نعود من جديد.. (قراءات نقدية واراء حول معاوية نور - الجديد - القديم )

علي حاج علي

:: كاتب نشـط::
[align=justify]المكان (قصة تحليلية كتبها الاديب معاوية محمد نور)
قصة تحليلية
مقدمة
(حينما فرغت من كتابة هذه القصة رأيت واجبا علي أن أعين القاري العربي علي فهمها، لان هذا الضرب من التأليف القصصي حديث العهد حتى في أوربا نفسها، وهو آخر طور من تطورات القصة التحليلية، وفيه ولا شك صعوبة للقارئ، خاصة إذا لم يكن ذلك القاري واقفا على هذا اللون القصصي في الآداب الحديثة فأقول:
هذا النوع من الفن القصصي ليس من مهمته تصوير المجتمع ولا النقد الاجتماعي، ولا استجاشة الإحساس والعطف القوي على الخلائق، وليس من مهمته أن يحكي حكاية، وإنما هو يتناول التفاعلات الداخلية في عملية الإحساس والتفكير عند شخص من الأشخاص ويربط كل ذلك بموسيقى الروح واتجاه الوعي. كما يعرض لمسائل الحياة العادية المبتذلة، ويشير عن طريق الإيحاء إلى علاقتها بشعر الحياة ومسائلها الكبرى. وهو يعرض لذلك الجانب الغامض في تسلسل الإحساسات واضطراب الميول والأفكار وتضادها في لحظة واحدة من الزمان عند شخص واحد من الأشخاص. كما انه يصور ما يثيره شي تافه من ملابسات الحياة في عملية الوعي وتداعي الخواطر، وقفز الخيال، وتموجات الصور الفكرية. هذا اللون القصصي – والحالة كما وصفنا- يعرض لأدق المسائل العلمية السيكولوجية المظلمة حتى للعلماء أنفسهم، ويمزج ذلك بنوع من الشاعرية والغموض العاطفي، ويخرج من كل ذلك تحفة فنية حقا. ويغلب في كتاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم، فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان وتغيير الأمكنة والأزمان والأسماء. هذا النوع انتشر في أوربا وعرف منذ عشر سنوات تقريبا حينما اخرج ( مارسيل بروست ) الفرنسي روائعه القصصية كما انه عرف في أتمه وأحسنه عند ( كاترين مانسفيلد ) و ( فرجينيا ولف ) من كتاب الانجليز ونود ولا شك أن يكتب وان يعرف في وادي النيل )
قصة قصيرة (المكان) للاديب معاوية محمد نور
(نشرت في جريدة مصر – العدد10324 – 11نوفمبر سنة 1931)
والقصة منشورة في (الاعمال الكاملة لمعاوية محمد نور – الطبعة الاولى 1994- دار الخرطوم للنشر)
المكان (قصة تحليلية)
النص:
فتح مذكرته التي يدون فيها خواطره وأسماء الموضوعات التي يود الكتابة عنها فقراء فيها أسماء هذه الموضوعات:
1. حماسة شاعر عصري
2. هكذا نحن!
3. حرفة الكتابة
4. الأولاد الأشقياء في الليل
5. إحساس بالمكان.
ووقف عند هذا الموضوع الأخير يديم فيه ويفكر متى كتبه؟ استجاش إحساسه بالمكان، فذكر إن للمكان من كل ظاهرات الوجود النصيب الأوفر من خياله وإحساسه، واستولى عليه شعور قوي يدفع به لتدوين ما يحسه تجاه المكان. لكنه شعر إن الموضوع مترامي الأطراف متشعب النواحي لا يستطيع صهره وتركيزه وتبويبه على الوجه الذي يرضيه! وكيف يستطيع ذلك والموضوع شائع في كيانه شيوع النور في الفضاء كله. وعلى كل حال ابتدأ بالطريقة الزمنية في توضيح الموضوع ولم أطرافه واستعرض صفحة حياته من طفولته إلى عهده الحاضر.
فذكر انه وهو طفل لم يتجاوز الرابعة من العمر، كان قد أخذه والده إلى بيت زوجته الثانية لكي يلتحق ((بالخلوة)) هناك. وبقي زمنا في ذلك المكان، كانت أعجب الظواهر العقلية عنده انه حالما يستيقظ من النوم مبكرا على صياح الديك يذكر أهله وبيته. لكن شيئا واحدا أعجب له وظل يعجب له طيلة إقامته هناك، وهو انه خيل إليه أن عنده مفتاحا سحريا يعرض أمامه السوق التي كانت تقع بالقرب من بيتهم في كل حركتها وصخبها وحيويتها ولم يبق له لكي يصدق خياله إلا أن يشترى من ذلك البائع أو يضرب ذلك الرجل! فلما كبر قليلا ظن في نفسه إن هذه الظاهرة غريبة فيه وانه يجدر به أن يسال الناس إذا كانوا يحسون ويتخيلون مثلما يحس ويتخيل. لكنه لم يفعل ولعل شيئا من الإشفاق على نفسه والخوف من الضحك عليه منعه من ذلك السؤال.
وكبر ((مجدي)) فادخله والده المدرسة الابتدائية فكان يري حوائط المدرسة حينما تقرب العطلة الكبرى باهته شائخة ويعاوده شيء من الإشفاق عليها، فلا يترك المدرسة يوم العطلة إلا بعد أن ينظر إلى كل حائط وكل شق ويذرع ((الحوش)) ثم يودعها ويلبث ينظر إليها وهو في الطريق إلى أن تغيب عن نظره...!
ثم راح ((مجدي)) إلى المدرسة الثانوية في الخرطوم، فكان وهو في حجرة الدرس يكتب أو يستمع إلى المدرس تقفز به ذاكرته من غير أن يشعر إلى خرائب رآها قبل عشر سنوات في ام درمان! ولا يعرف ما علاقة تلك الخرائب والأطلال التي لم يقف عندها في يوم من الأيام باللحظة الحاضرة، ومالها تلح على خياله وتصوره وتحتلهما من غير أن يناديها أو يفكر فيها حتى في ام درمان كلها – وبعد جهد ليس بالقليل يستطيع صرفهما والانتباه إلى حاضره...!
فإذا ذهب لينام في الليل وسمع صوت البوري الذي يضرب عادة لعشاء الضباط الانجليز ذهب خياله توا إلى من فقد من أهله وقرابته.
واغرب من ذلك كله انه كان لا يسمع صوتا إلا ويعطيه لونا خاصا. فصوت البوري اصفر باهت، وصوت الاتومبيل اسود عامر السواد، كما انه كان ينظر إلى الأرقام المكتوبة كلها بخط واحد، فيتفاءل بالبعض ويتشاءم من البعض الأخر، ويعطي تلك الأرقام ألوانا فالثمانية والأربعة أرقام عامرة طيبة، والخمسة والتسعة أرقام باهته صفراء لا يرتاح إلى رؤيتها أو التيمن بطلعتها!!
وكان صوت ذلك البوري دائم الاقتران بصورة خاله الذي مات. وهو لا يذكر ذلك الخال حينما يذكره إلا على صورة واحدة ولو انه رآه في مختلف الصور والإشكال. يذكره حينما كان معه في المولد النبوي في ليلة مقمرة في حركة واتجاه واحد بعينه دائما!
وهذه الظاهرة هي الأخرى لا يستطيع لها تفسيرا، فانه قل أن يذكر الناس الذين عرفهم من من ماتوا من أهله أو من هم بعيدون عنه إلا في هيئة الحركة. وفي اغلب الأحيان في حركة بعينها وفي مكان بعينه ويوم وساعة بعينهما – فلا يذكر خادمتهم التي ماتت، في البيت مثلا أو في المطبخ أو ما إليه من الأماكن التي طالما رآها فيها، ولكنه يذكرها في مكان بعيد كان برفقتها فيه. في مكان قفر بالقرب من النيل بعيدا عن المدينة وفي خطوة وإيماءة واحدة، حالما يذكر تلك الخادم يذكر ذلك المكان الغريب وتلك الإيماءة من غير قصد ولا تعمل ولا استحضار!!
وهكذا فالصور التي رأي فيها والده كثيرة، ولكنه قل أن يذكره في غير صورة واحدة وحركة واحدة ومكان بعينه!
وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، فإذا ساعدته الظروف وذهب إلى ذلك المكان رآه مثل ما تخيله حتى الوضع وأشياء دقيقة لا تلوح في خاطر إنسان، وقد يدهش أحيانا حينما يزور مكانا لأول مرة فيخيل إليه انه قد عرف هذا المكان قبل ألان في حياة أخرى، والكل يظهر أمامه كحلم غريب!.. لكن الالفة أو الإيناس الذي يشعر به نحو الأمكنة ومنعرجاتها يخيل إليه انه قد عرف ذلك وصحبه ردحا من الزمن لا شك في ذلك ولا ريب فيه..
فإذا أمعن في التفكير والتعليل ظن إن هذا الذي نسميه زمنا وهم لا أصل له (Illusion ) أو خرافة تخلقها عقولنا (Fiction ) وان الحقيقة الواحدة الباقية هي المكان وإننا أحياء من أوائل الأزمان إلى أواخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة كلها لها حظ من الوعي يختلف قوة وضعفا باختلاف الأفراد والأشياء. وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة الصماء والأشجار وعي وإحساس من نوع وعينا وإحساسنا، إلا انه قليل في الكم بنسبة حظ تلك الأشياء من الحياة والحرية والحركة! وان مهمتنا نحن أن ننتقل من شكل من أشكال الحياة ونمر على تلك الأدوار في تلك الأثناء التي نسميها الزمن، وهو مصدر ذلك الإحساس، وسبب ذلك العطف الذي نحسه نحو أشكال الحياة المختلفة من غير أن نعرف سببه!
ويرى ((مجدي)) إن بعض أحلامه تتكرر فيرى أمكنة غريبة في بلاد لم يعرفها، فلا يمر عام أو عامان حتى يسافر إلى بلد من البلدان يرى فيه نفس المكان الذي رآه في حلمه من قبل أعوام!..
ولمجدي عادة تقلقه ولا تريحه، لكنه يحس في ممارستها والشوق إليها راحة وطمأنينة. فهو إذا لم يضع ملابسه وكتبه وسريره في أمكنة بعينها وفي أوضاع خاصة لا يرتاح باله قط. فإذا وجد اقل تغيير في وضع كتبه وملابسه غيرها إلى نفس الوضع والمكان لأنه يتفاءل بأمكنة بعينها ويتشاءم من أخرى.
وقد يلج به هذا الإحساس المكاني في ساعات تيقظه إلى ما هو اغرب من ذلك. فإذا مر بالسوق لج به الخاطر أن حياته لا تكمل إذا لم ير كل الدكاكين والشوارع. فإذا فرغ من هذه العملية ود لو أن في مكنته أن يدخل إلى كل حوانيت البقالة ويرى من قرب حوائطها الداخلية وزواياها وترابها، كأنما لكل تلك الأشياء قصة معه، وهو لا يعلم من أمر تلك القصة سوى هذا الإحساس العارض الذي يقلقه في بعض الأحيان ولا يرتاح ضميره إلا حين ينفذه!.
استعرض مجدي كل تلك الذكريات والصور والأسباب في خياله في لحظة واحدة من الزمان وظل يفكر .... يفكر.!
(( ما معنى كل ذلك ! ............ معناه .......... معناه.... نعم معناه إن الإنسان لا يموت أبدا. وان ما يسميه موتا هو في واقع الأمر تغيير لشكل الحياة، وإننا نحن والسماء والأرض والأمكنة كلها أخوان وأولاد أعمام وهذا هو سبب العطف والكلف بالمكان!))
فقالت له نفسه الثانية (( لا هذا غير صحيح. وإلا فلماذا يمتاز بعض الناس بهذه الخصلة والبعض الأخر لا يعرفها. ألا تذكر ما قرأت في كتب السيكولوجي إن بعض الناس بتركيبهم اقدر على تخيل المرئيات، وآخرين على المسموعات، والبعض الأخر على المشمومات، وبعض الطلبة يفهمون أكثر إذا قرؤوا الكلام مكتوبا والبعض الأخر إذا سمعه منطوقا)).
(( نعم هذا صحيح، ولكن ما معنى كل ذلك أيضا؟!))
[/align]
 
[align=justify]مرة أخري وهو في وادي التفكير العميق ! (( معناه .... معناه.... ماذا يهمني معناه. هذه هي الحياة وكفى .... وليس من معنى لان نعتقد إن وراءها معنى.........! معناها إنها الحياة ويكفيني أن أصور الحياة كما أراها، وليس من مهمتي أن أفسر كل ظواهرها، فلعل هذا الاضطراب وعدم مقدرتنا على ردها إلى سبب واحد هو من خواصها الأساسية. وليس من ذنبي ولا ذنب الحياة إن الناس ينظرون إلى أشياء وراء الحياة.. لعل هذه هي لعبتها الكبرى علينا، وضحكتها المكبوحة التي لا يفتر ثغرها عنها. ويكفيني أن احكي الحياة بالعرض دون التفسير. فلعل العرض نفسه هو التفسير، ولعل الاعتقاد إن وراء كل ظاهرة ظاهرة أخرى خدعة من خدع المنطق. فلنحك الحياة في تقييد خواطرها وولائدها ولا نكن حمقى فنطلب التفسير والتعليل، إذ الحياة تعرف الخلق الذكي ولا تعرف التفكير والتعليل فلأعرض تجاريب إحساسي بالمكان كما أحسست به ورايته، وليعلل ذلك كل وفق مزاجه وتفكيره إذا كان لا بد له من التعليل والتفكير ... !
هذا هو منطق الحياة الصميم. وهكذا يجب أن يكون منطق الفنان الذي يحكيها ........... وارتاح إلى هذا التفكير كثيرا. وابتدأ يلم أطراف موضوعه تهيؤا للكتابة النهائية. فخط في وسط السطر (( إحساسي بالمكان )) وكتب:
1. كيف إنني اذكر الأشخاص الذين عرفتهم دائما في مكان بعينه ويتكرر ذلك المكان كلما ذكرتهم!
2. كيف إنني في ساعات الدرس والتحصيل تلح في ذاكرتي صور وخرائب وأمكنة رايتها منذ عشرات الأعوام فتزورني من غير أن أناديها. وقد يقفز بي مكان في بلد إلى مكان في بلد أخر لا اعرف ما العلاقة بينهما قط ولا استطيع أن اعرف.
3. كيف أتخيل بعض الأمكنة ومواقعها قبل أن أراها، فلما تسعدني الظروف برؤيتها تكون وفق ما تخيلت في اغلب الأحيان!
4. كيف أحس إن المكان الذي رايته لأول مرة في حياتي قد رايته من قبل في حياة سابقة أخرى!
5. كيف إن خاطري في بعض الأحيان يلح بي لكي اذرع حوائط الدكاكين الداخلية – التي لا اعرفها – وأتمعن في ترابها وزواياها كأني قد تركت روحا هناك!
وبعد أن كتب هذه الأشياء شعر بأنه قد تعب وفتح مذكرته التي يدون فيها خواطره وأسماء الموضوعات التي يود الكتابة عنها فقرأ فيها أسماء هذه الموضوعات:
1. حماسة شاعر عصري
2. هكذا نحن!
3. حرفة الكتابة
4. الأولاد الأشقياء بالليل
5. إحساسي بالمكان.!
فقام فجأة من الكرسي ثم رأي وجهه في المرآة ثم ابتدأ ينظر إلى الأفق من شباك غرفته وأراد أن يفكر غير انه أحس إن رأسه أصبح فراغا مطلقا............ !!!
((انتهت))
*. الخلوة: كانت في فترة من الفترات نظام التعليم الأساسي في السودان حيث يحفظ فيها الطالب القران الكريم كله أو أجزاء منه... ثم تطورت وأدخلت فيها علوم أخرى. وهي مستمرة إلى ألان ولكن بصورة اقل...
*. الحوش: هو الفناء الذي يكون أمام البناء الداخلي للمدرسة أو المنزل واشتهرت منازل السودان بوجود الحوش... ألان بدأت في الانحسار
((هذا الهامش لا يوجد ضمن النسخة الاصلية في الكتاب،، قمت باضافته لشرح المعاني لغير السودانيين)[/align]
 
[align=justify]قراءات نقدية لنص (المكان) للأديب معاوية محمد نور:
مدخل للنص:
عندما تقرا نص (المكان) للأديب معاوية محمد نور تجد نفسك في تلك الأمكنة التي ذكرها الكاتب، وفي تلك الأمكنة المتشابكة تتخيل أخرى عايشتها (أنت) منذ أزمنة سحيقة وهاهي تقفز أمامك فجاءة وكأنما نص (المكان) كان بمثابة المنشط لذاكرتك بان تعيد قراءة تلك الأمكنة. والمكان لا ينفصل عن الزمان والأشخاص والحركة والصوت في لحظة معينة. وكل تلك العناصر تظهر عبقرية المكان الذي يبقى ملتصقا بالذاكرة، وما أن تنشط الذاكرة حتى تشعر بذلك الإحساس الذي يجعلك تسعى لعناق الأمكنة والحوائط والشقوق والخرائب، ويعزف معها سموفينية البقاء الأبدي.
قبل أن يبدأ الكاتب قصته عن المكان، قام بتعريفها لنا في مقدمة اعتبرها (هو) ضرورية وهامة لتعريف القراء بذلك النوع الجديد من الفن القصصي، وفي تلك المقدمة أدركنا أن هذا النوع الجديد من القصص لا يعني بتفاصيل العلاقات الاجتماعية ونوعها ولا حتى بوصف المكان ولا بالعواطف، هو يعني قبل كل شيء بالأحاسيس البشرية الخاصة تجاه الحياة ومسائلها الكبرى، وتجاه تضاد الأفكار في لحظة واحدة عند شخص من الأشخاص.
هذا النوع من الفن القصصي يعبر لنا عن كاتبه بصراحة.
يقول:
((ويغلب في كتاب هذا اللون القصصي أن يستثيروا نفوسهم ويكتبوا من معين حياتهم، فكأنهم يترجمون لأنفسهم مع بعض الزيادة والنقصان وتغيير الأمكنة والأزمان والأسماء))
بهذه المقدمة بدأت القصة التحليلية للمكان ومباشرة وضعنا الكاتب أمام (مجدي) بطل القصة ذلك الشخص الذي سوف نغوص في داخله عندما يحكي لنا عن علاقته بالمكان أو عن علاقة المكان به وتأثيره عليه، وكان الكاتب يريد أن يعلمنا إن هذه القصة تتحدث عن شخص حقيقي انطلاقا من تلك البداية وكما كانت البداية تشعرك بالبطل واقف أو جالس أمامك، كانت النهاية تحمل نفس الإحساس، وهنا تظهر براعة الكاتب في انه وضع فكرته بين حركتين للبطل، وما بين الحركة الأولى والحركة الثانية كان الإحساس بالمكان مسيطرا على كل المساحات السردية للقصة.
الحركة الأولى في بداية القصة يقول:
((فتح مذكرته التي يدون فيها خواطره.... ))
الحركة الثانية في نهاية القصة يقول:
((وبعد أن كتب هذه الأشياء شعر بأنه قد تعب وفتح مذكرته التي يدون فيها خواطره....))
قبل أن نبدأ قراءاتنا لنص المكان، لا بد أن نقول إن الكاتب تحدث عن أحاسيسه صراحة في النص بلسان (مجدي) وعن علاقته بالأشياء والأصوات والحركة، وأخيرا بالمكان.
وذلك الإحساس بالمكان كان يخامر خيال وعقل الكاتب منذ فترة طويلة وتحديدا منذ أن كتب القصتين اللتان وصف فيهما تلك الأمكنة في مدينتين مختلفتين كان لهما الأثر الكبير في حياته.
القصة الأولى:
في الخرطوم ((خواطر وذكريات محزونة))
القصة الثانية:
امدرمان ((مدينة السراب والحنين))
في هاتين القصتين وصف لنا الكاتب المكان في كل من المدينتين وصفا شاعريا فيه شحنة من الحنين الدفاق إلى وطنه والى تلك الأمكنة التي عاش فيها أو زارها أو مر بها مرورا عابرا، فهو يصف النيل بفروعه ويتحدث عن مصبه، وذكر جزيرة توتي وذلك الشارع على النيل الأزرق وتحدث عن الترام والاتومبيل ووصف حي وشارع الموردة بأسواقها وصخبها وحكى لنا عن قبة المهدي. وغيرها من الأمكنة التي علقت بذاكرته وعندما شعر بان الوصف لا يكفيه ليعبر عن علاقته بالمكان، قام بكتابة هذه القصة التحليلية ليتحدث مع المكان ويبثه شجونه وآلامه ويتبادل معه الإحساس بالإحساس.
انظر:
((وقد يلج به هذا الإحساس المكاني في ساعات تيقظه إلى ما هو اغرب من ذلك. فإذا مر بالسوق لج به الخاطر إن حياته لا تكمل إذا لم ير كل الدكاكين والشوارع فإذا فرغ من هذه العملية ود لو إن في مكنته أن يدخل كل حوانيت البقالة ويرى من قرب حوائطها الداخلية وزواياها وترابها))
اهتمام الكاتب بالتفاصيل والحركة والأصوات وربطها بالمكان خاصية انفرد بها منذ فترة مبكرة من حياته، ربما كان ذلك لكثرة سفره وتجواله وابتعاده عن أسرته وأهله لفترة أو فترات طويلة وهذا الاغتراب نما فيه الإحساس بالمكان.
إن ما يميز النص (المكان) هو مخاطبة الكاتب لإحساسه تجاه المكان، وعبر هذا الخطاب بينه وبين المكان، كان يصور لنا بصدق كل أحاسيسه نحو مكان بعينه بعد أن يربط ذلك المكان بحركة أو صوت أو لون أو حادثة.
فالعلاقة بينه وبين حوائط المدرسة الابتدائية تصل إلى قمتها في يوم العطلة الكبرى، فهو يشفق على الحوائط عندما يتركها لوحدها بدون التلاميذ والمدرسين وصوت الجرس لطابور الصباح لذلك يقوم بوداع الحوائط والشقوق في مدرسته واحدة بعد الأخرى.
يقول:
((فلا يترك المدرسة يوم العطلة إلا بعد أن ينظر إلى كل حائط وكل شق ويذرع الحوش ثم يودعها ويلبث ينظر إليها وهو في الطريق إلى إن تغيب عن نظره))[/align]
 
[align=justify]هو لم يتعامل مع حوائط المدرسة باعتبارها (جماد) لا يحس بل تعامل معها باعتبارها تمتلك إحساس وتبادله هذا الإحساس وتعيشه معه لحظة بلحظة، ولنا الحق أن نتخيله، فهو كما يودع حوائط المدرسة يوم العطلة، بلا شك هو سوف يلاقيها بفرح غامر عندما تفتح المدرسة أبوابها.
إن الإحساس المتبادل بين (مجدي) وما حوله في مكان ما، أو إحساسه هو بالمكان يوضحه لنا في المقطع التالي من القصة.
انظر:
((وإننا أحياء من أوائل ألازمان إلى أخر الآباد في صور وأشكال ومواد مختلفة كلها لها حظ من الوعي يختلف قوة وضعفا باختلاف الأفراد والأشياء. وعلى هذا الزعم فللحوائط والمادة الصماء والأشجار وعي وإحساس من نوع وعينا وإحساسنا..))
إن الكاتب في هذا النص جعل (مجدي) يتواصل مع الحوائط والمادة الصماء ومع الأشجار، ويتحاور معها ويحس بها، وهي بالتالي بادلته ذلك الإحساس فكأنما الحوائط والمادة الصماء والخرائب تخبر بعضها البعض بان هناك شخص اسمه (مجدي) يملك المقدرة على التواصل معها، لذلك كانت خرائب امدرمان تناديه وكانوا عندما يذكرون له مكان ما لم يسبق له أن زاره كان يتخيله بأدق تفاصيله وعندما تتاح له الفرصة بزيارته يراه كما تخيله تماما. بفضل إحساسه بالمكان وامتلاكه تلك الخاصية في التواصل مع المكان والإحساس به.
انظر:
((وكان إذا قرأ عن مكان أو سمع به تخيله ورسمه في مخيلته، فإذا ساعدته الظروف وذهب إلى ذلك المكان رآه مثل ما تخيله حتى الوضع وأشياء دقيقة لا تلوح في خاطر إنسان))
كان (مجدي) بتواصله مع المكان والإحساس به يعرف الأمكنة من خلال حركة أو صوت يرتبط بشكل ما مع المكان أو بحادثة معينة أثرت في حياته، وحالما يسمع ذلك الصوت أو يتخيل تلك الحركة يذكر المكان بكل تفاصيله.
إن صوت (البوري) كان يذكره بأحزانه وبخاله الذي مات وكان يذكره أيضا بالمستعمر الذي جثم على صدر بلاده وعلى صدره هو شخصيا، لان الكاتب كان ملاحق من قبل المستعمر الإنجليزي بسبب سفره إلى مصر وبسبب قلمه الحر النزيه. لذلك كان كلما يسمع صوت (البوري) يتذكر خاله والأحزان ويتذكر وطنه والأشواق، وكل الأمكنة فيه التي أحس بها وبادلته الإحساس.
ومن شدة تأثير صوت (البوري) عليه نجده يكرره في ثلاثة من القصص التي كتبها.
في قصته الخرطوم (خواطر وذكريات محزونة) يذكر صوت (البوري).
انظر:
((وسماعي لذلك البوري الذي يهز كياني هزا، ويلعج نفسي ويذكرها بمن مات من أهلي وأحبابي! ولا ادري أي علاقة لذلك الصوت وتلك الذكريات المحزونة، فلربما لان خالي كان ضابطا وان ذلك البوري كان يضرب لعشاء الضباط، وخالي قد مات))
وفي قصة امدرمان (مدينة السراب والحنين)
يقول:
((ثم سمع صوت البوري يرن حزينا شجيا وسط ذلك السكون الصامت وفي أجواز ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشي من الحنين البعيد والحزن الفاتر المنبسط))
وفي القصة التي نحن بصددها الآن يذكر صوت (البوري) في إشارة إلى تأثره بذلك الصوت وعلاقته بحادثة هامة في حياته ألا وهي موت خاله.
انظر:
((فإذا ذهب لينام في الليل وسمع صوت البوري الذي يضرب عادة لعشاء الضباط الإنجليز ذهب خياله توا إلى من فقد من أهله وقرابته))
ويقول أيضا:
((وكان صوت ذلك البوري دائم الاقتران بصورة خاله الذي مات))
هذا ما كان من أمر الإحساس بالمكان وعلاقته بالصوت، أما الإحساس بالمكان واتصاله بالحركة يقول الكاتب.
انظر:
((وهذه الظاهرة هي الأخرى لا يستطيع لها تفسيرا فانه قل أن يذكر الناس الذين عرفهم من ماتوا من أهله أو من هم بعيدون عنه الا في هيئة الحركة. وفي اغلب الأحيان في حركة بعينها وفي مكان بعينه ويوم وساعة بعينهما))
لذلك يتجسد صوت (البوري) والحركة عند الكاتب بشكل قاطع (تمام) في المكان ويذكره بالحزن على من فقد من أهله وبالتالي بالأمكنة التي تواجدوا وعاشوا فيها وماتوا ودفنوا فيها، وصوت (البوري) يذكره بوطنه والحنين إليه ولأهله.
الكاتب ببراعة الأديب تحدث عن نفسه وأحاسيسه وشعوره بدون تستر ولا (تكلف) فهو ترك الحرية لخياله في التذكر واسترجاع الماضي، وكتب بصدق عن شعوره وإحساسه بالمكان وذلك الرابط (المتين) الذي يجمعه بكل من حوله. أو كما قال ((بشعر الحياة ومسائلها الكبرى))
وأخيرا يقول بلسان (مجدي) متحدثا عن نفسه، معبرا عن الكثير من البشر.
يقول:
((ولمجدي عادة تقلقه ولا تريحه، لكنه يحس في ممارستها والشوق إليها راحة وطمأنينة. فهو إذا لم يضع ملابسه وكتبه وسريره في أمكنة بعينها وفي أوضاع خاصة لا يرتاح باله قط. فإذا وجد اقل تغيير في وضع كتبه وملابسه غيرها إلى نفس الوضع والمكان لأنه يتفاءل بأمكنة بعينها ويتشاءم من أخرى))
وأخيرا لابد أن الكثير منا أو كلنا يحس نفسه في المقطع السابق......
اتبرا
06/07/2008[/align]
 
لك التحية يا استاذ على

التهكير ندري انه لن يمنع امثالكم ولن يحجمها من ايصال ابداعها الى الجميع ليكون في متناول كل الناس
لذا لا تحتاج لتذكيرك بإنزال كل ما فقد هنا

لك التقدير

ونتمنى من كل ادبائنا السير في هذا النهج
حتى نكيد الاعداء​
 
[align=justify]في كتابه (بنية الخطاب السردي في القصة القصيرة - ص 233و234- 437و438) يكتب دكتور هاشم ميرغني عن معاوية نور ما يلي:

((.. وقد اخذ الناقد النابه معاوية محمد نور على قصاصي جيله افتقار اسلوبهم الى الاتزان والاحكام والاختصار"" فهم يذهبون مع قلمهم حيث ذهب، ويدونون كل ما يخطر في بالهم، ولا يعرفون قيمة حضر النفس، وكبح جماح القلم"" وقد تحدث معاوية عن تشيخوف الذي يقول مثلا "" كان الجو حارا، وفي السماء سحابة واحدة، واما نوفا في دارها تفكر"" ويبلغ في مثل هذه الجمل القصيرة ما لا يبلغه الكاتب الجاهل في الاف الصفحات، كما تحدث عن فلوبير الذي كان يعتقد ان هناك كلمة واحدة في كل اللغة تعبر عن المعنى الذي يريده القاص، وكان لا يرتاح له بال اذا لم يجد الكلمة المشتهاة...
واشار معاوية نور النابهة الى الاقتصاد اللغوي في السرد وهي ما تم تاسيسها بعد ذلك بسنوات طويلة في مفهوم اقتصاد السرد narrative economy الذي ينتمي الى قانون الاقتصاد العام القائل بتحقي الغاية باقل نفقة ممكنة، او بافضل نتيجة ممكنة..
ويخضع مبدا الاقتصاد في الفن لضرورتين متعارضتين:
* حاجة القاري الى التصور (الاطناب)
* حاجة النص الى الجمال (الايجاز)
ولذا يبني الكاتب اقتصاد السرد على ثلاثة معطيات:
* استغلال الوقائع المشتركة بينه وبين القاري فلا يحتاج الى وصفها.
* استغلال طاقة القاري في التخيل، فيكتفي برسم الخطوط العامة.
* استغلال قدرة اللغة على التصوير والاشارة والايجاز.
.... .... ........
((.. وربما كان من اوائل النقاد العرب الذين انتبهوا لتيار الوعي واشاعوه في كتاباتهم النقدية الناقد السوداني معاوية محمد نور، ففي مقال مبكر له نشر في اوائل الثلاثينيات بعنوان "" اصدقائي الشعراء هذا لا يؤدي"" ذهب الى ان الشاعر الذي يجبر القاريء على الانصات اليه يجب ان يتحلى ولو بلمحة من تيار الوعي الذي يمكنه من رؤية التشابه في اشياء ومظاهر بادية الاختلاف، والذي يرى وراء المظاهر العادية عوالم داخلية مروعة. وفي مقدمته لقصصة التي نشرها في الفترة بين 1930-1932 في الصحف المصرية وغيرها، وكذلك في مقدمته لقصته ""المكان"" التي نشرت لاول مرة بجريدة مصر في نوفمبر 1931 راي انه من الضروري ان يعين القاري على هذا الضرب من التاليف القصصي القائم على تيار الوعي لانه كما يقول حديث العهد في اوربا نفسها وهو اخر طور من تطورات القصة التحليلية.
ويعمل تيار الوعي على اذابة الازمنة الثلاثة (الماضي والحاضر والمستقبل) اي انه يتيح للسارد الحرية في التنقل بين الازمنة الثلاثة، فهي لحظة مفتوحة على كافة الازمنة، والامكنة ايضا، فيها يتم الغاء وحدتي الزمان والمكان ليتجول الشخص طيلقا عبر ازمنة وامكنة متباينة بقدر ما يسمح به الخيال الطليق، ومن ثم يستعيض الكاتب عن الزمن الافقي بالزمن النفسي للشخصية الذي تمتزج فيه الازمنة))))[/align]
 
لك التحية يا استاذ على

التهكير ندري انه لن يمنع امثالكم ولن يحجمها من ايصال ابداعها الى الجميع ليكون في متناول كل الناس
لذا لا تحتاج لتذكيرك بإنزال كل ما فقد هنا

لك التقدير

ونتمنى من كل ادبائنا السير في هذا النهج
حتى نكيد الاعداء​

المحترم ربيع علي
امنياتي لك بالاستقرار والسعادة
تبقى الكلمة الجميلة الى الابد جميلة مهما حاول الاخرون اسكاتها او تغيير معانيها،،،
دمت بخير
 
[align=justify]القالب الفني:
الأعمال الأدبية لمعاوية محمد نور-ص186-190

القالب في الفن هو أن يختار الكاتب الشكل الذي يناسب الأثر الفني الذي يود إحداثه في أذهان قارئيه، فحركة الأسلوب مثلا يجب أن تتمشى مع حركة العاطفة أو الحادثة أو الشخصية فتجد الكاتب القصصي يستعير الموسيقى في هذا الصدد من حيث الإيقاع، والاتساق، والتدرج rhythms والموازنة حيث تكون الموازنة ابلغ بين طبيعة الجو مثلا وجو القصة، أو التباين حيث يكون التباين أجدى وأعود على الغرض الفني، وان يعمل الأصوات الداوية أو الصفير الناعم في موضعه، وان يستخدم الاوركسترا حيث تكون للاوركسترا جلالها ورهبتها وأشباه هذه الطرق الفنية وكما يستعين القصصي بالتعبير الموسيقي، فهو يستعمل أيضا أدوات التصوير وعدته على طريقته الخاصة من حيث التظليل، ورقة التفاصيل، أو قوة الوحدة الفنية مما يناسب عرضه ويتمشى مع فنه، ويلج التعبير الفني إلى غايته. فاللمسات المحكمة الدقيقة التي لا تكاد تراها العين إذا تجمعت أخرجت الأثر الفني الواحد.
فبعض قصاصينا يعتقدون أن الفن في الوصف، فيسهبون فيه ويطيلون من غير أن يكون القاري قد كون صورة معقولة لهذا الذي يصفون. لان جمال الوصف يعتمد على الإيحاء وليس على سرد ما تراه الحواس ويحسه كل إنسان.
والجمال في الفن القصصي لا يكون في عرض النماذج فحسب وإنما يكون في خلق الشخصيات الفريدة.
هنالك طريقتان لرسم الشخصية القصصية وإحيائها. أولها الطريقة المباشرة التي تحدثك عن كل ما تود معرفته عن الشخصية عن طريق الوصف المباشر. والطريقة الأخرى هي أن يعرض عليك القصصي شخوصه في تفكيرهم وأعمالهم فتعرف أنت الشخصية من طرق تفكيرها ونهج أعمالها وبداوت روحها.
والقاص مطالب أن يكون اسع الصدر واسع النظر والروح، لا يضيق صدره بخلائقه، بل يعطف على الكل، ويسبغ على قصته روح العدل، والنظرة الشاملة المتساهلة العاطفة، ذلك العطف الذي يخلق الشخوص الطيبة والفاسدة، والضاحكة والباكية، والممعنة في الصلاح، ومن ليس لها في الصلاح حظ أو نصيب، والشخصيات الآسية، والشخصيات الضاحكة مل شدقيها، ثم يمسح على رأسها كلها ويحنو عليها كما تحنو الأم على أبنائها، فيبسم لها إذا عملت خيرا من غير ثناء واضح، ويؤنبها في ضحكة شفيقة من غير أن تكون مرة، ثم يبسم لها كلها أخيرا كما يبتسم الخالق نحو خلائقه الضعفاء في فهم وروح كبير. ذلك شاو العباقرة الأمجاد.
أما ما يسمى بالحادثة plot في القصة وتمييزها عن الشخصية فلا يقره الناقد العارف، ذلك لأننا لا نستطيع خلق شخصية من غير حادثة، صغرت أو كبرت. والقاص الحديث لا يؤمن بضخامة الحادثة على حساب الشخصية. ثم بعد ذلك كله الحوادث ما أكثرها والشخوص الفذة ما اقلها. ومجمل ما يقال عن الحادثة أن لا نكثر منها ولا نغرب فيها وفي تفرعها وألا ندخل الحوادث التي لا يكون لها الأثر القوي في تصوير الشخوص وإحيائهم وان لا تخلق الحوادث الشخصيات بل لتخلق الشخصيات الحوادث.[/align]
 
[align=justify]فن أدبي ضائع
الخطاب ومكانته من الأدب العالمي
معاوية محمد نور – الإعمال الأدبية – ص 71-72

هو الفن الوحيد الذي لا يكلف الكاتب قوالب وأوضاعا معينة، أو أصولا وقواعد ثابتة، وإنما حسبه قاعدة وقانونا أن يكون وحي الضمير ونتاج الفكر. فربما جمع الخطاب فنونا من القول مختلفة، وأساليب من التعبير متباينة، كل ذلك لا يربطه شي سوى رابطة التفكير ونهج الذهن وفقرات الخاطر. وانه لمما يحزن حقا أن يعتبر هذا الفن الذي كان له مكان عال من أيام مضت، أيام كان للناس الفراغ، وأيام لم تزل عواطف الإنسانية والإخاء ومحادثات الألفة في أتم تعبيرها، أيام كانت الحياة حلوة. وكل ما فيها شعر وعاطفة، وكان كل الناس شعراء حالمين.
فالخطاب إذا، دليل الإنسانية الواسعة، والقلب الرحيم، والإخاء المكين، والإنسان يجلس ليكتب إلى من أحب، فيخاطبه ويناجيه من غير حجاب وهو على بعد منه، وينقطع عن كل من يجاوره ويتصل اتصالا فكريا بمن إليه يكتب. ويقرب من هذا الاتصال الروحي الميول المتقاربة، والعواطف المتشابهة، وأي دليل يا ترى أقوى من هذا على قوة الحياة.[/align]
 
[align=justify]في الخرطوم
خواطر وذكريات محزونة

للاديب معاوية محمد نور

الاعمال الادبية لمعاوية محمد نور (من ص363-366)

الوقت ليل . والكون ساج نائم . فما تسمع نأمة ولا ترى حركة ، ولا تحس سوى الركود والإغفاء ، والسكون الشامل ، والظلام الصافي ، والهدأة الناعسة . ولقد تحس الحين بعد الحين حركة ضئيلة أو تسمع صوتا خافتا فيزداد إحساسك بذلك الصمت ويشتد تقديرك لذلك السكون ، ويأخذك ذلك السحر ، وتستولي على نفسك تلك الهدأة ويغمرك ذلك الصفاء . فتروح في عالم الأحلام والذكريات وتدلف إلى عوالم الفكر والعواطف المشجيات . وقد خيل إلي أن الحياة قد وقفت فجأة ، وأن الوجود قد أخلد إلى نومة هادئة ، ويعديني ذلك الشجو والسهوم فلا أستطيع أنا الآخر حركة أو قياما ، أظل أتبع حركة الماء الدافق أمامي حينا ، وحركة ما يجري في خواطري وأحاسيسي حينا آخر ، وأنا جالس على أحد المقاعد على ضفاف النيل الأزرق في مدينة الخرطوم . والنيل ينساب في مشيته هادئا كأنه صفحة المرآة المجلوة وعلى يميني في النهر بضع سفن بخارية وأمامي الخرطوم بحري وجزيرة توتي وعلى شمالي مدينة أمدرمان ، يخيم عليها الصمت ويكسوها ثوبا رقيقا ، ويخيل إلي أن ذلك الشجر الحاني بعضه على بعض والذي يظلل شارع الشاطئ ، وذلك النهر الهادئ بما فيه من قنطرة وأمامه من مدينة وجزيرة وما فوقه من سماء تحسبها لشدة زرقتها وانكفائها على حدود النيل أن السماء نيل وأن النيل سماء ، وأن الكل صورة يمكن أخذها ووضعها في إطار للتأمل فيها واستلهام الوحي منها ! .. وخطرت سفينة من تلك السفن المرصوصة ، فحسبت لأول وهلة أنها لاشك طامسة أثر ذلك الجمال ، عابثة بذلك الهدوء الصامت متلفة لتلك الصورة الرائعة ، ولكنها لم تصنع شيئا من ذلك بل أعطت الصورة لونا ، وزادتها حياة وبشرا ، وما يخيل للرائي أنها سفينة تعبر نهرا ، وإنما كأنها قلم يرسم خطا على صفحة أو كأنها شهاب يشق عنان السماء في إتئاد وسرعة ! عجبا لمنظر النيل ليلا ! .. ليس بعده جمالا ولا جلال ، وما يفوقه منظر مما رأيت سحرا وروعة ، وما تستجيش الخواطر ولا يصفو الذهن ولا يتألف الفكر ولا تكثر الذكريات وتغمر النفس فيضا وحنينا مثلما تفيض النفس في حضرة النيل ، ويحن القلب ، ويحلو في كل ذلك الشجو والحنين .
ظللت الساعات وأنا مأخوذ بسحر ذلك المنظر ، في شبه صلاة روحية ، وخشوع فكري ، وجلالة تغمر النفس ، وتخلع على الحياة شعرا ، وتحيطها بالأطياف والأرواح ، وتملأها بأسرار النفوس وخفاياها ! وبالقدرة منظر كمنظر النيل على ابتعاث روافدها وزخر جميع تياراتها من حنين إلى المجهول ، وشجو إلى الماضي ، وتطلع إلى المستقبل المنظور !
لم يظهر لي النيل في تلك الليلة كالشيئ السائل المائي ، وإنما هو بالتماسك أشبه وإلى مادة كالزئبق أقرب فما تشهد شيئا من العنف أو من الإندفاق الظاهر ، وإنما تشاهد العمق البعيد متشحا بثوب الهدوء والسطحية البارزة وتشاهد العدو السريع ولا تلمح شيئا من آثاره ومظاهره ، ولقد تسمع الوسوسة من حين لآخر بين نباتات المياه كأنما أشتدت بها الوحشة ، وكثر عليها الصمت والسكون ! ولكن العالم غاف ، وللعالم حرمة عندها ، فتنطلق في صوت خافت ، وتهمس بدلا من أن تفصح ويعود الماء إلى سكونه ووحشته الجميلة والعين لا تفتأ تنظر إليه ولا تتعب من ذلك ولا تحس إعياءً ولا فتورا . ولقد يقع حجر في النهر وسط ذلك السكون فيكون للصوت الذي يحدثه موسيقية لا تعثر عليها عند أعاظم أرباب الموسيقى والفنون ! وأسأل أحيانا ، من أين يا ترى تأتي هذه المياه وإلى أين هي ذاهبة ؟ أهي لا تفتر من هذه الحركة الدائمة والدائرة التي تنتهي لتبتديء وتبتديء لتنتهي . إلى أين أيتها المياه ومن أين ؟ ألا تفترين ؟ ألا تسخطين ؟ ألا تنتابك عوامل الضجر والسأم ؟ فألمحها تسخر بي وتشفق علي ، وعلى شفتيها إبتسام ، وفي نفسها مرارة وهي تهمس خوفا من أن تسمع (( هكذا ، هكذا ، لقد نفذ القضاء ، أليس من الحماقة والضيق التأفف مما لابد منه ولا محيد عنه ، ونحن أبناء الحياة ولا شيء هنالك غيرها ، أليس من الخير أن نتحملها ونكون عند ظنها ولا نفتر عنها ؟ بل نحياها في أناة ورضاء وابتسام وادع مرير ، ذلك أحجى وأحكم لو كنتم تعلمون )) . وكذلك تذهب المياه معززة حديثها بالإبتئاس والإصطخاب ، ونسيانها للشعور بالنفس ، وهزئها بشعور الملال والإعياء ! .. والماء في جريه ووسوسته الدائمة يتخطى المدن والبلدان راكضا وادعا ، يمثل فلسفة الحياة وكيف يجب أن يكون إحتمالها والتغلب على شعور الملال ودواعي الإعياء والسخط .
ويأتي النيل الأبيض من الناحية الأخرى وهو أكثر زبدا وصخبا من النيل الأزرق ، قد ترى موجه المزبد وآذيه المصطفق يتكسر في عنف وشدة على الشاطئ حتى إذا ألتقى بالنيل الأزرق عند الخرطوم شد من أزره وأخذ يساعده وتكاتف الإثنان معا في مرحلة الحياة التي ليس لها أول ولا آخر ، وهكذا يسيران وقد صارا نيلا واحدا وقلت وحشتهما وزاد أنسهما ، فتلمح نجواهما وشعورهما بالرضاء الوادع ، والحكمة الهادئة ، وهما يندلفان في سير سريع ما سار الزمن وبقيت الحياة .. !
وهذا الجمال ما شأنه ؟ هذا الجمال الساهي الوادع الذي تستمرئه النفس لأول نظرة ويفرح له اللب ، وتجزل الروح ، ماله يميل بذهني إلى خواطر محزونة ، وصور مشجية ؟
هذه السفن التي تنبسط أمامي أجلها في خوف ولعل السبب موت خال لي غريقا في سفينة بخارية في النيل الأزرق . و (( توتي)) منبسطة هي الأخرى أمامي ، مالها تثير في نفسي شجوا حزينا ، وما لشجوها الكئيب الذي لم يبق له إلا أن يدمع ، وما هذه الوحشية المخيفة ، وما لرمالها الناصعة تبعث في نفسي شعور الأسى والذكريات الأليمة ؟ وإنني لأذكر توتي وأذكر أياما لي بها ، وأذكر زرعها وأذكر مجدها ، و أذكر تلك الخضرة ملء العين والبصر نهارا ، وهي الجلال والأطياف والخوف ليلا . وأذكر - ويا لشدة ما أذكر - أذكر أبي وأذكر بيت أبي ، أذكر ذلك البيت القائم وسط الزرع وحيدا لا أخ له ، كالشارة الموسومة وسط ذلك الزرع الحافل ! . أين كل ذلك اليوم ؟ لقد مات أبي واضمحل الزرع وتهدم البيت وما بقي منه سوى الجدران والتراب ، وصار مأوى حيوانات ضارية ، تسكنه الهوام ويعمره الخراب الماثل للعيان .
وهذا الشارع الجميل المنسق على ضفاف النيل الأزرق ماذا يترك في نفسي من إحساس ؟ لا تزال صورته التي رأيتها وأنا طفل بأمدرمان مرسومة أمام ناظري وهي صورة فيها من الحنين والشوق والقدم ما لا سبيل إلى وصفه . على أن ما يعني العالم بخواطر حالم مثلي ؟ وهؤلاء بعض الناس يتحدثون في شغب وقد خرجوا من دور السينما ، وربما كانت هنالك حفلة راقصة ! وفي البحر حيتان ، وفي الشجر أطيار نائمة ، وغير هؤلاء وأولئك من أعمال متباينة ، وحالات مختلفة . ماذا يعني كل هذا التناقض سوى طريق الحياة وشمولها وعدم معرفتها للسهولة ، بل هي الشدة وهي القوة الغازية ! تلك هي أمدرمان وادعة نائمة ، ومن يدري ما بداخلها من المتناقضات ومختلف مظاهر الحركة والسكون ، وشتى مظاهر العاطفة والشجون ! وإنني لأذكر النيل الأبيض وسفرتي فيه وأنا ما زلت صبيا حدثا ، كيف نسيت نفسي في مرح وبساطة وأنا على السفين ! كلها ذكريات قوية واضحة ، تتسلل إلى ذاكرتي من حيث لا أشعر أنني في حاجة إلى (بروست) آخر ليصف كل ما يجري في وعيي المستتر في تلك اللحظة من الزمان . إنها لتملأ مجلدا ضخما ولا تفنى ! وإنني لأذكر ليالي المدرسة ، وسماعي لذلك البوري الذي يهز كياني هزا ، ويلعج نفسي ويذكرها بمن مات من أهلي وأحبابي ! ولا أدري أي علاقة لذلك الصوت وتلك الذكريات المحزونة ، فلربما لأن خالي كان ضابطا ، وأن ذلك البوري يضرب لعشاء الضابط ، وخالي قد مات ! . وأنظر إلى يميني فأذكر ضواحي الخرطوم وأذكر بري بنوع خاص ، لا أذكر بري اليوم وإنما أذكر بري التي لم أرها بل سمعت عنها ، وأصغيت إلى أناشيد الفتيات وأغانيهن في مدحها ( بري الطراوة والزول حلاوة ) إن ذكر هذه الجملة ليمثل أمامي صورا من الماضي قوية ، حية كأشد ما تكون حياة وقوة ! يا لصور الماضي ويا لشجوه وحنينه ! أذكر شوقي إلى الماضي ، وأذكر حنيني إلى المجهول ، وأذكر شعور الإغتباط والجمال الفني الذي أشرف عليه عند مشاهدتي النيل في تلك الليلة ، فأقول يا للعجب ! أتراني أود أن أعيش الماضي والحاضر والمستقبل في ساعة واحدة ! يا لنهم الحياة ، وطبع الإنسان ، وعطش العواطف !
فأنا الآن أذكر كل هذا ، أذكر الليلة القمراء بأمدرمان وأنا صبي ألعب ، وأذكر مكاني من الخرطوم وجمالها الساهي ، وصفائها الصامت ، ورونقها وأحلامها وصمتها وما يحيط بها من ضوضاء ، وما يتصل بأسمها من أسماء تاريخية ، وهالات وحروب ، وأذكر الحيتان في قعر النيل ، وأذكر الشجر في وقفته الكئيبة ، ووحشته الدامعة ، وأذكر عوالم أخرها شهدتها أو قرأت عنها .. وأذكر أبي وأذكر أختي التي فارقت هذه الحياة ، وأذكر هؤلاء الراقصين القاصفين ، وأذكر الجمال الماثل لعيني ، وأذكر غير هؤلاء أشياء كثيرة لا صلة بينها ولا قرابة عندها .. ! فأسأل نفسي ماذا تعني كل هذه الأشياء ؟ وليس من مجيب .. سوى أننا في هذه الحياة وسنظل فيها إلى أبد الآبدين ، لا نعرف عنها شيئا يرتاح إليه الضمير ، ويسكن عنده الخاطر . وإذا أنا في هذه الخواطر المسائية أشعر برعشة في جسمي ، وأحس بدمعة في عيني .. فما أدري أهذه الدمعة شعور بجذل الحياة ، أم هي بكاء عليها ؟ غير أنني أعرف أنني أذهب وأعمل بعد ذلك كما يذهب أناس كل يوم ويعملون . [/align]
 
[align=justify]امدرمان مدينة السراب والحنين - لمعاوية نور
يدخلها الإنسان عن طريق القنطرة الجديدة المقامة على النيل الأبيض بعد أن ينهب الترام سهول الخرطوم الخضراء الواسعة، فيلقي نظرة على ملتقى النيلين في شبه حلم، ويعجب لهذا الالتقاء الهادئ الطبيعي، وذلك التصافح العجيب من غير إثارة ضجة ولا صوت، فكأنما النيلان افترقا في البدء على علم منهما وهنا يتلاقيان كما يتلاقى الحبيبان ويندمجان نيلاً واحداً، فما ندري أنهما كانا نيلين من قبل ولا ترى في موضع الالتقاء ما يشير إلى شيء من المزاحمة أو عدم الاستقرار مما يلاحظ عادة في التقاء ما بين جهتين مختلفتين، وإنما هناك عناق هادئ لين، وانبساط ساكن حزين.


فإذا فرغ المشاهد من هذا المنظر الذي لابد أنه آخذ بنظرة مرغمة على التأمل، انتقل إلى الضفة الأخرى من النيل الأبيض فرأى البيوت الصغيرة مثبتة في الصحراء، ورأى السراب يلمع ويتماوج بعيداً ورأى بعض العربان وراء جمالهم المحملة حطباً تمشي في اتئاد وفتور، ومن ورائها سراب ومن أمامها سراب، فكأنما هي تخوض في ماء شفاف. ورأى إلى شماله بعض ثكنات الجنود السودانيين منبثة هي الأخرى في أماكن متقاربة، ثم سمع صوت "البوري" يرن حزيناً شجياً وسط ذلك السكون الصامت وفي أجواز ذلك الفضاء اللامع وتلك الشمس المحرقة، فيحس بشيء من الحنين والحزن الفاتر المنبسط ويعجب لذلك المكان ما شأنه وشأن الترام الكهربائي والقنطرة والأتومبيل الذي يخطف كالبرق بين كل آونة وأخرى في ذلك الفضاء السحيق.

وإذا سار به الترام قليلاً في اتجاه النيل رأى أول المدينة المعروف بـ"الموردة " ورأى السفن البخارية الآتية من أعالي النيل واقفة على الشاطئ محملة ببضائع تلك الأماكن الجنوبية, كما رأى بائعي الذرة أمام حبوبهم المرصوصة في أشكال أهرامات صغيرة, وهم يبيعون للمشترين وينطقون العدد في نغمة إيقاعية موسيقية فيها شيء من الملال والترديد الحزين، وفي مثل ذلك المكان كانت تباع الجواري ويباع العبيد في أسواق علنية مفتوحة في عهود مضت، وكان البائعون يتفننون في عرض تلك الجواري بما يلبسونهن من الحلي والزينات.

فإذا سار الترام قليلاً وجد المشاهد نفسه أمام قبة المهدي- ذلك الرجل الذي كان له الشأن الكبير في تاريخ تلك البلاد- ورأى تلك القبة مهدمة مهدودة كما رأى الجامع الواسع الكبير الذي بناه الخليفة عبد الله لكي يصلي فيه المصلون أيام الجمع والأعياد فوقف هنيهة يذكر عهداً مضى بخيره وشره وخالجه شيء من إحساس "الزمان" الذي لا يبقي على شيء إلا مسخه وتركه باهتاً شائخاً بعد أن كان كله رونق وشباب!

وهنا يذكر الإنسان قصة ويذكر تاريخاً ويذكر حروباً أقامت عهد المهدية وتخللته وقضت عليه أخيراً.

وربما يرى في الشارع القائم بين ذلك الجامع وبين طريق الترام صبياً واضعاً رجلاً على رجل في حماره القصير وهو يمشي في طريق معاكس للترام ساهم النظر مفتوح الفم، ينظر إلى بعيد من الآفاق ويغمغم بنغمة حزينة ملؤها الشجو والفتور ناسياً نفسه ناظراً إلى في ما حوله نظرة الحالم الناسي.

ذلك مشهد لن تخطئه قط في شوارع أم درمان. حركة خفيفة ساهية وغناء كئيب حزين كأنما يستعيد قصة مضت، ويحكي رواية مجد وبطولة عفا عليها الزمان ودالت عليها الحوادث كما تدول على كل عزيز على النفس حبيب إلى الفؤاد، ولم تبق على شيء سوى الغناء والسهوم الكئيب.

وفي ذلك المنظر يتجسد تاريخ أمة ونفسية شعب رمت به الطبيعة وسط ذلك الجو المحرق وتركت له صفات الصدق والبساطة في عالم لا بساطة فيه ولا صدق! هو شعب من بقية أمم مجيدة طيبة الأرومة، اضطره الكسب والمعاش أن يهاجر إلى تلك البلاد ذات السهول الواسعة والصحراء المحرقة، فكان تاريخه مأساة تتبع مأساة، وماضيه كله الجرم والإثم، وهؤلاء المهاجرون من أذاقوا السكان الأصليين الألم وساموهم الخسف والعذاب، كرت عليهم النوبة من أمم أخرى فكان نصيبهم الألم والتعب والخوف. وإذا كل السكان سواسية أمام عوامل الجو ودواعي الملال والسأم، ومغريات الشعر والذكر وويلات الفقر، وإذا بكل تلك العوامل المختلفة تترك طابعاً خاصاً على نفوسهم وسمات خلقهم وسحنات وجوههم لا يخطئها الناظر العارف، ولا تقل في الدلالة والشاعرية والحزن الكظيم عن تلك الخصائص التي يراها الإنسان على وجه الرجل الروسي الحزين.

وأبلغ ما يدل على تلك النفسية وذلك الخلق الأغاني الشعبية التي يرددها الكل، من أكبر كبير إلى الأطفال في الطرقات والشوارع، بل إنني لا أعرف شعباً فتن بأغانيه وأعجب بها فتنة السوداني وإعجابه بها. فإذا أنت تجد الموظف في مكتبه، والتاجر في حانوته، والطالب في مدرسته، والشحاذ والحمّار والعامل والمزارع والطفل الذي لم يتجاوز الثالثة ومن إليهم كلهم يغنونها ويرددونها في كل ساعة وكل مكان، ويأخذون من نغمها وإيقاعها معيناً لهم يعينهم على العمل ويلهب إحساسهم بدواعي النشاط والتيقظ الشاعر. بل بلغ افتتانهم بها أن الرجل ربما يشتري "الأسطوانة" الغنائية بعشرين قرشاً وهو لا يملك قوت يومه، وقل أن يمر الإنسان بأي شارع من شوارع أم درمان إلا ويعثر على إنسان أو جماعة تدمدم بتلك الأغاني في شبه غيبوبة حالمة وصوت باك حزين!

والأغاني لا يمكن أن تذيع في أمة مثل هذا الذيوع وتحظى بمثل هذا الانتشار إذا هي لم تعبر عن نفسية تلك الأمة أتم التعبير.

وأغرب من ذلك وأدعى إلى الدهشة أنهم يرقصون على تلك الأغاني الحزينة الكئيبة ولا يرون فيها حزناً ولا كآبة لاعتيادهم سماعها وارتباطها الوثيق بحياتهم. فإذا غنى المغني قائلاً "يا حبيبي خايف تجفاني" وكان هذا المقطع الأخير الذي يرددونه مثل "الكورس" المسرحي وغناها المغني بصوت عال وترديد شجي ناعم طرب الكل واشتد الرقص واشتعل النظارة حماساً، ونسي كل نفسه في موجة طرب راقص، فيعرف المشاهد أن هذا الشعب قد وطد نفسه على قبول الحياة كما هي في غير ما ثورة وكان له في آلامه الدفينة البعيدة القرار نعم السلوى عن الحاضر، ونعم العزاء عن الآلام والمتاعب. وتلك هي نعمة الاستسلام والحنين ومظهر الاستهتار بألم طال وتأصل فانقلب فرحاً ونعيماً!

ونفوس السودانيين واضحة واسعة وضوح الصحراء وسعتها، وخلقهم لين صاف لين ماء النيل وصفائه، وفيهم رجولة تكاد تقرب من درجة الوحشية، وهم في ساعات الذكرى والعاطفة يجيش الشعور على نبرات كلماتهم وسيماء وجوههم حتى تحسبهم النساء والأطفال؛ وتلك ميزات لا مكان لها في حساب العصر الحاضر، وإن كان لها أكبر الحساب في نفوس الأفراد الشاعرين وفي تقدير الفن والشعر والحضارة. [/align]
 
[align=justify](ايمان) لمعاوية نور + قراءات نقدية
النص:
ايمان
قصة قصيرة للاديب معاوية محمد نور
- نعم اعرفه، اليس هو ذلك الشاب الكث الشعر، النحيل الجسم، الطويل الانف، الذي يعنى بهندامه ويضع طربوشه قريبا من حاجبيه، وهو جالس دائما في تلك الزاوية، ينظر بامعان للاعبي الطاولة فاتحا فاه طيلة الوقت يلتهم حديث المتكلمين والمتحدثين التهاما من غير مضغ؟
- لقد مات يا سيدي بعد ان اعتراه مس من الجنون لم يطل امده لانه ترك الاكل الا لماما، وصار هائما على وجهه في الشوارع والطرقات العامة، لا يثنيه حر ولا برد من ذلك.
- واي سبب ادى به الى الجنون فالموت، فلقد شاهدته منذ زمن ليس بالبعيد يلعب الطاولة وبدا مبتهجا وهو على خير ما يكون انسان.
- لقد كان جلال افندي عبد الكريم ايها الاخ، شابا سمح الخلق طيب الخاطر، كله نعومة واطمئنان وطيبة قلب، يستمع بشغف لاحاديث المتكلمين حوله في المكتب والترام والمنتديات العامة، ثم ياخذ بعض هذه الاراء التي تروق عنده، وهو اكثر مايكون تاثرا اذا كان صاحب الحديث شديد العارصة قوي الحجة، قوي الشخصية يتكلم بكل حزم وتاكيد، ياخذ هذه الاراء فيعيدها على صحبه وكانما هي له والحديث من بنات افكاره لشدة ما يتعصب لها ويذود عنها. واذكر انه كان في وقت من الاوقات كثير التلفظ بهذه الجملة وقد سمعها من جلال الدين اقندي (( ان الراسماليين عندنا هم راس كل بلية في هذا الضعف الاقتصادي، وهم الدود الذي ينخر في عظام هذه الامة))!
كما انني اذكر انه قد ترك هذه الجملة في وقت من الاوقات ومسك اخرى سمعت انه سمعها من نور الدين افندي عن اغانينا القومية (( انني لا انكر على اغانينا بعض الحلاوة المخنثة والميلودية الباكية الشاكية، ولكنها طنبورة هزيلة واغان مملة لا تضرب على اوتار النفس الشاعرة، وانما وترها واحد هزيل لا يحث على الجد ولا يدعو الى النشاط والحياة الهنيئة)). وانت تراه وتسمعه يقول هذا الكلام بكل كبرياء ذهني واقتناع وعظمة!.
وجلس في يوم من الايام مع جماعة من بينهم حسين افندي حسني الذي كان يطلب العلم في القاهرة، فاراد صاحبنا ان يظهر علمه ولوذعيته، فادار الحديث لذلك الغرض خاصة حتى اذا ما جاء الحديث عن الاغاني السودانية قال قولته هذه في شي من الاقتناع والفهم المصطنع، وراح يدخن سيجارته بعد ان اتم حديثه وينظر في الفضاء بكل ادعاء في التفكير والتامل كما يفعل ((خير الله الماوردي)) بالضبط. واخيرا نطق حسين افندي حسني وقال بعد ان تكلم عن عبقرية الامم والاغاني القومية المختلفة: (( وان الذين يقلدون الافرنج في كل شي ويحاولون ان يلبسونا ثوبا لم تخط لاجسامنا ليشطون ويهرفون بما لا يعرفون، فكيف يريدوننا على ان نستبدل شعورنا الشرقي البسيط بالشعور الغربي، والاغاني شعور وهي شعورنا. زد على ذلك ان من يعلم حالة هذا الشعب وتاريخه يعرف تمام المعرفة لم كانت اغانينا على هذه الوتيرة الباكية، وان السايكولوجي الاجتماعي ليقرر صحة ما اذهب اليه. وخير لنا ان نحاول تحسين اغانينا على هذا النسق من ان ننقد روحها وعنصرها فان روحها لهو روحنا وعنصرها لهو عنصرنا، وعبث محاولة تغيير الروح والعنصر))! فاعجبت هذه الجملة صاحبنا جلال افندي وحفظها لساعتها بعد ان اقتنع بصحتها وترك قولته القديمة في الاغاني. وهذه ولا شك تظهر له اكثر عمقا وعلما ولوذعية من الاولى. ولقد كان قوي الذاكرة، ويكفيه ان يسمع مثل هذه الجملة مرة واحدة فيلتهمها التهاما ويحفظها عن ظهر قلب، ولو انه في بعض الاحيان ينسى كلمة او كلمتين فيتغير المعنى المطلوب تماما. وصار منذ ذلك اليوم يردد هذه الجملة في المكتب والبيت والمنتدى، وهكذا كان صاحبنا-رحمه الله- شديد التاثر يصدق كل ما يقال امامه بحزم وصوت مرتفع. وكان في حفظه كعدسة ((الفوتوغرافيا)) يلتقط الافكار لاول وهلة ويرددها كانها من بنات افكاره من غير ان يشعر باقل غضاضة او فقر ذهني. ومع كل هذا فقد كانت الناس تحبه وتستظرفه لما فطر عليه من مراحة الطبع والدعابة والخفة. وهو اذا ذهب الى مكتبه وكلم بعض اخوانه في المكتب عن المسائل العامة فلم يابهوا له، بادرهم بهذه الجملة التي سمعها من ((الباشكاتب)) على افندي رحمه الله: ((ان حياة الموظف عندنا لهي حياة سخيفة. وما اشبهكم بالالات الميكانيكية تؤدي واجبها الالي ثم يشيع فيها الصدا فتبلى وتتحطم)) كما انه كان كثير التقليد لرؤسائه يقلدهم في نبرات اصواتهم وفي مشيتهم ويلتقط الكلمات الانجليزية من رئيسه الانجليزي. والويل في ذلك اليوم لراكبي الترام، فانه يزعجهم بمثل هذه الكلمات بمناسبة وغير مناسبة. واذكر انه كان يستعمل هذه الكلمات وقد التقطها حديثا
(Tremendous, extraordinary, absolutely)
ولقد كان يرتاد بيوت الرقص الوطني بين حين واخر فياتي مسلوب العقل والوجدان معا، ويقرر لك بكل حزم ان ((فلانة)) هذه ارقص بنت في السودان، وان تلك البنت اجمل بنات العالم طرا. ولا يمر اسبوع من هذا التاريخ الا وياتيك باسماء اخرى هي اجمل البنات وارقصهن، وهو في كل ذلك محكوم ((بالمودة)) وما يقوله صحبه ورفقاؤه فهو قل ان يكون لنفسه رايا حتى في الطعام والملبس، ياكل ما يقول بعض اخوانه انه اجود الاطعمة ويلبس ما يلبس زيد وعمرو.
وحصل يوما ان اجتمع بهاشم عرفات في المنتدى الذي يجلس فيه عصر كل يوم هو وصحبه، وكان هاشم عرفات هذا شابا كثير الاطلاع، كثير الشك الفلسفي لايؤمن بالاقاويل ولا يستطيب الجزم في شيء، وهنا ابتدات صفحة جديدة من تاريخ بطلنا جلال افندي عبد الكريم اذ كل ما اتى بجملة من جمله المحفوظة، ساله هاشم عن صحة ما يقول وعن ادلته وبراهينه، وينتهي بان يشككه في قوله ويسخف له هذا الراي ويفند ذلك. وصار كل ما رايا ساله هاشم (هل انت متاكد) حتى جعله يرتج في اجوبته ويشك كثيرا او صار لا يقتنع بالقول الذي يقوله الصحاب ولكن لا بد ان يراه عمليا حتى يصدقه. وقبل ان يتفرقوا قال له هاشم ((يا سي جلال افندي ابق من فضلك ما تصدقش كل حاجة، ان هذا العالم كله رياء وكذب وتدجيل)). فتركت هذه الكلمات اثرها في ذهن جلال افندي وهو يودع صحبه في تلك الليلة!
وحصل ان كان يوما جالسا مع بعض الصحاب وفيهم من كان يدرس الكيمياء فقال له هذا الكيميائي: ((اتدرون ان الماء من الهواء))؟.
- ((لا، لا اصدق)).
- يا عجبا: انه امتزاج الهيدروجين بالاكسوجين في نسب معلومة.
- ((كلام فارغ)) برزت من جلال وتبعها منه ايضا. ((هل انت متاكد))؟
- ((كتاكدي من وجودك هنا))..
واشترط الصحاب ان يذهبوا الى اقرب معمل في الخرطوم ليروا هذه العملية، ولكنه لسوء الحظ او لحسنه، مهما حاول صاحبنا الكيميائي في التحضير فقد فشلت كل مجهوداته، واخيرا صاح به جلال افندي: ((الم اقل لك كلام فارغ))
- واي كلام فارغ تعني؟ ان المواد لسوء الحظ ليست جيدة وهذا كل ما في الامر: وقد عملت انا هذه العملية مئيات المرات، وهي حقيقة ثابتة كوجودي ووجودك)) واطلعه على عدة كتب فيها هذه الحقيقة، فكان جواب جلال افندي.
- ((اتظنني مغفلا لهذه الدرجة؟ ان هذا العالم كله رياء وكذب وتدجيل)) وقفل راجعا.
وجلس يوما مع بعض صحبه وكان بينهم جاد الله العربي، وهو فتي مرموق الجانب. معروف بسعة الاطلاع والفهم فقال لهم ((هل تدرون انه سوف يحصل كسوف جزئي للشمس في الغد)). ((هل انت متاكد))؟ قالها صاحبنا الذي كان يؤمن قبل بكل شيء.
- ا انت عبيط. اقول لك ان في الغد سوف يحصل كسوف جزئي للشمس فتسالني هل انت متاكد!، ان هذه الاشياء يقررها العلم، والعلم صادق لا يداجي ولا يكذب، ويمكننا ان نعرف الدقيقة والثانية التي سوف يحصل فيها الكسوف. ووافقه الجميع على هذا الكلام ونظروا شزرا الى جلال افندي. وراح صاحبنا يلعن هذا الراي وقد نسى شكه ((ان في الغد سوف يحصل كسوف جزئي للشمس!)). وظهرت الشمس غدا اشد ما تكون لمعانا وضياءا فلا كسوف ولاخسوف، وكلما تقدم النهار لم تنكسف الشمس ازداد شك صاحبنا وقلقه وصار يقول لنفسه ((اقول لهم هل انتم متاكدون فيقولون يا للعبيط، اينا الان العبيط انا ام هم))؟.
وبعد هذه الحادثة رجع فقابل ((هاشم عرفات)) الرجل الذي جعله اول مرة يشك في حياته وقص عليه قصة الكسوف المزعوم، وكيف انه شك في حديثهم فما كان منهم الا ان ضحكوا منه، فقال له هاشم افندي: ((اسمع يا اخي ان الاشياء لا تحصل حسب قوانين معلومة ولكنها تحصل كل يوم في حالات كثيرة متعددة، واساس هذا العالم انما هو التغير والتحول فعبثا نحاول استنتاج القوانين العامة التي تحكم الاشياء، وقد يظهر لنا في كثير من الاحيان اننا قد نجحنا في ضبط القوانين ومعرفة الاشياء، ولكن هذا وهم خادع. فالحياة لا يحدها قانون او سابقة وهي دائمة التحول والتجديد، وهي مستبدة وقاهرة، وربما تحصل بعض الاشياء عدة مرات، ولكن ليس معنى هذا انها سوف تحصل دائما. فاي قوانين واحكام ثابتة يمكن ان يصدرها الانسان والحال كما وصفنا؟)). فالتهم صاحبنا هذا الحديث وتاثر منه واعجب به كثيرا، وزادت نزعته الشكية من ذلك الحين كثيرا.
وكان صالح افندي عثمان، المشهور بنكاته والاعيبه في الاندية والمجتمعات في ليلة من الليالي يقوم ببعض الالعاب، فجاء الى مسالة كوب الماء الذي اذا ما ملئت واقفل فمها بورقة قوية او خشبة مستديرة او ما اليها ثم جعل سافلها عاليها لم يندفق الماء للضغط الذي داخلها. فقاطعه جلال افندي عبد الكريم وانكر عليه حديثه وقال له دونك التجربة، فجربها صالح افندي عثمان بوضعه ((لكوب)) الماء وهو مقلوب فوق راسه فلم يصبه اذى، ولكن جلال افندي لم يقتنع اذا لم يجرب العملية بنفسه، فقام وملا الكوب ماء ووضع الغطاء وادارها فوق راسه، ولكنها سالت فوق راسه وابتل هندامه، وضحك الجمع ساخرين هازئين، فما كان منه الا ان تناول طربوشه وقفل راجعا الى بيته لا يلوي على شي وهو حانق مغضب اكثر ما يكون شكا وحنقا على الحياة وما يقبله الناس كانه حق لا ياتيه الباطل من خلفه او امامه. ومن ذلك الحين اضطرب كيانه العصبي وصار يهيم على وجهه ويرد على كل من يساله او يكلمه بجملة ((هل انت متاكد)) ولا ياكل ولا يشرب الا نادرا، فزاد جسمه نحولا، واخيرا لزم فراشه لمدة اسبوع فارق بعدها هذا العالم، وقد كان يوم موته يوما عاصفا ماطرا، تقلع سحبه ويتجمع غمامه ويصبح الجو ادكن غابرا لمدة ساعة، ثم تشرق الشمس ويشع الضياء، وفجاة تتجمع السحب مرة اخرى ويغبر الجو كانما يريد ان يهطل المطر ثم لا يهطل. وقد بلغني ان اخر ما نطق به وهو على فراش الموت بعد ان ساله اهله ان يتشهد مرات ويقول ((لا اله الا الله اشهد ان محمدا رسول الله)) ان فتح عينه وقال لهم ((هل انتم متاكدون)) ثم اغمض عينيه وراح في سبات عميق، وهكذا مات جلال افندي شاكا في كل شي بعد ان كان مؤمنا بكل شيء![/align]
 
[align=justify]محاولات للقراءة في النص:

قراءة نقدية لنص.... (ايمان) لكاتب معاوية محمد نور

في هذه القصة القصيرة ( ايمان) استطاع الكاتب ان يعرض لنا فكرة او محاولة توضيح ما يعرف بالشك الفلسفي العلمي (الشك العلمي) ولان العلم لا يؤمن بالمسلمات بل هو يعتمد على التجريب لاستخلاص النظريات. قام الكاتب بمناقشة هذه الفكرة في قصته القصيرة (ايمان) ولعل في اطلاقه لهذا الاسم دلائل تشعرنا مدى تاثر الكاتب بالنواحي الادبية الخالصة او تمسكه بالمنهج المتبع في العلوم الاجتماعية وهذا ما سنتعرض اليه لاحقا بعد قراءتنا النقدية للقصة.

(لقد مات يا سيدي بعد ان اعتراه مس من الجنون لم يطل امده لانه ترك الاكل الا لماما...) بهذا المدخل المثير والجاذب بدات القصة (بالموت) وفكرة الموت تعني النهاية الانسانية (علميا) وبذكر الموت لابد لنا كمتلقين ان نعرف الاسباب التي ادت الى هذه النهاية الماساوية. لكن الكاتب لم يترك بطله للموت فقط بل قبل ان يموت تركه هائما على وجهه، انظر:

(واعتراه مس من الجنون لم يطل امده لانه ترك الاكل الا لماما...) فالمجنون عند العقلاء لا يتصرف بكامل وعيه، بالرغم من ان هناك مقولة (الجنون فنون).
وكانت قمة العذاب لتلك الحياة التي عاشها بطل القصة بعد ان كان مثالا يحتزى به.. انظر:

(لقد كان جلال افندي عبد الكريم ايها الاخ، شابا سمح الخلق طيب الخاطر كله نعومة واطمئنان وطيبة قلب...) اذن البطل حتى الان كامل الصفات الطبيعية الانسانية في معاملاته مع المحيط من حوله.

دعنا نقف عند كلمة (اطمئنان) لتي اسقطها الكاتب في مقدمة تعريفه لنا لشخصية (جلال افندي) فالاطمئنان كلمة واسعة على ما نعتقد والشخص المتمتع بها (أي الاطمئنان) لا يمكن باي حال من الاحوال ان يتعرض لهذه النهاية الماساوية (الجنون والموت) فانت تصل الى مرحلة الاطمئنان بعد ان تمر بمرحلة عدم الاطمئنان ان جاز لنا التعبير. مثلا قد تصل الى مرحلة الاطمئنان فكريا او دينيا او علميا او عمليا... والاطمئنان مربوط بالاستقرار وهذه الاخيرة تعني المقدرة على التكيف مع كل الاوضاع واستيعاب كل ما هو جديد والقدرة على التفكير والتحليل... الخ.

اذن فالاطمئنان والاستقرار يخفيان بالتاكيد خلفهما شخصية قوية لا مثل ما اراد الكاتب ان يصل اليه، انظر:

(يستمع بشغف لاحاديث المتكلمين حوله في المكتب والترام والمنتديات العامة، ثم ياخذ بعض هذه الاراء التي تروق عنده وهو اكثر ما يكون تاثرا اذا كان صاحب الحديث شديد العارصة قوي الحجة قوي الشخصية يتكلم بكل حزم وتاكيد، ياخذ هذه الاراء فيعيده على صحبه كانما هي له والحديث من بنات افكاره لشدة ما يتعصب لها ويذود عنها...) اذا الشخصية متناقضة فهي مطمئنة كما ذكر الكاتب وفي نفس الوقت تتاثر بغيرها وكانها لا تحقق ذاتها. فهي تاخذ اراء الاخرين وتنسبها لنفسها وشخصية (جلال افندي) التي رسمها او خلقها لنا الكاتب تعيش قمة التناقض فجلال افندي لاي شي اذا كان ياخذ راي الاخرين ويتاثر بالاشخاص من حوله وفوق هذا كله ينسب ما ليس من بنات افكاره لنفسه. فالكاتب من ناحية يخبرنا ان (جلال افندي) مطمئن؟؟ لاي شي؟ هل هو مطمئن لحاله او لنفسه او لوضعه او لفكره؟ اين ثقافته الممتدة وسط كل هذا الاطمئنان الذي يعيشه؟ اين هي ذاته ونفسه من هذا الاطمئنان؟ لماذا ياخذ من الاخرين مادام باستطاعته ان يعطي؟.

وفي راينا (جلال افندي) عند هذه النقطة (قد مات اجتماعيا) ولا يمكن ان نبني أي اسباب اخرى لموته غير هذا التناقض الذي خلق فيه، فهو قاتل نفسه.

لكن الكاتب يصر على مؤاصلة القصة ليقدم لنا تبريره لموت (جلال افندي) وقبل موته جنونه، وفي تطور القصة البنائي التي انتهت بموت (جلال افندي) يناقش الكاتب مواضيع هامة لا يمكن باي حال من الاحوال ان يكون (جلال افندي) بشخصيته المتناقضة المحور فيها او الاداة التي من خلالها يحاول الكاتب ان يوصل فكرته.

(جلال افندي) بين العلم والادب او بين الفن والحقيقة. في تطور درامي ينتقل (جلال افندي) من الاكتفاء بترديد ما يقوله الاخرين الى الشك في كل شي من غير وعي. انظر:

(واذكر انه كان في وقت من الاوقات كثير التلفظ بهذه الجملة وقد سمعها من جلال الدين افندي.. ان الراسماليين عندنا هم راس كل بلية في هذا الضعف الاقتصادي وهم الدود الذي ينخر في عظام الامة..)

بدا الشك ينتاب البطل عندما التقي مع (هاشم عرفات)... انظر:

(وهاشم عرفات كان شابا كثير الاطلاع كثير الشك الفلسفي لايؤمن بالاقاويل ولا يستطيب الجزم في أي شي...) اذن التقى البطل بمن سوف يوصله الى الجنون ومن ثم الموت!! والسؤال لماذا لم يحدث لـ (هاشم عرفات) ما حدث لبطلنا (جلال افندي) المغلوب على امره؟

بالرغم من ان بطلنا تمتع بالطمانئنة التي وصفها لنا الكاتب!! اذن انتقل البطل من ترديد المقولات الادبية والاجتماعية والسياسية الى الشك الفلسفي. ودائما الشك مربوط مع العلوم الطبيعية التي لا تؤمن بالمسلمات الا بعد تجربتها وادخالها المعمل. فنحن لا ننكر الشك الفلسفي في حد ذاته ولكن نتعجب في ان يوصل هذا الشك البطل الى الموت بدلا من الحياة؟!!

والان دعنا نرجع الى الحوار الخلفي او الحوار المستتر داخل القصة وهذا الحوار المستتر نجده ماثلا امامنا في المقولات التي كان يردده البطل بعد ان يسمعها من غيره. (الراسماليين عندنا هم راس كل بلية....) من غير المعقول ان يقوم البطل بترديد هذه المقولة بطريقة اعتباطية هكذا كما اطلقها لنا الكاتب وخصوصا انه وصفه لنا في البداية بالطمانيئنة. البطل باعتباره فرد في المجتمع لا بد له ان يكون له راي في وضع اقتصادي متعثر وان يكون له وجهة نظر محددة في سبب الازمة الاقتصادية. عرفنا بان (جلال افندي) ينتمي الى طبقة الموظفين وهي بالضرورة لها اطلاعها ومعرفتها بالامور العامة وامكانية المقدرة في تحديد اسباب الازمات، هل سال البطل نفسه لماذا لا يكفيه راتبه حتى نهاية الشهر؟ وهل سال نفسه عن سبب ارتفاع الاسعار؟ ومن يقف ورائه؟ وهل القى نظرة في السوق وقارن بين المعروض والمطلوب؟ هل سال نفسه لماذا تزداد هو ومن في طبقته فقرا واخرون يسيرون نحو الثراء الفاحش؟ وهل وهل...... اذا سال (جلال افندي) نفسه هذه الاسئلة (انطلاقا من طمانئنته) نعتقد بانه كان سوف يخرج باجابات واضحة تجاه الازمة الاقتصادية، وربما كان هو فعلا من يقول تلك المقولة عن الراسماليين، الا ان (جلال افندي) يكتفي بان يردد خلف غيره ما يقولون من غير وعي.

لكن اراد الكاتب لجلال افندي بان يكون هكذا ممهدا لنا دخوله الى مرحلة ا لشك الفلسفي التي توصله الى مرحلة الجنون والموت. والسؤال ماذا يريد الكاتب ان يقول في نهاية القصة. فهو زرع الشك داخل البطل حتى اوصله الى الجنون والموت، وساق دفة القصة وحوارها الى ما يريد... انظر:

(وحصل ان كان جالسا مع بعض الصحاب وفيهم من كان يدرس الكيمياء فقال هذا الكيميائي:

- اتدرون ان الماء من الهواء؟!

- لا لا اصدق.

- يا عجبا انه امتزاج الهيدروجين والاكسجين في نسبة معلومة.

- كلام فارغ برزت من جلال افندي وتبعها منه ايضا. هل انت متاكد؟

- كتاكدي من وجودك امامي.

واشترط الصحاب ان يذهبوا الى اقرب معمل في الخرطوم ليروا هذه العملية ولكنه لسوء الحظ، او لحسنه مهما حاول صاحبنا الكيميائي في التحضير فقد فشلت كل مجهوداته واخيرا صاح به جلال افندي.

- الم اقل لك كلام فارغ)

ارتكب الكاتب هنا حماقة نراها واضحة في استخفافه بمرحلة التجربة في العلوم الطبيعية وبالرغم من قوله (لسوء الحظ، او لحسنه) الا انه كان يريد سوء الحظ، حتى يقول لنا ان التجربة قد تفشل.

كلنا نعرف ان الماء من الهواء وكلنا يعرف ان h2o تعني لنا الماء وهي ذرتين هيدروجين وذرة اوكسجين. حقيقة علمية ثابتة توصل اليها العلماء بالبحث والتحليل والتجربة المعملية وهي ما زالت ثابتة كنظرية علمية حتى الان. اذن اراد الكاتب ان يطور فترة الشك الفلسفي لدى البطل حتى يوصله الى مرحلة الجنون ومن ثم الموت. وكما قلنا سابقا ان البطل ضعيف جدا ليحاول الكاتب ان يوصل عن طريقه فكرته او انه أي البطل مغلوب على امره من قبل الكاتب. فالكاتب له رويته الواضحة تجاه العلمية او المنهج العلمي ومحاولة بعض العلماء لادخاله في العلوم الاجتماعية وبالذات الادبية والكاتب كان من اشد المعارضين (للمدرسة الواقعية) التي تنادي بذلك.

وخلال هذه القصة حاول ان يعرض لنا ان العلوم الطبيعية قد توصل الى الجنون والموت ومن الطبيعي ان تمر قبل ذلك بمرحلة الشك الفلسفي، نعم هذا ما اراده الكاتب بموت (جلال افندي) ولا كن نقول له ان (هاشم عرفات) مازال بخير وعائش ويفكر جيدا ولم يمت.

ولنا عودة مع (ايمان) في قراءات اخرى.
جدة
11/12/2004[/align]
 
[align=justify]الأستاذ الفاضل/ علي حاج علي
أشكرك أجزل الشكر علي رسالتك الكريمة والتي كان يفترض بي أن أرد عليك بمثلها غير أنّ إبرتي ، في الوقت الراهن وربما دائماً ، لا تشيلُ خيطين .. الكثير من المياه عبرت تحت وفوق الجسر بخبوبها وربوبها حتى لتكاد تغمرهُ .
سعيدٌ بالعودة وعليك يعوِّلُ هذا القسم من المنتدى في العودة ، ليس في العودة لسيرته الأولي وحسب ، وإنما يُعوَّّلُ عليك وعلي كتّاب القصة والرواية والمسرح وما يتفرّع منها من أجناسٍ أدبية في أن يصبح هذا المنتدي نافذةً للإبداع الإنساني من مجاميعه .
لك مودتى وللصديق أحمد حميدة ولجميع كتّاب المنتدى .
[/align]​
 
[align=justify]الأستاذ الفاضل/ علي حاج علي
أشكرك أجزل الشكر علي رسالتك الكريمة والتي كان يفترض بي أن أرد عليك بمثلها غير أنّ إبرتي ، في الوقت الراهن وربما دائماً ، لا تشيلُ خيطين .. الكثير من المياه عبرت تحت وفوق الجسر بخبوبها وربوبها حتى لتكاد تغمرهُ .
سعيدٌ بالعودة وعليك يعوِّلُ هذا القسم من المنتدى في العودة ، ليس في العودة لسيرته الأولي وحسب ، وإنما يُعوَّّلُ عليك وعلي كتّاب القصة والرواية والمسرح وما يتفرّع منها من أجناسٍ أدبية في أن يصبح هذا المنتدي نافذةً للإبداع الإنساني من مجاميعه .
لك مودتى وللصديق أحمد حميدة ولجميع كتّاب المنتدى .
[/align]​

[align=justify]المحترم محمد عبد الملك
امنياتي لك بالاستقرار والسعادة

تجدني اكثر سعادة بعودت التحاور و القراءات من جديد في هذا المنتدى الجميل والرائع، وكما ذكرت لك في الرسالة ما زال القلب يتقطع (كمدا) لضياع تلك الكتابات والمداخلات التي تراكمت، وتمازجت، وتلاقحت، و عبرت بنا جميعا الى شواطي الادب الرفيع، كانت الاستفادة من الجميع وللجميع، اين تلك الدرر، هل يا ترى هي في مكان ما تتدفق وتتزاحم لتخرج الينا من جديد، ام انها تلاشت Faded ام اختفت Disappeared، (كاتب عزرائيل) وما دار حولها من نقاش عميق، انني لا ابكي على الاطلال لان الكلمة ما زال الدم يجري في شعيراتها الدموية الدقيقة بقوة.

وما كان عودة معاوية نور سوى مدخل او بمثابة (المزة) التي تسبق الاستمتاع بالجلوس في حضرة الحكي والكلام السمح، والاراء والنقاش والنقد والقراءات المتعددة.

دمت بخير [/align]
 
الاصدقاء علي حاج علي ومحمد عبد الملك
تحياتي سعيد جدا بعودتكما وعودة الراكوبة مرة اخري وتحياتي عبركما للاخ وليد الحسين علي اصراره ان تبقي الراكوبة رئة يتنفس بها الجميع
تجدني اكثر سعادة بعودت التحاور و القراءات من جديد في هذا المنتدى الجميل والرائع، وكما ذكرت لك في الرسالة ما زال القلب يتقطع (كمدا) لضياع تلك الكتابات والمداخلات التي تراكمت، وتمازجت، وتلاقحت، و عبرت بنا جميعا الى شواطي الادب الرفيع، كانت الاستفادة من الجميع وللجميع، اين تلك الدرر، هل يا ترى هي في مكان ما تتدفق وتتزاحم لتخرج الينا من جديد، ام انها تلاشت faded ام اختفت disappeared، (كاتب عزرائيل) وما دار حولها من نقاش عميق، انني لا ابكي على الاطلال لان الكلمة ما زال الدم يجري في شعيراتها الدموية الدقيقة بقوة.
الاخ علي اجد نفسي اكثر حزنا للذي حدث فالامر لم يكن حدث عابر او صدمة يستطيع المرأ ان يفيق منها بعد حين! الافكار كالعادة تاتي وفقا لظرفها الموضوعي والذي لن يتكرر . لقد كان حوارا في منتهي الروعة ذاك الذي دار حول او علي هامش كاتب عزرائيل .. حتي خيل الي انه حوار لن ينتهي ! كثيرا من المحاور التي تولدت لدي اثناء المداخلات كنت بصدد طرحها في ذلك البوست تبددت
وما كان عودة معاوية نور سوى مدخل او بمثابة (المزة) التي تسبق الاستمتاع بالجلوس في حضرة الحكي والكلام السمح، والاراء والنقاش والنقد والقراءات المتعددة.
امل ان يتجدد اللقاء مرة في رحاب ماوية نور في مئويته
لكم الود
 
[align=justify]المحترم احمد حميدة
امنياتي لك بالاستقرار والسعادة

اشكرك على المرور الانيق، وننتظر منك مزيدا من القراءات للنصوص الواردة في البوست لمزيد من المعرفة وتبادل الخبرات والاراء..

سلامي، ودمت بخير[/align]
 
أعلى أسفل