نبذة : عن العاقب محمد حسن

عزيزوغالي

:: كاتب نشـــط::
الراحل المقيم الفنان العاقب محمد حسن ، ذلك المطرب العجيب ذو الإحساس الفني العالي ، حيث غادر الدنيا في أول يوليو 1998م ، وتظل هذه الذكري تعيد لنا حلو المفردة الشعرية والغناء الجاد المسؤول، سواءً كتبه له ذلك الشاعر المتعدد الآفاق السر أحمد قدورالمقيم بقاهرة المعز منذ بداية سبعينيات القرن الماضي وحتي اللحظة، أم التي صاغها صديقهما الراحل الأكثر ألقاً إسماعيل خورشيد ، نوارة ام درمان ، وريحانة أهل الدراما الضاحكة دوماً ، أم كتبها الأمير عبدالله الفيصل الذي تغني له العاقب بقصيدة (نجوي ).


فزمان العاقب هو زمان الجدية في الفن ، وهو زمان العذوبة في موسيقي الألحان التي تتسلل إلي داخل الوجدان وتسكن فيه سكوناً مستداماً ، فيحدث التشكيل الرقيق الرهيف الذي يصنع لنا عظمة هذا الشعب الأسمر وحبه وتفاؤله بالحياة بطريقة مفرطة ، وهي سمة تظل راسخة في مفاصل الحياة الاجتماعية لشعبنا ، خاصة وإن هذا الشعب ظل متمسكاً بتراث وأدبيات فن الغناء وإنجذابه نحو الفرحة المتجددة في مناسباته العديدة ، وهذا الحب للطرب الأصيل لايمكن محاصرته أو تبديله ، بسب أن حب الحياة هذا يأتي بإنضباط عالي المقام وواعي الخطي . ولذلك يأتي الإحتفاء الرسمي والشعبي دوماً بالمبدعين الذين رحلوا عن دنيانيا ، ما يؤكد قوة خاصية الوفاء التي يتمتع بها شعبنا وأجهزته العامة ووسائل نشره . إذن فإن قيمة الوفاء هذه تصبح من أهم مميزات أهل السودان في مختلف الحقب .
ولنا أن نعيش مع تلك الخالدة التي سكب فيها العاقب كامل إحساسه حين إنتقل بنا إلي الكلمة الراقية التي تبتسم لنا ونبتسم لها ونطرب لها بمثل طربنا للحنها ولهدوء موسيقاها :
ياحبيبي ..
ظمأت روحي وحنـّت للتلاقي
وهفا قلبي .. إلي الماضي
وناداني إشتياقي
أنا ظمآنُ ُ أُلاقي
من حنيني .. ما أُلاقي
فأسقني .. وأملأ من النور
لياليَّ البواقي
نعم .. أتي بها العاقب من قاهرة المعز حين كان يتعلم الموسيقي هناك بالمعهد العالي للموسيقي العربية ( الكونسيرت فتوار) حيث إمتدت علاقاته إلي أهل الشعر والأدب ، فكتبها الشاعر المصري القدير جداً) مصطفي عبدالرحمن ( والذي تغني له فيما بعد الثنائي الوطني ( أحمد حميدة ويوسف السماني) بتلك الأنشودة الخالدة أيضا والتي لازال شعب السودان يرددها مع هذا الثنائي حين تذاع أو تبث عبر الأجهزة ( أمتي يا أمة الأمجاد والماضي والعريق .. يانشيداً في دمي يحيا ويجري في عروقي ) والشاعر مصطفي عبدالرحمن هذا ، سبق وأن تغنت من أشعاره قمم الغناء في مصر مثل عبدالحليم وفايزة أحمد ومحمد رشيدي ومحرم فؤاد ونجاة وعفاف راضي وبالتالي فإن الراحل العاقب والذي يفهم جيداً معاني الشعر الجميل ، قد إختار رائعته تلك ليتحف بها أهل السودان ، وهي تعتبر من الأغنيات ذات المضامين الأكثر رقة وشاعرية .
فقد حكي لنا ذات مرة صديقنا الشاعر السر قدور بأنه وفي نهاية خمسينيات القرن الماضي حين كان يسكن في حي البوستة بأم درمان ويسكن العاقب ايضا في ذات الحي ، أن كتب له أغنية ذات جرس غريب ومفردة كانت جديدة وقتذاك ، فعرضها للفنانة عائشة الفلاتية للتغني بها ، فرفضتها وسخرت من مفرداتها ، ثم عرضها علي غير فنان وملحن ، فلم يستطعوا فهم معانيها ، بمافي ذلك صديقه الملحن الراحل عوض جبريل ، ثم أتي بها للعاقب وهو في حالة يأس من زوغان الفنانين منها ، فكان العاقب لها ، بل اعجب بها أيما إعجاب وكان يحس بجمال مضامين مفرداتها الجديدة وقتذاك ، فأنجز لها لحناً هادئاً أعجب كل الوسط الفني في ذلك الزمان من ستينات القرن الماضي، بل أعجب اللحن كل محبي الفن الهاديء ، ما أثار حنق وندم عائشة الفلاتية وغيرتها الفنية حين سمعتها من العاقب عبر المذياع وقد أصبحت الأغنية حديث المجتمع الفني والصحف. وحين قابلت الفلاتية زميلها الشاعر السر قدور بردهات الإذاعة بأم درمان قالت له بكل غضب : داهية تخمك وتخم عوض جبريل معاك ، فسألها قدور ، ولماذنب عوض جبريل ، فردت عليها : لأنكم شينين ، وهي ظلت غضبانة من أن السر قدور لم يضغط عليها لتؤدي ذات الأغنية التي غناها العاقب ووجدت ذلك الرواج ، فهي إذن الغيرة الفنية المشروعة ، فكانت الأغنية ذات لحن هاديء وطروب مثل كل ألحان العاقب ، وقد كانت فعلاً ( إتلاقينا مرة ) من أجمل وأعذب غناء العاقب الذي كتبه السر قدور:
ياحبيبي نحن إتلاقينا مرّة
في خيالي وفي شعوري ألف مرة
ألف مرة ... عاش كلامك
والليالي ... تقول سلامك
والبعاد ... يشعل غرامك
وبالمحبة...عيوني ساهرة
عايز اشوفك .. تاني مرة
فمن منا لم يردد مع العاقب تلك الأغنية التي لازالت تحافظ علي ذات ألقها ، ومن منا لا يحس بمدي كمية التطريب العالية القادمة من خيال العاقب الخصيب والذي كان يمثل قمة من قمم الفن السوداني الجميل علي إمتداد مسيرة الأغنية السودانية الحديثة ، ونحن إذ نتحدث اليوم في ذكري رحيله السابعة فإننا نظل نطرب ونعجب بروائعه الخالدات : غني ياقمري ، إتدللي ، هذه الصخرة ، .نجوي ، ونزداد طربا حين يترنم العاقب كثيرا برائعة أحمد المصطفي عميد الفن السوداني : وين ياناس حبيب الروح .. وين ياناس أنا قلبي مجروح .
كما نظل نذكر كيف كانت الراحلة المقيمة المبدعة الأديبة ( ليلي المغربي ) لا تمل الحديث عن روائع العاقب محمد حسن ، للدرجة التي طلبت منه أن تقدم كلمة جميلة جدا في بداية ألبومه الغنائي الخالد والذي كان يحمل عنوان ( هذه الصخرة) تلك الأغنية المشهورة بياحبيبي ظمأت روحي وحنت للتلاقي المذورة آنفاً ، ولنقراً معاً ماذا قالت الراحلة ليلي المغربي في تقديمها لألبوم العاقب وبصوتها قي مقدمة ذلك الشريط :
( كصفحة في صباح بهي ٍ ، كوقف الفصيح المتعالية ، وأتي الشاعر الشابي والأمير عبدالله الفيصل ،ومصطفي عبدالرحمن ، مثل ما أتي السر قدور ، وعبدالرحمن الريح وخورشيد . فسال نهرٌ من الجراب والمألوف ،وإنبثق نبعٌ من التواشيح والأسمار. كان هذا الملتقي الرائع في رحاب العاقب محمد حسن . وكل هذا الشلال من النغم الوريف ، والأغنيات الحسان ،تخرج إبداعات نقية مملوءة من صبابات الفصول ، حيية كنبض قلب ٍ مجيب ،حيث الوعد المخمل ،والموائد مترعة الأنداء ، والصوت ليس بقاس ٍ ، يقيس الهجران والتعذيب ، ويستنجد بدمع الصمت ، يستظل باللقاء ، ويهفو للمثير النهائي ، سعياً للقلب الذي دعاه ، من خلال زراعات فصول الشعر الممدودة عشقاً كثيراً .... هو العاقب محمد حسن .)
رحم الله الفنان الإنسان العاقب محمد حسن ..​
 
أعلى أسفل