نبذة : عن رمضان زايد جبريل

عزيزوغالي

:: كاتب نشـــط::
الفنان رمضان زايد جبريل أحد أكبر مشيدي الصرح الذهبي للأغنية السودانية في خمسينيات القرن المنصرم ، كما أنه تربع على عرش (التمتم) وبسط سلطانه على مداراته وعرف حينها بـ(ملك التمتم) في السبعينيات ولا غرو أن يكون ملكا في ميدان من ميادين الفن إذ أنه سليل الجو الملوكي حيث كان والده زايد جبريل ينتسب لمملكة تقلي راسخة الأقدام الحضرية ليستقر به المقام بود مدني حيث المدنية وأن والدته (نان دينق) خديجة عبد الله الجاك هي الأخرى سليلة مملكة راسخة الجذور في التاريخ السوداني وهي منبسطة في حنايا جغرافيه. مملكة الشلك وعاصمتها فشودة ومن قبل كانت الجزيرة أبا .. تمتد من تونجا جنوبا إلى مشارف جبل أولياء شمالا قبيل انحسارها مؤخرا لمشارف الجبلين عند النيل الأبيض ، وهي قبيلة نيلية بمعنى الكلمة إذ تستقر على ضفتي النيل ولا تكاد تباعد عنه.
عرفت قبيلة الشلك بمنظومتها العقدية ذات البناء الثلاثي الذي يعتلي قمته (جوك) الإله المتعالي في السموات ليتجلى (ناسوتا) في الأرض (نيكانق) الجد الأكبر بالأرض المباركة عند الغابة المقدسة (ديتانق) الذي يصل بمدده إلى (الرث) ويعطيه السلطان والحاكمية الزمانية.
ملكال ... ميلاد فنان: -
قدم الوالد زايد جبريل من مدينة ود مدني إلى ملكال عام 1931م ضمن جولة التنقل الوظيفي حيث كان يعمل في الحقل الطبي مساعداً طبياً ليتزوج من (نان دينق) خديجة ليولد الفنان (رمضان) في العام 1935م بالملكية (حي الشاطيء).
هكذا ولد رمضان زايد فناناً لكون أمه من قبيلة الشلك ، فمن كانت أمه شلكاوية فهو فنان بالفطرة إلا من أبى أو كان بأذنه خلل. حيث التوصيف الدقيق لقبيلة الشلك أنها (أغنية طويلة تمتد من الميلاد إلأى الممات ولحن يستوعب كل تفاصيل الحياة) ليرتضع الفنان رمضان أغنيات الهدهدة مع الحليب مباشرة وتعبأ بها ثم انتقل للشارع حيث أغنيات الطفولة للحيوانات لـ(أدير) و(ناديل) ثم إلى حلقات الرقص وأغنياته ثم أغاني الصبا على ايقاعات (النقارة) وفنون القتال والراقصة لتتسع الدائرة بالنمو العمري إلى فترة الشباب حيث الرقص ومحوره أغنيات الغزل والحبيبة إلى الغناء الافرادي بـ(الطوم) ولم يكن الفنان رمضان قاصرا على حلقات قبيلة الشلك بل كان راقصا ومغنيا في حلقات (الدينكا) والنوير وكان مجيدا للغتيهما وقد كان محبوبا لدى أفراد قبيلة النوير حسب إفادة ابن خالته العمدة طه بلال عمدة ملكال الحالي وكان واصلا لحفلات (الملكية) لأغنيات (السيرة) و(الدلوكة) وعرف عنه ولعه بحفلات (الرث) بالعاصمة فشودة وكان يحفظ عن ظهر قلب الأغنيات الإلهية التي تمجد القبيلة في شخص (الرث) السلطان الروحي والزماني.
وهكذا دخل مدرسة البندر الأولية عام 1942م وكان التلميذ الفنان الذي أوكلت له مهام الفنانين الكبار حيث حيث كان النجم في احتفالات اليوم المدرسي وليالي السمر وذكر لي ابن خالته وزميل دراسته زين العابدين خالد أطال الله عمره أن رمضان كان يتحلى بالشجاعة الأدبية وكان المغني بكل اللغات الدينكا ، الشلك ، النوير وممثلا كوميديا وراقصا مجيدا وكان محبوبا لدى زملائه والمعلمين وكان ناظر المدرسة الأستاذ صادق عبد الرحمن (رحمه الله) يحبه ويعتمد عليه اعتمادا كليا في الأنشطة الفنية وقد تنبأ له بمكانة فنية عالية ما امتد ب العمر.
إذا كان الفنان رمضان شعلة فنية زهز لم يتجاوز العاشرة من عمره مشاركا في كل الأنشطة الفنية في أحياء ملكال بل وكان من الحضور والنكتة لدرجة أنه يستوقف في الشارع وفي مجتمعات الكبار وكانوا يصفون حالته بـ(الشقاوة ) والتي تعتبر المعادل التعبيري لـ(الإبداع) بحسب إفادة زميله زين العابدين خالد حيث تخرجا من مدرسة البندر في العام 1946م ليواصل ابداعاته وهمه الخرطوم حيث المواعين الكبرى ، لعطاء أوسع حيث الإذاعة السودانية وهنا أم درمان.
رمضان في أم درمان
قدم رمضان الى الخرطوم بايحاء من صديقه محمد يس محمد صادق الدينكاوي الذي كان وصله بالعباسية وأقام بحي الموردة حيث يقطن من أهل والدة عمته وابنائها وكان اثنان منهما من خيرة لاعبي كرة القدم هما خالد وضرار الحاج بريمة وكان يذهب إلى الخرطوم حيث الديوم القديمة إلى ابنة أخته التومة موسى التي تعمل في الحقل الصحي (زائرة صحية ) وأقام معها ردحا من الزمان ليعود أدراجه إلى الموردة ثم العباسية هكذا يدور في المكان الذي عشقه وألأفه قلبه .
بدأ رمضان زايد استكمال المشاهدات الفنية لإختزان المزيد بعد أن هضم (بول) المتسارع من ايقاعات الشلك و(يوك) الإيقاع البكائي والـ(كيب) والإيقاعات المصاحبة لـ(طوم) وقدرا من ايقاعات الدينكا والنوير وتيارات التمتم والسيرة ليواصل مشاهداته لنمط جديد من ايقاعات النوبة والمديح التي توفرت في حلقات الذكر في الموردة حيث كانت تعج بهذا الضرب من النشاط وكان يمضي إلى حمد النيل لينهل من تلك المشارب الموحيات والتي أوحت فيما أوحت (لجيمي كليف) ايقاع (الريقي) الذي اتخذ سبيله إلى العالمية سربا.
وهكذا غدا رمضان زايد كتلة من الطاقة الإيقاعية المشعة ونشاطا من الإختزان الدرامي وحركة لا تحدها حدود وظل هكذا إلى أن اصطحب الفنان الكبير أبو داؤد الذي قربه منه وصار رمضان ملازما له متأثرا به ومعجباً إلى قدمه أبو داؤد إلى الغناء بنمط (لغة أم درمان ) وكان أبو داؤد يفسح له المجال تقسيطا حيناً بعد حن إلى أن رأي فيه نضجا وتكاملا لأداء النمط (الأمدرماني) . وكان لفرقة الخرطوم جنوب القدح المعلى في صياغة رمضان وفق المنهج الأمدرماني ، حيث بدأت نشاطها في العام 1951م بنادي الصبيان في الخرطوم حيث التحق بها ودرس الموسيقى على يد الموسيقار محمد إسماعيل بادي (زقل) مع مجموعة من كبار الفنانين زكي عبد الكريم ومنى الخير والتجاني مختار وحسن كوستي كانوا يشكلون الدفعة الأولى من الفنانين كما عاصر في ذات الدار جملة من المسرحيين منهم ميسرة السراج وقمر الجيلي وعثمان حميدة (تور الجر) وأحمد سليم (ضربا) وعاصر من الموسيقيين علي ميرغني وعبد الفتاح الله جابو وآخرين وقد قدمت فرقة الخرطوم جنوب رمضان زايد أول فنان لها دفعت به إلى سوح الفنون والإبداع.
هنا أم درمان
كان العام 1957 موعداً لفتح فني كبير حيث أجيز صوت الفنان رمضان زايد وتم تسجيله رسميا بالإذاعة ضمن كوكبة النصف الثاني لخمسينيات القرن المنصرم التي ضمت الفنان محمد وردي وعبد الكريم الكابلي والجابري وصلاح مصطفى ومحمود حسنين وقد تعامل الفنان رمضان زايد مع كوكبة من الموسيقيين ضمت عبد الله عربي وعبد الفتاح الله جابو وعلي مكي وآخرين.
ولعل أشهلا أغنياته التي سجلت بالإذاعة وشغلت الوسط الفني وجماهير المستمعين كانت (ليتني زهر) التي صاغ كلماتها الشاعر مبارك المغربي حيث لحن نصفها العلوي الموسيقار عبد الله عربي بينما قام الموسيقار عثمان ألمو بتلحين النصف الأدنى من القصيدة ، كما سجلت له الإذاعة العديد من الأغنيات منها (كيف أنساك وأنسى هواك) و(الما حاسة بي) و (الشيخ سيرو) (غصن الرياض المايد) و(حكاية كر،) وأخريات.
ملك التمتم:
في سبعينيات القرن المنصرم عمد الفنان رمضان زايد إلى تنشيط (التمتم) الراقي وبامكانياته الإيقاعية الهائلة استحق لقب (ملك التمتم) فأعرب عن فنان مسرحي استفاد من مخزونه الدرامي الإيقاعي ونهج طريق الغناء الجماهيري واستطاع أن يبسط سلطانه على آفاق الغناء الجماهيري فكان رائد الغناء الحركي التعبيري بلا منازع ، وكان حالة من التطريب وكان صاحب حال بحسب التعبير الصوفي أسميناه (حال المضغ) وذلك أن له طريقة في إذابة الكلمات في بحر الألحان (حالة تحس ولا تحكى) وكان يوجه بمضابطه الزمن الإيقاعي بعبارته المشهورة (خليك مع الزمن) وهي عبارة له براءة اصطكاكها لدرجة غدت في عمق الحياة العامة ، يتعامل مع المجتمع ، فكان الكبير والصغير وفي أي موقف مفارق ، ويقول (خليك مع الزمن) وأيضا عبارة (فكو ياريس) كانت من مصكوكاته ومتداولة جماهيريا وهي عبارة أطلقها اثناء الغناء في حفل شهده الرئيس الأسبق جعفر نميري وأبو القاسم محمد إبراهيم فكان النميري ممسكا بأبو القاسم يتحدث معه فأطلق رمضان زايد ... (فكو ياريس) وكان يواصل الغناء محافظاً على الزمن فكان قدرة عالية على (الزمن).
اجتماعيا
كان محبوبا في الصغر وكان محبوبا في الكبر فهو صاحب ذكاء اجتماعي وطرفة ، كان صديقا للرئيس جعفر نميري والدكتور عوض دكام والرأسمالي خليل عثمان وصديقا لشيخ يس محمد الصادق الدينكاوي وكان أنيقا في ملبسه كان يلبس اللبسات الإفريقية التي عرفت بالـ(قران بوبو) وفوق هذا وذاك كان على علاقة صداقة ومحبة مع الجمهور. توفى الفنان رمضان حسن لرحمة مولاه بالخرطوم في تاريخ 17/12/1985م .. لم نسمع عن مرضه شيئا، لم يتألم لم يخرج للقنوات الفضائية لينشر قصة رحلته المرضية. مات في صمت كما كان دائما يعيش في صمت مات الفنان الظريف خفيف الظل صاحب الصوت الجميل " رمضان حسن " الذي كان يضحك ويملأ أرجاء المكان المتواجد فيه صخبا هادئا عذباً. وعلى الرغم من أنه أسهم إسهاماً كبيرا في مسيرة الأغنية السودانية .. وترك من وراءه ثروة فنية ورصيدا على مر الأيام والسنين ووضع بصماته في ساحةالفن السوداني. إلاَّ أنه للأسف الشديد لم يجد التكريم الذي يستحقه في حياته وبعد مماته فلم يسر في جنازته إلاَّ القليل من زملائه الفنانين والموسيقيين أما المسؤولين فاكتفوا بالأكليشيه المعتاد في مثل هذه الحالات ولم يلق احد من زملائه وزميلاته ورده على قبره ولم تولّه وسائل الإعلام أي اهتمام سوى خبر ونعي في كلمات .. ولا شئ غير ذلك ؟!! .. لم يتحدثوا عن هذا الفنان المبدع ورحلة كفاحه حتى وصل إلى هذه المرتبة العالية. مات في صمت وتناسا في صمت .. متمنيين أن يتغمده الله برحمته ويكون مثواه جنه الخلد مع الخالدين​
 
أعلى أسفل