أمنية لها لم تتحقّق، وصفها الكاتب بأنها ناقصة عقل ووطنية، ويُصر أن بعقلها هذه اللحظة أمنيات وضيعة، ذكر منها أن يخصها وحدها بثلاثة أيام في الأسبوع، وأمنية أخرى أن يُنصّبها عشيقة مدى الحياة، وأن يجعلها تظهر معه في المناسبات الوطنية، وأن ينصب لها تمثالاً جوار تمثال له وهما عاريان على السرير، ها ماذا تريدين؟ لاحقها الحاكم، قالت وهي تبرز نهديها، أريد إصدار مرسوم يعدم كل مواطن خان أمانة، باندهاشٍ حقيقي، قال الكاتب: مع العلم أنها تخون نفسها وشعبها، لم يسألها الحاكم لماذا تريد مرسوماً يمنع الخيانة، فهو ليس في حاجة الآن إلى معرفة الأسباب، طلبته منه وهو على السرير، وهو كامل العري، والحبوب قد سرى مفعولها، ولو سألها فلن تعجز عن استحضار سبب ترد به. يقول الكاتب: إنها نزوة منها، وألحّت أن يصدر المرسوم في حالهما تلك، خبيثة، أليس كذلك؟ سألني الكاتب، أجبته بعد اكتمال ضحكةٍ اجتاحتني، لو طلبت لبن الطير في هذه اللحظة ما توانى، أعجب تعليقي الكاتب، وشجّعه على عادة تلبّسته منذ أن رفضته إحدى الفتيات، وهي ذم النساء؛ ينسب لهن كل مصيبة أنتجتها الأرض أو أنزلتها السماء، قال كلاما في ذمهن لا أستطيع كتابته، أقل ما يقال عنه: إنه تجديفٌ وهرطقةٌ، رمت العشيقة طلبها وأخذت قطعة قطيفة، ليس قطعة قماش كما توهّم الكاتب، وغطّت بها صدرها الذي يُهيم به الحاكم، وهي تعرف ذلك، القطيفة تتناسق لوناً مع لون حلمتيها، زاد هياج الحاكم مهمهماً بكلمات متقطعة، أضحكت العشيقة، ضحكة رفعت غيظه، همد لها جسده الذي مال على الحائط، دنتْ العشيقة منه وربتت على ظهره، لم يستجب لها، ألصقت شفتيها بأذنه، همست بكلمات لم نتبينها، بالتأكيد كلمات إغراء، وليست فاحشة كما توهّم الكاتب، تحرك الحاكم أو حرّك جسده، نفرتْ منه، عاد لتناومه ثانية، دنت منه وربتّت على إليتيه، نطّ بيدين مشرعتين لاحتضانها، ابتعدت عنه، قالت بغنجٍ تُجيده وهي تداعب نهديها بالقطيفة: هذا في انتظارك ياسيدي وحبيبي، تهدّج صوت الحاكم، ضاقت حدقتياه، لاشك تعرفون لماذا ومتي يطبق الجفن على العين؟ قال لي الكاتب: اكتب سال لُعابه، وبما أنني لم أشاهد اللعاب الرئاسي لن أكتبه. همس الحاكم بانكسارٍ، خلاص سأصدر القرار، ارتفع غنجها، الآن ياسيدي ومولاي أسعد جاريتك وخادمتك بإصداره، كشفت نهدها الأيسر بإزاحتها القطيفة عنه، تثنّت جيئةً وذهاباً في انتظار إصدار قرار كما طلبت، بكامل العري نهض الحاكم، جفلت العشيقة متوهمة أنه يُريد أخذها بالقوة، وهي تحب ذلك، كأي أنثى، تحرك بسرعة مضطربة نحو الهاتف، رفع السماعة بيده اليسرى، ويده الأخرى تضغط على قضيبه الذي انتعظ، وعينيه بضيقهما، أكيد تعرفون لماذا؟،عيناه تمسحان جسد عشيقته، اتصل برئيس القضاء، كان ساعتها يمارس العادة السرية مستحضراً صورة عشيقة الحاكم الوطنية المرسومة على غلاف صابون الرونق، وهذا ماجعله يرفع السماعة متأخراً، قبل فتح فمه بكلمة الترحيب سمع صوت الحاكم الأجش كما وصفه لحظتها، يقول الكاتب: إن السبب الذي احتل به منصب رئيس القضاء هو مدحه صوت الحاكم بأنّه صوتٌ لا يشبه الأصوات، وأنه يتغلغل في داخل سامعه كما ينسربُ الماء البارد في جوف ظامئ، وقد كتب قصيدة في مدح صوت الحاكم، أطلق عليها القصيدة اليتيمة، أعجب بها الحاكم أيُّما إعجاب، فأصبحت تبُث عبر المذياع صباح مساء، وينشدها التلاميذ في طابور الصباح، أطلقت عليها الجماهير تهكُّماً النشيد الوطني، ذكر لي الكاتب مطلعها وهو (صوتك لقمة للجعان، صوتك موية للعطشان، صوتك لبسة للعريان، غيرك بهيمة وإنت إنسان)، طنَّ صوت الحاكم بأذن رئيس القضاء، أصدر قراراً بإسمي: إنه تقرّر إعدام كل مَنْ يخون الأمانة، قاطعته العشيقة، لا لا. نظر إليها والسماعة بيده، ورئيس القضاء بالجانب الآخر، يد الحاكم غطّت سماعة الهاتف، سألها بهزة رأسه: هل غيّرت رغبتك؟ دنت العشيقة من سريره والقطيفة في وسطها، أنا ماقلت يعدم. سألها الحاكم بضيقٍ كحامل فاجأها الطلق: ماذا تريدين أن أفعل بخائن الأمانة؟ ضحكت ضحكة بنات شوارع، وهي ترد: يسجن فقط ياحبيبي، مدت يدها ووضعتها على جبينه، رئيس القضاء في الطرف الآخر يصيح: ألو.. ألو سيادتك، ألو سيدي، رفع الحاكم يده عن سماعة الهاتف، وزفر في أذن رئيس القضاء أصدر قرارا بإسمي يسجن، مدى الحياة، أي شخص يخون الأمانة؟ أغلق الخط في وجهه، ردّ رئيس القضاء: بكل سرور سيدي، كان معلقاً في الهواء، هل عاد ليكمل عادته السرية؟ سألني الكاتب، صرخت فيه ياغبي، هل يتفق الخوف والمتعة؟ بذات جسده العاري اتصل رئيس القضاء عبر الهاتف بمدير عام العسس، كان لحظتها أيضاً عاري الجسد، محض صدفة، تدخّل الكاتب بتعليقٍ سأكتبه علي مسؤليته، أول مره في التاريخ يتحدث رجلان بكامل عريهما عبر الهاتف، وختم تعليقه: هذه مكالمة عارية، لكزته بكوعي: لا تخفف دمك أكثر من اللازم، ابتعد وانزوى بركن قصي ينيص، هذه الكلمة الوحيدة اللائقة بحاله. بعد التحيات المختصرة، كيف الأحوال؟ وكيف وكيف؟ دار هذا الحديث بين رئيس القضاء ومدير عام العسس: أود إبلاغك بقرار سيادته الجديد. في منتصف الليل؟ قلت لك قرار منه شخصياً، أنا مستعد إلى سماعه، هل أنت جاهز لكتابته؟ دقيقة، هل انتهت الدقيقة، نعم مولانا، إذن اسمع جيداً. كلي آذان. قرر سيادته سجن أي شخص يخون الأمانة، أي شخص؟ نعم أي شخص، حاضر يامولانا، من الغد سيُنفّذ؟ طبعاً. انتهت المكالمة بطنطنةٍ منهما، عاد المدير العام لسريره يطنطن، ويُحدّث نفسه، كل يوم نحن في قرار جديد؟ متى تنتهي نزوات الحاكم؟ علّق الكاتب بقوله: إذا خلا جبان بنفسه طلب الطعن والنزال، هل المدير العام جبان؟ سألته، أجابني بشجاعةِ من خاض الحروب: ليس وحده الجبان؛ بل كل من مكث سنين في منصبه تحت حكم هذا الحاكم، وكلام الكاتب لا يخلو هذه المرة من حقيقة، أنهى رئيس القضاء طنطنته، سب وسخط المكالمة التي أوقفت عادته السرية قبل اكتمالها؛ ولأن ذاكرته لم تسعفه باستحضار عشيقة الحاكم، حاول استحضار نهدها الذي شل تفكيره، وأنا لا أعتقد ذلك ، فهو لايفكر البتة، وما يؤيد ضعف التخيل عنده أن ذاكرته بعد عناء طويل أسعفته بصورة ردف العشيقة الوطنية للحاكم، مع أنه يبغض الأرداف، ويعشق النهود. يبغض الأرداف لحادثةٍ مر بها في مراهقته حين خفق قلبه لفتاة ردفاء جعلت منه أضحوكة برفضها له، ولم تكتف بذلك وحسب ، وإنما أخبرت أنداده عن خطابات السمجة التي أرسلها لها؛ خطاب غزّل فج في ردفها. أما حبه للنهود فقد أرجعته قراءتي لعلم النفس إلى وفاة والدته قبل إكمال رضاعته. حين أسعفته ذاكرته بصورة ردف عشيقة الحاكم، ارتخى قضيبه، أو فارق انتعاظته التي ساعدته عليها رغوة صابون الرونق. ارتمى على سريره بفمه طنطنته، وبقلبه حسرة، ينظر إلى قضيبه المرتخي على فخذه الأيسر فيزداد استياءً من المهاتفة.













(9)





خطأ بشري واحد يحدث رجة يشيب لها الصبي، وأخطر الأخطاء يرتكبها الحمقى، إذا شاءت الصدفة ومنحتهم سلطاناً على الآخرين، يحتج الكاتب أنّ من يواليهم أخطر منهم، ضحكت لمعرفتي بزعمه: إنه يوالي جماعة تسعى لنيل السلطة، ولكن في حالنا هذه خير مثال هو أن الشر يعم والخير يخص، والخير شر أحياناً، والشر خير في أحايين كثيرة، الأخطاء يمكن تفاديها، ولكن لا يستطيع أحد أن يتفاداها إذا كان من يقف خلفها شخص عنيد، كل عنيد غبي، كما تعرفون، إذا أضفنا للغباء سلطة مطلقة امتلكها ذاك أو هذا الشخص؛ لأنها تشبع بداخله نزوات مرضية، لذا تجدونه يُسرع في الشر ويُبطئ في الخير، بهذه الصفات أوفى المدير العام بوعده إلى رئيس القضاء، قاطعني الكاتب قائلاً: أدى واجبه فقط، ثم واصل حديثه: نعم أداه على أكمل وجه. بحماسٍ لا يتناسب وعمره، أرسل المدير العام القرار الجديد إلى من يهمه الأمر بواسطة السكرتيرة، هم مدراء الأقسام في العاصمة، وضابط المدينة الشمالية ، وآخر من استلم القرار هو ضابط المدينة الجنوبية الذي استلمه بعد حضور الجماهير إلى المركز تطالب بتنفيذه هذا القرار الجديد عليها. كيف تسرَّب القرار إلى مواطني المدينة الجنوبية؟ هل لمدير المدرسة دور في تسريبه؟ هذا ماجهلته أنا والكاتب رغما عن اجتهادنا، أضحكني الكاتب بزعمه أنه هو الذي سرّب القرار، نفسي حدثّتني بكتابة مزاعم الكاتب ليُطالعه متابعي هذه القصة؛ لكني زجرتها، كل ما يمكنني قوله: إن سعيد ومصطفى ابتدرا الثورة وهما يجهلان جهلاً كاملا مآلاتها، هي فكرة عبثية أو طفولية، الشقاوة ساقتهم إلى مقابلة الضابط، خرجا من المركز وقد نسيا الفكرة تماماً. الأسئله المنبعثة من الفضوليين جعلتهم يقصان ما قاما به، ولو سألتهم عن الحاكم لقالا بثقةٍ: إنه مدير المدرسة، كل الذي نعرفه أنّ أفواه المواطنين تناقلت قصة خيانة الأمانه. تبجّح الكاتب: جميع الثورات مجهولة الأبوين، أجبته: لا يبتعد حديثك كثيراً عن الحقيقة، انشرح صدره بضحكة فرحة، قتلت ضحكته بقولي: هذه الثورة أعرف مُفجّرها، فغر فمه، اجتاحتني رائحة منفّرة، كدت أصرخ في وجهه: تسوّك ياهذا، قتل صرختي تذكري أن جميع الكتاب الذين عرفتهم مثل هذا الكاتب الذي ابتليت به، تُغطي أجسادهم ملابس متسخة، وبياض أسنانهم تحوّل إلى لون داكن، وشعرهم يسرح فيها القمل والحشرات، هكذا هي الثقافة عندهم. لكن حديثة احتل أذني، تساءلت بدوري، هل الثورات مجهولة الأبوين؟ ذهب عقلي في البحث والتنقيب، وحين عاد خائباً من بحثه اكتفيت بجملة سمعتها ذات مرة من فم عشيقة الحاكم؛ حينما كانت تنتمي إلى المعارضة، قالت: كما أذكر في اجتماع تجسّست فيه عليهم: إن للثورات آباء مجهولين، ومازال تعليق أحد أعضاء التنظيم الذي لم يتلقّ تعليماً : يعني أن الثورات بنات حرام- يستهويني؛ ضحكوا منه وعليه، لكن أحدهم أسكتهم بقوله: إن الثورات مثل الحكّام؛ منهم ولد الحلال وولد الحرام. عرف الداني والقاصي بقرار خيانة الأمانة، في البدء نال قليل اهتمام من المواطنين؛ كاهتمامهم بالقرارات السابقة على قرار خيانة الأمانة، التزمت الجماهير بصبرها المعروف وتحملها للجور والظلم. فهل استكانت الجماهير؟ لو استكانت لأراحتني من صحبة الكاتب، ليتها فعلت ذلك. أعرف أنكم ستسألون: ماذا فعلت المعارضة عبر تنظيمها المذكور هنا؟ هذا سؤالٌ مقلق. دعا التنظيم السري المعارض لجنتة التنفيذية إلى اجتماع وُصف بالمهم. اجتمعت لجنته التنفيذية ذات ليلة اختفي قمرها. تتكون اللجنة التنفيدية للتنظيم من عدد قليل، اجتمعوا بغرفة كئيبة المنظر، وكنت أود وصف ماتحتويه من أثاث، لكن شغلني تعليق الكاتب: يتشابهون فكرياً،. ضحكت منه وعليه، أستدرك الكاتب: ويتشابهون في أشكالهم أيضاً، قلتُ له ساخراً: صدقت، لهم أجساد يلتحم لحمها بعظمها، يرتدون ملابس بالية، تفوح من أفواههم رائحة خمر وطني رخيص، ليس جميعهم بالطبع، يتقاسمون السيجارة الرخيصة، يمجُّ قائدهم أولاً ويُطلق دخانها في الفضاء، ثم يتناولها الذي يليه في الترتيب التنظيمي، يجمع بينهم توتر برزت له عروق أعناقهم، ولهم عيون ضيقة الأجفان، اشمئز منهم الكاتب، قلت له مازحاً: كل شخص ضيّق الجفن نجيب، ردّ بسرعة: قل كل ضيق الجفن عفن، كدت أقول له ساخراً: إنّك واسع الجفون، لكني صمت، ليس خوفاً كما قد يتبادر إليكم، وإنما شفقة ندمت عليها فيما بعد. كانوا يجلسون على الأرض، عدا واحدٍ منهم جلس على قطعة برش، يبدو أنه قائدهم، جلسنا أنا والكاتب نتلصّصهم؛ نسمع ونرى، تأكدنا أن الجالس على البرش هو قائدهم، عيونهم ترنو نحوه، قال قائدهم بحماسٍ: إن الجماهير مثل قضيب الخصي، يظلُّ مرتخياً سنوات عديدة، لكن إذا قُدر له الانتصاب، ونادراً ما يحدث، فالويلُ لمن يقترب منه، كلمة القائد نالت استحسان المجتمعين، صرخ أحدهم، يبدو أن له اهتمامات أدبية، جدلية الجنس والثورة لماذا نسيناها؟ لماذا لا نفيد منها؟ إن غريزة الجنس أقوى الغرائز، وهي التي تقود الإنسان، ومضى صارخاً: إن الجنس هو البوصلة التي تقودنا للإطاحة بالحاكم الطاغية، انفعل أحد الأعضاء وهتف: ثورة جنسية حتى النصر. علّق الكاتب: ثورة جنسية حتى القذف، أشار إلى من قاطعه بيده ليصمت حتى ينهي خطابه: إنّ التاريخ أخبرنا عن ثورة الزنج وثورة العمال وثورة الفلاحين، لكنه لم يخبرنا عن ثورة جنسية، وهاهي الفرصة أمامنا لنُفجّر أول ثورة جنسية في التاريخ، وهذا شرف لنا، وأنا أنظر إليه وقد غاظني بعدم إحالته مقتطفاته الثورية إلى صاحبها " ولهلم رايخ" في كتابه " الثورة والثورة الجنسية"؛ حاولت إيقاف سلبطته في النظرية دون وعي؛ لكني آثرت الصمت ، فالجميع يسرقون الأفكار النادرة. بعده وقف أنحفهم، علّق الكاتب، النحافة من النضال، نظرته متعجباً وسألته: هل كل نحيف مناضل؟ تلجلج بُرهة وأجابني: نعم؛ كل مناضلٍ نحيف وليس كل نحيف مناضل، قال المناضل النحيف: نحن روّاد تغيير، ونحن شمعةٌ تحترق لتضئ للجماهير، تبسّم قائدهم، حكّ صلعته. تكلّم آخر في ريعان الشباب: يجب تكوين فرقه انتحارية تُخلّصنا من الحاكم. علّق آخر: خلف كل حاكم ظالم حاكم ظالم، زجره القائد: هذه انهزامية لا نرضاها لمناضلٍ، وخنوع لا يشبة الثوري، تلجلج بشجاعة أو تهور، كما وصفها الكاتب: إنّها الحقيقة، صرخ القائد: اصمت؟ صمت وأغلق شفتيه بيديه. تحيا الديمقراطية، صاح الكاتب، انطلق صوت أنثوي رقيق، التفتوا منتبهين، كانت إحدى الرفيقات تقف على الباب، بعضهم ارتمى بصره على ساقيها، وهما أجمل مافيها. وآخرون التصقت أعينهم بالأرض، يبدو أن لها علاقه عاطفية مع قائد المجموعة؛ لأنها صوّبت نظرتها نحوه وهي تتكلّم: أنتم من اجتماع إلى اجتماع، والجماهير سبقتنا بثورة لا تخطر على بال الرفاق، صاحوا بصوتٍ واحدٍ وبنبرات مختلفة: الجماهير انطلقت بثورة؟ دخلت الرفيقة ووقفت وسطهم وهي ترد عليهم: نعم انطلقت الثورة من المدينة الجنوبية، الثوار استولوا على المدينة، والآن الثورة في المدينة الشمالية، تشتت عقل القائد، تململ في جلسته، جلست الرفيقة بجواره، قصّت عليهم ماحدث بدءً من مصطفى وسعيد حتى جلستها معهما،وقد تحدثت كثيراً عن المناضلة كريبيسة ، سألوها بأندهاش حقيقي : من كريبيسة هذه؟ هزت وسطها وصارت تغني (ماعرفتوا كريبيسو انتم قولوا شن عرفتم، كريبيسة المناضلة هل عرفتوها؟ اعلنوا جهلهم بالمناضلة كريبيسة بصمت جعل الرفيقة تسرد عليهم الدور الذي قامت به كريبيسة في اشعال الثورة بالمدينة الجنوبية وكيف أنها اول من تصدي للعمدة الذي نال لعنات من فم الرفيقة. حين اتمّت حديثها كان قائدهم يسرح بتفكيره في الثورات السابقة وطريقة قمع الحاكم لها، قصَّ على الكاتب أحداث آخر ثورة حدثت بالبلاد، أطلق عليها ثورة العراة، فيها خرجت الجماهير عارية حتى النساء تخلين عن ملابسهن. سألته: في نهايتها كيف تصرّف الحاكم معها؟ أجابني: الحاكم قال في خطاب عبر المذياع متهكماً: شكراً شعبي، بهذه الطريقة سنُمزّق فاتورة الملابس، وفي المساء خرج هو وعشيقاته عراة، ربتت الرفيقة على كتف القائد، نفض ذكرياته، قال أحدهم: سنُعلّقه على المشنقة، بادله صوت أجش: لا لن نشنقه؛ بل نضعه في مكان عام لتنتقم منه الجماهير، ارتفع صوت ساخر: سنقسم عشيقاته بيننا، ضجوا بالضحك، وقائدهم يصيح فيهم: اصمتوا، قتلوا ضحكاتهم، انتبهوا إليه، قال وهو يضع يده على كتف الرفيقة العاري فأحس برطوبة جسدها، ضغط أكثر فانتابته شهوة بان أثرها على تقاطيع وجهه، لم يستطع تحمُّل نشوة سرت في جسده فهبطت يده، لا إراديا، بين فخديه، تنحنح وقال: أرجو أن تتسللوا وسط الجماهير؛ لتزيدوا حماسها حتى لا تموت كما حدث لثورة العام الماضي، ولا تنسوا أن للحاكم أساليب في إجهاض الثورات، قاطعته الرفيقة: هذه الثورة لا يستطيع إخمادها، قال أحدهم، لم نتبيّنه، مسانداً لها: هذه الثور تختلف عن الثورات السابقات، نهض قائدهم وبفمه: الحرص واجب، انهالت عليه كلمة نعم، نعم، نعم، وهم يتسللون خفيه، آخر من غادر كان رئيسهم تتبعه الرفيقة العاشقة ككلبة مهوبلة، اتجها إلى مكان لا أعلمه ؛ برغم عن زعم الكاتب بأنهما سيذهبان إلى غرفة كئيبة بحي طرفي ليُكملا سهرة وصفها بالحمراء.











(10)





قصر الحاكم مبنى من طابق واحد، به عدد من الغرف الطينية التي نبتت بلاتنسيق، غرف ضيقة ومنخفضة السقف، أو هكذا وجده عندما استولى علي السلطة. في زمن قديم كان ماخورُ لبعضِ النساء، وهذا يفسر لماذا كانت غرفه كثيرة ومنخفضة، وقد شهد تاريخه في تلك الفتره عراكا وشجارا بين مرتاديه، والد الحاكم الحالي كان أحدهم، كان يخرج مهزوماً بجسده إثر ركلات وخربشات، في إحداها فقد عينه اليسرى، والعين الواحدة ليست سُبّة، ولاننسي فضل هذا المبني علي الحاكم؛ لأن صاحبته، عندما كان مبغي، أغوت والده في لحظة سكر؛ وبعد أيّام من هذه الغواية أخبرته بحملها، فأجبرته علي الزواج منها، كانت نتيجة تلك العلاقة إنجاب الحاكم الحالي، يزعم التنظيم المعارض: إنها بذيئة القول وفاحشة الفعل، ويتبادلون: إنها كانت في لحظة ثملها تصيح بصوت عالٍ؛ تنادي الذين ضاجعوها ، بأسمائهم، وتقول: هذا لم يشبعني، وذاك لافرق بينه وبيني ، أما فلان فقد كان يهزني حتي أسمع رجرجة عظامي، ولايفعل شيئاً لصغر قضيبه: أما علان فيُريدني واقفة، ويسل قضيبه كأنة وتد؛ فيدخله بين رجلي حتي أحس أنه قسمني نصفين، وحين يذكرها أحدهم بوالد الحاكم الحالي يتكرمش وجهها ، يعيد حديثه لها ، تتاوه وتتف علي الأرض بأمتعاض وتصمت، وحين يكرر سؤاله عن والد الحاكم الحالي تقطع صمتها بضحكة مخمورة تسرب من خلالها قولها( مافيه شئ )، يمكر السائل، يسالها: كيف أنجبت منه؟ ترمقه وتقول نافيه: إنه ليس ابنه. ويقولون: إنها ماتت لحظة استيلاء الحاكم الحالي علي السلطة بطريقة مبتكرة، وماتت الأسئلة عن طريقة موتها. ومن يقف خلفها أو يتفوه عنها سيختفي أياماً، وربما سيعثر علية جثة هامدة فقدت جزءً مهما، أظنكم عرفتموه ، قبل أن يؤول المبني أو يستولي الحاكم الحالي عليه- نُقر ونعترف بجهلنا الطريقة التي استولى بها عليه، هل صادره أم اشتراه؟ كان منزلا مهجوراً تُطلق عليه العامة الوكر، وآخرون يدعون أنه مسكون، يتبادلوا عنه حكايات وأساطير، هذا ما أمدني به الكاتب. همَّ الحاكم بإدخال تحسينات عليه، وتشييد غرف أخرى، لكن إحدى عشيقاته نقلت له أسطورة تقول بأن من يدخل تحسينات على القصر يُصاب بمرض خطير، يصر الكاتب أن الأسطورة تقول بشكل لا غموض فيه: إنه يُصاب بعنةٍ، ضحك وهو يقصها لي، وقال منتشياً: إنّ هذا ما أخاف الحاكم. القصر يقع وسط جزيرة صغيرة في النهر، لكلِ عشيقةٍ غرفة تكسوها ستائر فاخرة، وهذا ما استطاع الحاكم إدخاله من تحسينات، بالاضافة إلى صور عارية للحاكم والعشيقات، تُحيط هذه الغرف بغرفة كبيرة لها باب سري، لسبب أظنه تبادر إلى ذهن القاري، هل هي نفس الغرفة التي كانت أمه تستقبل زبائنها؛ ومن بينهم والده المخمور. اتخذ الحاكم هذه الغرفة مقراً يستقبل فيها ضيوفه، وقد شهدت طرده الوزراء السابقين، واستضاف فيها بعض الذين يعرفهم معرفة أفادوا منها؛ باحتلالهم المناصب القليلة بالدولة، صديقه الأهبل، كما يُناديه، الجميع- أصبح رئيساً للقضاء، وصديق طفولته الذي كان يحميه من الأطفال صار مدير عام العسس الذي أفاد من هذا المنصب في تنصيب أصدقاء طفولته مدراء أقسام، يقول الكاتب: إنّ رئيس القضاء احتكر مهام القضاء؛ فلم يُعيّن أي شخص ليُساعده، كما أوعز إليه مدير عام العسس، وحين يُطالبه الحاكم بتوظيف مساعدين، يتلو عليه قصيدته في مدح صوته؛ فينتشي الحاكم ويسهو عن الموضوع. من غرفته الكبرى يطل الحاكم صباح كل يوم على مباني وهبها لشعب البلاد، كما يتباهى دوماً. وفي طلته الصباحية يُشاهد بعض الأشخاص الّذين أغلبهم من الرجال الكهولٌ والنساء اللائي بلغن من العمر عتياً، ويندر أن تجد فتاة بالسوق؛ مخافة أن يراها الحاكم فيتخذها عشيقة له، يُصر الكاتب ببجاحةٍ منفرةٍ إن بعض الفتيات الفقيرات يأتين للسوق؛ رغبة في أن يرتمين بحضن الحاكم ويصبحن من محظياته. الكاتب يعتقد: إن كل فقير يخلو من الشهامة والكرامة، حين يرى الحاكم الناس تحني ظهورها تحيةً له كما جرت العادة – ينتفخ وينتعظ قضيبه في العراء دون خجل؛ ينتعظ لانحناءة خوف وليست محبة، والاختلاف بين الخوف والمحبة كاختلافي أنا مع الكاتب، تنتهي الانحناءة برفع الحاكم يده وتحريكها شمالاً ويميناً. بعدها ينهمكون في ممارسة أعمالهم، يفترشون الساحة، أمامهم بضائعهم ،بضائع متمثلة في منتوجات زراعية، وقليل من الأواني المنزلية والملابس. بوقفته هذه يسمع الباعة ينادون على بضائعهم بأساليب محببة إليه، يصر الكاتب: إنّ الحاكم قبل توليه السلطة كان أحد الباعة الفاشلين، تستمر وقفة الحاكم خمس دقائق، تنتهي حينما يُشاهد رئيس القضاء ومدير عام العسس يحثان الخطو نحوه، وحين يقتربان من باب السور ينزل فرحاً ليقابلهما بغرفته، وسبب فرحته سيعرفه من يتابع الأسطر القادمه. يجلس الحاكم على الكرسي الرئاسي وهما يقفان كصنمين، هذا الوقفة تُفرحه ويحس بالزهو، في وقفتهما هذه ينقلان له تقارير أصبحت رتيبة بالنسبه له ولهما، يستمع إليهما والمبالاة أبعد المفردات عن باله وهو يلوك في طعام الإفطار أمامها بتلذذ مستفز، يرفع قطعة لحم ويقول بانتشاء: ما أجمل لحم الدجاج، ينطقها: الجداد وليس الدجاج، ويتناول قطعه أخرى ويقول لحم الغزلان يُجلي النظر، آه ما أحلى بيض النعام، ويختم حديثه بقهقهةٍ، وعيونهما تتابع اللقمة من استدارتها بكفه حتى بلوغها حلقومه. لا يدعوهما للجلوس؛ بل يظلان واقفين حتى يقضي على طعامه، وبإشارةٍ موجزةٍ من يده يطردهما. هذه هي الكلمة الصحيحة لما يفعله معهما. يقول لعشيقته الوطنية التي تدخل بعد خروجهما: هذه أجمل لحظاتي حينما أتناول الطعام أمامهما، وتُعجبني محاولتهما إيقاف تدفق اللعاب من فيهيهما، بالتأكيد الحاكم لم يقل فيهيهما، بل قال اسماً دارجاً، عند العامة، للفم، وأكبر الظن إنه لا يعرف ماهو الفيه. تفتعل العشيقة الوطنية الغضب وتقول وهي تُوليه ظهرها: كنت أظن أن أجمل لحظاتك حين أكون في حضنك، يتحوّل الى طفل غر ويرد: أنتِ حياتي كلها. تفرح المسكينة. الآن نلمحه أنا والكاتب يطلُّ من سطح غرفته وعينياه تبحثان عن رئيس القضاء ومدير عام العسس، أو المدير الذي يحميني، كما يحلو للحاكم أنْ يُناديه، طالت وقفته، وقفة تحمّل فيها لسعات أشعة الشمس الصباحية، كانت الساحة خاليةٌ من الناس والدواب، نظر الى الساعة بمعصمه، ساعة من الذهب؛ مرصعة بالأحجار النفيسة كما أوهمه الذي باعها له، لم يجرؤ أحد على ذكر حقيقتها المتمثلة في كونها خام رخيص تم طلاءه بماء الذهب، وبذهنه تساؤل: أين ذهب الناس؟ أين اختفوا؟ أجهد ذهنه ليجد إجابة، يقول الكاتب: لو انتبه الحاكم قبل صعوده إلى سطح غرفته لعلم أن القصر أصبح خاوياً، الطباخ اختفى كما اختفى الجنايني والغسّال اختفى، والعشيقة الوطنية اختفت، والعشيقات الأجنبيات اختفين أيضاً قبل نزوله من سطح الغرفة، تساءل منزعجا لتأخر رئيس القضاء ومدير عام العسس، كلما هبط درجاً يسأل نفسه لماذا تأخرا؟ يعود ببصره إلى الساحة، وترمومتر غضبه يرتفع اتجاههما: سأستُبدّلهما، إنهما لا يستحقان ما شرفتهما به، دخل غرفته وصفّق بيديه، هكذا ينادي العاملين معه بالقصر، يقول بفرح: لا يستحقون سماع صوتي البلبلي، أعاد التصفيق، لم يستجب أحد، نهض بغضبٍ، خرج من غرفته، وقف في المسافة بينها والغرف الأخرى وصفّق ثانية، عينياه مركزتان على أبواب الغرف، تحرّك نحو أقرب غرفة، ركل بابها برجلٍ كلها غضب، انفتح الباب، دخل كثور هائج ، كانت غرفة عشيقته الوطنيه، وجد السرير الذي امتص حرارة جسده وشهد فض بكارتها- خالي منها، مد عنقه إلى الحمام، هذا ماتوقعه في تلك اللحظة، صفق بيديه ولا مجيب، خرج إلى الغرفة الأخرى، ركل الباب بغضبٍ زائدٍ، وجدها خاوية هي الأخرى، تلبّسته حالة هستيرية جعلته يهرول بين الغرف راكلا أبوابها وهو يُصيح منادياً، ارتدَّ صدى صوته، ازداد هياجه، هرول نحو سقف غرفته، وجد الساحة خالية من الناس والدواب، هبط منها لتذكره أن بغرفته هاتف، اتصل برئيس القضاء، قبل انقطاع تنهده أدار قرص الهاتف، على الرقم المطلوب أتاه رنين الهاتف، حتى كلّت يده من الإمساك بسماعة الهاتف، لم يرد رئيس القضاء، إنّ العادة بينهما جرت أنْ يرفع رئيس القضاء السماعة في الرنة الثانية، ترك الحاكم السماعة على السرير، نهض كثورٍ هائج يقوده غضبه وقدماه تدكان درجات السلم، وقف أعلى السقف وبصره سبقه نحو الساحة، كانت، كما شاهدها قبل قليل، خاوية، اشتبكت أسئلة بداخله، هذا حدس مني شاركني فيه الكاتب؛ لأنّنا شاهدناه يُعلن امتعاضاً كالذي تشاهدونه على مريض القولون، بخطواتٍ بطيئة نزل من السقف يحملُ رجلا ويتبعها بأختها، يده تمتد وتضغط على ركبته، أحياناً يعود ببصره نحو الساحة الخاوية فيرتد بصره خاسئاً حسيراً، كأن المسافة التي استغرقها نزوله امتصّت غضبه، ركل أول باب برجله وارتمى على السرير، جذب الملاءة وغطى بها وجهه، قال الكاتب عنه: مسكين، يستحق الشفقة، نظرتُ إلى الكاتب، لم أعلّق على قوله؛ لأني رأيت الحاكم ينفض يديه بعصبية، وينتعل حذاءً نسائياً كانت تنتعله عشيقته الوطنية، اندهشتُ، ربّت على كتف الكاتب قائلاً: سيادته يرتدي حذاء عشيقته، تحكّر الكاتب وقال: إنّ الذي أعرفه عن هذا الحاكم أنه حينما يحس بضيقٍ يرتدي ملابس النساء، تعلّم هذا من أول إنقلاب قام به التنظيم المعارض، لم يجد أمامه فرصة للهرب إلا بهذه الطريقة، وبعد القضاء على الإنقلاب نسب ماقام به إلى زعيم التنظيم، يصر الكاتب أن الذي قام بتلفيق هذه التهمة على زعيم المعارضة هو مدير عام العسس؛ فبعد قضاء زبانية الحاكم على الإنقلاب أتى المدير العام بفريته هذه، سانده عدة أشخاص أتي بهم ترهيباً وترغيباً. ضحك الكاتب وقال: إن المدير العام كان أول الفارين صبيحة الإنقلاب، وإن الحاكم هرب عبر النافذة مرتدياً زيّاً يخص إحدى عشيقاته، الحق يقال:إنه لم يُبلل ملابسه كما يحدث عند الرعاديد، وهو منهم، رغما عن ما نسبه إلى نفسه: أنا الشجاع الوحيد، قالها في خطاب له إثر فشل الإنقلاب المذكور بالأسطر السابقة. مضى الكاتب يقول: الحق واجب؛ إنّ رئيس القضاء لم يهرب لسببٍ وحيدٍ، سألني الكاتب: هل تود معرفته؟ طبعاً لم ينتظر إجابتي: إنّ رئيس القضاء لم يهرب لأنه كان نائماً. انتبه الحاكم إلى حذاء عشيقته برجليه، عبرت بخاطره كلمات فاحشة اعتاد التفوُّه بها، وهي عادة اجتهد أتباعه معه ليتخلّص منها، وحين أعيتهم الحيلة ترجوه ألا يتفوه بها أمام الجماهير، وقد رضخ لهم. خلع الحذاء، جلس على الكرسي في انتباهٍ زائفٍ، منهوك القوى؛ وذلك من صعود سقف القصر والهبوط منه، أحسّ معدته تناوشه، وهي الوحيد الذي لا يعصي له أمراً، صفّق بيديه كعادته لثلاث مرات ليأتيه طعام الإفطار، كان قد سهى عن وحدته غير المجيدة، ، فتح فمه حينما جال بخاطره غياب العاملين معه، نهض بتكاسلٍ نحو المطبخ المهجور، وقف عند الباب، رأينا بسمة فرحة على جبينه، اندهشنا لوجودها، قال الكاتب: هذه عادة طفولية عنده؛ إذ كلما شاهد طعاماً فرك يديه وابتسم، عاد ببسمته إلى غرفته ونحن نتابعه، خلع قميصه، تدلّت كرش عليها خربشات وآثار جروح قديمه، وبالتأكيد خلع سرواله، عاد إلى المطبخ عارياً، وجد ملابس الطباخ معلّقة على مسمار بالحائط، أمسكها بيده اليسرى، رفعها أمام ناظريه، بان عليه اشمئزاز مستعار، صاح الكاتب يلعنه؛ لأنه في طفولته كان يرتدي أسوأ منها منظراً وخامة. نفضها مرات عدة، طار منها غبار زاد كرمشة وجهه، لا أطيل عليكم حتى لا يترهّل السرد ، ارتدى الحاكم ملابس الطبّاخ وصنع لنفسه وجبة إفطار، التهمها، أو ابتلعها ، عبَّ في جوفه برميلا من الماء؛ تجشّأ مرات عديدة ومسّد بطنه بيديه، طبعاً، تثاءب وارتمى على السرير، في هذه اللحظة قادته هواجس لا تشبهه إلى آخر حوار دار بينه ورئيس القضاء، أغمض عينيه يجترُّ هذا الحوار الرخيص كما وصفه. كان رئيس القضاء، ساعتها، يقف أمامه وقفته المعتادة؛ والحاكم يزدرد إفطاره، فتح فمه وقال: سيادتك، قبل استرساله في الحديث حدجّه الحاكم بنظرةٍ جعلته يبتلع كلماته التي قضى ليلة كاملة يرتب فيها، صمت رئيس القضاء حتى أنهى الحاكم إفطاره، أتى من يغسل له يده، تجشّأ مرات عدة؛ أصر الكاتب أنه تترع، لأن التجشؤ، في رأيه، مفردة حضرية لا علاقة لها بسلوك الحاكم، تنحنح وسأله: ماذا كنت تود أن تقول؟ احتج الكاتب معللاً احتجاجه: كيف لشخصية مثل هذا الحاكم أن يسأل سؤال بلغةٍ فصيحةٍ كهذه؟ وجدت الحق مع الكاتب في استنكاره، وحتى أجعله منتصراً أو أُقلّل من وقع هزيمته، قلت له نعم: الحاكم لم يسأل بهذه اللغة؛ وإنما سأل بلغةٍ ركيكة أنت تعرفها، وأنا أعرفها، والقراء يعرفونها، ليتني لم أوافقه، فقد تمادى في حديثه؛ زاعماً أن الحاكم كان مخموراً تلك اللحظة. أجاب رئيس القضاء: سيادتك، أتانا خبر سيئٌ. عاجله الحاكم: قُل؟ فرك رئيس القضاء يديه وقال: إنّ بعض الدهماء قد أحدثوا تمرداً في المدينة الجنوبية، ضحك الحاكم بأستهزاء أغضب رئيس القضاء، يقول الكاتب : فلو كان يملك شجاعة، كالتي عندي، لخرج، ولن يرد علي سؤاله: وماذا عملت لصدهم؟ أجاب رئيس القضاء وهو يحني رأسه: قد غلبونا. انفجر الحاكم بكلمةٍ شحنها بغضب وقال: كيف غلبوكم؟ لم ينتظر، بل واصل وهو يُشمّر كم قميصه ويضم أصابعه ويُطلق صفعة في الهواء: أنا أطعم فيكم وأسمنكم لأخيف بكم هؤلاء الرعاع؛ زادت انحناءة رئيس القضاء، وقال: كل الشعب الآن بالحراسات، ويرفضون الخروح منها. كان رد الحاكم ساعتها: دعهم بها. وأنا أيضاً سأنضم إليهم؛ هذه آخر كلمة خرجت من فم رئيس القضاء. ضحك الحاكم وهو يجتر في هذه الذكرى، نظر إلى أواني الطعام الفارغة على الأرض. يصر الكاتب أنّ بقعر إحداها بقية طعام، وأن الحاكم لن يتركه. نهض الحاكم وعلى جسده ملابس الطباخ، تمطى وتجشّأ، ثم انحنى ينظر في الأواني التي أمامه. اندهشت عندما رأيته يلتقط إحداها ويرفعها نحو وجهه؛ ويخرج لسانه يلحس بقية الطعام كما توقّع الكاتب. والذي أدهشني أنه لم يغسل يده بل مسحها بطرف قميصه، قميص الطباخ، نهض بفتور؛ لأمتلاء بطنه، ببارقة أمل، أحدثها الشبع لا سير الأحداث، طلع إلى سطح غرفته، علّه يجد أناسا. كانت الساحة خالية تماماً، زفر بانكسار، ضرب الحائط بكف ملوثة بملاح بائت، مسح وجهه بذات اليد الملوثة، التفت يميناً وشمالاً ، مد عنقه إلى أعلي ينظر في البعيد؛ واضعاً يده المبسوطة فوق حاجبيه ،انحني إلى الأرض ،هبط والإعياء رفيقاً جديدا، جلس على الكرسي ، تململ وحرك موخرته، أحني ظهره متثاوباً، فجأة هب واقفاً وصار ينوس بالغرف الأخرى، في كل غرفة اجترّ تاريخه فيها، وهو تاريخ يُغضب الصالحين ويُفرح الحاكم وحده، قاده توتره خارج القصر يمشي ويتلّفت علّه يجد إنسانا، كانت المدينة خالية تماماً، أصبح يسير على غير هدي وإلى غير هدف، احتجَّ الكاتب على هذه الجملة قائلاً: متى كان يسير الحاكم بهدى؟ اسمحوا لي بتغييرها، كان يسير كعادته، مرّ بأذقةٍ عاش فيها شبابه، مرَّ بمباني نقش عليها، اسمه واستظل تماثيلاً له، مع كل حركة يضرب جبينه؛ بيده طبعاً، لا أطيل عليكم، فقبل غروب الشمس أسعفته ذاكرته بحوار رئيس القضاء الأخير وجملتة التي اضحكته(الناس بالحراسة ولن يخرجوا منها)، إنهم هناك، قال وهو يعني الحراسة، أسرع الخطى نحوها، لم تكذبه ذاكرته، وجد الناس محشورين فيها، من بينهم رئيس القضاء والمدير العام والضباط، وقف أمام بابها، صفّق كعادته بيديه ليأتيه أحدهم، سمع قهقهاتهم، اقترب من المدير العام وخاطبه: اخرج. لن أخرج؛ قال المدير العام وتبعته أصوات أخرى: لن يخرج ...لن نخرج ... جلس الحاكم أمام الباب حتى سجلت الشمس غيابها، وقف ونقر الباب، فتحوا له، بخطواتٍ ثابتة دخل الحراسة. افسحوا له ، تلفت، فيها، باحثاً عن مقعد يجلس علية ، سمع همهمات: الناس هنا سواسية. لو دامت لغيرك لدامت لك. لو سمع نصيحتنا لارتاح واراحنا. لاعدل في الدنيا. السافل يحكم الأخيار ،وهو صامت متكرفس، وحين نقل بصره، في الوجوه، شاهد الوزراء المطرودين يتبادلون البسمات .وشاهد من بين المحشورين رئيس القضاء والمدير العام، وضابط المدينة الجنوبية، وكذلك كان استاذ حبذا بلطفه المعروف مكرفساً بركن الحراسة.

















تفاصيل فقدت أهميتها (1)
الفصيل المُعارض يُهاجم الحاكم بضراوة، كما يتشدّق أتباعه، وفي جلساته السرية يستهلون بكورال معكوس قصيدة مدح صوت الحاكم، كما أعلمتكم أنا، يقول الكاتب بحنقه المعروف عند الكتبة: إنّهم يُحرّفون الكلم عن موضعه، يجلسون أمام طفل أو طفلة هي ابنة قائدهم، يستمعون إليها بطربٍ أضافت إليه أدخنة السجائر وبعض المشروبات المسكرة، لا داعي لذكر أسمائها- نشوةً؛ كأنهم امتلكوا العالم بين أيديهم، وأيديهم تُصفّق وسط كلمات النشيد: صوتك جوع الشبعان، صوتك خلي الشعب عريان، صوتك شال منا الأمان. والحاكم حين تُنقل إليه أخبار المعارضة يضحك، وبطانته في جلساتهم الليلية . في أيام تنظيم المعارضة الأولى كانت متعته التعذيب بأساليب تُعلن عن دخيلة نفسه ومستوى ثقافته؛ أطرف طرق التعذيب عنده، حين يُقبض على أحد المعارضين، هي أن يسير في الشارع العام يترنّم بقصيدة المدح، وحوله بعض المؤيدين، كما تصفهم المصادر الرسمية، أو الرجرجة والدهماء، كما تُطلق عليهم المعارضة، يُطالبونه بالمزيد كلما صمت، أما إذا كان المقبوض فتاة فإنها تُصبح وليمةً جنسيةً له إذا كانت جميلة وعذراء؛ وإذا لم تكن جميلة يهبها لقائد التيم الأمني ؛ الفحل الذي لا يعاف كما يصفه هو نفسه، ؛ وهنا نذكر عشيقته الوطنية التي قبض عليها وهي تهتف وحدها في الميدان العام؛ بعد أن تفرق الحشد الذي أقسم بأن لن يبارح الميدان حتي يسقط الحاكم وحاشيته، ومن غضبها على رفاقها انضمت إلى محظيات الحاكم. يقول الكاتب: هذا الفصيل، مع جبنه، فقد سبب صداعاً للحاكم، شعاراته تجدها على جُدران المنازل، حتى قصر الحاكم لم يسلم من التلطخ بها، يقول عنها الكاتب من جدار إلى جدار، استفسرته: ماذا يعني بقوله منْ جدار إلى جدار؟ سخر منّي، وقال: من جدار المنازل إلى جدران القلب؛ أليس للقلب جدار؟ لم يكتفِ الفصيل المعارض بكتابة شعاراته على المنازل؛ وإنّما أضاف إليها منشورات سرية سرتْ بسرعةٍ بين أيدي المواطنين. وقد علمتُ من مصدرٍ مقرّب، يجهله الكاتب، أن هذا الفصيل قام بمحاولة انقلابية كادت تنجح، وهي محاولة أزعجت الحاكم الذي وصفها بالخيانة العظمى، وكانت نتيجتها إلقاء القبض على منْ صارت عشيقة الحاكم، لحظتها كان يجلس على كرسيه الرئاسي، بجانبه يقف زبانيته، يدخلون عليه، المقبوض عليهم يمرون أمامه على أجسادهم آثار وجبة تعذيب، وحين جيئ بها رغم كدمات واضحة على جسدها العاري، لم يتمالك الحاكم نفسه، صاح بصوتٍ ارتجّت له القاعة كما زعم مصدري المجهول، هذه لي.. هذه لي.. والتفت إلى أقرب زبانيته وأمره بإدخلها مكتبه، وبعد دخولها انقطعت أخبارها؛ يزعم البعض أنها رفضته وأشبعته شتماً، آخرون يقولون بأنه نال منها ما يريد، وسخر الذين لهم علم ببواطن الأمور كونها صارت من بطانته، وأنه أوكل إليها مهمة التخلص من أصحابها في التنظيم. أمدني المصدر بمعلومات عنها؛ إن أول علاقه عاطفية نشأت بينها وأحد منسوبي التنظيم المعارض انتهت نهاية حزينة، اختصرتها العشيقة بقولها: عينو طايرة، هذا الوصف يوكد ضحالة ثقافتها، وكأنثي جريحه أرتمت في أحضان الحاكم لتنتقم منهم، الحقُ يُقال بأنّها وجدت اهتماماً خاصاً من الحاكم، ورد ذكرها في خطبه العديدة، ويقول إلى خاصته عنها: هي من كنتُ أبحث عنها، وفي لحظة سُكره تُحيط به معشوقاته فيقول لندمائه: لا هذه ولا تلك تساويها، ويُشير بلسانه للعشيقات الأخريات. وذات وجدٍ وسُكرٍ، أطلق يدها لتفعل ما تشاء في الشعب، ومن يومها تعرّض التنظيم إلى مضايقاتٍ قلّلت من عدد منسوبيه، والذين تحوم حولهم شبهات الانتماء له أبعدوا؛ كمدير مدرسة المدينة الجنوبية، ويعود الفضل في ذلك إلى عشيقة الحاكم الوطنية؛ لتجنُّبه الاعتقال، فهي كانت إحدى تلميذاته بالمدرسة، رغم تأكيد الكاتب بأن هذا المدير من أنشط الأعضاء، وقد وجد هذا التنظيم ضالته في قرارت الحاكم التي جعلتهم يوقنون أن أقوى معارضة للحاكم هي قرارته، وإن لها مفعول السحر في تشجيع المواطنين على نفض لا مبالاتهم، خاصة قرار خيانة الأمانة، وقد بثوا شعارات لا تُقاوم، وأطلقوا عليه الخائن الأكبر؛ لغرامه بهذه الصفة، فهو القائد الأكبر، والمؤمن الأكبر، والعاشق الأكبر، والفارس الأكبر، والمواطن الأكبر. همس الكاتب: إنّه رفض صفة المواطن الأكبر؛ ولكن أعوانه زيّنوها له، ويستدلُ على زعمه بقلّة تكرارها في المذياع. مدير مدرسة المدينة الجنوبية، بعد زيارة ضابط التحري عن قصة الطالبين، لم يتوان عن الاتصال برئاسة التنظيم في العاصمة، أخبرني من أثق في كذبه، هو أيضاً كاتب قصص فاشل، أنّ رئاسة التنظيم عقدت اجتماعاً طارئاً، وقد بثّتْ الخبر عبر صحيفتها السرية، اتصلت، هاتفيا، بمدير عام العسس، وبالتأكيد أمرت أحد منسوبيها بالاتصال، وهذه هي المكالمة التي أخرجته من مكتبه؛ لتجد السكرتيرة وعشيقها الفرصة لتنفيذ رغبتهما، ويجد مندوب المعارضة سانحة لدس الصحيفة بمكتب المدير العام. حين عاد المدير العام إلى مكتبه كما تذكرون، وأغلقه على نفسه والسكرتيرة، وجد تلك الصحيفة فقرأ الخبر، كان في الصفحة الأولى بلونٍ أحمر اتخذته تلك الجماعة رمزاً لها
(تفاصيل فقدت اهميتها(2)
ضابط المدينة الجنوبية، في زيارته لمدير المدرسة شاهد منظراً أثّر فيه، وشجّعه على الهروب، ليس منظر التلاميذ العُراة الحُفاة، كما تبادر إلى ذهن الكاتب ساعتئذ؛ لطالما شاهد أطفالاً عُراة حُفاة في طفولته، فقد عاش في حي طرفي حُشر فيه الفقراء، وهو نفسه كان عاري الجسد حافي القدمين في طفولته، لم يكسو جسده قماش حتى سن السابعة، ورجلاه لم يفصلهما عن الأرض حذاء، يعود الفضل لإحدى المنظمات الخيرية حين نظّمت حملة تبرعات تحت شعار: كساء لكل جسد، وكان نصيبه قطعة صفراء لامعة أُعجب بها.
لكن ماجعل فؤاده يرتجف حين زيارته المدرسة، وجلوسه مع مديرها التقاط أذنه أصوات التلاميذ ينشدون النشيد الوطني، التفت عبر النافذة إلى مرآهم، وقع بصره على الشفاه العطشى وهي تُردّد: (صوتك موية للعطشان)، ومسحهم بنظره وهم يترنّمون: (صوتك ملابس للعريان)، ضحك من المفارقة العجيبة، كما وصفها، وصورة أجسادهم العارية وأرجلهم الحافية انطبعت بداخله جُرحاً لن يندمل، يقول الكاتب: أعادت إليه وعياً، اندهشت من وصفه، رأى اندهاشي مرسوماً على جبيني، تشجّع وواصل حديثه أو ثرثرته: إنّ بعض الناس لا يعود إليهم وعيهم إلا عبر صدمة مفاجئة، والضابط أحدهم، ألم تشاهد النحول الذي اعترى بدنه؟ أعادني حديث الكاتب إلى مقولةٍ سمعتها ذات مرة: إنّ بعض الناس يأخذ من روحه ليُضيف إلى جسده، وهم الأغبياء، والبعض الآخر يأخد من جسده ليُضيف إلى روحه، هذا الوعي المستحدث قاده خطوة نحو المعارضة، وبالطبع أبعده خطوة عن الحاكم، أوهم الجماهير بموافقته على بناء الحراسة بدعم من المُهرّب، رفض استلام الرشوة، كما توّهم الكاتب من أنها استقرت بجيبه، انتظر بمكتبه حتى حلّ المساء: هذه أطول ليلة تمر بي، حدّث نفسه، علّق الكاتب: ليلُ العاشقين طويل، قلت له: إنّ الضابط ليس منهم. إذن ليل الخائفين طويل، قالها ضاحكاً، أخفيت دهشتي من خفة دم الكاتب. مرّت، في تلك الليلة، بخاطر الضابط أفكاراً شتى، أرعبته، وتذكر قول العمدة له:عندنا واحده مجنونة أسمها كريبيرسة لاتتسمع كلامها، ومن تجاربه، رغما عن قلتها، أيقنّ الضابط أن السلطة ستُطالبه باعتقال مدير المدرسة واعتقال العمدة، واعتقال المُهرّب؛ وستُطالبه بما يتنافى وموقفه الجديد في اعتقال سعيد ومصطفى؛ بحجة استدراجهما طبعا، وهي تقصد تعذيبهما بكلمة استدراجهما، لعلّه يُمسك برأس الخيط الذي يقود إلى الجريمة ومعرفة من يقف خلفها؛ كما أوحت له كلمة المدير العام في المكالمه الهاتفيه بينهما. نادى الجندي وهو يشك في إخلاصه، أمره: اذهب الآن إلى البيت واحضر غداً عند الفجر لتساعد الأهالي في بناء الحراسة الجديده، فتح الجندي فمه، رفضت بعض الكلمات الخروج من فمه، يقول الكاتب تمرّدت الكلمات، حمل الجندي سلاحه ومضى، وحين خلا الضابط بنفسه خرج متسللاً نحو العاصمة، وعند الفجر أتى الجندي فوجد المبنى مغلقا، هل وثب عبر السور؟ لا لم يَثِبْ إنّما جلس أمام باب المركز كصنمٍ حجري، أكملت الشمس شروقها الذي قاد الجماهير إلى المركز بذات التنظيم الدقيق، باستثناء المُهرّب والعمدة، فقد احتلا المقدمة هذه المرة، قصّ عليهم الجندي تفاصيل مادار بينه والضابط، اختلق بطولةً نسبها إلى نفسه، أخطرها: زعمه أنه هدّده بالانضمام الشعب في ثورته، تداولوا كلمات بينهم. قال المُهرّب للعمدة: يجب أن تجلس على مكتب الضابط الهارب. صاح بعض الحضور تأييداً لفكرة المُهرّب، تململ آخرون بالصفوف الخلفية، التفت العمدة نحو مصدر الهمهمة، بلا مقدمات قال المُهرّب: هل لدينا أفضل من العمدة؟ سمعوا صوتا يأتيهم نعم، كانت حادة كنصلٍ صديء بجوف العمدة، ماذا أسمع؟ سأل المهرب بصوتٍ امتلأ بشحنة غضب، تقدّمت كريبيسة بوجه مغبّر، التقت أعين الحضور على جسدها: أنا أرشّح من أراه أنسب ليحل محل الضابط؟ حاول العمدة لملمة نفسه وهو يسألها مولياً وجهه نحو الحاضرين: من ترشحين يا حكيمة زمانك؟ بحماس امرأة حبلت بعد شهر من زواجها قالت: أرشّح مدير المدرسة. نقل المُهرّب بسرعة عينيه إلى العمدة، ثم وضع يده على فمه، تسلّلت ضحكته عبر أصابعه وهمهم منصرفاً: أحسن نخليهو فاضي. اقترب المُهرّب من العمدة ،همس في أذنه والعمدة يؤمي برأسه، طلقات رصاص أحدثت دويا قطع همسهما فتراجعا إلى الخلف. يُصر الكاتب أنهم اندسّا خلف الجماهير التي انكمشت هي الأخرى بركن المبنى، تطايرت العيون نحو الحندي الذي بادلها بإطلاق رصاصة أخرى في الهواء؛ رصاصة سلبتهم ما تبقى من شجاعة لديهم، قبل تلاشي صوت الرصاصة من آذانهم، خاطبهم قائلاً: أنا المسؤول هنا، ودقّ على صدره، وواصل حديثه: أنا الضابط الوحيد بالمدينة، هل من مُعترض؟ عمّ الصمت المكان، سألهم ثانية: هل من مُعترض؟ رفع العمدة يداً مرتجفةً وهو يقول بانكسارٍ: هل تحتاج مساعدتي؟ تبسّم الجندي كما كان يبتسم الضابط السابق، وردّ على العمدة: اجمع منهم الأوراق. نهض العمدة: حاضر سيادتك. أنهى العمدة جمع الأوراق التي وسلمها إلى الجندي بنشوةٍ كاد يقفز من شدتها. قبل تلاشي الفرحة خاطبهم بصوتٍ كسته نبرة أرادها أن تُخيفهم: ادخلوا الحراسة. وقبل أن يُعيد أمره شاهد الجميع يتسابقون نحوها. اكتظّت الحراسة بهم، تلفّت الجندي يميناً وشمالاً، قذف البندقية بعيداً ودخل معهم وأغلق الحراسة،استلم مصطفي وسعيد البندقية وصارا يعبثان بها .


تفاصيل فقدت أهميتها (3)








التفويض الذي منحه الضباط أو مدراء الأقسام إلى المدير العام للعسس ورئيس القضاء في اجتماعهم الشهير؛ ليتخذا ما يريانه مناسباً لمواجهة تمرد المدينة الجنوبية-وجد إهمالاً من كليهما. يُصر الكاتب أنهما ناقشاه وهما يقفان أمامه ليفترقا، وعندما وجدا نفسيهما وحدهما في المكتب تحوّل نقاشهما إلى شؤون عاطفية. وأنتم تعملون ولا شك؛ أن الرجل في سنٍ متقدّمة من العمر يحب الحديث عن الجنس، جلسا ساعات لم يتطرّقا إلى موضوع التمرد أكثر من دقيقة أو دقيقةٍ ونصف، حملا فيه النتيجة إلى الحاكم وعشيقاته. مسح رئيس القضاء صلعته واقترب من المدير العام، حدّق فيه وقال هامساً: جميع المشاكل تأتي منه، انفرجت شفاه المدير العام عن بسمةٍ احتار رئيس القضاء في تفسيرها، قال سراً: أنا الغريق فما خوفي من البلل؟ تطوّرت بسمة المدير العام. سأله رئيس القضاء: ماهو رأيك؟ أجابه ببسمةٍ، اختلفت أنا والكاتب في تفسيرها، بسمة جعلت رئيس القضاء يتراجع إلى الخلف بعيون غطى بحلقتها بريق لامع، هتف الكاتب: رئيس القضاء جُنّ، التفت إليه: هل سمعت أنّ الجنون يمس رئيس قضاء في حياتك؟ لم يُجبني؛ وأنا لا أريد إجابة عن سؤالي، نهض المدير العام، وقهقهته تتبعه، تحرك نحو الباب المغلق، تأكد من إغلاقه، في هذه اللحظة انكفأ رئيس القضاء على نفسه، وإحساس بالحياء لما بدر منه عشعش في دماغه، فكّر في نقل الحوار إلى موضوع آخر، وهل يوجد حديث أطيب من الحديث عن النساء؟ هكذا تساءل، ضرب جبينه بيده الرخوة؛ ليسعفه بموضوع عن النساء، شغلته قهقهة عالية من المدير العام؛ ضحكة قتلت فكرته بمهدها، أنزل يده وتابع المدير العام الذي عاد من الباب وضحكته معه، قبل معانقة المقعد لمؤخرته قال: هل ترى أن الحاكم هو من يُصدر القرارت؟ بلهفةٍ سأله رئيس القضاء: فمَنْ يُصدرها إذن؟ اقترب مني، اقترب منه، همس المدير العام: عشيقاته! ببلاهةٍ رد رئيس القضاء: عشيقاته؟ نعم، عشيقاته. مضى المدير العام يقول: كلنا نعرف ذلك. هل سكرتيرة سيادتك، هي الأخرى، تعلم هذه الحقيقة؟ أجاب المدير العام بانشراحٍ غادر حياته سنوات: كل الشعب في هذه البلاد يعلم أن العشيقة هي من يُصدر القرارات. خرجت ضحكة لايود خروجها، شاركه رئيس القضاء بضحكة أزالت الحياء عنه؛ وشجّعته على الاستمرار في ضحكة حادة، ختمها، حين هم رئيس القضاء يالخروج، بقوله: نعمل شنو في الموضوع؟ بسرعة برق عادت ذاكرته إلى موضوع التمرد فأجاب: اسمح للجميع بدخول الحراسات، وأنا أيضاً سأدخلها، أكمل جُملته عند الباب الذي أغلقته ريح فجائية؛ محدثا، بذلك، ضجة ارتجف لها المدير العام. جلس وحيدا تُلجمه مشاكل أحاطت به في أيامه الأخيرة؛ قبل تقاعده عن العمل، امتدت يده إلى الهاتف، اتصل بمركز المدينة الجنوبية، رنّ الهاتف حتى كلّت يد المدير العام من الإمساك به، حاول ثانية وثالثة، وبضجر وسخ رمى سماعة الهاتف، نهض من مقعده وغادر المبنى، أحس بأن المبنى خالٍ من العاملين، حتى السكرتيرة لم تكن في مكتبها، وقف ويداه على وسطه، يُبحلق في اللا شيء، تحرّك ونحن نتابعه، هاهو يسير، لا يلوي على شيء، نحو الحراسة في العاصمة، لم يُقابله إنسان في الطريق، وصلها فكانت مكتظة بالناس، تمعّنهم جيدا،فيهم الضباط ورئيس القضاء، نادوه فرحين، ادخل، ادخل الحراسة، إذا تأخرت فلن تجد مكانا ، وحينها سيقضي عليك الثوار الذين لا بد أن تكون ثورتهم حمراء.
 
عزيزي - الأستاذ محمد خير عبدالله
تحية ملؤها إحتراماً لا مدّ له، وبعد
أنهيت الآن لتوي قراءة الفصل الثاني من روايتك المثيرة
صدقني لم أستطع التوقف أو رفع نظري من على أسطرك البهية، إلا بعد أن أيغظني العامل الهندي (حنيف) من غيبوبتي وهو يسألني: إيش في؟ مافي روح اليوم؟ دوام فينش أنا روح بيت في كوكينق ..
الترجمة: الدوام خلص .. ما ماشي؟ أنا ماشي البيت أطبخ .. (طبعاً الترجمة من موقع subscene.com) :eek:
عزيزي محمد: لعمري لم أقرا ما هو مثير ومدهش كما قرأتك الآن .. صياغة تغرقك في عوالم مدهشة، سرد ينقلك بسلاسة من متن قصة إلى مشهد في زمن وعالم آخر دون أن تشعر بإنتقالك كأنك على صهوة مسرع جزيئات ينقلك عبر الزمكان - كما يعتقد صديقي أنشتين - في غمضة عين أو إنتباهتها ..
كما عزيزي أنك أدهشتني بطريقتك في السرد الحواري بمداخلات الكاتب وتعليقاتك عليه ونعوتك التوسطية بينهما
- الهندي ده عذبني ... لي معك عودة بإذن المولى
 
عزيزي منصور: قبل التحية لك القلب
؟أسمح لي أن أصدقك القول. كنت موظفا بالحكومة وتم فصلي فوجدت نفسي عاطلاً وحاولت تسلية نفسي بالكتابة . وهذا الذي كتبته قد يعجب وقد يغضب وأنا لا أبالي بالأثنين المهم اذا كان في لعمر بقية سأكتب وسأكتب
 
وكأنما كانت الكلمات - من فرط سلاستها - تأتيك طوعاً ملقية بنفسها على قارعة سطورك، متأنقة في كامل إزارها، بكل شدَاتها وضماتها وسكناتها وحركاتها .. تراودك عن نفسها دونما أن تقُدّ لك ثوباً من قبلٍ كان أو مما يستدبرون ..
أستاذي محمد خير عبدالله:
ما زلتَ تدهشني - وأنا رجلً عصيَّ الإندهاش - كلما أقرأك بإسلوبٍ جديدٍ في صياغتك، وكأني بك تحمل مفاتيح السرد على متن أقلامك، متى ما شئت منها ما يلائمك مزاجاً أمرته أن يأتيك طوعاً أو كرهاً، فلا يلبث إلا أن يأتيك طائعاً جزلاناً بأنك من ستعلن ميلاده على ورق ...
ولي أن أشكر هذي الحكومة التي فصلتك، وهذا من مزاياها القليلة، فقد منحت الكتابة نجماً في سمائها ..
أنت تدين لي سيدي، فقد كلفني وصل أمانتك هذا تسعً وخمسون ورقة كي أطبعه، لأخلو به وأحضنه، ونتشارك ليالي نجران الممطرة، وحر نهارها الغائظ،، وسماجة أهلها البدو صبحاً ..
كنتَ أقراَ الفصل مراراً وتكراراً، مرةَ لمحتوى القصة، ومراتٍ كثر لللحن (المصطفــــاوي) بين طياته، (المصطفـــاوي نسبةَ لمصطفى سيد أحمد) .. فلا ألبث أن أنتشي بك وبه، إنتشاءاً لا ينغضُ وضوءاً ولا يُكلٍفً غًســــلاً ..
وبالكفةِ الأًخرى هنالك وقفاتٌ بالنصِ، ليس هذا بأوانها ولا مكانها .. فأنا الآن جزلان ...

كُن موفور الصحة، مستديم النعيم ..
 
عزيزي منصر سلام عجبت وفرحت _الله لايحب الفرحين_وكدت اعتقد أني كاتب ومبدع لولا تذكري لما كتبه غيرك مثل الكاتب الكبير_عمراً_عيسي الحلو قال أني أتوهم ومحمد الربيع قال هذه حالة مرضية ولاعلاقة لي بالكتابة ومحمود محمد مدني أوصاني بقراة كتاب النحو الواضح لازيل الركاكة من لغتي وصديق آخر امرني بترك التوهم والبحث عن مهنة تنفعني أما أنت يامنصور تختلف معهم يا جماعة أتفقوا هل انا بعرف اكتب ام لا وبخلدي كلام الأستاذ محمود محمد طه _كل واحد يبرع بما يحملة
 
أستاذي المبدع محمد
لك التحية والتجلة ..
إن إختلف الناس في رجل فرفعه بعضهم للسماء وهوى به الآخرون للقاع، فتأكد بأنه شخصٌ عظيم (والعظمة لله وحده)
دعني أختلف معك ومعهم .. فكل نقدٍ نقدوه لك، لهو التشخيص الأمثل لحالتك بتمام الموهبة , وعبقرية المنظور ..
فالتوهم والحالة المرضية إن لم تتملك الكاتب لما إستطاع الدخول إلى عوالم الخيال وأسرنا وشد حبال ترقبنا ..
سيدي: لو لم يكن الكاتب متوهماً لما نفذ لعالم الروعة ولما تمكن من ذبحها جهراً حتى تسيل دماؤها مداداً على صفحاته ..
أما عتابهم لك على نحوك الضعيف -كما يقولون- فلأن اللغة تسجنك، كنت دوماً ما تتحرر منها لدارجية الكلام، فيصير موزون كلامك صميم يومنا وحراك كلامنا .. فما سمعنا يوماً بأحدهم يقف على باب حانوتي الحي (الترجمة: دكان الحلة) ماداً إناءه مخاطباً إياه: هل لي بقليلٌ من ماء الفول تسكبه على قطعتي خبزٍ وبعض الزيت؟ ويا حبذا لو أعطيتني زجاجة مياهٍ معدنية ..... :(161):
إذاً فلأنك ابن هذا التراب، وصناعته وتكتب له، جاء قولك كما تشاء بسيطاً دونما زيف ..
 
عزيزي منصور لك من التحيات اجلها.. ها انذا ارسل رواية اخري بها من العيوب والهنات الكثير المثير الخطر ارجو بما حباك الله من لغة ان تجري عليها اللزم من تدقيق لغوي وهلم جرا الرواية اسمها المرقت ليلة قتلني الرئيس وهي مازالت تحت التشطيب هاهاهاهاااااااااااااااااااهاهاهاهاها وارسالها لي عبر الإيميل الآتي [email protected]
 
عزيزنا منصور هل وافقت علي القيام بالتدقيق اللغوي للرواةي القذرة ليلة قتلني الرئيس؟ اضف الحساب اذا وافقت عل خسارتك 59 صفحة في الرواية السابقة الأكثر قذارة
 
أستاذي محمد
حاشا لله أن أخط قلماً من بعدك فيما تكتبه أو نقرة (كيبورد)
كن كما أنت .. فالفكرة بنتك تسميها بما شئت وترسمها كما أنت ..
لا تنسى أن المرجفين في المدينة يريدون وأد النور فيك .. فلا أقول لك إلا كما قيل : ( أيها المصلوب كالنجم على الموجة يكفيك ترجل، وأترك الحزن الذي ما اخترته طوعاً ستبقى نابضاً تشهد ميلاد الرياح) ..
أنت ميلاد المعاناة وهدية السماء لنا .. قدرك أن قد إختارتك الدنيا كي تشقى لنسعد .. فلتكتب بقدر الحرقة بك والظلم الكائن بين بيوت الفقراء ينثره طباخو سادتنا وسدنة أبواب المنبوذين من الرحمة بنا ..
فلتكتب بركاكة حاضرنا ومغلوط الأيام .. فلتكتب كما المتنبيء في المنفى يمدح كلب السلطان ويكيل له في الليل أصناف اللعنات ..
وقل لسيبويه والفرزدق: أنا في الأصل أكبر من مواعيدي، وأكبر من تفاصيلي، وأكبر من مدى ذاتي.
كسرة: آسف لعدم التواصل المستمر، فأنا الآن أتحين فتات التكنلوجيا من الآخرين علّ أحدهم يجود علي بلحظات على جهازه فأطالع منه جديد الراكوبة، حتى صاروا يطلقون علي (المتسول الإلكتروني).


شحــــدة: أرجو أن ترسل لي مخطوطاتك على الإيميل علي أتعلم منها الكثير
[email protected]
 
عزيزي منصور صدقت فالنح ولاولدي ولا بنتي فليذهب النحاة الي الجحيم وقبلهم النقاد بأستثناء موسسة النقد السعودي .ريال سعودي ولا كل نظريات النقاد
 
رد: رواية سودانية ساخرة ...

عزيزنا منصور كلماتك كانت مشجعة لي لاصدار هذه الرواية في نسخة ورقية وسأهديك أول نسخة منها
 
رد: رواية سودانية ساخرة ...

اليوم خرجت من المطبعة النسخة الورقية لهذه الرواية ونتمني لك كاتب التوفيق في اصدار عمله
 
رد: رواية سودانية ساخرة ...

أستاذي الجليل محمد خير عبدالله
لك من التحايا أجلها ومن قبلها مد البصر أشواق
أبارك لك إنجازك بطباعة روايتك التحفة

صدقني عزيزي قد غبت زمناً غير قصير عن ظل الراكوبة بداعي الزواج وإنشغالي بالعمل .. واليوم أول عودتي رحت أنقب عنك وأبحث عن رائحة حروفك
وكم أسعدني خبرك طباعتك للرواية
سؤال: هل توزع بالمملكة السعودية؟ وكيف الحصول على نسخ (وليست نسخة) منها؟
 
رد: رواية سودانية ساخرة ...

الجميل منصور لقد طبعتها دون رقم أيداع لاسباب أنت ادري وبها ووزعتها مجانا للاصدقاء أما نسختك في يد امينة حين حضورك الي السودان
 
أعلى أسفل