يومٌ طويلُ التِّيلة

محمد عبد الملك

:: كـاتب نشـط ::

يومٌ طويلُ التِّيلة
(3/1)
ما كانت حالةُ الكرَبْ التي اعترت الرَّايقة ، ذلك الفجر ، حالةٌ طارئةٌ ولا مفاجئة بالنسبة لجدي دفع الله وربما لم تكن كذلك بالنسبة للرِّسالة ، إمرأته التى أجلسها الفالجُ لسنواتٍ خلت نصفَ مشلولةٍ ، وبالتأكيد لم يكن الأمرُ مفاجئاً بالنسبة للرِّيلة؛ البنت الوحيدة التي بقيت، من حشدٍ شَتَّ ، ترعى أمها وأباها وحوِّاشةً واحدةً أول بيت، وإرثاً تتداوله ألسنةُ الناس . نعم ؛ لم يكن هيجانُ الرايقة مفاجئاً غير أنَّ سيما الفزع التي بدتْ على وجهها وكل جسدها قد أحالتْ حالتها المكروبة تلك من حيِّزٍ التعاطف المترفِّع إلي معمعان مملكة الحياة الواحدة المتَّحدة في كيان الكائن الحي الواحد والتي ما إنْ أنَّ ، فيها ، كلبٌ أو إنقصفَ بُرعمٌ ؛ إنفطرتْ كبدٌ وتداعىَ القلبُ بالخفقِ والوجيع.
بأُذنيْن مشحوذتين ووجهٍ مفزوع كانت الرَّايقة تدور حول نفسها ، تتقدّم ، تتقهقر ، تضطجعُ على جنبٍ ثمَّ تبرك، تضطجعُ على الآخر ثمَّ تنهض. قلقُ وضيقُ من يغالبُ نازلةً لا قِبَل له بها. مسح جدي دفع الله سماءَ الفجر الغالس بنظرةٍ سريعةٍ تأكَّد فيها من صِحَة حدسه بغياب نجم عينة الثريا وطلوع الدَّبران الذي لمَّا يزل نجمه في الأفق بادٍ ؛ وهو كذلك ظلَّ يفعل ، مُذ وعيناهُ صغاراً : (العِينة دخلت . العنقريب غاب . سعد السعود طلع..) هكذا كان يقول كل صباح. ثمَّ إنَّه إقتربَ من الرايقة وهي في حالٍ من الكربِ شديداً تئن ، مسح على عنقها بحنانٍ جمِّ ثم استدبرها وهي لا تكادُ تستقرُّ وذيلها كالسوطِ ممدودٌ نحو الأفق ، لمسَ بيده فرجها المنبثق وتأكَّد من نزول السَّلَىَ ، ثمَّ أنَّه سعلَ وبصوتٍ خفيضٍ سمعناهُ - سعدٌ أنا وسعيدٌ أخي - يتمتم: (يا حلَّال الحاملا .. ) جدَّي دفع الله ، في الحِسَبة ، ليس جداً بيولوجياً يتسلسلُ إليه النسب ؛ إنما هو جَدُّ الناسِ أجمعين فيما بين مكوار وبركات ، ويُقالُ أنه هو الوحيدُ الباقي من نفرٍ ساروا في معيِّة السير مرودخ ماكدونالد واسماعيل سرِّي باشا ورهطهما حين جابوا الأودية بالخرائط والمناظير يمسحون أرض المشروع الذي لمَّا يزل أوراقاً تقبع في سراي الحاكم العام ؛ولمَّا تزل محالجُ لانكشير تتلهُّف شوقاً لسكلاريدسٍ تعِدُ به فيافي الضَّهرة . وقد راج في حكاياتنا، أيضاً ، أنَّ جدي دفع الله كان إبنُ البلد اليافع الوحيد الذي وقفَ ،بصفته رئيس عمال ، قرب اللورد لويد - المندوب السامي - وهو يديرُ مفتاح الخزان ؛ فيجري الماءُ في الترعة ، وقد كان ، أيضاً ، ممن يعرفون لغة الإنجليز كفاحاً ،إذ يُروى عنه أنه سمع اللورد ، حين أدار المفتاح الذي كرأس أمونحُتب ، يتمتم (..لذكرى تشارلس جورج غوردون ولذكرى لي أوليفر فتزموريس ستاك ) هكذا تعوَّد أنْ ينطق الإسمين كاملين بلكنةٍ أفرنجيةٍ مُحبَّبة . حكى جدي سعد الله ،عليه رحمة الله ،مباهياً برفيقه حين أُبْعِدَ من لجنة الإتحاد :( ها آ ناس .. خلُّوني من وليدات الزمن دا ، طلاق بالتلاتة وكتين دفع الله كان يخلف كُراع في كُراع ؤيقعد قدِّام جيتسكل ومكي عباس ؤيقول لهم : يس . نو .طلاق بالتلاتة إنتو الوكت داك ما ولدوكم . إنتو أولاد متين ؟ ) وقد أكسبه جلوسه المتكرر مع مديري المشروع ، كما يُباهي جدي سعد الله ، مزاجاً إدارياً مميَّزاً يصفه الناسُ في الضَّهَرة بالـ : فنجرة. جدي دفع الله ؛هذا الذي يحمل على أكتافه خمساً وتسعين عاماً كانت قد أدركته ، لسنينَ خلت ، حالٌ من الإطراقِ والصمت شهيرةٌ أجلسته حِلسَ بيته وطفِق ، منذها ، ينظرُ متأملاً بشئ من الحزَنِ وغضبٍ قليل. ثمَّ كان قليلاً ما يتكلم إلا أنْ يرد السلام وقليلاً ما كان يسأل.سبقت حالة الإطراق تلك إصابة الرسالة ، إمرأته ، بالشلل النصفي وعجزها عن الكلام والحركة . الجالسون قدَّام دكان سليمان ، سمعهم سعيدٌ أخي ، يوماً أتى ، يقولون : ( مسكين حاج دفع الله ؛ ولِد ؤ ربَّىَ ؤما لقى الحبَّة . مخيَّر الله يا ناس ، أربعة رجال ما لقىَ منهم واحد ينفعوا . ما نفعتو إلا البِت !! عبد الرحمن باع حوَّاشتين وسافر ليبيا ؛ عشرين سنة لا خبر لا أتر . ناس يقولوا مرق في أمريكيا ناس يقولوا مرق في الصين . عثمان باع التراكتر الماسي فيرجسون البهز ويرز؛ باعو وسافر يأترَّ أخوه . خمستاشر سنة ما رجع . عبد الله سوَّى دِقن ومرق في الخروج ، قال شنو ؟ في سبيل الله ، ناس قالوا في الصومال ناس قالوا في افغانستان . إنشلَّت حاجة الرسالة يوم سمعت النسوان يقطعن في بيت الرضيَّة ؛ قالن أستشهد .مخيَّرالله العالم بالغيب !! الطيِّب باع حواشتو وباقي البقيرات واشترى بيها فيزا للسعودية ؛ شغال شنو؟ قالوا تربية مواشي . الزول ، آ ناس ، ببيع سعيتو الفي زريبتو إمش يربِّي سعية الناس ؟ مخيِّر الله !! الرِّيلة قعدت راجية حسن ود عمها طافش من مخَتَر لي مخَتر لامن قطعت ؤعقَّرت ؤفات فيها الفوات. مسكين حاج دفع الله ؛ وِلِد ؤ ربَّى ؤما لِقىَ الحبَّة ) . ما عرفنا هل تعمَّق صمتُ جدي دفع الله بعد موت جدي سعد الله ، آخر رفاقه ، أم بسبب ما آل إليه حال بيته، أم بسبب ما آل إليه حالُ الناسِ جميعاً ، وقد كنا أحوجُ ما نكون لحكمته منذ دبَّت الفوضى الشهيرة في جامع قريتنا ؛تلك التي ذاع خبرها في كل البلد ، ومنذ أنَّ حلَّ ،بسببها، وفد الولاية ثقيلاً بيننا ؛ يحصي علينا النَّفَس . قالوا أننا لا نعلم من أمور ديننا ما تقتضيه الضرورة فاستولوا على الجامع .الضخمُ ذو الأوداج النافرة ظل يحدَّثنا عقب صلاة كل عشاءٍ عن تعدد الزوجات لحل مشاكل العنوسة التى راجت وسط نسائنا اللاتي فتك بهنِّ داءُ الحانكلو أبو حكاً حلو. لكنَّهم حين تزوجوا ؛ ليضربوا لنا القدوة الحسنة- كما زعموا - ما تزوَّجوا منهنَّ بل تزوجوا الأصغر والأجمل مثنى وثلاث ورباع . القصيرُ الأجرد ذوالسمت الأنثوي كان يحدِّثنا عقب صلاة كل مغربٍ عن الجهاد والموت في سبيل الله ، الأبيضُ النحيف ذو اللكنة الغريبة ظلَّ يحدَّثنا ، عقب صلاة كل فجرٍ وظهرٍ وعصر، عن كسلنا وخطل معاشنا وبؤس حالنا وضرورة ترك الزراعة التقليدية وتسليم أراضينا للشركات التي جاءت تسعى. رحل جدي سعد الله ما أن حلَّوا بيننا وسكت جدي دفع الله قبلها وأثناءها وبعدها حتى أنه قاطع الصلاة بالجامع فما عرفنا هل كان ذلك موقفاً أم ذاك بعضٌ من حال إطراقه المثير، سعيدٌ أخي أكَّد لي أنَّ عضو الوفد الضخم ذي الأوداج النافرة حين قابله في فراش مأتم جدي سعد الله سأله بإستعلاء : لماذا لا نراك يا شيخنا في الجامع ؟ حدَّجه جدي دفع الله بنظرةٍ - قال لي سعيدٌ أخي - تململ كلُّ من رآها وبلع ريقه . ثمَّ مضى ، جدي دفع الله ، ولم يرد .
إنتبه لوجودنا قربه - سعدٌ أنا وسعيدٌ أخي - نقف في مدخل زريبة مواشيه التي هِيَ بقيَّةُ مملكةُ كرمٍ وجودٍ أروشٍ عُرف به في سائر الضَّهَرة .. ما بين التُرعتين وفيما وراء الهوج وشرق العاديك أيضاً ؛ بقيِّة مملكةٍ غدَّت وعشَّت ضيوف الهجعة والقائلة من سابلة الجنقوجورا وسُكَّاب الكَتَكْو وعُمَّال اللقيط حتى أقفرت وما بقيَ فيها إلا شاياتٌ منتصباتٌ بلا بقرٍ سوى معزةٌ أسخلتْ لشهرين تدُر اللبن وحمارةٌ واحدةٌ بِكرةٌ هي الآن في كرب المخاض .
قلتُ لجدي بعد أنْ صبَّحته بالخير: هل نزل السِّلَىَ ودُفاق الماء أم أنه طلق مسافر ؟ بإقتضابٍ أكَّد لي أنَّه مخاض الولادة وسكتْ ثمَّ ردّ ، بعد فترة ،على تحية سعيدٍ أخي بـ : صبّحك الله بالخير ثمَّ دار حول الرايقة يتفحَّصها بهمةٍ وحدبٍ وحنو ، يدني منها سطل الماء ، يدسُّ في فمها العلوق ، يمسحُ على ظهرها . عكف على ذلك زماناً حتى خلناهُ نسينا ، فجأةً إلتفت إلينا وسأل : الاجتماع قائم ؟ ثمَّ قبل ان نجيب نادى على الرِّيلة ، بنته التي ظلَّت تلازمه منذ انفض سامرُ مملكته، نادها : الرِّيلة ! فوجدناها، فجأةً ، ماثلةً أمامنا كملكة سبأ التي جاء بها ذاك الذي عنده علمٌ من الكتاب . جاءت وما ارتد إلينا طرف ، سلَّمت علينا بكف تحارُ في نسبته للأنوثة ثمَّ شمختْ بمحيَّاها الصارم : مُحيَّا إمرأةٍ تعدَّتْ الأربعين ؛ كرَّست حياتها لأُمٍ نصف مشلولةٍ تقبعُ بين غوغايةٍ مُطرقةٍ بلا ضجيج ، وكِيْفةِ غزْلٍ خاوية، ومِترارٍ مكسورٍ؛ وبين أبٍ ذُلَّ من بعد عِزٍ فما بقيَ من مملكته إلا قيمٌ تُقصِّر عنها ذات اليد، وحمارةٌ ظل ينتظر موعد ولادتها في إطراقٍ محتشد. قالت الريلة : نعم يابا . شرع جدي دفع الله في إعطائها تعليماتٍ مقتضباتٍ وهي شامخةٌ لا تقاطعه إلأ أن تقول : سَمِح يابا . سَمِح يابا .
- أول ما تجي الموية نازلة من الفرج رقِّدي الحُمارة على صفحتا
- سمح يابا
- بعد يطلعن الكُرعين القدّاميات جرِّيهن شوية..
- سَمِح يابا
- أول ما يجي الرأس طالع .شُقِّي السِّلَىَ خلِّي الجنا يتنفَّس
- سمِح يابا
- خلِّي الراس يطلع كلو وبعد داك جُرِّي الكرعين شديد لمن يطلع الجنا
- سمح يابا
- بسراع تختيهو قداما خليها تلحسو
- سمح يابا
 
التعديل الأخير:
(2/2)
الرِّيلة؛ تكبرنا بخمسة عشر عاماً على الأرجح ، من أجمل بنات الضَّهرة طُراً وأهيبهنُّ بالإجمال؛ أجملُ ما فيها عيناها وقامتها الطويلة المعتدلة كبانةٍ مأهولةٍ بالنحل لا يقربها أحدٌ إلا وأطلقته يلسع . قالوا أنَّ صفقة تِيْوتَها ، أوانَ صباها ، ترمح الخيلُ فلا تصل مرماها ؛ وفي الأثناء تصلُ ، هي ، مرمىَ الخصمِ تتثنىَّ . ثم أضحت في مراهقتها ذات حذقٍ وبأسٍ شديدٍ حتىَ أنَّها لتقدر، و براحة يدها المُجرَّدة ، أنْ تُنضِّدَ السفروقَ و تُبربحَهُ - كأنها النحَّات - تُخلِّصه من أجَمَةِ أحرشها لعوتةً وأغزرها طُنضُبة وهي ، بعد ذلك ، أفضلُ رامٍ صائدٍ به . تعلَّمتْ ، حين الضَّحوَةُ أو الضُّهريةُ تبدأ ، أن تقف عند البُرقال ؛أول بيِّتٍ في النمرة وقُرب التقنت ؛ ترمي عنها ، بضجرٍ، طرحتها ثمَّ تردِّدُ ما تعلَّمته من جدِّي دفع الله : (العين خوَّافة والضُّراع أعمىَ ) عندها تصيرُ ضرباتُ السلُّوكة إيقاعُ دلُّوكة ودليب وجرَّاري ، وقفزات الملود المتقنات ، بين السرابات ، زغاريدُ وأغاريدُ قماري ، قالوا أنَّها - والحالة ُ هكذا - يمكنُ أنْ تفلحَ نمرةً كاملةً : من البرقال إلي البرقال ، وحتى ظَهر التقنت كانت تذرعه باللوبيا الحنيطير حيناً وبالعدسي حيناً أخر وتنتجُ ، من الكواجريب ، حُلوَ وطاعمَ العُنكوليب . كانت كأنَّ جيشاً من السُخرة غيرُ مرئيٍّ يرافقها . وكان جدَّي دفع الله - أوان اللقيط وجوَّالات الكِبس يضيقُ عنها المكان- يباهي بها كل تفاتيش أقسام المشروع حتى أنَّه أنشأ أرجوزةً سرت فحفظها حتى مفتشو الغيط : (قطن الريلة تيلة طويلة . حلاة الريلة مافي متيلا. تلبس بُكرة الشَّف والتيلة ) وكما أمها الرسالة التي تقعدُ مفلوجةً لا تنطق ولا تتحرَّك كأنها دولابُ سحَّارةٍ أو غوغاية أو بعضٌ من أثاث البيب الشحيح ؛ كانت الريلة منذورة منذ صغرها لتوطيد قيم الجود والكرم في مملكة أبيها حتى أنَّ ملوة العجين من طحين القصَّابي ما كانت لتحتاج منها ، في حركة قرقريبتها الرشيقة ، لأكثر من خمس دقائق وما كانت لتذهبُ صباحاً إلي المدرسة - على قصر الفترة التي قضتها بها - إلا بعد أن تعوس جردلاً من عجين القصَّابي وآخراً من عجين الفيتريتة وثالثاً من كسرة القمح الرهيفة ، وما تكادُ الحصة الأولى تبتدئ حتى يعلو غطيطها يتبعه شخيرها المسبب بتضخُّم لوزةٍ ثالثةٍ خلقيةٍ ، فتنامُ من رهق سهر الليالي وجهد العواسة ومشقة المشي للمدرسة تقطعُ ، في الطريق إليها ، فيافٍ ؛ يرفعها مصرفٌ وتخفضها وهادُ المَيَع السبخة التي تمرحُ فيها طيور الجِروِل شتاءً ثمَّ تهيجُ بالتَّبِش والعجور خريفاً ، يضيقُ تنفُّسها وهي تصعدُ حافة ترعة الميجر الكبير ثمَّ عبر القنطرة حتى تصل المدرسة وقد تفصَّد جسدُها بالعرق ، هنالك يستحيلُ كنب السنط الخشن إلى طنافسَ وثيرةٍ من ريش النعام فوقها تُسلمُ الريلة نفسها ، جسداً وروح ، لسلطان النوم وتدخلُ في ردهات الأحلام وقد راجَ في الفصل عبيقُ رائحتها المميَّز : رائحة الطايوق وزيت مسحة الصاج ودخان الحطب المحروق ، وما كان أحدٌ قادراً على إيقاظها؛ إذ لا بُد أنَّ ضيوف الهجعة قد جاءوا خِماصاً أثلاث الليل ولا بد ، أيضاً ، أنَّ النيران قد أوقدت وأنَّ الصينيتين والثلاث قد أُعدَّت ومُدَّت ، هذا غير وجبات أول الليل وأطراف النهار التي تخرجُ يومياً لبيت المدرسَّات على طبقٍ ولبيت المدرِّسين على طبق ولمفتشي الغيط متى جاءوا في مرورٍ، أيضاً ، على طبق. عند اكتمال أنوثتها - يقول سعيدٌ أخي - غنَّى لها الأولادُ في الحلِّة ،على سبيل المعاكسة والغزل ، أغنيةً كانت رائجة :( ريلة يا ريلة .. الله لي من ديل سكنوا الجزيرة . الله لي من ديل )، غنُّوا وحمحموا في المرة الأولى ؛ فتهادتْ ثمَّ غنوا وصفَّقوا في الثانية ؛ فتغاضت ولنحلها دَويْ، وفي الثالثة - قال سعيدٌ أخي - فكَّت جيوش نحلها ففتكتْ بسليمان صاحب الدكان ولاذ الباقون بالفرارِ فما همَّ أحدٌ ، بعدها ، بهزِّ شجرتها إلا وتذكَّر نحلَها اللسَّاع.
في لحظةٍ خاطفةٍ كانت الرِّيلة قد تهيأتْ في هيئة القابلة . تذكرتُ حينها لحظة عُشار الرَّايقة من حمار عبد الفضيل ؛ الحمار الكورتاوي الأصيل الذي ما انعقد مجلسٌ إلا وتباهى ، فيه ، به صاحبه ( تبارك الله آ ناس .الحُمار التقول تيتل ! عليك أمان الله مشيهو تِقرِّب . يومداك بعد ما السوق فرَّق شدَّيتو ؤ قلتَ :عرت ؛ حرَّم كان لقيت نفسي في مكتب القسم . تبارك الله آ ناس ؛ الشي بُراق جبرين ! ) في ذلك الأصيل وعند حافة الترعة كانت الرَّيلة هي المرأة الوحيدة التي تقف بين الرجال تشهدُ العُشار دون وجلْ .جاءت تركبُ حمارتها - الرَّايقة - متفشِّقة لا كما تركب النساءُ ، في الضَّهرة ، الدَّواب . كان ذلك منذ عام مضى وها هي الرَّايقة ، الآن ، في كرب المخاض . غاب جدي دفع الله برهةً ثمَّ عاد وقد تزيأ بجلبابٍ ناصعٍ وعُمامةٍ أنصع مضى زمنٌ لم نرهُ يلبسها .بيمينه عصا الكريز التى كانت تميِّزه في ذلك الزمان . تذكَّرتُ كلام جدي سعد الله ، وفي سرَّي ترحَّمتُ عليه : ( هلَّا هلَّا آ عيال الحِلَّة الما حضرتو زمن دفع الله وكتين يلف عمَّتو ويلبس الفرجية والقفطان ! ولَّا وكتين يتلفَّح توب الساكوبيس الأبيض و يشيل بركات . قادر الله آ عيال. قادر الله! طلاق بالتلاتة؛ جيتسكل ولّا مكي عباس ذات نفسه يتلقَّاهو برَّة يترجف. هلَّا هلّا آ عيال إنْ كان سمعتوهو يقالبُن الحديس لامن يغلبُن: يس . نو . يس . نو .هلَّا هلَّا آ دفع الله ) رحل جدي سعد الله ، حافظُ مجدَ رفيقه الذي ما عاد يحادثنا ، أو يحادث أحداً ، إلا إقتضاباً . قلتُ لجدي دفع الله (الإجتماع في مكتب القسم وقالوا ناس الشركة وصلوا من أمبارح ، ناس كُتار مضوا عقود البيع . ناس الوفِد القاعدين في الجامع مسكوا التواكيل ؤ شجعَّوا الناس على البيع . الاجتماع قالوا عشان الما مضى يمضى وبعد داك يعملوا عقود تانية مع المزارعين يأجِّروا ليهم الحواشات .) لم يعلِّق جدي دفع الله . سعيدٌ أخي قال له ( ناس الوفِد أدُّونا عقد المبايعة حقَّك بالنيابة عن الشركة ؤقالوا نجيك تمضى ؤهم مقدِّرين ظروفك . وأهو لقيناك كمان مشغول بولادة الرايقة ،الله يحلها بالسلامة. دحين يا هو دا العقد ) نحَّىَ ، جدى دفع الله ، يدَ سعيدٍ أخي الممدودة نحوه ، نحَّاها بعدم إكتراثٍ،وقف قرب الرَّايقة وحدَّق في فرجها المنبثق، ذهب إلي ناحية الرِّيلة المنهمكة في وضع الصَّريمة حول فم السخلة ، وقف قربها وهمس :
- الولادة بعد ساعتين ولَّا تلاتة .
- سمِح يابا .
- أنا ماشي مكتب القسم ...خلِّي بالك من أمك .
- سَمِح يابا .
 
(3/3)
ما جرُؤنا - سعدٌ أنا ولا سعيدٌ أخي - على إثناء جدي دفع الله حين خطا وتقدَّمنا خارجاً وهو يقول : (هيا ..توكَّلنا على الله ) كان بنظراته من التصميم ما لا يقدر أحدٌ ، معه ، على إثناءه فالمسافة حتى مكتب القسم صعبٌ قطعها بالأرجل على فتىً في ريعان الشباب دعك على من يحملُ فوق أكتافه ما يقارب قرناً من الزمان . ثمَّ إنَّ الشمسَ قد رمحت ، الآن ، في صدر السماء فصارت ضُحىً أعلىَ ينقطعُ عنده مرور السيَّارات إلا من عربات الطوب والتراب التى لا تأتي إلا لِمَاماً . ولمَّا كانت حمارة جدي دفع الله في كرب المخاض فلا مناص من أن يمشي أحدُنا - سعدٌ أنا أو سعيدٌ أخي - راجلاً فيركب جدي دفع الله حماره غير أنَّه رفض رفضاً باتاً إلا أن يكون الركوب تناوباً بيننا وكان علينا أن نرضخ فكان حين يترجَّل؛يمشي أمامنا بخطوات فتىً في العشرين . مشينا صامتين إلا من خواطرنا المشتتة التي ظلَّت تتلاقى وتفترقُ كطيورٍ مذعورة . فكرنا – ثلاثتنا - كثيراً بالرسالة المفلوجة ؛ بالرِّيلة ومصير الرِّايقة وهل ستتنجب جحشاً أم جحشة .فكِّرنا بالشركة وبعقود البيع والإيجار . فكَّر سعيدٌ أخي بأعضاء الوفد وما جرَّه علينا وجودهم بيننا . فكِّرتُ أنا في جدي دفع الله وفي صمته الذي طال .فكَّر جدي دفع الله في كل تفاتيش القسم ؛ تفتيش تفتيش .ثمُّ فكّر ، بلا حسرةٍ ، بأولاده : عبد الرحمن وعثمان وعبد الله والطيّب . فكِّر بالرِّيلة وخطيبها حسن ، إبن أخيه ، الذي لا يُدرىَ أين هو . فكِّرنا وفكِّر ثمَّ حين وصلنا مكاتب القسم كانت الشمسُ تزحفُ نحو منتصف السماء ؛ بكاسي ولواري وحمرٌ بلا عددٍ تتكدَّسُ حول المكان . الكثير من الناس من كل قرى التفاتيش يجلسون تحت ضحضاح أشجار النيم والتمر هندي المنتشرة في الساحة ؛ تطلَّعوا ناحيتنا بدهشةٍ فتجاوزناهم ، دخلنا إلى حيث ينعقد المجلس . إنتبهنا- سعدٌ أنا وسعيدٌ أخي - إلى الدهشة والإثارة التي أحدثها وجود جدي دفع الله غير المتوقَّع فكان الجميع يتطلَّعون ناحيتنا . سكت المتحدثَّ الذي يعتلي المنصَّة وجدي دفع الله يشقُّ طريقه نحوه والجميع قد سكت ، تذكّرتُ جدي سعد الله وأيضاً ترحّمتُ عليه ؛قلتُ في سرَّي :(الله يوسِّدك الباردة يا جدي سعد الله ،ما يعرف أقدار الرِّجال إلا الرجال ) أخذ جدي دفع الله عقد مبايعته من يد سعيدٍ أخي وواصل سيره نحو المنصَّة حيث ممثلي الشركة يجلسون . أنتبهنا إلى أنَّ الجالسين على المنصة هم أنفسهم أعضاء الوفد : الضخمُ ذو الأوداج النافرة ، القصيرُ الأجردُ ذو السمت الأنثوي والأبيضُ النحيف ذو اللكنة الغريبة . أثار ذلك دهشتي التي ما وجدتُ لها صدىً في وجوه الآخرين . الأبيضُ ذو اللكنة الغريبة رحّب بجدي دفع الله قائلاً : (هلا بشيخ دفع الله ! ليش تتعب نفسك يا رجل ؟ بعثنالك بالعقد في بيتك. ليش تتعب نفسك يا رجل ؛ الواجب إحِنَّا نجيلك ) لم ينثني جدي دفع الله ولم يكترث . واصل سيره حتى وقف أمامهم وفي يده عقد المبايعة . حدَّجهم واحداً واحداً واحد ؛ بذات النظرة القاسية التي حكىَ لي عنها سعيدٌ أخي يوم فراش مأتم جدي سعد الله . حدَّجهم ثمَّ إلتفت لجموع الجالسين وتفرَّسهم دون أن يقول شيئاً . كانت لحظةً استثنائية وخارج التأريخ عمَّ فيها صمتٌ كأنَّ الأرض تهوي في قرارٍ سحيق . فجأةً ، ووسط دهشة وترقُّب الجميع ، رفع جدي دفع الله عقد المبايعة وقطَّعه مِزقاً ثمَّ إلتفت ناحية المنصَّة وألقىَ به عليهم ثمِّ نزل يمشي بثبات ، كان كأنّ عمره ينقص بكل خطوةٍ ، يخطوها ،عاماً كاملاً. شقَّ الجمع المبهور وكلما خطا خطوةً سرت همهمةٌ من حوله وتصاعدتْ . في الخارج لحق بنا بعضُ الناس يسلِّمون على جدي دفع الله بإمتنان وعرفان . ميِّزتُ من بينهم عمر اللخيدر وعبد الوهاب ود سالم ، وكلاهما كانا عضوين سابقين بالإتحاد . شققنا طريقنا بصعوبةٍ كي نصل للبوكس الهايلكوس الذي أصرَّ صاحبه أن يُركِب جدي دفع الله معه فيوصله لبيته عرفاناً فكان علىَّ انْ أرافقه وكان على سعيدٍ أخي أن يتدبِّر أمر حماري ، خرج الناسُ في هرجٍ ومرجٍ وضجيج وتشتتوا ، عبر اللواري والبكاسي والحمير ،في كل الأتجاهات ، قرِّر ود اللخيدر أن يطوَّف بجدي دفع الله على قُرى تفاتيش القسم كلها عرفاناً واحتفاءاً بعودته للناسِ يخالطهم. ذُبحت الذبائح ومُدَّت الموائد في كل قريةٍ نزورها . حين عدنا كان الليل قد أنتصفَ وزاد؛ فأصرَّ جدي دفع الله أن أنام بديوانه فلا أزعج ناس بيتنا . استيقظتْ الرِّيلة وجاءتني بماءٍ في إناءٍ للشرب ثمَّ ماءٍ في إبريق وبالغطاء وانصرفتْ . إنتبهتُ ، فجأةً ، إلى أننا ، من فرط احتشاد اليوم ، لم نتذكَّر الرَّايقة التي تركناها في كرب المخاض . قلتُ لنفسي : في الصبح سنعرف أجحشاً أنجبت أم جحشة. حين كنتُ أتقلِّبُ في الفراش كنتُ أفكِّرُ ، سعيداً ، في حال جدي دفع الله التي رأيته عليها اليوم ، قلتُ في نفسي : هذا يومٌ طويلُ التِّيلة ، وطربتُ للخاطرة أردِّدها : يومٌ طويلة التِّيلة ؛ مثل هذا اليوم ما أحدٌ رأهُ قريباً ،ثمَّ أيضاً ترحمتُ على جدي سعد الله فقد كان بودي أن أسرَّ له بأنّ قد صدقتْ فالذي رايناهُ اليوم يجوب قرى التفاتيش يحدَّث الناس هو نفسه الذي كان ( يخلف كراعاً بكراع في حضرة مستر جيتسكل ومكي عباس ) تقلِّبتُ مع تلك المسرِّات والخواطر النادرات وما لبثتُ إلا قليلاً فدخلتُ ، من الإرهاق ،في نومٍ عميق صحوتُ منه مفزوعاً على أصواتٍ حولي . قدَّرتُ ،حين استيقظتُ تماماً ، أنَّ الوقتَ هزيعٌ أخيرٌ وأنَّ الفجرَ وشيك .كان من حولي عددٌ كبيرٌ من الناس يفوق العشرة أشخاص ما عرفتُ منهم أحد . في الداخل سمعتُ صوت الرِّيلة ( .. يابا.يابا. في ضيوف في الديوان ) سمعتُ أيضاً جدي دفع الله يقول بحماس : (ضيوف ! هلَّا هلَّا ..حباب الضيوف .هلَّا هلَّا حباب الضيوف ) فتذكرتُ أوانَ كانت ناره لا تنطفى وزريبته تنقص كلما جاءهُ ضيوف الهجعة؛ يدخلها هائجاً؛يفقدُ صوابه إذا ما حاول أحدٌ إثنائه؛فيذبح ما يصادفه : كبشاً ، نعجةً عبور ، شايل ، مرضع ، المهم أن يكرم ضيوفه. جاء جدي في ظلمة الغلس وقد دبَّت فيه حيويةً فارقها زماناً . قلتُ في نفسي : يا لهذا اليوم العجيب يعود بجدي لأيام مجده . يا لهذا اليوم العجيب . هذا حقاً يومٌ طويلُ التِّيلة !! هشَّ جدي وبشَّ وهو يردد كدرويشٍ مجذوب : حباب الضيوف . هلَّا هلَّا .حباب الضيوف .جيئَ بماء الشرب .ثمُّ هشَّ ، ثانيةً ، وبشَّ ؛ لكأنَّ مذراةً بيده تنفضُ ، عنه ، سنوات العمر نفضَها البُتَّاب ؛ نفض عن كاهله غبار السنوات وعاد : دفع الله الفنجري ؛ أخو الأخوان ،غوث اللهفان وملاذ الضيفان ،كما كان يقول جدي سعد الله .تذكِّر ألا شئ في البيت يؤكل . ثمَّ ، بلا مشقة ، تذكِّرالمعزة . سلَّ ، فجأةً ، سكَّينه البالدُقل ثمَّ مشىَ،فتياً مستقيماً ،نحو الزريبة . حاول أحد الضيوف أن يمسكه فزاد ذلك في أوار إندفاعه ، نفض يد الضيفِ كأنَّ مارداً تلبَّسه ثمَّ دخل الزريبة هائجاً . إثنان حاولا أن يمسكا به فزاد ذلك في هياجه؛ كأنه فتىً في العشرين . كانت الرِّيلة تقف وسط الحوش . الرِّسالة كانت تغمغم وتدفع بجسدها خارج الفراش . هياجٌ بالزريبة وعثارٌ وغبارٌ بائنٌ يخالط خيوط الليل المتشابكة .بعض الضيوف بالزريبة يمسكون بجدي دفع الله . الرِّيلة لا تستطيع أن تتقدَّم إلى أمامٍ نحو أبيها أو تتقهرُ إلى وراءٍ نحو أمها . كنتُ أنا أجري هاهنا وها هناك أُردِّد : يا لطيف .اللهُمَّ أجعله خير... سمعتُ الرِّسالة تغمغم بصريرٍ كصوت الغوغاية : غوغ غوغ غوغ ؛ جريتُ نحوها : على فمها زبدٌ فوَّار وفوق وجهها طيوفٌ وأضواءٌ تشيل وتحط كما البروق. كأنَّ أصواتاً تطرقُ مسامعها من أزمنةٍ أخرى فيهتزُّ لها نصف الجسد غير المشلول:
يُمَّة كيف حالك ؟ يرتجف باقي القلب .هذا صوت عبد الرحمن .
يُمّة البرد .يُمَّة أنا جوعان . يُمَّة العفو . تتداخل أصواتُ عبد الرحمن وعبد الله وعثمان والطيِّب فيرتفعُ الحجاب الحاجزُ يضغطُ على القلب ، وشديداً جداً يضغط ؛ يضغط ثمَّ يهوي سريعاً تاركاً فراغاً حاداً دون الرئتين فيسقطُ الجسدُ صريعاً وسريعاً سريعاً يسكنُ ما تبقَّىَ فيه من حراك . تشهق الريلة حين ترى. تشهق ثمَّ تصرخ : يابا ألحقني . تحاول أن تجري نحو أمها فلا تقدر . ثمَّ ترى الضيوف يضعون قيوداً في يدي أبيها ويأخذونه خارجاً . تحاول أن تلحق به فلا تقدر ؛ كأنها في كابوسٍ يأخذ بأنفاسها . تصرخ : يُمَّة لااا. حُشِرَ، جدي دفع الله ، حشراً في سيِّارةٍ تقف ،تماماً ،أمام الباب ، بداخلها رايتُ ، أيضاً، عمر اللخيدر وعبد الوهاب ود سالم مخفورين . حين استدارت السيَّارة راجعة كشف ضوءها سيارةً ثانيةً تقف غير بعيدٍ ترقب : ميِّزتُ ، بدهشةٍ ، فيها ثلاثة أشخاص أعرفهم : الضخم ذي الأوداج النافرة ، والأجرد ذي السمت الأنثوي والأبيض ذي اللكنة الغريبة . هرولتُ داخل البيت . جسد الرِّسالة على الأرض مُلقىً ، بين الغوغاية والسَّحارة ، وعيناها مستقرِّتان تنظران إلى السقف . أسبلتُهما ومسحتُ عن فمها الزَّبد. وضعتها على السرير وغطِّيتها . في المنتصف كانت الرِّيلة واقفةً كبانةٍ تعصفُ بها الريحُ ونحلها يُدوِّيِّ : دووو دووو . لم يكن في عينيها دمعٌ ولا حزن ، بل بريقُ غُبنٍ مبينٍ ميزِّته والصبحُ يتنفَّس . قلتُ أردُ إليها صوابها من هول ما حدث فهززتها ،هززتها ،هززتها وهي شامخةً ونحلها يدوِّي: دووو . عيناها مثبتتان ، أيضاً ، تنظرُان إلى خيوط الليل والفجر المتشابكة واصواتٌ تتداخل على حواف دويُّ النحل وعزيف الرِّيح :(ريلة يا ريلة .. الله لي من ديل سكنوا الجزيرة ) أهذا صوتُ حسن الغائب زماناً أم صوت سليمان سيِّد الدكان ! وذا؛ أصوتُ جدي دفع الله أم صوتُ الثاكلات يأتي من بعيد : (قطن الرِّيلة تيلة طويلة . حلاة الرِّيلة مافي مثيلا . تلبس بُكرة الشَّف والتيلة )!
كان بيت جدي دفع الله ، حين أصبح الصبحُ ، ممتلئاً بالناس ؛بعضهم يبكون ، بعضهم يجهِّزون الجثمان وبعضهم مذهولون، بعضهم يتساءلون عما حدث . كنتُ وحدي من يجيب ويشرح. إمتلأ حوش البيت بالثاكلات الرادحات : (حي الليلة حي . ووب الليلة ووب) حاولت الرِّيلة أن تدخل حيث ترقد أمها فهجمت عليها النسوة يباكينها فابتعدتْ عنهن ولم تستطع أية إمرأةٍ إليها عناقاً . إبتعدت ودخلتْ الزريبة ووقفت حيث أقتيد أبوها :السخلة ترضعُ المعزةَ-أمها- بنهمٍ وذيلُها لأعلى مرفوع . الحمارة - الرَّايقة - تقف كليمةً ، أيضاً ، وعليها حُزنُ وحُرقةُ حشىَ أم ٍ فقدتْ وليدها، وقفت الرِّيلة بينها وبين جحشها المُلقىَ على الأرض، نظرتْ إلي الجحش ثمَّ إليها؛ كانت أُذناها الطويلتان مسبلتان، كانت تفتحُ فمها وتغلقه كأنها تحاول أن تنهق فلا تقدر ،أخذتْ- الرِّيلة - رأسها ووضعته في حضنها ثمَّ ضغطتْه شديداً على صدرها كأنَّها تعانق عزيزاً في فقدٍ عزيز. كان للريح ، من حولهما ،عزيفٌ عنيف وكان دوِّيُّ النَّحل مُخيفٌ مخيفْ .
 
رد: يومٌ طويلُ التِّيلة

المحترم العزيز محمد عبد الملك
سلامات وتحايا وود وشوق،،،
"يوم طويل التيلة" حكاية، وحكايات، تحاكي واقعنا المرير، ها هم "تجار الدين" يتسللون عبر ذلك المنفذ العاطفي، الديني، ذلك الوتر الحساس عند أهلنا ومجتمعاتنا.
أنظر إلى: "اقتباس": "محمود" عندما خاطب ضوء البيت قائلا له:
(( يا عبد الله. نحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمن الديان. حياتنا كد وشظف لكن قلوبنا عامرة بالرضي قابلين بقسمتنا ال قسمها الله لنا. نصلي فروضنا ونحفظ عروضنا متحزمين ومتلزمين على نوايب الزمان وصروف القدر. الكثير لا يبطرنا والقليل لا يقلقنا، حياتنا طريقها مرسوم ومعلوم من المهد إلى اللحد. القليل ال عندنا عملنا بسواعدنا ما تعدينا على حقوق إنسان ولا أكلنا ربا ولا سحت. ناس سلام وقت السلام وناس غضب وقت الغضب. ال ما يعرفنا يظن إننا ضعاف إذا نفخنا الهواء يرمينا، لكننا في الحقيقة مثل شجر الحراز النابت في الحقول...)) ...
لم يقلها لهم جدك دفع الله مباشرة (ويا ليته قالها لهم، ويا ليته لم يصمت كل تلك الفترة، ويا ليته قاوم منذ البداية ضد تجار الدين والأرزقية، يا ليته بنى أسس لنظام دفاعي ضد أولئك السارقين، ويا ليته مزق العقد منذ اليوم الأول وأسس للمقاومة وكشف عوراتهم، ويا ليته ويا ليته...) المشاهد كلها حية وحقيقية ومتحركة، كأنك تحس وتشعر بالشخوص أمامك يتكلمون ويتحركون ويفكرون...
يا محمد عبد الملك نهاية النص دراماتيكية ومؤثرة جداً، النهاية حزينة شديد ومبكية... القفلة للنص "حارة ومتقدة".
جعلتني ما بين المحاولات للقراءة النقدية أو المشاهدات والملاحظات للنص، وما بين الإحساس بالنص وبابطاله والوقوف معهم في محنتهم العميقة المبكية.
جعلتنا يا محمد عبد الملك في الوسط مشدوهين "بين.. بين" مرة نبكي ومرة نكتب.
بصراحة يا محمد عبد الملك النهاية حزينة ومحزنة شديد...
يا الله جدك كان مفتكر الجماعة ضيوف الهجعة... طيبة وشجاعة وكرم...
شكراً محمد عبد الملك
 
رد: يومٌ طويلُ التِّيلة

صديقي الكاتب علي حاج علي
سلام وأشواق
شكراً على القراءة النافذة والشوف الحديد .
أعتذرُ جداً عن التأخَّر في العودة إلي هنا .
عوَّدتنا على القراءة الكاشفة ؛ وقراءاتك ، كما خبرتُ ، نافذاتٍ ناقداتٍ متأدباتٍ ما زال ، هذا النَّصُ ، يطمحُ ، منها ، في مقاربةٍ تقوَّم أعوجاجه . فهلْ ؟
سأعودُ متى ما انطلق اليمين
لك مودتي وعميق أمتناني على القراءة والتعليق
 
رد: يومٌ طويلُ التِّيلة

سلام ياحبيب
اجمل مافي النص انه نقلني نقله نوعيه من الاراضي المنخفضة الي ارض الخير والشموخ متعايشا مع الاشخاص في خطوة ارجعتني الي حقبة الطفولة وترجمت معاني كثيرة كانت غائبة عني وقد قام دماغي برصها كتاريخ محبب فعدت اشم رائحة الدعاش المشبع بالخضرة والوجوه التي تتمسك بالعفة رغم انبعاج الزمن الاغبر الذي غير الكثير من المفاهيم بفعل الجشع
You make my day او كما يقولون لانك نفضت الغبار عن زاكرتي وجعلتي اتزكر اشخاص غابوا عن مخيلتي وقمت بالباسهم ثوب الشخصيات في هذا النص حتي فرت مني دمعه كنت لا اعرف كيف اخرجها
التحايا والود ياحبيب
 
رد: يومٌ طويلُ التِّيلة

نبيل ، يا مرتفعاً بالأراضي المنخفضة ، سلام
شكراً لصبرك على القراءة
وشكراً لما تفضَّلت به من تعليق
ثمَّ شكراً لتلك الدمعة الحرَّى التى ما انفكَّت تنبجسُ فتلطِّف ، قليلاً ، حرَّ ما نعانيه ؛ لكأني بها وقد أصبحتْ معادلاً موضوعياً لجمرٍ متَّقدٍ تهبَّه رياحٌ صفراء تجئ من عصورٍ مظلمةٍ تأبىَ إلا أن تشدَّنا فلا نلحقُ بالضياءِ أبداً .
أسعدني ، حقاً ، أنْ تلبَّسَ النَّصُ بذكرياتك حتى أصبحَ ملكك وبعضاً من تأريخك الشخصي وهذا ، يا صديقي ، أقصى ما يطمح إليه النَّصُ ، أي نص ، فيا مرحىَ !
لك مودتي
 
أعلى أسفل