ولنا عودة

Yahia Elbhary

:: كاتب نشط::
وميض من الحزن طاف بوجهها كسحابة صيف أمطرت شتاءً ، شحوب في وجنتيها وأنفها الدقيق بدأ شموخه يتضاءل مع غروب الشمس في الأفق البعيد وانزوائها ، أدارت ظهرها نحو الشمس ، ومشت بخطوات ثقيلة ، بطيئة ، الى أين هي ذاهبة ؟ لاتدري والغروب أسدل ستاره الخمري ، في انتظار طلائه باللون الأسود الحالك السواد .. كبقية أيامها المقبلة ، كدنياها قبل أن تقابله ، وتودعه في صمت كسر كبريائها وعنفوانها ، بدت لها الحياة كصورة الغروب ، عند رسام غلب عليه الحزن فأودعه في إطار إحدى لوحاته القاتمة ، وعلقها على ركن بعيد داخل معرضه ، خوفاً من أن يراها فتصهر أمامه دواخله ، ويرى من خلالها يأسه وخوفه من الحزن ..هواجس خوف غمّت عليها .. ضمت يديها الى صدرها وأسرعت في خطواتها ، كأنها تهرب من مكانها من اللحظات التي تعيشها ولكن الى أين ؟ لوحدتها ، لصمتها ، لحيرتها .. داخل غرفة نومها وحيدة بين جدرانها ، وخوائها الصامت ، لاترهف سمعها لشيء غير صوت موسيقى حزينة داخلها .. و صور مبعثرة ، مجموعة صور هي كل سلواها .. وذكريات مضت عليها سنوات تسلب قوى عقلها .. أعادت تلك الخواطر أمام عينيها ولعنت السفر والترحال بصوتها المبحوح المتحشرج .. لكنه قال لها حتماً سيعود من مدن النفط والضجيج الى مدن عينيها .
- مازالت بيننا دقائق ونفترق وخوفي عليك يزيد أكثر ، كلما أقتربت لحظات مغادرة القطار .. كم هي عصيبة هذه اللحظات
- لاتبكي يا حبيبتي
على باب مكتب قريب وقف ناظر المحطة مرتدياً بزّته الرمادية ، ونظارته السوداء ،نظرت اليه بفزع تام وحدقت بوجه عصام كأنها تقول له:
- هاهو سوف يعلن القيام
سحب يده من يديها ودلف داخل عربة القطار وهو يتحاشى دموعها
رحل عصام عن دنياها وتركها وحيدة مع شجونها .. لم تكن سلوى من البنات اللائي يتلذذن بقصص الحب وحكايات العشاق ، ولم تكن تفرد شعرها وتجعله مسدلاً بدلال على كتفيها مثل زميلاتها في المرحلة الثانوية ، تلك الفترة الماضية من حياتها وشقاوة السادسة عشر من العمر .. كانت عكسهن تماماً هادئة ، صامتة أغلب أوقاتها ، لا تميل كثيراً لأحاديث البنات .. كانت لها طباعها وأفكارها الخاصة لكنها تدرك حقيقة أن ليس بمقدورها أن تغير العالم وتجعله كما تود .. ومن يراها لأول مرة يعتقد أنها لاتكلم أي إنسان ولا يوجد من يحادثها ! كلماتها بسيطة ، رزينة ، هادئة ، تنمّ عن شخصية لبقة ، عاقلة ، متزنة .. جمالها طبيعي من ذاك النوع الذي تبحث عنه وتجده بعد إمعان في حيائها .. كانت كثيرة الاهتمام بدراستها والاطلاع على الكتب الثقافية المختلفة الأدب والفنون والتراث الإسلامي والفلكلور الشعبي .. كانت رغم صغر سنها تحب المحافظة على كتبها كي تجعل منها مكتبة ضخمة .
خواطر وأفكار كثيرة زاحمتها في هذه اللحظات.. كم من المرّات أرتمت بين أحضانه ومسحت لوعة أساها بكفيه .. تذكرت عصام حبها الذي اختارته من بين جميع رجال العالم ، واختارها هي دون غيرها لتكون شريكة حياته .. مرّت على ذاكرتها أفكاره وتصوراته عن علاقة الإنسان بالبيئة والإنسان بمجتمعه وكيف على الفرد أن يتأقلم مع الظروف المحيطة به .. قبل عدة سنوات مضت جاءت سلوى من بلدتها الريفية المنزوية خلف أشجار النخيل وظلال الليمون وأريجه الذي مازال يسري في أنفاسها شوقاً وحنيناً الى تلك البيوت الصغيرة .. هنا عالم مختلف عما هو عليه . هناك تحسّه طبيعياً يملك عبيره أنفاسها وهنا في المدينة يحيطونه بإبتهالات من الزهريات والمقتنيات الثمينة ليحفظوا جماله .. شعور ما وفكر يجتاحها بين لحظة وأخرى يؤكد لها أن مصير الناس ومجتمعاتهم لها متغيرات نتيجة الظروف الحياتية .. دفعها طموحها أن تأتي لهذه المدينة لاكمال تعليمها .. ماذا لو كان في بلدتها مرحلة جامعية ؟ حتماً لم تكن لتقابل عصام حبها الوحيد ، ليكابد مشقة الطريق للوصول الى بلدتها ويطلب يدها ، ويجعلها ترحل معه الى ضجيج المدينة وضوضائها .. يوماً قال لها :
اتركي نظرة التشاؤم والخوف هناك في بيتنا سوف يكون لك عالمك الخاص وسوف نجعله جنة فيها نعيش وبها نحيا أنا وأنتِ
هاهو اليوم يودعها مهاجراً ويتركها وحيدة في بيئة جاءت لها من أجله .. ليرحل هو عنها الى عالم آخر ومجتمع غير مجتمعه .. ولم تصدق ماقاله لها :
- منحة من الحكومة لأسافر خارج البلاد
قاسٍ هو ذاك اليوم الذي سمعت فيه هذا الخبر . فظلت تردد :
- حتماً لنا عودة
ربما تكون هذه الكلمة عزاؤها وأملها .. لأنها عرفته صادقاً في وعده وهمسه :
- الحب يربط أرواحنا
وكم كانت فرحتها عندما وصلتها رسالة على هاتفها الخاص ، فتحتها بشغف بثها أشواقه وأمنياته وختم لها بقوله :
- حبيبتي لنا عودة
وعاشت على أمل رسائله وآمال عودته تحدوها بين الفيّنة والأخرى .


2011/ 10/ /14
يحيى البحاري
 
التعديل الأخير:
أعلى أسفل