ضلالات قديمة: رواية







ضلالات قديمة
(رواية)







محمد خير عبدالله






1
اسمي عبد القوي إسماعيل، لست قوياً بالمعنى الخفي للقوة، ربما أكون عنيفاً لحظة أستنشق رائحة يبعثها جسد أنثى. أو حين تلهث روحي خلف أسئلة بلا جدوى.
لمَ عبد القوي تحديداً يا أبي؟
ومن أين لك هذا اليقين بأني سأكون قوياً؟
أهي حاسة سادسة أنبأتك بما يواجهني في حياتي؟ أم سر عائلي لا تودُّ البوح به؟
ماذا لو كان اسمي كالأسماء التي يطلق عليها صديقي شريف الأسماء المحايدة؟..
ليتك يا أبي تدري الصعوبات الكثيرة التي واجهتني في شبابي، كاذب إذا قلت أزحتها بطرف إصبعي الصغير وكأنها برغوث يعتلي عانة أنثى هجرها زوجها. لكن هكذا توهّمت لحظة طيش،
لكن ماذا بعد تلك الإزاحة يا أبي؟
ذاك ما لا تعرفه. اغفر لي، لقد أتت رياحي بما لا تشتهي سفن أمنياتك، كبار الذنوب وصغارها صارت دمامل بروحي وأخاديد بقلبي، قيحها أشم رائحته النتنة وحدي.
الآن أزحف مبتعداً عن الستين، من يراني ينثر نظرات الشفقة حولي كأنه يرى رجلاً تجاوز المائة عام. حتماً من يعتقد ذلك لا يعرف إنه يرتكب إثماً لن تغفره له عائلتي أبداً.. عائلة نشأت على أعمدة من الافتخار بأن أفرادها كافة يموتون في عمر النبوة.. عائلة لا تحبذ العمر المديد.. يكفيها فخراً هذا الانتماء للنبوة. رغم أن أبي مات بعد قرن كامل؛ نصف قرن وهو يخنق بمؤخرته الكرسي القابع في منبر الخطيب.. يخطب في الناس حتى لم تعد تجاويف أفواههم تسع ألسنتهم. بينما جانب من القرن تقوقع خلاله بين جوالات الذرة يبيع ويشتري، وختم تاريخه الشخصي بسلوك مخزٍ لنا.
لم تكن لي علاقة بما يقوله للناس في خُطَبه. كنت أجيدها أكثر منه، وقد مهدت لي تلك الإجادة طرق أخرى لا يعلمها أبي ولم تكن في حساباته، لكن أن تطال مسبحته رأسي وظهري بسبب وشاية من فاعل خير معتوه هذا ما قادني لطرق وعرة، كان أبي طيباً ودوداً مع الآخرين، وفظّاً عندما يتعلّق الأمر بشؤوني الخاصة. ذات جرم سوّلت لي نفسي بتعاطي الخمر، وما كنت أعلم أن أبي كان لي بالمرصاد.
ذاك اليوم تولّدت بفمي أسئلتي الغبية، ماذا لو تجرّعت قليلاً من الخمر يا أبي؟ وما علاقة الأخلاق بالخمر. لماذا لا تمسِّد مؤخرتك وتهيِّئها لجلوس جديد في منبر أكثر فخامة من منبر مسجدنا البائس مبنىً ومعنىً؟ هل فرغت يا أبي من حشوِ عقول الناس بفتاويك؟ أنا مثلك يا أبي حشوت أجزاء أخرى في أجساد النساء، أجزاء لا تذكرها إلا مستغفراً.
ذاك اليوم جاء أبي إلى البيت مندفعاً، هديره يسبق خطاه، يبعثر شتائمه كيفما اتفق، لعابه يتطاير في كل الجهات حتى وصلت إليَّ منه قطرة كبيرة ولزجة. لم يدع لي سانحة كي أزيلها عن وجهي. استمر في صفعي كأني لا أنتمي له. أمي جمعت عجزها وأطلقته دمعات.
استعنت بخيالي لأحتمل ضربات أبي الطائشة. رسمت في ذهني خططاً كثيرة في كيفية الانتقام منه. في نهاية المطاف هداني عقلي الطفل إلى الهروب. لم أنم تلك الليلة. سمعت أذان الفجر الأول وانتظرت الثاني بفروغ الصبر.. وعندما سمعت صوته الأجش يجيئ من المسجد.. نهضت واتجهت صوب المحطة، سأغادر هذه القرية دون رجعة. شعرت بيده الثقيلة تمسك بي من الخلف. نلت صفعات وتوبيخات. ظللت بعدها أياماً مكتئباً أضمر في نفسي الهروب. لعبة قط وفار لعبتها مع أبي، كنت محاطاً بشباك نظراته، وسوارٌ من المراقبة يلفّني. لكنني وجدت سانحة غفلة منه فهربت إلى المدينة. وصلت إلى المدينة، فيها قابلت صديقي شريف. ومن هنا بدأت مأساتي يا سادتي.
ما شربته وصديقي شريف يساوي ما يحويه نهر النيل من ماء، خمر وطنية رخيصة، وخمور معتقة أجنبية لها أسماء كأسماء كلاب قريتنا. كنا لا نعاف خمراً بعينها، جميعها نرحب بها ونحتسيها كأنا نحتسي الخمر أول مرة.. حتى إننا في لحظة سكر شربنا بول فتاتين. ورغم ذلك تجاوزت عمر النبوة.. النبوة التي كانت هاجسا لأسرتي.
أنا الآن أحبو نحو عمر الكفار، لقد خسرت أسرتي الرهان، فلن أموت في عمر النبوة.. كنت أتمنى ذلك لأكون قرباناً لفرح أسرتي، فرح انتظرته مني طويلاً.
الموت أرسل رسله لي بآيات بينات، جسدي الذي كنت أتيه به أصبح متهالكاً. جلدي التصق بالعظام الواهنة، سجّل الزمن بصماته عليه، حفراً متجعّدة. نظري انطفأ. كانت لي نظرة ساحرة، البنات ينشدن منشدهات:
آه من عيونك يا عبد القوي..
كان يفرحني ذلك، ويجتاحني زهوٌ كعصفور أحمق، أتوهج شوقاً، فأهرول باحثاً عن جسد أنثى، حتى ألتقيت حبيبتي زينب. آه زينب تفاحة الفؤاد ورمانة القلب، لدانة جسدها حين أمسّه يغسل عني التعاسة التي تعتريني.
ظهري انحنى، فقد استقامته، يداي التي ارتكبت آثاماً تنؤء بحملها الجبال صارتا صديقتين للرجفة والاهتزاز. أطراف أصابعي التي كنت أداعب بها حلمات الفتيات وأهصر بها نهوداً مشرئبة أصبحتا لا تقدران على حمل عصا أتوكأ عليها. قضيبي المتحفّز دوماً لأفخاذ بنات فقد توثُّبه فأصبح كجبين عجوز فقيرة.
ارتكبت أفعالاً تتضاءل أمامها وسوسة إبليس المزعومة، كنت أتبع أهوائي كجرو كلبةٍ ضالة، مفتخراً بها.
كنت أعتقد لذة الدنيا في لثم شفاه النساء، ونعيمها في منطقة ساحرة بين نهود وأفخاذ البنات. أسرفت في اللهو والعبث. الآن حين أتذكر أيام شبابي أستحيي ويطفح شعور بالمهانة بصدري، ترتج عظامي وتطقطق، كما كان يطقطق سقف غرفتي التي مكثت بها سنوات.
تلك الغرفة شاهد أخرس على بذاءاتي. غرفتي وصديقي شريف شاهدان على شجار بعض الفتيات في تنافسهن عليَّ، كنت ألهو بهن دون أخلاق تردعني، أقاد نحو آفاق أكثر ظلمة ووحشة، كنت درويشاً أسعى بين خصر ونهد، أبي وسمني بالسفيه، ورفع يديه إلى السماء يطلب صلاحي، السماء ردّت دعواته خاسرة، كان يراوده أمل يتيم في إصلاحي..
- يا بني ارعوِ، لا تجرِ وراء اثنتين: النساء والمال، ارتدع.
هيهات، المال كسبت منه ما يكفي شهواتي، أما الجري خلف النساء فهو متعتي الثانية بعد عشقي للخمر. بغرفتي الجنس والخمر وثالثهما ماردي، أسقي من يرميها حظها التعيس بشبكة كلماتي خمراً تخبيء الحياء والخفر، وتعلن عهراً وحماقات. لا أفيق. من خمر كأس إلى خمر الجسد، فتحت نوافذ العبث وأشرعت أبواب اللهو، وصية أبي كانت تزعجني:
- يا ابني أخشى أن تموت على سوء الخاتمة.
كنت أسخر منها وأرى الموت بعيداً مني. نعم كلمات أبي كانت تصيبني برعشة، بمرور الأيام ذهبت الرجفة، حلّت مكانها سخرية بلهاء، المهم وجدت أمامي طريقاً فسرت فيه، طريق سلكها قبلي كُثر، بدايتها ممهدة وسلسة، كلما أسرعت فيها أعمق قابلتك مطباتها الوعرة، الفرح يتوارى فيحل مكانه حزن. في مسيري الأهوج اصطدمت بما أعاد لي وعياً كان مدفوناً.
من سخرية الأقدار أن أحد الأعداء أعادني إلى طريق الحق. ذاك العدو كان يود تحطيمي. أطلق إشاعة تناقلتها الألسن كحريق بعشب جافٍّ بأرض منبسطة، إشاعة كانت خاتمة لطريق قادني إليه ماردي وشهوة جسدي. قادتني الإشاعة عبر طريق كله تعرجات، إشاعة الشخص المجهول والمبهم غزتها قصص مريرة ومخزية، كالتي حدثت لي مع فتاة التقطتها ليلاً بمحطة القطار، قصة لا يزال صداها يؤرقني، صارت بقعة حالكة السواد بصدري. مرور السنوات عتق مرارتها.
في ليلة مشؤومة كغراب أسود بذاكرة شخص نصف ورع، خرجت من غرفتي. ليس بالبال سوى التسكُّع وتزجية وقت. نعم كنت ساعتها أحس إحساساً غريباً، ثمة شيئ مبهم وغامض يدفعني إلى الخروج. قلبي حدثني بمفاجأة. أذكر من التفاصيل الدقيقة، أشعلت سيجارة، ملأت زير الماء، فرشت ملاءة على السرير، هززت زجاجة الخمر فتجرعت عدة جرعات، تقيني مكابدة البرد وتكبح نزيف الهواجس، تعطرت، ثم نظرت إلى انعكاس وجهي في المرآة، فتبسمت.
خرجت، كان الليل هادئاً، الطرقات بها بعض المتسكعين والمتسكعات، سيارات تزعق أبواقها. سرت أهيم بالشوارع، نصف ثَمِلٍ كنت، ونصف فَرِح، وعصفور نشوة بصدري، قدمي قائدي، لا أعرف لمَ توجَّهت نحو محطة السيارت. يدفعني حديث قلبي. يبدو أن القدر كان يترصّدني.
عند وصولي اتخذت لي مكمناً جانبياً، يتيح لي رؤية الناس بوضوح، أمشط أحلام حالمة مبتهجاً، لا أنوي فعل شر أو خير، قبيلة من النجوم في قبة السماء تزخرف لألاءها، زرقة السماء تشدو بأنغامها، قمر ضحوك، همهمت منتشياً أنا لست ذرة تلتصق بالأرض، أنا جزء من هذا الجمال. حين اقتربت من المحطة داهمني إحساس بانفجار قنبلة مؤقوتة ينشطر لها قلبي، واشتعلت بفؤادي خواطر لها طعم الوهم. أخرجت من جيبي سيجارة وأشعلتها، انشغالي بتتبع دخانها الذي يتلوى في الفضاء أعادني لحالتي الأولى.
وقفت أنظر للمحطة، لمجرد النظر، ماردي متخم وقلبي يعشعش فيه حبي لزينب. دلقت السيارات ما بداخلها، أناس من كل الجهات والقبائل، نساء، رجال، شابات، أطفال، يحملون حقائب ووجلاً وتوجّساً من سكان المدن، عيونهم حطّ عليها أرق ونعاس، أجساد نال منها الإرهاق. لفت نظري ونال اهتمامي منظر فتاة هبطت لوحدها من السيارة، لا أعرف لماذا اهتممت بها. شعرت بماردي ينهض من غفوته وأشهر فتنته. همهمتُ "هذه مفاجأة قلبي لي".
وجدت نفسي مدفوعاً نحوها. التهب قلبي، سأدخل مغامرة طائشة الأهداف. بصدري احتشدت الرغبات، شيئ غامض ومبهم يشدني نحو الفتاة، عاد إلى نفسي طمعها في جسد أنثى تائهة. تحول ظلام الليلة إلى حالة شاعرية، وارتعش ألقها.
كمن أفاق من حلم مزعج نفضتُ رأسي، اتسعت حدقتاي. نحيت جانباً أفكاراً مشلولة، ارتفع أفق رغبتي، ذاكرتي بثّت جواسيسها. هذه البنت لي، هبة من السماء. طفقت أنظر إلى الفتاة، كانت تحمل حقيبة جلدية، آثار السفر بائنة عليها، لها قوام يدهش، وخدود مصقولة، وشعرها مرسل خلف ظهرها بطريقة تدعو للغواية. كسوت وجهي ببسمة خادعة، اتكأت على جرأتي، وعكازي كلمات منتقاه، اقتربت:
- إلى أين ؟
لم تجبني، تلفّعتْ بصمت يزرع الخيبة ويقتلع الجرأة من جذورها، لكن جرأتي التي اكتملت لن يزجرها صمت فتاة، لن أسمح لها بوضعي تحت إمرة صمتها، يجب أن تسير الأمور كما أشتهي. أنا أكره الهزيمة أمام أنثى، عليَّ أن أطمئنها حتى لا يجتمع فضول الناس حولنا. لجأت إلى مصدر قوتي، كلماتي المنمّقة، وبسمتي المخادعة، أعدت سؤالي. ابتعدت عني بنفور، وعيناها تمسحانني بنظرة فاحصة. لملمت إحساسي قبيل انهياره، دنوت أكثر، وقد ارتفع خبثي، شدني صفاء جبينها الناصع وشعرها الكثيف.
تحرّكت مبتعدة إلى رصيف جانبي. أنزلت حقيبتها من يدها فوضتعها أمامها وجلست. طفقت أنظر إليها وعقلي أطلق كلمات غزل من معتقلها، صرت أرتّب فيها، أيُّها تصلح مدخلاً، قمعت أسئلة لا أحتاجها.
كانت الفتاة واضعة رأسها بين يديها. اقتربت منها. انحنيت ورفعت حقيبتها. نظرت نحوي مندهشة لتصرّفي، ميلاد غضب بعينيها، لكن المفاجأة كتّفتها بذهول. أرسلت لها بسمة تحمل عدة رسائل، نهضت فجأة مبتعدة، تصرّفها أثار أعصابي المشدودة كوتر، صرت بين حدين؛ الابتعاد عنها والظفر بها. لحظة أدركت أنني بمعركة خاسرة، استعنت بجيوشي، ببسمة مختارة بعناية، ويدي ممسكة بحقيبتها، بسرعة لتخذت تدابير لحترازية، همست:
- أنت غريبة بالبلد.. والغريب للغريب نسيب.. لذا اسمحي لي أن حمل الحقيبة، لكن إلى أين تودين الذهاب؟
- إلى الجامعة.
- يا للهول! إنها بعيدة ولن تجدي سيارة تنقلك إليها.. وأنت غريبة بمدينة قد اكتظت بالمجرمين والقتلة، لن أدعك في العراء ستذهبين معي إلى البيت ستجدين زوجتي وبناتي وغداً صباحاً سأوصلك إلى الجامعة.
تهيّأت لرفضها. جالت ببصرها تتفحّصُني وأنا أكرّر دعوتي.
اقتربت سيارة أجرة فأوقفتها، سائقها أخرج يده وفتح الباب الخلفي. توهّطنا في المقعد الخفي، هبط السائق حمل الحقيبة ووضعها بمؤخرة السيارة، أدار ماكينة سيارته. كان شاباً لطيفاً لم يتدخل في حوار معنا، صار يدندن بأغنية هابطة يحبّها العشاق، كنت أسترق النظر إلى مفاتن جسد الفتاة بطمع. لم أسمح لنفسي أن تقطع الصمت بيننا، والسيارة في انطلاقها عبر الشوارع، كلما وقعت السيارة في مطب اهتز جسد الفتاة وتهتز معه شهوتي.
كنت منتشياً. في لحظةٍ ما لامست يدي يدها، سرى تيار دافئ بعروقي. كان ماردي في محطته الأخيرة. صمت كامل الحضور لا يقطعه سوى شخير ماكينة السيارة ومغنٍّ شاب يزعق بكلمات هابطة عبر المذياع. توقفت السيارة غير بعيد عن غرفتي. هبطت منها أولاً ونزلت الفتاة بعدي.
بتؤدة خطت خطوات، دنوت منها واضعاً يدي برفق علي ظهرها أدفعها للدخول، يبدو هروباً من ملامسة يدي لجسدها. دخلت، لكنها ظلت واقفة، وعيناها تجولان في الغرفة، زير به قليل من الماء، يجلس على هامته أناء متسخ للشرب، تحته صحن مثلوم الأطراف به بقايا طعام، وسرير يتوسط الغرفة مغطىً. انحنيت أرتّب وأنفض. أنهيت ترتيب السرير.
نقلت بصرها إلى السرير. جلستْ بحافته، وجلستُ بالحافة الأخرى.
طال الصمت بيننا، زحفت يدي بهدوء ولامست يدها. جذبتها منتفضة ونظرت إليَّ بعتاب. سحبت يدي معتذراً، وعاد الصمت بكثافة. رأسي صار يضج بأسئلة غبية: كيف أقطع حبال الصمت؟ وكيف أنقل المعركة إلى شوطها الأخير؟ تخلّصت من القناع وكسوت وجهي بنشوة خادعة:
- ما اسمك؟
- خديجة آدم.
حاولت رفع يدي نحو وجهها وكلماتي تسبقني:
- ما كنت أتخيل أن حظي سيقودني لفتاة مكتملة الأنوثة.
أرسلت نحوي نظرة لها معنى وحيد أنِ اصمت.
الصمت ثقيل الوطأة، والليل يمر بطيئاً، أسوأ اللحظات تمر حين تنفرد بفتاة جميلة بغرفة مغلقة. أحسستُ بعجزي عن فتح قلب الفتاة، وشهوتي تتضاءل كلما تملّكني النعاس. قلبي حدثني: لا تضع هذه القروية تخدعك بكلماتها. ماردي كانت له ثوراته، تحثّني على الوثوب عليها، تثاوبت ورفعت يدي ولامست صدرها، تراجعت إلى الخلف ونهضت وهي تنحني لتحمل الحقيبة. انهارت كل خططي في الإيقاع بها.
أزحت الكلمات جابناً جاء دور الأفعال، ماردي كاد يشهق حين أبصرت عجيزتها وهي منحنية. هذه مؤخرة تخفي أسراراً مذهلة، تجمُّع لمُتَعٍ ظللت أبحث عنها. أحاطت بي لذة تدفعني دفعاً لها، تدعوني لهذه المؤخرة الشهية، تقف بيني وبينها مجرد قبضة يد. حركت أصابعي لترويضها، إذا لم أفعل الآن سأعيش طيلة عمري حزيناً. فكرة مضاجعتها استولت على تفكيري. حدّدت بدقة مكمن اللذة بجسدها، عاصفة هوجاء تدفعني نحوها. أتيتها من الخلف وضممتها من خصرها، قاومتني بعنف، ولكني تشبثت أكثر. صارت تتوسل لي وتترجاني. لم أحفل بضعفها وتوسّلها.
مددتُ يدي لأخلع ثوبها. في تلك اللحظة استلّت سكينة من حقيبتها وأشهرتها بوجهي. ارتجف على نحو مريب جسدي. شعرت بانحطاطي ونذالتي. ولجت روحي دهليزاً أكثر حلكة. قلبي تحول إلى طبل أفريقي يدق بوابة صدري. رشح جسدي عَرَقاً مالحاً، والفتاة ترسل لهباً جهنمياً لي، والسكين بقبضة يدها تشهر جوعها إلى لحمي.
تضاءلت مرعوباً، وشرر أنثى غاضبة ينفث جمر حرقته. الغنج الذي كنت أبحث عنه أراه يصليني جمراً، حشرجات متتالية نفثتها، والفتاة تزداد حنقاً وتنثر غضبها، موت يرتج ناقوسه يدق يرعبني. حاولت أن أجمع أطراف روحي، والسكين واليد القابضة وثالثهما لهب عينين غاضبتين يحرق أعصابي أو ما تبقي منها. تراجعت الفتاة إلى الخلف قليلاً، أرسلت من بين شفتيها أن ارتد ملابسك. تضاءلت وارتخى شيئي.. بحشرجة أخيرة حادة ترجوتها وتوسلت لها أن تغفر لي، لكنها اقتربت ونصل السكين يلمع. بحياء ارتديت ملابسي، وهي ترمقني بشرر عينيها. وفي النهاية حملت حقيبتها وخرجت، لاحقتها مقسماً لها أن تعود ولن أمسها.. أرسلت نحوي كتلة من التفاف، وألحقتها:
- لقد حفظت شكلك والأيام بيننا سألتقيك لتعلم انتقام الشريفات.
غابت في الظلام، تلك الليلة لم أنم. يبدو أن ضميري حاول أن يستيقظ من سباته، ولكن عند شروق الشمس تناسيت خديجة آدم، وتناسيت كلماتها التي شنقت روحي ليلة كاملة، مسحت ذكراها فعدت إلى ممارستة هوايتي في اصطياد البنات.
لن أنسى قصة عجيبة جعلتني أصوم عن غواية الفتيات عدة شهور. ذات مساء خرجت أتسكع، مساء مجهول في ليلة مهولة الإظلام، البرد يعصر أضلعي، خرجت وقلبي فقاعة كبيرة، تقابلت مع فتاة لها خصر كمشنقة يتأرجح تحتها كفل وفير الدسامة، شعرها يعربد مع الريح ثملاً، وصدرها مكتنز يود النوم على صدر عاشق ولهان. بكلمات تقطر عسلاً، أقمت جسر تلاقٍ لأيادينا، وخيط عنكبوتي ربط شهوتينا. قدتها إلى غرفتي، في الطريق انتابتني النشوة التي تراودني كلما خضعت أنثى لكلماتي، فرحاً كطائر أطلق قيده من أسر طفل شقي، ممنياً نفسي بليلة حمراء تسر الأصدقاء، وتزيد الذنوب.
بالغرفة تعرينا أنا وهي، أرقدتها فوق السرير وطفقت أنظر في تقاطيع جسدها الأسمر العاري، ملاك أنثوي، نهدان فاجران، أهذه مكسبي الليلة؟ ابتسمت وأنا أدنو منها، بادلتني ببسمة عذبة، شددتُ وتري وهمَّ القوس بالانطلاق، جلست قربها، أتمعّن في تضاريس جسدها الباذخ، جسد رخو وهش، لو هبطت عليه لانكسر وتحطّم كزهرة نبتت على مجري سيل. وضعت يدي اليسرى بخصرها والأخرى ربتُّ بها على كشحها. تيار كهربائي سرى بدمي، أضاء بُقَع اللذة بجسدي.
دسستُ جسمي معها في السرير، يدي طوّقت عنقها اللدن، أنفاسها الحرَّى وخزتْ خدي، دنوت بشفتي رشفت قبلة خاطفة، تأوهت. خطفت قبلة أخرى. في القبلة الثالثة بادلتني العناق بشهوة مكبوتة. أنزلت يدي إلى أسفلها انزاح القميص الوردي الشفاف، داعبت ظهرها، ربتُّ عليه، بأطراف أصابعي، مسستُ عمودها الفقري، داعبتُ إليتيها في حركة دائرية أتقنها. تأوهت. زاد توتُّر القوس. شفتي انتقلتُ إلى شحمة أذنها، تدفّأت بأنفاسها. بدت لحظة كأنها تودّ أن تضحك، صار صدرها طافحاً وسواد يجتمع بحلمتيها. انفعلتُ. تبادلنا إحساساً مبهماً ولذيذاً يتسرّب بين فينة وأخرى بين جسدينا، صرتُ ألثمُ بمتعة.. البطن، الفخذين، العنق، الكتفين، الخدين.
حاولتْ إبعاد جسدها عن جسدي. زاد تعلقي أكثر. أمسكت صدغيها ودفعت رأسها إلى الخلف، لثمتُ جبينها الناصع الدافئ، حاجبيها، ذقنها، ولامستْ شفاي شفتيها، ضغطت على أسنانها، مضطربة تقافزت، ألثم شفتيها. لساني يستكشف تجويف فمها، ماراً على اللثة والحلق. تجاوبتْ معي، صارت جغرافية جسدها طوع أمري. إحساس غامض ومبهم ونابض اجتاحني. تأوّهتْ بلذة. هممتُ بإطلاق نافورة القوس، شعرت بجسدها يفقد حرارته، وبرودة بأطراف يديها اللتين كانتا علي ظهري. شعرت بجسدي يلملم قوته وينطفئ.
حدّقتً في جسدها ملياً، النهدان كلُّ واحد مال على صفحة من جسدها، الشفاه اكتست لوناً أزرق. مسستها بيدي، وجدتها جافة، أين ابتعلت ليونتها؟ العيون يكسوها بياض. هلع ركَّ بقلبي، وشياطيني كل واحد فرَّ إلى مكمنه، أطراف أصابعي تشنَّجت وشعرتُ بجسمي ضئيلاً، ماردي خمد كضبٍّ ميت. همهمتُ فزعاً "فتاتي فارقت الحياة". يا للهول، أضحت جسداً مسجّىً ذهبت عنه الروح الزاخرة بالنشوة. تشتّت ذهني وأصابني وجوم كثيف. لا أدري كيف أتصرّف مع من كانت تنبض بالحياة وتحوَّلت إلى جثة.
تحركت داخل الغرفة بلا هدىً يميناً يساراً، أجلس أقف، ربت عليى صدرها برودته انتقلت إلى يدي، ضغطته مراراً أدلكه، لعل الحرارة تعود إليه. رفعت يدها وحين أطلقتها هوت مستقيمة، أبعدت فخذيها عن بعضهما تحسست مكامن اللذة، وجدته تحول إلى قطعة ثلج. برهة تكثّف ندم بدواخلي، وفمي أطلق أسئلته العدمية. ليت تلك الفتاة لم تأتِ، وليتني لم ألتقها.. يا للشقاوة والحظ التعيس، من بين ملايين الفتيات الضالات حاملات شهوة معلنة وشبقات، تكون هي نصيبي؟ ألم تجد مكاناً في بلد مساحتها مليون كيلومتر تموت فيه غير غرفتي؟
نظرت إلى جثة الفتاة الممددة على السرير نظرة خاطفة ارتعد لها جسدي. أين المفر؟ هواجس جمعت جيوشها بقلبي. بدأت حياتي تتعرَّى شيئاً فشيئاً، بين الجنون والقهر خيط رفيع، الفضيحة والسترة متلازمتان. يجب أن أعد نفسي للمواجهة، لكن من يواجهني؟ لا أدري. لا أعرف كيف أتصرف. الشئ الوحيد المتاح أمامي الهروب. لكن إلى أين؟ وكيف؟
رحتُ أدور في الغرفة كثور خُصِي حديثاًز هذه أول مرة أرى إنساناً يفارق الحياة، أن يموت عصفور ليس قضية، القضية أن يموت إنسان. لكن الفتاة التي ماتت بغرفتي لا أعرف اسمها وإن كنت عرفت القليل عن جسدها، أطارت من رأسي أفكاراً كثيرة، جرأتي وتهوّري ذبُلا، تكثف خوفي. نظرت نظرة خاطفة للفتاة وأشحت بوجهي للحائط، خرجت وتأكدت من إغلاق باب الغرفة.
هواجس انتابتني، تضخّمت فضيحتي، وصرت أتخيّل ما سيحدث لي. ربما تأتي جارتي. ربما يأتي صاحب الغرفة ويجدها فرصة سانحة لطردي منها، لي عدة شهور لم أدفع الإيجار. أمام مسجدنا سيمطرني لعنات بخطبه. الذاكرة اللعينة أعلنت مكرها فأرتني نفسي محشوراً في سيارة الشرطة وسط صيحات الاستهجان من الجيران والصبية.
تنهدتُ رافعاً صدري ليدخل هواء، أغمضت عيني مخفياً تلك الصورة، رأيت نفسي أقف أمام القاضي وسلاسل تكبل قدمي ويدي، خلفي جمهرة من الناس تتقافز عيونهم من محاجرها وترك على جسدي، نظرات الشمات لها وخزات تنتهك حرمة الحواس. القاضي يمسد بطنه، مطرقته تعانق سطح طاولته، يصدر حكمه بإعدامي. يقترب مني جندي ويقودني إلى حيث ألقى مصيري المحتوم. لا إرادياً تحسستُ رقبتي بيدي، لا تزال مكانها.
كل هذا لا يهم. المهم موقف زينب مني. ستهجرني، سأفقدها وأفقد متعة كانت تجود لي بها، هل تجود بما تبقى من جسدها لرجل آخر؟ روحي تحوّلت لكوابيس وهواجس. جسدي يركض بين جثة الفتاة وباب الغرفة. أنظر عبر ثقوب الباب، أعود أتمعن في وجه الفتاة، أحياناً أهزها، يدفعني بصيص أمل، لعل الذي بها إغماءة وليس موتاً. ملأت كوب ماء بارد وسكبته عليها، لم يرتجف جسدها. وضعت أذني على صدرها، حينها أيقنت أنه الموت، لا شئ سواه.
هز كياني تعيقدات الموت. تكشَّفت لي عبثية الحياة. أين الخلاص؟ توتري قادني لحل وحيد، لإخفاء عري الجثة. بعد جهد أدخلت جسد الفتاة المتخشب في ملابسها، وبطحتها باستقامة وفرشت فوقها ملاءة جارتي، وجلست قربها تجيش نفسي بانفعالات متوحشة. أدعو الله مستجيراً. تذكرت حكمة عمي، القرارات المصيرية دائماً تأتي ساعة ضيق ولحظة نحس. هل توجد لحظة ضيق أسوأ من هذه: رجل وحيد وجثة فتاة لا يعرف اسمها؟ لماذا لا يأتيني الفرج؟
الجثة أمامي والشرطة خلفي، ليس أمامي سبيل للخلاص. بحثت عن شجاعتي التي انهارت. خواء روح هو أنا تلك اللحظة، ورطتي ستعلن عن نفسها، عبر أفواه تجيد مضغ الكلام وفتل حبال الكلمات. أطلقت زفرة، لن تسمعها الفتاة الميتة. رغبتي في الحياة انطفأت. أقسمت بجميع الأولياء وألأنبياء والرسل لن أرتكب حماقة بعد اليوم، تشبُّثاً بأمل ولو ضئيل. زفرت مرة أخرى. سحقاً للحياة. نظرت إلى جسد الفتاة، بدا لي كأنه يتضخَّم. أعدت النظر، مؤخرتها فقدت توهجها، جسدها ضمر، تحسّسته بأن مّررت يدي على الملاءة. قذفت ذاكرتي خيالات أشباح وضجر. ملل مميت شعرت به، شاشة دماغي انزاح بياضها وصارت سوداء امتزجت فيها الهواجس والكوابيس وخزعبلات، حسرات مراهقة استعمرتني. تهيأت لمفاجآت أخرى ستأتي. سجيتي المنحرفة تأوهت لتستقيم. لكن هيهات.
استولى عليَّ تفكير التخلُّص من جثة الفتاة. خانتني خبرتي. حلمت بملاك أو شيطان يدخل غرفتي يحمل الجثة ويرميها بعيداً. كلما ضاق الواقع اتسعت رقعة الإحباط. لن أترك الأمور تجري كما تشتهي، سيكون لي موقف. أحتاج لإنسان أعتمد عليه. شعرت ببرودة بأطرافي، رغبة مشاكسة تدعوني لتدخين سيجارة. موقف غريب. السيجارة هي رحيق الحياة كيف أشعلها قرب جثة؟ لا لن أطيع رغبات حقيرة مثل هذه، لا يستقيم التدخين وجثة.
انصبَّ تفكيري في التخلُّص منها بسرعة. الجثة في جو غرفتي الخانق ستتفسخ وتنبعث رائحتها النتنة. رائحة الموت لن يقف أمام سريانها حائط، تمنيت تلك الحظة حضور شريف، تلك الأمنية استولت على تفكيري. تحولت الأمنية إلى رغبة عارمة، نهضت أبحث عنه، نظرت نظرة أخيرة إلى جثة الفتاة وخرجت. لحظة خروجي رأيت شريف يدخل غرفته، دهشت كيف لم يمرّ بغرفتي، تذكرت أن بابها مغلق. ذهبت مندفعاً إلى شريف، أمسكت يده وجذبته، لم أحفل بأسئلته الباهتة، قصصت عليه تفاصيل ما حدث.
في ذاك الموقف العصيب كانت به قوة تحمّل، لكأنه يدري ماذا يفعل. كلمة وحيدة خرجت من فمه: "الموضوع بسيط، فقط اجلس مكانك". حمل جثة الفتاة على ظهره وخرج، حتى اللحظة لا أعلم ماذا فعل بها. كلما مرت هذه القصة بخاطري ينتابني ندم، ويبلِّل جسدي عرق مالح. تلك الساعة قرَّرتُ الكفَّ عن اللهو والعبث، ولكن الشيطان كانت له إرادة أخرى، وقد أطعته، وعدت إلى طريق الضلال.
























2
في أحد الصباحات كعادتي خرجت لاصطياد فتاة اسمها ريم، كانت وعدتني للقيا بالمقهى. صباح عادي ككل الصباحات. الطبيعة لا تتفاعل مع تصرّفات البشر، لها قانونها الخاص. كنت في عجلة من أمري، هرولت لألحق بموعدي مع ريم. كانت جارتي تتبعني بنظراتها المندهشة. لم أحفل بها، لقد حان موعدي مع ريم.
أناقتي مكتملة، أنتعل حذاءً لامعاً، بنطال لونه يتناسق ودواخلي الفرحة، قميص أحمر، هذا اللون يعجب حبيبتي زينب، قميص أهدتنيه لحظةَ وجد. فرح طاغٍ يقود خطاي نحو المقهى حيث ريم.
في سيري كنت أدندن بأغنية عاطفية، شهيرة، حتى وصلت إلى المحطة، وجدت بضع سيارات. انحشرت في أول سيارة، كانت مكتظة بأناس سحناتهم متباينة كأعمارهم، شباب، رجال كهول، نساء، أطفال، كانت السيارة تسير في شوارع المدينة كراقص أشتر، أحسست بها تئن من حمولتها، تصالحت مع وضعي فيها وسامحت الركاب على لغطهم الذي يوتر الحواس، شملت بتصالحي المتحصّل السمج حين لم يعد لي المتبقي من سعر التذكرة. يكفيني فرحي. حريصاً على نضارة قميصي الأحمر وحذائي اللامع. اختلط شخير السيارة بلغط الركاب، أزعجني ما نتج عن اختلاطهما، قررت الهبوط منها. نفذت رغبتي.
طنطن بعض الركاب:
- شباب هذا الزمن مدللين..
- الواحد لا يستيطع السير عدة أمتار..
ومن بينهم صاحت امرأة سيئة الظن:
- هذا لص. فتِّشوا جيوبكم.
غفرت لها سوء ظنها، ضغط السائق كابح السيارة، اهتزّت كفيل ولج أرضاً لزجة، هبطت من السيارة، أعلم أني صرت وجبة بأفواه الركاب، سأغفر لهم حتى يكتمل مشواري وألتقي بريم، بعدها سأعيد لهم شتائمهم وكلماتهم الرعناء، أوصاني عمي:
- من سبك سبّه وسبّ أمه وأباه.
سأنفذ وصيتك يا عم، سأفتح غرف ذاكرتي أطلق سراح الكلمات الفاحشة، وأرسلها متبرجة نحو ركاب تلك السيارة اللعينة وأخص المرأة سيئة الظن بكلمات أكثر فحشاً، كلمات يندي لها جبين العاهرة. دخان لفظته تلك السيارة احتل أنفي، فاتسع قوس لعناتي، لعنت السيارة وركابها ولعنت الحكومة وسلطات المرور. أسرعت نحو المقهى، سألتقي ريم. ضحكتها وحدها ستغسل دخان السيارة، وكلماتها أنغام تسرني وتعيد ترتيب ما خرّبته أصوات ركاب السيارة اللعينة. عادت الأغنية الهابطة إلى فمي، كلماتها تدعو لليالٍ حمراء، شاعرها كأنه قصاب يبع جسد المرأة عضواً عضواً، أمضغ كلمات الأغنية حين استعصى عليَّ لحنها الراقص. حين اقتربت من المقهى، اتسع فرحي، همهمت منتشياً: "الآن سأقابل ريم، الفتاة التي استعصمت بجمالها عن الشبان الذين لاحقوها كثيراً".
تهوُّري وحظي السعيد هما اللذان جعلا ريم ترضخ لإلحاحي، سكبت كلمات تذيب الحجر بأذنها، كلما التقيتها تقاطرت كلمات الغزل مني نحوها. لم أيأس من فتح نافذة صغيرة بقلبها. حاصرتها في الأماكن التي ترتادها. ذات نزوة كتبت لها خطاباً مليئاً بالشوق واللهفة والحنين، وزينته كعاشق ولهان بقلبين يخترقهما سهم، رسمت اسمي داخل قلب واسمها بالقلب الآخر، لم أرسله لها.
تذكرت تلك الحظة التي نلت غنيمتي لأن ريم منحتني موعداً. وجدتها وحدها بالطريق العام، بجرأة كلب أحمق بثثتها شوقي واشتهاءاتي. هسمت في أذنها "أحبك أحبك".. كررتها ملايين المرات، كانت يدها مرتاحة بكفي. جرأتي تحوّلت لوقاحة. تشبّثتُ بجرأتي قبل انهيارها، كقط بفمه قطعة لحم نازعه فيها آخر. لم تغادر يدها كفي حتى اتفقنا على موعد بالمقهى.
وقفت ونظري مشدود إلى عجيزتها حتى اختفت عن ناظري. عجيزة بالتأكيد تحمي بقعة دافئة كرغيف فرن بلدي. همهمت "يا لسعادتي سأكون أول من يحرثها". وأنا أدنو من مبنى المقهى، تبسمتُ لتلك الذكرى وارتفعت يدي تمسح أثر قبلة من فتاة لا أذكر اسمها الآن. يطل وجه ريم فأبتسم فرحاً، هيئتها التي قابلتها بها، تحفزني للركض.. ضفيرة مرمية بإهمال على جبينها، نهدان مشرئبان، خصر ضيق، فستان زهري اللون يرتفع قليلاً فوق ركبتيها مشدود على خصرها، شفاه مرسومة بعناية ومطليه بلون أحمر غامض، ساقان ممتلئتان.
وأنا أسير تخيّلتها عارية تحتي فوق السرير فانتصب قضيبي، كدت أخاطبه "اصبر بعد قليل سترتوي من فتاة كحلوى العيد بخيال طفل". خطوت خطوات قليلة مقترباً من باب المقهى، زادت سرعة جريان الدم بشراييني، نظرت إلى الساعة بمعصمي، تبقت دقائق قليلة على موعدي. تحركت مبتعداً، ريثما تأتي ريم. سأقف بمكان قريب، يتيح لبصري الاستمتاع برجرجة كفلها وهي تسرع الخطى. اتكأت على حائط خرب، صرت أدندن بأغنيتي المفضلة، أغنية تشدو بها مغنية نسجت حولها قصص فاحشة.
حين تأتي ريم نتحرك نحو غرفتي، حاضناً يدها البضة بيد، ويدي الأخرى تحيط بخصرها. غرفة تعبق بروائح وعطور، لها تاريخ في انتعاظ الشيء، سأعريها وأوقفها أمامي عارية الجسد ثم أرشف جرعات من الخمر. أبطحها على سريري وملاءة جارتي، سأحولها من فتاة إلى امرأة مكتملة الأنوثة، وفي المساء أجلس بمكان واضح كقبلة بخاطر مراهقة، حتى يراني الأصدقاء.
زمن الموعد حان ولم أشاهد ريم. ربما للمقهى باب آخر. تحرّكت من الحائط ودخلت المقهى. لا تزال الأغنية الهابطة بحنجرتي. نفس الأغنية التي كان يبثها مذياع المقهى، مقاعد متناثرة عليها بعض الشبان والشابات. شعرت بكلمات مغسولة كذباً تتبادلها شفاههم. اندلقت من فمي كلمات قديمة: "هل يوجد حب بلا كذب؟ الكذب بهار الحب، الحب كالحرب لا أخلاق فيهما". تفرست في رواد المقهى، ليس بينهم ريم. قلت ربما ارتدت فستانا بلون آخر، النساء يتلوّنَّ كالحرباء.
أعدت التفرُّس، عدت بخيبة نظري، مات فرحي وعدت لدندنتي بأغنية هابطة أخرى عن هجر الحبيب وصده، جلست على مقعد أنتظر ريم. المواصلات صعبة هذه الأيام، قلت لنفسي أعزيها. أتبعت تعزيتي لنفسي بلعنات للسلطات. مضت لحظات ارتفع لها توتري، تململت في جلستي، ضجري أعلن عن نفسه. مضت ساعة على جلوسي ولم تظهر ريم، أطل خاطر مشاكس يرن بصدري بإلحاح: "لماذا لا تذهب إلى زينب؟".
شعرت بفرح داخلي ينمو، تمطّى جسدي وتثاؤبٌ بفمي لم تكتمل دورته وأدته، نعم سأذهب إلى زينب.




















3
غادرت المقهى، سيرة زينب كأنها غيمة فرح غطتني. صرت شفيفاً مغتبطاً، أدوس على الأرض كأسد استوائي. زينب حبيبتي الرسمية أمام الأصدقاء والصديقات. توهَّطتْ بُطين القلب وسكنتْ مشاش العظام. دخلتْ في شجارات عديدة وهي تدافع عن تعلُّقها بي، تحمّلت ما يسميه صديقي شريف "جلافتي". كلما شعرت بضيق الدنيا أسعى إلى زينب فتتسع خارطة سعادتي. هي فرح حظيت به. سأذهب إليها بشركة الطيران الوطنية حيث تعمل.
ستأتي معي إلى المقهى، نجد ريم الكلبة جالسة وحيدة تلوك إصبعها بتوتر. حين نقترب من مرمى بصرها، يعمّها حياء، يتضاءل جسدها، لن نبادرها بالتحية بل أمسك يدي زينب ويدي الأخرى تحيط بخصرها اللدن ونتقدّم نحو ريم. حين تلتقي عيناها بعيني أرسم بسمة ساخرة على شفتي، وأطبع قبلة على خد زينب، ثم نخرج، ندع ريم خلفنا بالمقهى تعضّ أصابع الندم.
خاطر ماكر آخر ذكّرني بيقيني عن النساء: كل امرأة تصلح أنثى للرجل، ويقيني الآخر كل النساء يتشابهن في الذي يريده منهن الرجال. تذكرت حكمة يتداولها الرجال "جرادة بالكف ولا ألف جرادة طائرة". زينب مضمونة سأبحث عن فتاة أخرى.
وقفت مصلوباً كمسيح كاذب، نظرت إلى المقهى، ثم نظرت إلى الطريق. المقهى أقرب لي من الشركة الوطنية للطيران. عدت أدراجي، جلست بمقعد يتيح لنظري رؤية ما أريد. أعدت التفرُّس في رواد المقهى، باحثاً عن فتاة ضالة تروي عطشي، أو أخرى تأخر عنها حبيبها. لي تجارب عديدة مع فتيات مجهولات، من بينهن التي ماتت في سريري، وخديجة آدم التي أرهبتني بسكين وبصقت على جبيني. تذكّرت قصتها فرفعت يدي ومسحت جبيني، وزفرت بإصرار، لن أعيد إلى جارتي ملاءتها بحالتها الأولى، سألتقط أي أنثى ألوِّث بها ملاءة جارتي. جال بصري في أرجاء المقهى.
بالمقهى فتاة وحيدة يحيط بها ثلاثة شبان لا يبدو أنها من النساء سهلات المنال، لديَّ خبرة استفاد منها بعض الأصدقاء. الفتاة ذات الفم الصغير والشفاه الرقيقة سهلة الانقياد. الفتاة النحيفة الجسد ولها وفرة لحم بصدرها أيضاً سهلة القياد. والفتاة التي تدع شعرها حراً هذا يدل على استعدادها للمغازلة. الفتاة التي تتلفت في جلستها فهي في حالة شبق. أما الفتاة التي تحرك مؤخرتها في جلستها فهي فتاة ليل. والفتاة ذات الصدر المكتنز البارز بالتأكيد هي فتاة لعوب بقلوب الرجال ولا تهتم سوى بجيوبهم. أما الأرامل فيشتركن في حركة الفم اللولبية.
استحضرت حكمتي وصرت أسترقُّ النظر للفتاة وسط الشبان الثلاثة، لعلّي أجد فيها الصفات التي أعرفها في البنات اللائي باستطاعتي خداعهن. نقّلت بصري متمّعناً في الفتاة التي يحيط بها الشباب الثلاثة، كانت متصلّبة في جلستها وشعر رأسها محكوم ومقيّد بغطاء أسود، أعدت النظر الجائع إلى الفتاة، شهقت هاتفاً "هذا الوجه أعرفه". نقلت بصري إلى عجيزتها، كدت أجن "هذه العجيزة أيضاً أعرفها".
هل حلمت بها؟ أم هي عجيزة لإحدى اللائي اصطدتهن؟ بصعوبة حوَّلت بصري عنها، زحزحت مقعدي مقترباً من الشبان الثلاثة وبينهم الفتاة، بفمي تساؤل حاد كشفرة "أين يا ترى رأيت هذه الفتاة؟".
هذه الشفاة تحديداً عانقت شفاهي لا بد. ضربت جبيني أتذكر. يا للهول إنها تشبه الفتاة التي توفيت على سريري، رفض عقلي تصديق توهمي. لا يمكن أن تكون هي، ربما شقيقتها. تفرست فيها، نفس الوجه بغمازتيه، نفس الشفاه التي أشبعتها لثماً. نقلت بصري إلى رجليها، تلك الفتاه لها شامة سوداء في ساقها اليسرى، لكن كيف أعرف وهي متسربلة بملابس تلامس أرضية المقهى؟.
تسمَّرت على مقعدي استحضر صورة الفتاة التي ماتت بسريري وأقارنها بصورة هذه الفتاة، تطابقت الصورتان، ليس أمامي سوى أن أتحقّق من الشامة. طالت جلستي طلبت أكواباً من القهوة والشاي. بصري مشدود نحو الفتاة، كانت تتبادل مع الشبان الثلاثة أحاديث هامسة تتخلّلها ضحكات رصينة. أرخيت أذني أسترق السمع، نفس صوت الفتاة التي ماتت بسريري. يا سبحان الله.
مططتُ أذني لأتبين مجرى حديثها. تلك الفتاة ذات مفردات بذيئة، لكن التي أمامي الآن سمعتها تعظ الشبان الثلاثة وتدعوهم إلى تنظيم ديني يدعو إلى الفضيلة ورفض مظاهر الحداثة. اشتبكت لاءات بذهني.. لا إنها ليست الفتاة، لا إنها نفس الفتاة. همهمت "لن أخدع بالكلمات". تفرست فيها جيداً، قلبي يقول إنها ليست هي. كيف لا أثق بقلبي؟ عقلي يعلن تمرّده، إنها نفس الفتاة التي ماتت بسريري، لكن كيف أرى الشامة؟ أريد عودة الاطمئنان إلى قلبي، ليكفّ عن دقاته بصدري. سأنتظر.
همهمت "من صبر جبر". سأصبر بحثاً عن يقين وقتلاً لتوهُّم وشكٍّ، لكن الوقت يمر، والفتاة مسمّرة في جلستها. رغبتي تنمو وتشدني للبحث عن فتاة أطفئ بين فخذيها مرارة خيباتي القاسية، زوجة، أرملة، طالبة، موظفة، متزوجة، مطلقة، عاهرة، جميلة، دميمة، فقط امراة تتجاوب معي.
نهضت مغادراً المقهى. أقعنت نفسي أنها الفتاة نفسها التي ماتت بسريري. ألم نؤمن أن بعض الذين يتوفون يعودون إلى الحياة مرة أخرى ونطلق على أحدهم (البعاتي)؟ بغرفة صديقي شريف رأيت كتاب (العائدون من الموت). إنها فعلاً هي. اجتاحتني موجة قرف، كيف كنت أمارس الجنس مع بعاتية؟. تذكرت حالتي يومئذ، كيف كانت تتجاوب معي، كانت شبقة، وأكثر انفعالاً، منحتني سعادة مختلفة عن الأخريات بمن فيهن زينب.
فرحت أنها لم ترني، هل لو شاهدتني تعرفني؟ لا أظن، يقولون إن من يموت يعود إلى الحياة بذاكرة جديدة. خرجت من المقهى مندفعاً كقذيفة أطلقها جندي عقائدي، نحو مبنى الشركة الوطنية للطيران لألتقي حبيبتي زينب. سأذهب إليها. سرت بخطوات مبعثرة كالذي يفر من كلب عقور. رأسي يضج بأسئلة ليست محايدة، وذاكرتي تقودني قسراً إلى ريم. لماذا أخلفت موعدها؟ ذاك اليوم كانت بعينيها اشتهاءات مثيرة، وهي تصر على لقائي بالمقهى، أفهم جيداً الاشتهاء حين يطل من العينين.
قمعت الذاكرة وأنا ألج مكتب شركة الطيران الوطنية. قلت لموظف الاستقبال بوثوق المنتصر:
- أريد زينب.
نهض ودخل مكتباً بابه موارب، تابعه نظري، أدخل موظف الاستقبال رأسه وبقية جسده أراها من جلستي. تلك اللحظة غمرني فرح طاغٍ، همهمت لنفسي "ستأتي حبيبتي زينب، ربما تسبق موظف الاستقبال".. هكذا عودتني في زياراتي السابقة لها، عاد الموظف راسماً بسمته التي قابلني بها لم تزد أو تنقص، هيأت نفسي لأشكره، لكنه لطمني:
- زينب قالت لديها عمل كثير، لا تستطيع مقابلتك!
قال جملته وجلس على مقعده ربما في انتظار آخر يعلن فيه أهميته كما أعلنها لي. خرجت بخيبتي، وبفمي سيل لعنات لموظف الاستقبال الكذاب الأشر. أكاد لا أصدق أن زينب تعلم بحضوري ولا تخرج لمقابلتي. هذا ليس موظفاً محترماً بل حاجب. سأنتظر زينب خارج المكتب حتى ينتهي دوامها، سأخبرها بتصرفات موظف الاستقبال الرعناء، ستطلب مني مسامحته وتقص لي قصة ترفع ترمومتر غضبي، كما حدث ذات مرة جئتها في المكتب قابلني زميل لها يبدو أنه قمئ كموظف الاستقبال الكاذب الأشر، يبدو أنه سليل أسرة قذرة، قال لي بجلافة حكومية:
- زينب في عطلة خاصة.
كدت أعود أدراجي حين سمعتها تناديني، اضطرب ذاك الزميل معتذراً أنه لم يرها وظنّها غائبة، ولكن زينب انفعلت فيه غاضبة وقصّت لي أنه كان يراودها. أيضاً موظف الاستقبال هذا لا بد أنه راودها، ستقصُّ عليَّ ذلك. المهم سنذهب أنا وهي إلى المقهى لأغيظ ريم. سرت خطوات مبتعداً عن مبنى الشركة، وقفت متنهداً "سأنتظر حبيبتي زينب".





4
وجدت شجرة سها عنها المتبطِّلون، فجلست. ظل ظليل لو استظله عاشق لأصبح شاعراً، لكن أين أنا من الشعر والشعراء؟ أشعلت سيجارة، انطلق دخانها في الفضاء بحرية، يتلوى كمسيرة حياتي. السيجارة رفيقة الذكريات، كلما تسرب نيكوتينها بصدري قفزت ذكرى.
لا يزال الوقت مبكراً، وظل هذه الشجرة رحيب، سأقطع الوقت بتسكع عشوائي، واجترار استعداداتي التي ضاعت هباء للهو بجسد ريم. قضيت ليلة كاملة في الاستعداد لها، استلفت ملاءة جارتي، أطلقت بخور الصندل بالغرفة، تعطّرت، وقفت مراراً أمام المرآة، أهندم جسدي، ارتديت قميصي الأحمر، حذائي يلمع، دواخلي تضج اشتهاءً توتّر له جسدي.
استحضرت تقاطيع جسد ريم، نهد كحُقِّ العاج، خصر لدن منسق، أرداف مكورة حصان من أكفّ اللامسين، يدها بضة كوجنة رضيع، شفاه خالصة للتقبيل، أنف نفرتيتي يرمي ظله على الشفة السفلى. كل هذه التقاطيع لا بد تخفي كنزاً فاتناً، دندنت بأغانٍ عاطفية. انعكاس وجهي على سطح المرآة أفرحني. نظرت نظرة أخيرة إلى سريري، طفح فرح بقلبي. نفضت رماد السيجارة، نقلتني الذاكرة لأيام جميلة مع حبيبة سابقة تدعى كوثر. أذكر أنني استأجرت غرفة بحي طرفي، غرفة كأن صاحبها في باله حين شيدها أنها تصلح لي وحدي، غرفة تعيسة وفقيرة. أطلقت عليها كوخ المتعة.
كنت حينها قد التحقت بالعمل بإحدى الشركات؛ شركة تعج بالموظفات، آنسات وعوانس ومتزوجات ومطلقات، فيهن اللعوب والمحتشمة، والعاهرة النظرات، من بين العاملات فتاة يبدو أنها من مددلات المدن، جسدها رخو، اسمها كوثر، كل شئ فيها حلو ورائع. في عينيها العسليتين حزن مقدس، تتحوصل بصمت تركع أمامه شهوات فحول الرجال، وتسجد له الجباه الشماء، وجهها حنطي كقمح اعتنى به زارعه، خدها يضجُّ حناناً تغلّفه تقوى، لها شفاه بلون القهوة المحروقة.
شعرت بنفسي تميل إليها، لكن حاجز ريفيتي وتمدُّنها استطال حائط صد بيننا فترة من الزمن. أحسست داخلي يثب نحوها، أعبّئ عينيّ كل صباح منها. مليون آهة مكتومة تعشعش بقلبي حين أراها. صرت أهمل عملي، وأحدق فيها. حين تأتي الصباح، وفي الظهيرة نهاية دوام العمل، أتعبد أمام جمالها، دون انتباهة العاملين. أغتاظ منها، لماذا لا تحس بي؟ زملاء العمل كانت أعينهم مرتبطة بها أيضاً، يهمسون متعجبين من جمالها الصامت، حاول البعض كسر جليد صمتها، عادوا بخيبات ونوادر تدور بينهم. أحدهم زجرته وآخر صفعته، وبعضهم قدمت شكوى ضدهم، زعموا أنها سليلة أسرة لها امتداد في مفاصل الدولة. قصصهم أخافتني.
بين الخوف والطمع شعرة كشعرة معاوية، لكن الشهوة لها حديث آخر، كانت حين تأتي إلى مكتبي ترمي صباح الخير جافة كحبة رمل، ثم تدخل مكتبها، شعرت بالغيظ منها، قرَّرتُ "لا بد من كسبها". صمّمت أن أقتحم عزلتها، مهما كلفني الأمر. صرت أنتظر سانحة. ذات صبح مرت أمامي. انتظرت تحيتها الصباحية، لكنها بخلت بها. نهضت من مكتبي، أعلم أن عيون الزملاء تابعتني، ولجت مكتبها، حين شعرت بي وضعت الكتاب على صدرها النافر. آهة كادت تفضحني، قلت بلا مقدمات:
- تحية الصباح تسلّلت إلى قلبي تتبع صاحبتها.
فجأة نهضت كوثر صامتة وخرجت من مكتبها، لملمت حيائي وعدت إلى مكتبي. ارتفعت همهمات الزملاء الساخرة. مرت أيام لم تشنّف أذني بتحيتها الصباحية، أيام تحمَّلت فيها سخرية رفاق المكتب وكلماتهم الجارحة: "هذه جنة لن يدخلها إبليس".. "جرح السكين أسهل من جرح قلب عاشق".. "مسكين الذي بدأ يؤمِّل".. كلماتهم وخزت قلبي وهو ممتلئ غيظاً من تصرُّف كوثر. ذات يوم ركبني شيطان ماكر، انتظرت حضورها على أهبة الاستعداد، مرت قربي تجاسرت سبقتها بالتحية وأردفت:
- السلام سنة ورد السلام فرض.
قلتها بصوت عالٍ. توقّفت. حدجتني بنظرة ودخلت مكتبها. ركضت خلفها، وضعت يدي فوق طاولة مكتبها ومن فمي انطلقت قذائفي الأخيرة:
- نعم أنت أجمل فتاة، لك عيون جميلة وشفاه مكتنزة ينقصها فم عاشق ليقبلها حتى تدمي.. لك ساقان يريدان الارتفاع إلى عنان السماء من رجل شبق، لك خد يودُّ المداعبة من يد صبٍّ ممتلئ نشاطاً وحيوية، وتحت هذا الخمار نهد شهيّ يتوق لمداعبة أصابع خبيرة، خصرك يشتاق إلى يد ماهرة تحضنه.
أطلقت قذائفي وعدت إلى مكتبي، كنت متوتِّراً. حين استرجعت كلماتي، عجبتُ من تصرُّفي الأخرق، صرت أحدق بباب المكتب ربما تأتي مقتحمة مكتبي تفجّر غيظها، ولربما يأتي معها مدير الموسسة، وهو شخص يمقت التصرُّفات التي تخدش الحياء، ضنين التبسُّم بوجوه العاملين، سياج من الرهبة والخوف بيننا وبينه.
نهضت من مكتبي هائماً، لا ألوي على شيء، وليس برأسي هدف معين، وجدت شجرة مخضرة بالقرب من مكاتبنا، جلست تحتها، تكومت مهموماً، واضعاً خدي على يدي، وشريط كلماتي الجارحة وتصرُّفي الأحمق يتكرّر أمامي. محدِّقاً في اتجاه المكتب، رأيت كوثر تخرج واضعة كتابها على صدرها، تواريت عنها حتى ابتعدت، وقفلت راجعاً إلى المكتب. بهدوءٍ انسللتُ، لم ألحظ أيّ تصرف مريب من رفاقي. جلست متنفِّساً الصُّعَداء.
المهم ذاك اليوم مرّ بسلام، تلاه يوم وثانٍ وثالث. في الرابع جاءت كوثر، سرت بجسدي رعشة، ألصقت نظري بسطح الطاولة، سمعت تحيتها الصباحية التي أفتقدتها ثلاثة أيام: "صباح الخير".
رفعت رأسي مندهشاً، تحيتها غسلت دواخلي من الحنق تجاهها، ونزلت عليّ برداً وسلاماً، شقشق عصفور فرح بداخلي، قلبي حدثني "تريَّثْ قليلاً حتى تركع أمامك". لم أردّ تحيتها، عادت ريمة لعادتها القديم. صارت ترمي بوجهي تحيتها الصباحية وتدخل مكتبها. نعم صارت تصحبها بسمة مقتضبة، صرت أسترقُ النظرات إليها، أراها ساهمة مكتفية بذاتها، فاجأتها:
- قلبي يحدثني بأنك لي وأنا أثق به.
تبسّمت جميلاً، جلست قربها ودار بيننا حديث عن الأدب والعلاقة بين الزملاء. بمرور الأيام صرنا نخرج سوياً بعد نهاية الدوام. في أحد الأيام غافلتها وسرقت قبلة منها، انفعلت غاضبة، بصقت قبلتي على الأرض
- لن أراك بعد اليوم.
أمسكت يدها. نفضت يدها مني وفرّت غاضبة. نظرت إلى قبلتي المرمية على الأرض، ألحقتها بحنق:
- اذهبي ستعودين منكسرة، وستبلعين قبلاتي بدل بصقها.
وقفت كأهبل حتى تورات عن نظري. صارت تتناوشني أفكار شتّى، كيف تتصرف كوثر؟ هل تترك العمل؟ هواجس مزعجة بدماغي، تحركت غصة بحلقي وتوتر جسدي. حملتني أقدامي أجوس طرق المدينة، روحي تشظّت لا تستقر على حال، رحى حرب بذهني، منتشياً لأنني خطفت قبلة، ومنهزماً لقبلتي المبصوقة.
في اليوم التالي جئت مبكراً، دخلت مكتبي وعيني على باب مكتب كوثر، حين رأيتها قادمة انتابتني قشعريرة، هل أتوارى عنها؟ أم أنتظرها؟. قررت أن أمكث بمكتبي، حاولت جهدي إخفاء توتري. رأيتها تقصد مكتبي، حدقت في وجهها لعلي أرى مسحة غضب، دخلت علي. رمت لي ورقة وخرجت مسرعة. تناولت ورقتها وقرأت:
"ما حدث أمس بعثر كياني ودمر ثقتي بفسي، لأن كل ماعشت من أجله انهار تماماً. لقد عشت عمري أصون نفسي لمن يستحقها، وفي لحظة غباء شعرت أنك من يستحقها، ولكن تصرّفك معي لا ينم عن ذلك. (كاف)".
ابتسمت وأنا أقرأ وريقة كوثر. ظللت فترة أفكر في تصرُّف يليق بي، وقد قررت كسبها مهما كلَّف الأمر. لن أرد عليها كتابة، نهضت ودخلت عليها بمكتبها، فاجأتها وأنا أحدق في شفتيها. أشاحت بوجهها عني، تماديت بجرأة:
- شعرك أكثر نعومة مما تخيلت.
قلت جملتي وذهبت إلى مكتبي، أجتر تفاصيل ما حدث مني. بعد قليل جاءت كوثر على استحياء إلى مكتبي، جلست وهي تشيح بوجهها عني قالت:
- أوعدني أنك لن تتصرف مثل تصرف أمس.
- أعدك رغم أن جمالك لا يقاوم.
ابتسمت، وعادت إلى مكتبها، بعد نهاية الدوام خرجنا سوياً، كنت أتحاشى كلمات الغرام والعشق. ذات يوم سألتني:
- هل غرفتك بعيدة؟
كدت أطير فرحاً، ناديت على سيارة أجرة، ركبت وأنا أجرّها من يدها: "هيا". ركبنا السيارة التي سارت بنا إلى غرفتي، هبطنا من السيارة، صرت أدفعها "هيا.. هيا". حين دخلنا غرفتي، تصرّفتْ فيها كأنها تمتلكها، مسحتْ أرضيتها ونفضت الغبار عن الستائر.
امتدت يدي وكشفت عالمها السري. هالني ما رأيت. خط الكتفين مستقيم وناعم. استدارة ركبتيها وبياض نهديها، وما خفي كان أعظم. حين رشفت قبلتي الأولى منها، أصابتها إغماءة، جعلت قضيبي يجوس بأماكن رخوة وطرية، وهي تتأوّه تحتي، اختفت القداسة وأعلنت عن عهر مقدّس، لكنها أخذت مني مواثيق: "لا تخبر أحداً".
انهيت اجتراري لقصتي مع كوثر ونظرت نحو مبنى شركة الطيران، نوافذه زجاجية. ركزت نظري لنافذة كانت تطل منها زينب، كنا نطلق عليها (نافذة عشقنا). آهٍ لو أطلت الآن، حدقت في النافذة الزجاجية، لمحت يداً بيضاء تغطي زجاج النافذة بستارة سوداء، بدت لي اليد كأنها يد زينب. نعم يد زينب، أنا أعرفها جيداً.. يد بيضاء وبضة، كيف لا أعرفها؟ أنا أعرف كل مسامات جسدها. دقّقت النظر في ظلال اليد، لكنها اختفت بسرعة. قلبي حدثني: "لا لا هذه ليست يد زينب".
تحركت من ظل الشجرة الوارف فخطوت خطوات مترددة نحو الشركة، أحياناً أقف وحيناً أسرع، الموظف القميء قابلني عند الباب، هممتُ بتجاهله، لكنه لمحني، استجمعت شجاعتي بل تهوري وسألته عن زينب، قبل رده رأيت اشمئزازاً بعينيه، بؤبؤاهما تحركا بسرعة خبيثة، رفع حزام بنطاله، وهز وسطه ثم قال منتفخاً كحرباء خائفة:
- زينب أمرتني بطردك إذا حضرت.
لا..لا. لا أصدق. زينب لا يمكن أن تأمره بطردي، أنا أعرفها جيداً. هذا الموظف الدميم منافق وكذاب. خرجت من الشركة متضائلاً، أعلم أن موظف الاستقبال يتابعني بنظراته الخبيثة، وبفمه سخرية، عدت إلى مكاني الأول وجلست بتصميم يتيم على البكاء. سأنتظر خروج زينب حبيبتي. أشعلت سيجارة أخرى، وفتحت شاشة دماغي تتذكر.
اسمي عبد القوي، اسم حاولت جهدي أن أتمثّله في حياتي، كلما تراكمت إحباطاتي. غمغمت باسمي فيدب بي نشاط. اسم اختاره أبي بعناية كأنه أرادني لمقاومة ظروف الفقر الذي لازم سكان البلاد. لكن اسمي جميل، تكشّف لي جماله عند حبيباتي الكثيرات. زينب كانت تعجب بكل شيء يرتبط بي، اسمي، جسمي وكلماتي. ريم قالت لي "أموت فيك"، لكنها لم تبرّ بوعدها لي. ربما تكون الآن بالمقهى، هل أعود إليها؟ لا سألطعها كما لطعتني، وأحرجها بزينب.
رفعت رأسي نحو السماء، ما زال النهار طفلاً يحبو. لا.. الذي يحبو هو الليل، لا يزال النهار رجلاً يغفو. جلست على حجر أنتظر. لن أعود دون زينب، طالت جلستي بالحجر، تعرّق جسدي عليه. نهضت. تحركت من الحجر مبتعداً متسكِّعاً في طرقات تشبهني. التسكُّع معناه أن تعرف. التسكُّع في الأرصفة كالتسكُّع على أجساد الفتيات.
غازلتني رغبة التسكع بشارع لا يحمل اسماً، جميع شوارع المدينة تحمل أسماء شهداء، الشهداء كثر بمدينتنا، ماتوا في حرب نسمع بها ولم نشاهدها سوى نجوماً تزين كتف الرئيس وبعض الضباط، وبعضهم استشهدوا بأيدي زملاء لهم قاموا بانقلاب أطاح حكومة ما. رغبة السير بشارع لا يحمل اسماً لشهيد فكرة زينب. قالت لي: لماذا لا نمارس الحب بشارع لا يحمل اسم شهيد؟ الآن سأنفذ رغبتك يا زينب، يبدو أن الشهداء أكثر عدد اً مما أعرف، جميع الشوارع بالبلد تزيّنها لافتة باسم شهيد، كذلك المدارس والمستشفيات ومراكز الاتصالات، المساجد، الكنائس، ومحلات التجميل. لماذا لا نسمي البلد باسم شهيد؟
عاد قلبي يذكرني بريم، قرّرت تأجيل رغبتي في التسكُّع بشارع لا يحمل اسم شهيد لوقت آخر. نصف عمري أضعته تسكعاً. انحرفت نحو المقهى. كان أبي يزجرني ويصفني بالمستهتر، ويحذرني من غواية النساء، لكن كيف يا أبي أرفض دعوات جسدي الذي يحنُّ إليهن وقلبي يصبو نحوهن؟
قتلت رغبتي في العودة إلى ريم بالمقهى، بأن أتجوَّل في طرقات حفرتها أرجلي وأرجل صديقاتي الكثيرات. طرقات أعرفها وتعرفني. قرب المصرف التجاري وقفت. تذكرت تحت ظل شجرة النيم جواره أكلنا آيس كريم أنا وزينب، تجمع حولي شحاذ أعمي وعجوز رثّ الثياب، وطفل فقد إحدى رجليه، وصبية تحمل على وجهها عين واحدة.
نهضت مغادراً شارع المصرف التجاري. وصلت إلى شارع القصر. ضجيج الباعة وسيارات الأثرياء الجدد تزعق، الأسفلت تخلى عن سخونته، نقلها إلى جسدي. شعرت باختناق، ارتعشت، تذكرت بشارع القصر التقيت بريم أول مرة فيه، في تلك الجلسة تواعدنا على ميعاد اليوم بالمقهى. موعد أورق أوراق القلب، ولوَّن قماشَ النشوة بألوان زاهية، موعد توهّج له القلب، لكنها طوت سجلّ اللهفة، كونها تأخّرت.
أكملت تسكُّعي كطواف عاشق تائه، وعدت أدراجي منهك القوى خائب الرغبة، نحو شركة الطيران الوطنية، ممنياً نفسي بلقاء زينب. أمنية بحافة القلب ومتنه، زينب حيث يتوهّج العطاء وتفرد الفرحة أجنحتها، أسهبت في الحلم، سألتقي زينب بألقها، ورونقها ونضارة كلماتها المزخرفة بعاطفة مشبوبة. جاشت خلاياي متمرّدة نزقة. ضالتي وقد وجدتها. زينب رفيقة القلب والدرب. مسحت برفق على سطح الذاكرة، رفعت رأسي نحو السماء، سكن الفؤاد هنيهة، الشمس كأنها تعبث بي، ما زالت بكبد السماء. توهجت ذكرى لزينب وهي تضربني على صدري وتحكي حياتها منذ مولدها حتى التحاقها بشركة الطيران الوطنية.. تحكي تفاصيل تبدو مملة في بعض الأحيان لكني أجاملها بإنصاتي لها. في الحب لا بد من بعض التنازلات.
بضجر مميت عدت بذاكرتي لأنعشها لتلك الليالي مع زينب، أول مرة ألتقي بها أذكر تلك اللحظة التي غسلت مني أحزاناً وملأت قلبي فرحاً، كنت كعادتي أتسكع بشوارع المدينة، بفؤادي رغبات متداخلة، بلغ مني الأعياء مبلغه فجلست تحت ظل شجرة مخضرة. كان الصيف ساعتها أعلن عن حضوره بشمس ساطعة، تتخلل مسام الجسد وتعصره عرقاً يبلل الملابس. شعرت بنسمة باردة تلفحني وتجفّف عرقي. رفعت رأسي أستنشق ذاك النسيم، شاهدت فتاة توقف اللعاب في الحلق، كما يقول صديقي شريف عن الفتاة الجميلة.
هتف قلبي، هذا الجمال لك. نهضت أخرجت منديلاً جفَّفت العرق، حدقت فيها، قميص سماويّ، شعر يلهو مع الريح ويعبث بقلوب المشاهدين من المارة، صدرها يهتز بجنون في سيرها، قوام مستقيم وأرداف كأنها صُمِّمت لها وحدها، صرت أدندن بأغنية عاطفية. اقتربت مني، كلما تخطو خطوة نحوي تزداد ضربات قلبي. استجمعت شجاعة وتهوراً، ارتفعت دندنتي بالأغنية، ورسمت بسمتي وأنا أنهض واقفاً وهي تدنو مني. بجرأة دنوت منها مصافحاً، علمتني التجربة أن الجرأة مع الفتيات تجدي. يبدو أن المفاجأة أذهلتها، مدّت يدها نحوي، حضنت يدها وبصري سال على خدها الأسيل. كانت نضرة كفاكهة أول الشتاء، بعينيها حيرة ودهشة، قتلت حيرتها بلسان ثعباني:
- إن إحدى النسوة تقرأ الكف جاءت إلى بيتنا وأنا طفل، قرأت كفي وأخبرتني أن قلبي لن تملأه سوى فتاة واحدة ستلتقي بها تحت ظل شجرة! ولي سنوات أستظل هذه الشجرة..
قاطعتني:
- وهل لم تجد فتاتك؟
ضمتت يدي وحركتهما نحو صدرها:
- وجدتها وهاهي أمامي
- هل قارئة الكف وصفتني لك؟
بجرأة كاذبة قلت:
- بل أخبرتني باسمك.
- ما اسمي؟.
- اسمك يا حبيبتي زينب.
- نعم اسمي زينب ولكني لست حبيبتك.
في هذه الأثناء رأيت صديقي شريف يسعى نحونا، على بُعد أمتار سألني بخبث يتقنه:
- هل هذه حبيبتك التي حدثتني عنها؟
عند انتهاء جملتي كان شريف يقف بينا، عاجلها مبتسماً:
- كيف ورّطتِ صاحبي يا حلوة في حبك؟
وواصل أكاذيبه العذبة:
- لقد اقسم ألّا يحب أبداً إلا فتاة واحدة، حين نسأله عن أوصافها يصف نفس الأوصاف التي أراها أمامي الآن.. وبهذه المناسبة السعيدة هيا إلى المقهى لنتناول بعض المشروبات احتفالاً بإعلان حبكما.
كان بؤبؤ عيني يتحرّك بسرعة أسطورية بين فم شريف وهو يقذف أكاذيبه وبين جبين الفتاة، حدّقت فيها ملياً، غزت نظراتها قلبي، أسرعت أحثها:
- هيا لا تفلتي فرصة كرم نادرة من صديقي.. إنه رمز للبخل.
توسطتنا في سيرنا نحو المقهى، كانت أقصر مني وأطول من شريف، جلسنا بالمقهى تتوسطنا هي. ثرثرنا عن الطقس وظروف البلاد، لعنَّا الحكام وأشياعهم، وأنكرنا تصرفات الناس العاطفية، وذممنا خداع الرجال للنساء باسم الحب، وتعاطفنا مع المرأة التي تنخدع بمعسول الكلام، وتذكرنا قصصاً مرعبة لفتيات عشقن بصدق وكانت النتيجة فاجعة، وزينب تجارينا. طال مكوثنا بالمقهي، ثرثرنا وقذفت ألسنتنا كذباً، تبادلنا كلمات وثقت عروة تعارفنا، تواعدنا على اللقاء في اليوم التالي. وهكذا جرت علاقتنا، الحب كعاصفة هوجاء لا تعرف مسيرها.
آهٍ من تلك الذكرى. رفعت شوقي لزينب، في تلك الهجيرة، وأنا أقف كأبله، ضربت أخماساً في أسداس. قلبي حدثني بالذهاب إلى المقهى، بالتأكيد سأجد ريم بانتظاري، تفرك يديها بتوتُّر، سيمتلئ قلبي سخرية منها. لن أدخل المقهى، عبر زجاجه ألمحها، سأقف بطريقة أراها ولا تراني، وإذا تصادفت أعيننا سأتجاهلها، لو نهضت وجاءت إليَّ لن أحفل بها ولو مدت يدها نحوي لن أمد يدي، سأريها انتقامي، لملمت أطراف انتقامي وسرت نحو المقهى وداوخلي تتصارع بأفكار خبيثة. في منتصف الطريق رغبة أخرى احتلت صدري تأمرني: "لا تذهب إلى المقهى قبل مقابلة زينب وحضورها معك إلى المقهى".
عادت خطواتي إلى مقر شركة الطيران الوطنية، الشمس تحركت قليلاً من مكانها، جلست على حجر، بعد قليل ستخرج زينب من الشركة وتراني ترسم بسمتها النقية التي تشنق أوتاري بالحلق، تركض نحوي كغزالة برية، سأحضنها بكل غضبي على ريم.. يا ليت موظف الاستقبال القمئ يشاهدها وهي في حضني، حتى يعلم من أنا. نتحرك نحو المقهى حيث ريم ملطوعة، لكن قلبي له حديث آخر: "لا تظلم ريم ربما عذر مقنع جعلها تتأخر".. لا لن أغفر لها، كيف تتأخر عني؟.
يبدو أن هذياني طال. الشمس مالت قليلاً. حانت ساعة انصراف العاملين. بعد قليل ستخرج زينب. جمعت بصري على باب الشركة في انتظار أن تهل زينب بطلعتها البهية. شاهدت سيارة الترحيل تدور ماكنتها، سائقها فتح أبوابها، نهضت من جلستي ونظري مشدود على باب خروج العاملين، رأيت وفد المقدمة من العاملين يتجه نحو السيارة، تمعنت فيهم، ليست بينهم زينب.
يبدو أن موظف الاستقبال كان صادقاً حين قال إن زينب مشغول. تلك زميلتها السمينة رجاء، تدخل السيارة، هل لمحتني؟ لا يبدو ذلك، كانت حين زيارتي لزينب تهتم بي كثيراً، تابع نظري رجاء، جلست قرب السائق، لم تنقل بصرها نحو الخارج، يبدو أنها لمحتني، هل موظف الاستقبال صادق؟ حين أخبرني أن زينب أمرته بطردي؟ ليتني سألته عن رجاء، كنت حين لا أجد زينب بالشركة تحتفي بي.
ها هي زينب تأتي تتهادى نحو السيارة. رآها قلبي قبل عيني، شعرت بدماء حارة تجري بعروقي. نهضت من الحجر وتحركت نحوها وقد رسمت بسمتي، لماذا لا ترفع بصرها نحوي؟ لماذا ثبتته على الأرض؟ ها هي تدخل السيارة راكضة وتجلس قرب رجاء. السائق أدار السيارة، أصابتني رجفة اهتز لها جسدي، أسئلة حمقاء جرت بلساني، هل أقذفها بحجر؟ هل أصيح في زينب؟ ها هي تتبادل كلمات مع رجاء. هل تتكلمان عني؟ تحركت السيارة وأنا أتابعها بنظري، لم تلفت نحوي. انهارت قواي، بفعل الشمس ولعنة الانتظار الطويل. لكن ماذا فعلت لزينب حتى تتجاهلني؟ هل شاهدتني؟ لا أكيد لم تشاهدني. ضاع حلمي بضمها أمام موظف الاستقبال، وإحراج ريم.
كسادٌ عمَّ روحي، غصة بحلقي وعبرة بفؤادي، تضاءل امتداد الجسد، ماء الحياة جف، تشعبت أسئلة مريرة بلهاتي، تجمعت أيام حياتي في خيال أسود اللون، غاب بصري فحدق قلبي في اللاشئ. نهر حزن يتدفق بجمجمتي الدافئة، محطات مضيئة كانت بحياتي كساها غم. أنا دون زينب لا شئ، شعرت بنفسي ضئيلاً ومسوداً كالشامة التي بين نهدي زينب. إحساس مرير بالهزيمة والهجران، آخر خيط يربطني بالحياة انقطع. بحثت عن طمأنينة لقلبي، باجترار علاقتنا معاً، علاقة مستيقمة كخط الاستواء، لكن ماذا حدث حتى تهجرني زينب؟ كيف تراني ولا تهتم بي؟ يبدو أن شياً مريباً وغريباً حدث. أسرعت ذاكرتي تبحث عن المتهم وأسباب الجريمة. بيقين متهالك اقتنعت، ربما نقل لها أحدهم وشاية. تمكن هذا اليقين من قلبي ولكنه استولد سؤالاً أكثر مكراً؛ من ذا الذي يشي بي لها؟ تشعبت الإجابات، هل هو صديقي شريف؟ لا أظن ذلك.
الذاكرة اندفعت تدافع عن شريف. الذاكرة أكثر صدقاً. لا، ليس هو إنما إنسان آخر مجهول. من يطلق الإشاعة لا يعلم به أحد، لن أتعب نفسي في تتبّعه، غاب أثر السيارة، بجوفها زينب، لا.. بجوفها قلبي. لسعة جمر بالقلب وألسنة لهب الفراق تحرقني، دياجير مظلمة وحالكة ولجتها، نبشت بئر الذاكرة، أخرجت ثعابين وعقارب أحرف ميتة، ثقُل اللسان، انشطر الفؤاد، عرق له طعم الفضيحة ونصاعتها يغمر جسدي، رأيت نفسي أهبط من سفينة العشاق، الخيط الذي يربطني بهم انقطع، وكنت الملاح، خيبات كثيرة تراكمت، شيئاً في الروح يخِزني، عذاب الفراق يجرفني، عاصفة هوجاء من الخيبات تحيط بي، كلما استحضرت صورة زينب وهي تسرع نحو السيارة نزف قلبي، شعرت بنفسي قشة تطفو على بحر هائج.
فقدت تماسكي. الدنيا أضيق من سوار بيد طفلة. جسدي بدأ ينهار، لملمت أطرافه، جلست على الأرض، أشعلت سيجارة، داهمتني رغبة في كأس خمر، الخمر تطفئ فظائع الهجران، أنا أحتاجها لتطفئ النار التي اشتعلت في بساتين حلمي. اصطرعت نشوتان بداخلي، نشوة اللحاق بزينب ونشوة اللجوء إلى غرفتي. الدخان المتصاعد تشكل بصورة أنثى، يتماوج في الفضاء، وأدت رغبتي في كأس خمر. بتثاقل حملت جسمي وعدت نحو الغرفة، أشعر بخيبة كحاكم نقلت له أخبار هزائم مُنِيَ بها جيشه. رغبة أخرى داعبت ذاكرتي المنهكة، وهاجس ماكر يساندها، يهجس: "لماذا لا تذهب إلى المقهى حيث ريم؟".
أطعت الرغبة فانحرفت نحو المقهى، ربما أجد ريم في انتظاري. أكيد سأجدها، أنا واثق من ذلك، سأعتذر لها عن تأخيري، أخبرها أن فتاة مجنونة اسمها زينب تعلّقت بي لكني اضطهدتها من أجلك يا ريم، وأواصل تداعياتي الكاذبة. أواعدها غداً صباح بشركة الطيران حيث تعمل زينب. زادت سرعتي فصارت ركضاً، دخلت المقهى، تركت الحرية لعينيَّ تبحثان.. بطاولة يجلس كهل وطاولة أخرىيحيط بها شبان، نفس الشبان الذين كانوا يحيطون بالفتاة التي تشبة الفتاة التي توفيت بحضني. راودتني رغبة في التحدث معهم، ربما ألتقط معلومة عن الفتاة، جلست على طاولة متوتراً، انتقلت نحوي بعض الأعين، نادل المقهى حام حولي ودار كذبابة حمقاء، طلبت قهوة، قبل استجابة النادل لطلبي نهضت وغادرت المقهى، لن أمر بشركة الطيران، ولن أقف على طلل بعد اليوم. غرفتي أرحب، لكن كيف أوقف الضجة برأسي؟









5
اكتمل هذياني الموتور وأنا أقف أمام غرفتي، تلفَّتُّ يمنة ويسرة، منازل الجيران غافية، ضجيج أطفالهم قتلته حرارة شمس الظهيرة. تطاولت بعنقي لبيت جارتي، رأيت أثر ماء مسكوب، أمعنت النظر في الأرض، حوله يتطاير ذباب، ثم رأيت ملابس ذات ألوان باهتة مشنوقة من أطرافها على حبل، تخيلت جارتي مشنوقة، فضحكت.
همَّت الذاكرة باستعادة شريط جارتي، هززت رأسي. انتويت الهروب إلى الأمام، الماضي مضى، تشاغلت عن انهمار الذاكرة بأشياء تعيد التماسك لي، سيجارة، زجاجة خمر، هما الوحيدتان اللتان لم تعلنا مكرهما حتى اللحظة. آه لو وجدت أنثى أرتمي بين ذراعيها. لامست يدي تجاعيد جبيني. ولجت غرفتي، بها سأتكيّف على وضعي، سأتخلص من شغفي بالنساء. تركت الباب نصف مفتوح، الشمعة بداخلي ترسل ضوءاً باهتاً، يبدو أن حياتي وصلت إلى نهايتها. برهة تصالحت مع وضعي الجديد مُكرهاً، سأغلق كهوف بقلبي. سمحت لها من قبل باحتلال اتساعات هائلة. تنازعتني هواجس، يبدو أن حياتي كانت حلماً، وصروح خيال، هبطت من سماء الخيال إلى الواقع.
نزعت قميصي والحذاء. ضغطت كعب رجلي بيدي، انبعثت رائحة كرائحة إبط لعقته عاهرة. جرتني الذاكرة إلى جارتي، كنت حين أنهي وطري منها أستلقي على بطني تدس أنفها في إبطي تستنشق، هذه الحركة تدغدغني يزداد لها انتصاب قضيبي، يعجبها الانتصاب، تدنو فتحشره بفمها، تلعقه وهو يجوس بين أسنانها واللهاة.
وضعت الحذاء خارح الغرفة رائحته لا تزال عالقة بأنفي. علّقت القميص بمسمار مثبت على الحائط، جوار فرشاة الأسنان والمعجون. دخلت الحمام دعكت أنفي بصابون طبي آخر أثر تبقى من هدايا زينب العديدة، مناديل ورق، صابون، قنينة عطر، ولاعة، سجائر فاخر، أحذية، وقميصي الأحمر. عدت إلى سريري. تخلَّصت من ملابسي الداخلية، استلقيت عارياً. عادت الهواجس تعترك بذهني، وسؤال كقبلة مخمور بخد طفلة يطن: من الذي وشى بك يا عبد القوي؟ غمغمت: "صديقي شريف هو الواشي". سأرد له الصاع مليون صاع، سأخبر حبيبته عائشة بسخريته منها، وأنه يقص علينا تفاصيل علاقته بجسدها، وأنه يطلق عليك صفة الكلبة، ورائحة فمها نتنة، سأطلق سراح ما تخزنه جمجمتي من كلمات بذيئة، وأختلق قصصاً فاحشة أنسبها لشريف.
هدأت ثورتي حين استحضرت تاريخ علاقتي به. أنكرت ما نويت فعله، طيلة صداقتنا، لم يحدث أن أساء لي أو لغيري، لكن من الذي وشى بي لزينب؟ نبشت ذاكرتي، الذاكرة أصبحت حروناً. كمريض حمى تقلَّبتُّ ى لسرير، ملاءة جارتي كانت على كرسي جوار الطاولة، تناولتها ومسحت بها جبيني ورميتها على الأرض. تبسمت وأنا أجتر ذكرى أول ليلة نامت معي جارتي فيها، كان هذا قبل سنوات. أذكر تقابلت أنا وهي أمام باب بيتها، حين لامست يدي يدها مصافحة، استثارتي بلغت الذروة، انتفض ماردي، كاد يتسلل خارج بنطالي، دفعته بيدي ليرتخي. همد، تمور الدماء بشرايينه، تحرجت أن تشاهد جارتي حركتي وأنا أربت على قضيبي. يبدو أن القضيب أرسل إشاراته إلى الدماغ، توهج جبيني بالحرارة وضاق جفني، وقفت في حد فاصل بين جسدها واحترام الجيرة. نعم جسدها يدعوني هيت لك. استبعدت أن تكون جارتي امرأة خائنة رغم إشاراتها الولهى، لكن معرفتي بزوجها الكهل تنبئني أنها محتاجة إلى رجل يجيد الحرث بجسدها الفتيِّ. قدتها إلى غرفتي، لا إرادياً أدخلت يدي إلى صدرها، تحسَّستُ نهدها فتنهدت متأوهة، انتصبت أمامي بإغراء، مسحت جسدها الأسمر بنظري، ملابسها الشفيفة ساعدتني على اكتشاف الجسد، قوام طري، شعرها طليق، نهداها مشرئبان، فاح منها عطر مغرٍ غازل أنفي، قرأت بعينيها دعوة، دنوت نحوها، أرسلت عيناها دعوة لي. أفردت يدي وحضنتها، تأوهت هامسة:
- أطفئ الأنوار.
لم أنفذ رغبتها، كيف أنفذها؟ أود التمعُّن في جسدها ومعرفة تضاريسه، معرفة الجسد الأنثوي لذة أخرى، العين تزني. حين أحاطت يدي بخصرها وشفتي لامست شفتيها ارتفع غنجها، رفعت يدي وربتت على ظهرها، وشفتي لثمت مرفق كتفها، تقاصرت في وقفتها ضاحكة، تحركنا متعانقين إلى السرير، بطحتها وصرت أذرع جسدها لثماً، تكامل نبضنا، انتصب نهداها، أفرجت ما بين ساقيها، داعبت فخذيها بلساني جذبتني بيدها إلى أسفل، ربتُّ عدة مرات على إليتيها، رفعت ساقيها وضعتهما فوق كتفي وزحفت نحوها وصرت أحرث جيئة وذهاباً، وهي تتأوه تحتي، بلَّل جسدينا عرقٌ غزير، توترنا بلغ منتهاه، أفرغ جسدانا توتُّرهما وهمدا، ثم جلسنا ملتصقين يدي اليمنى بخصرها والأخرى تعبث بشعرها، أدمدم بكلمات بشكل آلي، وضعت رأسها بصدري وأناملها تداعب شعر رأسي.
طالت رقدتي بغرفتي، مرت جارتي أمام الغرفة ناديتها، تجاهلتني، ماذا حدث؟ كانت حين تلمحني أدخل الغرفة تأتي بعدي مباشرة، أحياناً كنت أطلق صفيراً حين تسمعة تأتي، أما الآن أناديها وتتجاهلني؟ يبدو أن أموراً كثيرة تجري حولي وأنا لا أدري. نهضت من سريري وحملت جسمي نحو منزل جارتني لمعرفة أسباب صدها لي، وأحل تعقيدات اليوم. قبل خطوتي الأولى وقفت لاندفاع أسئلة ماكرة بمجرى دمي، ماذا أجد عند جارتي؟ لماذا يهرب عني الناس، تنهدت أن جارتي ربما تكون هي ملاذاً من الملاذات، عليَّ فعل أشياء لا أجد مبرراً لها، كيف أنحني لمن أوصد قلبه بوجهي؟ يريدون مني هديل قمري وهم يزأرون بوجهي كأسود جائعة، كيف أبتسم لمن أدار عني وجهه؟ داهمتني رغبة في البكاء، لولا جفاف عيني لبكيت. رفعت الملاءة ومسحت عرقاً متوهماً بجبيني، بين الفينة والفينة أتحرك خطوت وأعود، لن أصغي لهواجس تدلقها ذاكرتي، لكن جلبة غامضة بصدري، تصطرع فيه أفكار مبتورة الأطراف، أكاد أشم رائحة الحياة تناديني.
تلك اللحظة لم أفكر في جسد جارتي. تفكيري انصب على كلمات منها، كلمات تعيد لي طمأنينة هي مبتغاي الوحيد، عندما تدلهم الخطوب تختفي الحقيقة. تصلبت في وقفتي البلهاء، لا أعرف بم أفكر وماذا أفعل. رأيت نفسي وسط تيه لا ساحل له، أبقى أم أذهب إلى جارتي؟ تلاشت كل أفكاري، خبيثها وطيبها، في اللحظة التي فكرت فيها بأن أرتمي على السرير ساقتني قوة مجهولة إلى بيت جارتي، وجدت الباب مورابا، بلطف لا ينتمي لشعوري طرقت الباب، طرقات بين الأمل والخيبة، طرقة خفيضة وأخرى أعلي قليلا، صحا صوت بداخلي ينذرني عاقبة دخولي على جارتي. شعرت بالخوف، لا أريد فضائح.
على كل حال، انتصرت القوة المجهولة على أفكاري، دفعتني للدخول على جارتي، قابلتني عجيزتها الضخمة، كانت مولية وجهها إلى الحائط. في اللحظة التي هممت بالكلام التفتتْ نحوي، أرسلت عينيها إشارات لم أرتح لها، أسوأ الرسائل التي لا تتشكّل كلمات، خاصة حين ترسلها امرأة كانت مستباحة الجسد لك، كتفتني تلك الإشارات، لم أستطع التحرُّك أو الكلام، عاد دوران الأسئلة برأسي، توقفت حتى تسقط تلك الأسئلة في هاوية الدماغ. نقمت على نفسي لأنني لم أستوعب الرسائل الأخرى، من زينب، وشريف، ومحاسن، وفاطمة، وسكرتير الشركة القمئ، بل تلك الرسالة المفخخة من ريم. كدت للمرة الأولى في حياتي أن أشفق على نفسي، لكن يبدو أن عيني تسلمت القيادة فصارت تمرح بجسد جارتي، الخصر الضيق، العجيزة الوافرة الدسامة، الشعر الذي تركته يلهو بظهرها، ليس أمامي سوى إغماض العينين، حين أغمضتهما، انفتح الفم متثاوباً، أسرعت جارتي بإطلاق إشارت لها وخز مؤلم، ثم تناولت بسرعة متقنة ثوباً سميكاً تغطت بي وأشاحت بوجهها عني، نفضت روحي من وخز الرسائل.
جبين جارتي الصارم قتل رغبتي في الحديث معها، خرجت من منزلها أحمل آثار جروح بالروح، وأسئلة لها رائحة نتنة: أين ذهب غنجها وتوددها لي؟ من أدخل الأفكار السيئة إلى رأس جارتي؟ كيف مسحت ليالينا الحالمة؟ لمن توفّر جسدها؟ أين اختفى كرم جسدها؟ بحثت عن إجابات تكبح الأسئلة، نفسي حدثتني بالتخلّص من أعباء الحياة، تذكرت نصيحة صديقي شريف، لا تمارس الحياة بل دعها تمارسك، لكن كيف وأنا في لُجّة لا ساحل لها؟
بين المواجهة والانسحاب خيط لا يرى. قلبي عقد جلسة محاكمة لتصرّفاتي منذ ميلادي حتى وقفتي هذه، أصدر أحكاماً قاسية، أنت يا عبد القوي لا شئ، أنت مجر ذرة تافهة، جرذ من الجرذان، أنت بموجب قوانين القلب مطالب بالكف عن لرتكاب مزيد من الآثام، أنت حاقد على مجتمع أعطاك وحين قبض يديه المبسوطتين لك حقدت عليه، أنت إنسان تحب السيطرة ولم تعلم أن جسدك يسيطر عليك.. اعلم أن من اتبع جسده فقد عقله. تبعت الأحكام شائم قذرة في حقي.
همهمت "هذه هلوسة يجب أن أبتعد عن تأثيرها، لن أسقط أبداً، لا يزال عندي ما يصلح للحياة". تلبَّستني حالة مبهمة، نال مني الاضطراب، شعرت بقواي تكاد تنهار، عدت إلى غرفتي وقد زاد لهيب الأسئلة برأسي، شعرت باختناق داخل الغرفة، أوامر شتى تأمرني بالخروج، كنت قد بدأت في نزع قميصي، ولكن الأوامر تلح وتلح. أشعلت سيجارة، رفعت كأسا مترعة إلى شفتي، طنين مزعج بدأ يطن، وضعت الكأس ودستُ على عقب السيجارة برجلي، تلخصت من القميص، زاد إزعاج الأوامر، همهمت "سأجن لو مكثت بالغرفة". ارتديت قميصي الأحمر وخرجت، أهيم على وجهي، سألتقط أول فتاة. أسرعت مبتعداً عن الحي، عيناى أطلقتهما تبحثان.
في الطرف الجنوبي من الحي شاهدت فاطمة ومحاسن، تولدت لديّ لذة، حددت هدفي، زدت من سرعتي أن ألحق بهما، كانتا تمشيان أمامي بحركة متناسقة، رجرجة كفليهما تتناغم من خطو أرجلهما. خطرت لي فكرة مناداتهما، همست لنفسي "هذه مخاطرة". فكرة أخرى تحثني على المضيِّ مسرعاً نحوهما، دائماً تتشعب الأفكار برأسي حينما أهم بشئ، اللذة اكتمل نموها، ماردي صار يتمطى قليلاً، لن أتصرّف كصغار العشاق، سأكون رزيناً، قصرت المسافة بيني وبينهما، حدس ماكر أخبرني أنهما شعرتا بي، زادت رجرجة أردافهما، ظلي سبقني نحوهما، لن أبدأهن بداية سيئة، سأرمي تحيتي وأنتظر نتيجتها. حين دنوت منهما والتحية بقية أحرفها داخل تجويف فمي، جفلتا مني. حين أخرجت أحرف التحية ركضتا مسرعتين. تخلصت من وقاري ورميت تهذيبي واحترامي للشارع العام فناديتهما. كأن بهما وقر. انحرفتا بشارع جانبي، دخلتا أول بيت، قبل دخولهمان التفتتا نحوي، رأيت بعيونهما وجل وخوف.
تشتت ذهني، صرت أخمن ماذا حدث مني؟ سؤال أطلق شحنة أوهام، انطلقت خواطر منسية من عقالها، أصبحت تجوس بين تلافيف الذاكرة، تراءت وعودي المجهضة أمام ناظري، مرجيحة للوهم والظنون تعلقت بها روحي، عاد السؤال الفج يناوشني من جديد، حتى فاطمة ومحاسن يهربن منك يا عبدالقوي؟ رأيت الشارع يضيق ويضج بمخلوقات أراها وحدي، ظنون مبعثرة تحتل قلبي.. فاطمة ومحاسن تمضغان كلمات تخصني، حنقي يتواصل في ارتفاعه نحوهما، نفسي تجيش بانفعالاتها.
استجرت بالذاكرة، فاطمة ما زالت خطاباتها العاطفية عندي، كانت تأتيني متسللة، منذ ولوج رجلها باب غرفتي تبدأ في التخلّص من ملابسها.. ومحاسن تحرشت بي كثيراً، عدت إلى غرفتي وقد انفتحت كوة بدماغي، في قاعها ثعابين الهموم، وعقارب عزوف الناس عني تلدغني، ذاكرتي أعلنت مَكْرها. توقّفت عند صورة محاسن وفاطمة، الرعب بعيونهما. يزداد حنقي، بيد غاضبة فتحت درج الطاولة الذي يحوي خطابات بنات كثر التقيت بهن في حياتي، وصور بعض الحبيبات، تناولت خطابات فاطمة، خطاباتها تتقطر شهوة كجسدها، دائماً تبدؤها بـ"يا حبيب القلب". سأعيدها اليها الآن. حملت الخطابات وخرجت منتفضاً كثائر أحس بقرب انتصاره، نحو المنزل الذي دخلته فاطمة ومحاسن، سأفجر قنابل هجومية بهما، فليحترق العالم، من تهجرني يجب أن تنال عقابها، لن أكون قرباناً لامرأة تحمل هواجسها منذ ميلادها، تصميم على الانتقام يدفعني. يبدو أن الغضب كالحب يطوي المسافات، وقفت أمام الباب، انطلقت الأسئلة تلسعني، شعرت بخواء تصرفي الأخرق، تذكرت نصيحة أبي "لا تلهث خلف المرأة يا عبد القوي". التزمت نصيحتك يا أبي عمري كله، لكنني الآن في موقف يستدعي الأفعال لا الوصايا. تلفت في الشارع، وجدته كقلب طفل، خالياً من المارة والمتسكعين. دنوت من الباب، بين الحياة والموت شعرة، طرقت الباب، طرقات متوالية، وقلبي يطرق صدري متجاوباً مع طرقاتي. ألصقت بصري بالباب، أثر حسيس أقدام تقترب، فتح لي صبي دون العاشرة عاري الجسد، نحيل كغضب إنسان عاجز، على بطنه بقايا طعام، قال لي:
- ليس بالمنزل أحد.
ضغطت علي خطابات فاطمة، كورتها، وأفرغت فيها غضب نهار بكامله، راودتني رغبة في تمزيق الخطابات، ورغبة أخرى بنشرها في الطريق، ورغبة ثالثة أن أذهب إلى منزلهم وأعطيها لأول من يفتح لي الباب وأخبره أني وجدتها في الطريق العام، أنا أجيد الانتقام من الفتيات.
عدت والخطابات بين كفي، دهليز مظلم ولجته، عماء عشعش بعيني، أحسست بغربة وأنا داخل الغرفة، ضيق وحنق اشتركا في هزيمتي، الوساوس لها طنين، الهواجس جمعت جيوشها واحتلت جمجمتي التي نزت عرقاً، مسحته بيدي ولعقته بلساني، ملح هو طعم العرق وطعم وجودي، خلو الذاكرة من الهواجس صار أمنية بعيدة المنال.
نهضت بوساوسي نحو منزل جارتي، رغم قرب المسافة صار صدري يعلو ويبهط، وقفت منحنياً يدي على ركبتي، تعوذت، كدت أقع متهالكاً، شهقت وزفرت، دنوت من الباب لأطرقة، طرقت الباب طرقات متواصلة. بسرعة أفرحتني فتحت الباب، ولكن فرحتي انتحرت حين لمحت وجهها، كان كتلة من الغضب وبعينيها دمع، بامتعاض زفرت غضبها:
- ابتعد عني! لم أكن أتخيلك بهذه البشاعة.
ذعرت وابتعدت عنها. جرجرت أقدامي أهيم على وجهي، أرجلي تقودني إلى حيث لا أنتوي، قلت في نفسي سأذهب إلى المقهي، أستعيد ذكرياتي، ربما أجد بعضاً من يقين، رأيت صديقي شريف يجلس على حجر كعادته، بجواره تقف حبيبته عائشة. اقتربت وألقيت عليهما التحية، كان رده عليَّ مريباً، أما عائشة فلم تهتم بي. "مع السلامة" قالتها لشريف ومضت مبتعدة. اضطراب عم شريف الذي وقف بدوره، نفض يديه وقال لي وهو يبتعد أيضاً:
- عن إذنك سألحق البنت.
كدت أجذبه من يده، أريدك لأمر هام، لكنه كان قد ابتعد، ولحق بعائشة، أسرعا في سيرهما حتى اختفيا عن نظري، أرسلت نحوهما سيلاً من الشتائم.



























6
نظرت إلى شريف، يلحق بعائشة، توهمت كلمات متطايرة بينهما، هما يتحدثان عني. هذا أكيد. صرت لقمة بكل لسان، كفى المرء قبحا أن تتداول سيرته الألسن. قررت التسكع بشوارع المدينة، ربما أنسى، وربما أجد من تعيد لي نفسي. شعرت بقواي تنهار، حمى أصابتني، دوار يحيط بي. وقفت أنظر في الشوارع، بشر منهمكون في اللاشئ، هذا يدفع ذاك، وتلك تصرخ في هذه، لكل مصيبته، المصائب أنواع، الرغبة التي تدفعني للتسكع اختفت، هل الإنسان سوى رغبات؟ شهيتي إلى الأنثى كيف أخفيها؟
خيال مخاتل همس بمقترحات مزعجة، ابتر ماردك، تخيَّل للنساء جسداً واحداً، تصوف، الزم منزلك. وضعت يدي على أذني لأن ضيججاً ينبعث منهما، القلب يبنض كطائر ذبيح، وقفتي جعلت أعين الناس ترمقني، ربما ظنوا بي عتهاً، لهم كل الحق، هل من تهجره حبيبة كزينب يبقى بقلبه يقين، كل الأشياء حولي أراها هلامية، نساء الشوارع والأطفال، الرجال، والأشجار هجرها الظل.هكذا تبدت لي. إن الشجر رمز الحب، ثالث كل عاشقين.
طالت وقفتي، كلّت عيوني من مناظر الشارع، تساءلت كم مبتلىً مثلي بالهجران؟ كم زينب؟ أشعلت سيجارة، نمت بداخلي رغبة إلى كأس خمر، رحيق السيجارة. قررت العودة إلى البيت، ليس أمامي خيار آخر، ربما بغرفتي أجمع شتات روحي. البيت والأنثى هما بحيرة الراحة لرجل تحيط به الخيبات، وهل توجد خيبة أقسى من هروب النساء والأصدقاء مني؟ الأنثى ها أنا ذا قد فقدتها، تبقى البيت، كنت أسير ودقات قلبي تزداد، أغلقت ذاكرتي حتى لا تهتاج. ببقية روح وصلت إلى غرفتي، تناولت ملاءة جارتي وفرشتها فوق السرير، ارتميت عليها جثة هامدة، صرت أتقلب في السرير، صورة شريف وحبيبته وهما يهربان مني أكاد أراها، غيظي أكمل دورته، نحيب جارتي عاد يطن بأذني، كيف تبدلت مواقفها؟ صباح اليوم وأنا أستلم منها الملاءة غازلتني، تبسمت في وجهها ولم أرد، حين أعدت إليها الملاءة استلمها وهي صامتة، وأشاحت بوجهها الذي يكسوه حزن واضح، وفي المرة الثالثة حين عدت لها صرخت بوجهي وصارت تنتحب، رأيت بعينيها رعباً أخافني.
ماذا جرى؟ سؤال كيتيم وسط لئام، تشظت ذاكرتي منه، تبعت السوال أسئلة مريرة بمؤخرتها علامات استفهام باتساع الخزي.. زينب تطردني، وريم تخلف ميعادها معي، صديقي شريف يتهرب، آه كيف أغلق الذاكرة؟ الوحدة تحاصرني، الوحدة ذئب بأنياب حادة. صرت وحيداً وكسير الخاطر كسكارى حانات المدن الصناعية، يدي بحافة السرير تربت على ملاءة جارتي. تململت، أطبقت جفني، إذا أطبقت الأجفان انفتح كون من الخيال، الخيال كالمحيطات بلا سواحل، بل كالفضاء العريض، الوقت يمر كعادته بطيئاً، من الشارع تصلني أصوات باعة، نسوة ورجال وأطفال. أعلم أن الحياة تسير مسيرتها، ضجيج الشارع لا أطيقة، الشوارع الضيقة تتسع لأفراح الطفولة لكنها ضد رغبات المراهقين.
قرفصتي ملَّتني. عدت مستلقياً، بصري مشدود إلى سقف الغرفة، أفكر في اللاشي، يدي تحت رأسي، أطياف فتيات حلت أضيافاً بدماغي، آلاف المؤخرات، ملايين النهود، وشفاه لا تحصى لثمتها، ماردي ولج ثقوباً أحدثها لحظة فورانه، تمنيت تلك اللحظة أي أنثى، لا أبحث عن أنثى شهية التكوين، قلت فلأهرب من هواجسي، هذه غرفة احتلها شيطان مارد كما يزعم شريف. نهضت بإرهاقي إلى خارج غرفتي. كان أطفال الجيران يلعبون في ساحة متربة أمام غرفتي، رأوني فسهوا عن لعبتهم، أرسلوا نحوي عيوناً كشمس الظهيرة، تراكضوا نحو أهليهم. فجيعة حلت بي، ألتصقت قدمي بالأرض لا تريدان حراكاً، قبلها كان الأطفال عندما يشاهدونني، يتراكضون نحوي حاملين أفراحهم لأمدهم بالحلوى.
انشطر قلبي، الذي يقتل فرحة الأطفال شيئ مخيف. مات حماسي للخروج، عدت منكفيا إلى داخل غرفتي. وقفت أمام المرآة، علها تنجدني، بسمة مصنوعة غازلت شفتي، تنهدت متحسراً، ليت ريم لم تخلف موعدها. ذكر اسمها هيجني، صرت أسب وألعن، ويداي تربتان على السرير. نهضت واقفاً، نقلت بصري عبر النافذة إلى بيت جارتي، رأيتها واضعه يدها على خدها الذي طالما أشبعته لثماً، يبدو لي أنها واجمة، أطلت نظراتي إيها، دمعة تسيل على خديها، فجأة نهضت تتحرك داخل سور بيتها وأنا أتابعها بنظري. تصل إلى حائط السور تضربه بيدها حتى يرتجف ردفها، ثم تعود إلى الجانب الآخر. أنهت حركتها بين جدران الحائط وجلست متقرفصة. ظلت في قرفصتها تلك، متمحنة. هذا شيء عجيب. طالت وقفتي قرب النافذة، كلّت رجلي من الوقوف. جلست على السرير، وعقلي انطلق لا إرادياً يبني أوهاماً تجيش بها الذاكرة.
دعكت جبيني بطرف الملاءة. ثوانٍ كأنها دهور مرت، دخلت في إغماءة، خدر خفيف بأطرافي، لكن هواجس عديدة داعبت مخيلتي، كوابيس عديدة داهمتني، مسحت يداي ملاءة السرير، تبحثان عن جسد أنثوي، لقد تعودّتا علي ذلك، منذ قدومي إلى المدينة لم يخلُ سريري من أنثى. تذكرت موعدي مع ريم، لكنها أخلفت وعدها، أبي يقول النساء لاعهد لهن، لكن زينب كانت لا تخلف موعدها، بتكاسل نهضت، غسلت وجهي وارتديت بنطالي وقميصي الأحمر، وقرار وحيد بصدري سأذهب إلى زينب بالشركة. رغبتي في لقاء زينب أعادت بعض نشاط إلى جسدي. الشهوة في من تحب تربك كريات الدم، شعرت بجريانها الدافئ بجسدي، أشعلت مكبوت الرغبة فخرجت.
تريثت قليلاً أمام الباب، أول من لمحني زوجة جاري. قفز رعب إلى عينيها، توارت خلف الباب، يبدو أنها أرسلت نحوي سيل شتائمـ وضربت بيدها صدرها انفعالاً.. صدرها الذي كنت أعبث به، تحركت قربها، أعلم أنها تتابعني عبر ثقوب الباب، تجاوزتها وبفمي بسمة ساخرة، كان أطفال الجيران عادوا للهوهم، تسمّروا كأصنام حين مررت بهم، أين اختفت البراءة؟ ليتها اختفت وحدها، الطبيعة لا تعرف الفراغ. ابتعدت خطوات، همسهم وصل إلى أذني، حاولت أن أستبين همسهم. حدثتني نفسي بأن أسـأل أحدهم. تراجعت خطوت نحوهم، ما زال تسمُّرهم وعيونهم تثقبني.
حاولت الاقتراب من طفل معروف بشقاوته، كلما تحركت نحوه تراجع خطوات، مددت يدي إليه وناديته كما كنت أناديه سابقاً لأمنحه الحلوى، ركض مبتعداً، والآخرون ينادونه، نظرت إلى نفسي ربما أصابني جرب، كنت لا أزال أرتدي القميص الأحمر وحذاء لامع على رجلي، شعري مصفَّف بطريقة تزيد من وسامتي. أدخلت يدي في جيبي وأخرجت بعض الأوراق النقدية وتقدمت أكثر نحو الطفل الشقي، مددتها له، صاح أنداده مذعورين. تقدم طفل أكبر قليلا في العمر وأمسك الطفل من يده وجذبه، وهو يحدق في وجهي. بشجاعة متهالكة، حاولت أن ابتسم، سمعت امرأة تنادي الأطفال. التفتُّ إلى مصدر الصوت، إنها جارتي. تملكتني شجاعة متهورة، منحتني تصميماً على تلقينها درساً لن تنساه، توجهت نحو منزلها، سأصرخ فيها بصوت جهوري وأذكر تفاصيل خيانتها لزوجها معي. أغلقت الباب في وجهي، وقفت أمام الباب، طرقته أنادي فيها لتفتح الباب، ذهبت نداءاتي أدراج الرياح، صفقت بيدي اللتين كانت تعجب بهما. نظرت بحنق إلى باب جارتي المغلق ومضيت. قبل ذهابي ركلت الباب بقدم غاضبة، أرسلت لها كمية من الشتائم.
تحركت مبتعداً عن الحي والأطفال وزوجة جاري. تحركت مبتعداً، بعض رؤوس برزت فوق الجدران تتبابعني. الأطفال تابعوني بعيونهم. سرت بسرعة تشبه الركض نحو شركة الطيران الوطنية أمني نفسي بأمنية واحدة: مقابلة زينب، لأعلم منها حقيقية ما جرى. برأسي يضج سؤال يتيم: هل ستخبرني زينب؟ همهمت: "نعم ستخبرني". كثيراً ما كانت تغضب وتخاصمني ولكنها تعود لي. نعم لم تصل بها الخصومة إلى حد طردي، سأعترف لها بعلاقتي بريم، وأطلب غفرانها، ستغفر لي، لا تهون العشرة. هكذا كانت تقول لي إثر كل خصام. لو قابلت ريم في طريقي سأتجاهلها، لن أسألها عن عدم حضورها إلى المقهي، بل سأدعي بأني لم أحضر. الكذب ملاح الكلام. هذه حكمة عمي.
كنت أهذي حتى توقفت بمدخل الشركة. لحسن حظي لم أجد موظف الاستقبال القميء الذي طردني، وجدت فتاة أنيقة ومتناسقة القوام، جمالها اعتقل بصري، لها وجنة كأنها اشتقت من زهور الربيع، شفاه مكتنزة شهوة مطلية بلون يناديك قبِّلني، شفاه كأنها خلقت للثم، التصق بصري بوجهها، في تلك اللحظة راودتني رغبة في اصطيادها. وجدت قربها عدة مقاعد، اخترت أحد المقاعد يواجهها تماماً، توهطت فيه. جمالها شد بصري نحوها، تساءلت أيهما أجمل السكرتيرة أم زينب؟ زينب أحفظ خارطة جسدها وأكاد أحفظ مساماته، وعدد شهقاتها المحببة لي. السكرتيرة شهية التكوين، شعرها مرسل بإهمال خلفها، صرت أسترق النظر إليها، كل ما فيها أعجبني، شعرها الذهبي، وجنتاها، مؤخرتها التي تكاد تتدفق خارج المقعد، الجبين الناضر، الساقان المسلوبان، جسدها يبدو لي طرياً، هذا جسد أتمنى التنزه فيه. شهقت، هذه البنت لي. قبل اكتمال تمعنُّي وشهوتي بمرحلة اليرقة، سألتني:
- هل من خدمة؟
صوتها أتاني ناعم الملمس يصل إلى القلب قبل الأذن، كأن سوالها أخرجني من عمق بئر إلى السطح. نفضت رأسي لأستعيد تماسكي، وتكف كهرباء صوتها عن السريان بجسدي، أعادت سؤالها، كدت أود التخابث عليها وأقول لا أريد سوى سماع هذا الصوت الجميل، لكن خبثي وئد أمام جمال صوتها، للجمال سلطة قاهرة، يصفها صديقي شريف بـ(دكتاتورية الجميلات). نهضت من مقعدي ودنوت منها رغم العطر الذي ربط أنفي بها قلت:
- أريد زينب.
صمتت برهة وحركة خفيفة بشفتيها كأنها تهم بمناداة شخص ما، حركت يدها فرنّ صوت سلسل ذهبي بعنقها، سألتني:
- هل أنت عبد القوي؟،
أجبتها بفرح كامل الدسامة:
- نعم أنا عبد القوي.
تغيرت ملامح وجهها، صارت أقرب شبهاً بموظف الاستقبال القميء، أدخلت يدها في درج مكتبها وأخرجت مظروفاً برتقاليَّ اللون ومدَّته لي:
- هذا خطاب لك من زينب، عندها عمل.
خرجت ألوك في جملة السكرتيرة، بيدي المظروف. اشتبكت بذهني أسئلة عن محتواه، لم أكن في حالة تسمح لي بالاختيار بينها، ولا دفعها عن صدري، أيقنت أن مصيبة ترقد بداخله، ما نوعها؟ لا أدري. زينب لا تحب إرسال خطاباتها لي عبر وسيط، تقول لي الخطابات كالقبلة بما أن القبلة من الشفاه إلى الشفاه كذلك الخطابات من اليد إلى اليد. ربما لهذا شعرت بالخوف، ارتعبت وخيالي يلهث لمعرفة محتوى الخطاب، أي كلمات يحملها؟ صرت أستجوب نفسي: هل يحوي نهاية علاقة؟ هل به موعد للقاء قريب؟ هل يحوي خطاباتي التي أرسلتها إلى زينب؟ هل به صورة حديثة لها؟ لقد وعدتني.. "يا عبد القوي لي صورة جميلة سأرسلها لك". يبدو أن نفسي لا تجيد دور المتهم، وهذا ما أقلقني أكثر. شعرت بخطر أحمله بيدي، رفعت الخطاب لأنفي أستنشق عطره، لطمتني رائحة الورق، فركت أنفي، أعدت الاستنشاق، نفس الرائحة، شهيتي للحياة التي كانت باتساع الكون تضاءلت، لم أستطع أن أتحرّك. بصعوبة استطعت النطق بكلمة: ليست هذه رائحة خطابات زينب، ذات مرة اشترت عطراً غالي الثمن وقالت لي هذا للخطابات التي سأرسلها لك، هل سهت عن العطر؟ أم أفرغته في خطاباتها السابقة؟ ربما يكون عن قصد، هذا خطاب مريب. يدي بتوتر واضح سبقتني إلى فضه، ورقة صغيرة مطوية بعناية ترقد داخله، أفردت الوريقة فقرأت:
"يا أستاذ أرجوك كن كاسمك قوي وتحمَّل".
اتسعت حدقتي، وضربات قلبي زادت، أول مرة تخاطبني بأستاذ، حتى أول لقيا لي معها لم تخاطبني بها الكلمة الجارحة. نعم كلمة جارحة، أين مفرداتك يا زينب التي كانت تزين خطاباتك لي: حبيب القلب، تفاحة الفؤاد، بوصلة عشقي، حبيب زينب، حياتي، قبلتي، روحي، حبي؟
شعرت بدوران وإعياء، لا أدري كيف أتصرف، حصان أملي الجامح صهل بحزن، جئت إلى زينب أستبين الأمور فزادت غموضاً. نظرت إلى الورقة، هل صحيح ما قرأته أم توهم؟ لا. سأعيد قراءتها للمرة الثانية، نفس الكلمات السابقة، تهالكت جالساً على حجر، بسخرية هتفت: "ليت الفتى حجر، هل الحجارة تكتئب؟". لو فقدت زينب صأصير حجراً آدمياً، سأغلق قلبي، لن ينبض لجسد أنثى، همهمت بكلمات فقدت نبراتها، ما أقسى أن تهجرك حبيبتك وحبكما في عنفوانه، كلما كان الحب عنيفاً كان الصد أقسى، انسحاب طرف واحد كرجل عارٍ يرتدي ربطة عنق، الفراق بالتراضي مؤلم دعك من الفجائي، القلب وقف بمحطة زينب، تراجعت عن قراراتي، لن أدع زينب لرجل غيري، نعم أنا أول رجل في حياتها، الورقة بيدي، نظرت لها شممتها للمرة الثانية، أدخلت الوريقة بجيبي ورأسي مال نحوي يدي، وكلمات الرسالة كحجر رحى تدور بذهني، كلمة "يا أستاذ" ترددت ملايين المرات، تداخلت معها صور كثيرة تجمعني وزينب، لحظات حميمية كلها، حتى شجارنا مع قلته، كان جميلاً. زينب كانت جميلة في غضبها وفرحها، سأفتقد زينب وطلتها الجميلة. كيف أملأ حياتي؟ لقد أدمنتها.
أين ذهبت كلماتك المعطرة يا زينب؟ هل تنتهي علاقتنا بورقة لا رائحة لها ولا طعم؟ لا لا. هذه مؤامرة من السكرتيرة ربما من رجاء، الخط لا يشبه خط زينب، كانت تكتب الأحرف كأنها ترسمها رسماً. كدت أقنع نفسي بأن مؤامرة ما تحاك ضدي. نهضت نافضاً مؤخرتي، ربما علق بها تراب، ثم جلست للمرة الثانية على الحجر، تحسسته بيدي، كان حجراً صلداً، يقول صديقي شريف "القلوب صلدة كالحجارة وتلين كزهرة نهر موسمي"، لكن أنا لا أحتاج إلى فلسفته بل إلى جسد أنثوي، جسد زينب تحديداً.. لكنها ضنت به.





7
أخرجت الورقة من جيبي، مزقتها إلى نتف صغيرة، حشرتها بفمي، مضغتها ثم رميتها على الأرض، دستها برجلي، تفلتُ عليها، دحرجت حجراً وضعته فوقها، رغبة خبيثة داهمتني أن أبول فوق الحجر حتى تبتل وريقة زينب، لم أنفذها، يكفي مائي بجسدها. نهضت للمرة الثانية. جذبت قميصي وأدخلته بين البنطال وجسدي، شددت الحزام جيداً، ونفسي تحدثني بالعودة إلى الشركة الوطنية للطيران، سأنكر لزينب أني أستلمت الورقة من السكرتيرة، لا.. سأقول إنني لم أقرأها، إذا اكتشفت كذبتي، سأقسم لها بجميع من تحب من أولياء وشيوخ.
موجة غضب تدفعني دفعاً نحو الشركة، ليست موجة غضب وحدها، ما يدفعني هو كرامتي، الهزيمة كلمة شاذة في قاموسي، أن أهزم من امرأة فهذه مأساة، لن أكون ضحية لأحد، تؤخذ الحياة غلاباً. خاطر مراوغ يراوغني، لا تكن جباناً وخسيساً، كن محترماً كزينب، أنهت علاقتها بك بأسلوب متمدِّن وراقٍ، فقط مجرد كلمات بوريقة، وانتهى أمرك يا عبد القوي. البلد تشكو كثرة النساء، زينب ساقها حظها التعيس إليك. لا تجعلها تندم على أيام أعطتك بحب، النساء كثر، انسَ زينب وستجد أخرى تملأ بها ما تبقى لك من أيام. تحرك يا عبد القوي. همهمت سأتحرك يا خاطري، هل تبقت لي إرادة؟ تحركت بخطوات ليست رشيقة، قدمي تقودني، لم أنتبه لوعورة الطريق ولا السابلة الذين يفرشون بضاعتهم بجنباته، هدفي واضح كقبلاتي بخد زينب. همهمت "سأركض ركضاً إلى الشركة الوطنية للطيران". ركضت بضع أمتار ثم وقفت، أوقفتني صرخة أحد الباعة صرخة شحنها بنبرة هياج:
- هل أنت مجنون؟ أنت تقف على بضاعتي وقد دلقت بعضها.
قال جملته ويده تتشبث بعنقي، دفعني بعيداً، ترنحت، لحق بي. تجمهر الناس حولنا، لغطهم يصك أذني وعنقي بين كفين خشنتين، تبرع أحد الماره مطلقاً عنقي، طيّب خاطر الرجل وهدَّأ ثورته، اشترك الحضور في لملمة ما تناثر من بضاعته، وكهل يدفعني:
- يا أستاذ امضِ إلى سبيلك.
خطوت خطوات، أعدت هندمة ملابسي، لعنت تكالب المشاكل، أنا إنسان مسالم، احتدم صراع داخلي، بين رغبتي في زينب ونسيانها. وجدت نفسي بالقرب من الشركة الوطنية للطيران حيث تعمل زينب، سيرتها أنستني أوجاع اليوم، غفرت للبائع مشاجرته وبعثرته لهندامي، دفقت ذاكرتي حِكَم صديقي شريف المستهزئة التي خصَّني بها "كل حب يحمل بداخله بذرة عكننة، كلما كان الحب عظيماً كانت التضحيات أعظم"..، "ما مات حب وراءه عبيط مثلك"..، "عامل المرأة كما تعامل حيواناً أليفاً، قطاً أو كلباً"..، "الجهد الذي تبذله يا صديقي عبد القوي في المرأة وفِّره لأشياء أهم"..، "كيف أطلق عليك والدك هذا الاسم؟، لو كان الأمر بيدي لأطلقت عليك عبدالرهيف".
أغلقت الذاكرة، وقصدت مكتب زينب، ولجت باب الاستقبال لم أحفل بمناداة أحد منسوبي الشركة لي، تجاهلته، بتصميم وقفت أمام السكرتيرة، اتسعت حدقتا السكرتيرة ثم أطبقتهما، نفضت رأسها، اهتز صدرها وبرز عنقها، استجلبت بشاعة تخص السكرتيرات ونهرتني بضيق:
- اُخرج ياعبد القوي.
قالت جملتها وعيناها تجوسان في المكان ربما تريد الاستعانة بإحد الفتوات لطردي، لملمت أطرافي وشجاعتي المنهارة. آه حتى أنت تطردينني؟ صبراً، لكن ها هي زينب تفعلها، سأنتقم منها، سأجعلها تندم بقية عمرها. كلمات السكرتيرة تطن بأذني كمسمار صدئ بمؤخرة لدنة. اخرج. اخرج. هممت بالخروج، في هذه اللحظة لمحت رجاء تخرج من مكتبها حين رأتني ركضت مبتعدة ودخلت مكتبها مسرعة من مكتب السكرتيرة. لفني حزن، كئيباً خرجت مبتعداً عن الشركة، لا ألوي على شيء، ركلت أشياء كثيرة وجدتها أمامي، أكياس بلاستيك، أوراق متسخة، بقايا فضلات إنسان، يتبعني سؤال ماكر: "ماذا تقصد زينب بجملتها المطلسمة هذه؟ يا أستاذ كن قوياً"؟.
نظرت لعضلات يدي، همهمت "أنا قوي يا زينب، عضلاتي قوية وشيئي قوي". كنت أود أن تعلم ريم ذلك، وليت السكرتيرة الغبية سُقتها إلى مخدعي، بشئ سم كما كنت أتبجّح. اصطدمت رجلي بحجر، أغلقت ذاكرتي نافذة زينب، عادت كلمات السكرتيرة تطن بأذني.. أسرعت في سيري، إلى أين أذهب؟ زينب قطعت عشمي فيها، سأتتبع طريقة صديقي شريف في الاستعانة باحدى النساء القوادات؟
نعم سأذهب إليها وأطلب منها تحديداً أن تحضر لي زينب، سأنتقم منها، سأسقيها بولي ومَنِيَّ ماردي الطازج. صممت على تنفيذ فكرتي. تحركت إلى غرفتي، الفكرة اكتملت تفاصيلها برأسي، لكي أجمع لها كمية من المني تملأ بها بطنها الكبيرة، سأحلب ماردي في زجاجة، حين تأتي أطبخه كالبيض وأقدمة لها على صحن زاعماً هذا بيض دجاج، لن أتناول لقمة واحدة معها، أفرحتني الفكرة، فصممت على تنفيذها. اكتملت فكرة المؤامرة بذهني، وأنا أدخل غرفتي. تناسيت كل الأوجاع، تدور الفكرة برأسي، أفرك يدي فرحاً، لن أسقي زنيب الزجاجة بكاملها سأحتفظ بقليل منها، أحمله وأذهب إليها بالشركة أصيح بصوت عالٍ: "هذا ما تجرعتيه يا عاهرة".. ستدلق ما في بطنها، سينتشر الخبر في المؤسسة.
جلست على السرير تناولت القلم سجلت تفاصيل الخلطة. أصبحت لا أثق بذاكرتي، في الورقة الأولى كتبت: "شربات زينب. المحتويات: كوب بول بارد، قليل من الماء، ثلاث ملاعق سكر، معلقتا عصير ليمون". في الورقة الثانية سجلت "الإفطار. المحتويات: زجاجة من المني، حفنة دقيق، نصف رطل زيت، قليل من البهارات، معلقة ملح". طويت الورقتين ووضعتهما تحت رأسي، رد الصاع صاعين يزيل الهموم. هبة نعاس أسبلت عيوني، انبطحت بملابسي. يبدو أن بداخلي قليلاً من الفضيلة، لن أقول التقوى، تدعوني للكف عن الانتقام، خصوصاً زينب، لا تنسَ جميلها، هل جزاء الإحسان الانتقام يا عبد القوي؟ تناسَها وابحث عن غيرها، لو ضاقت بك هذه المدينة فالمدن كثيرة. لكن كيف أنسى زينب؟ في كل ما يحيط بي أجدها، لو نبشت ذاكرتي لبعثت تفاصيل التفاصيل عن حضورها، كانت كتاباً مفتوحاً لي، كانت تحكي لي كل ما يصادفها في دروب الحياة، لا تخفي عني شيئاً.
صحوت من نومي، جسدي دافئ، تحسَّست الورقتين تحت رأسي، قرأتهما، فتبسمت إنها فكرة خسيسة. طويت الورقتين ودسستهما بمكان لا تخطئه عيني، جلست في انتظار المرأة القوادة التي ستحضر لي زينب. صرت أستحضر طريقة انتقامي وما أعددته لزينب، خاطر ماكر همس "لا تكن خسيساً يا عبد القوي". زفرت: "لكن كيف أمسح ذاكرتي من زينب؟ إنها فاكهة حياتي، لن أنتقم منها".
نهضت إلى الورقتين، أشعلت النار وأحرقتهما، خرجت من غرفتي.


















8
كنت أسير بلا وعي في طرقات أعرفها وتعرفني. اصطدمت رجلي بحجر، تذكرت جملة صديقي شريف "ليت الفتى حجر". كدت أقع على الارض، الإعياء أحاط بي. رفعت رأسي شاهدت فتيات يسرن بتمهل على الشارع أمامي، عادت لي رغبتي في الأنثى، أحتاج أي أنثى الآن. ألم يقل لي شريف: "خلقت الأنثى لراحتنا"؟، وينصحني: "كلما انتابك ضجر ابحث عن أنثى، كن مثلي أنا كلما أحاطتني إحباطات ركضت إلى حضن أنثى أفرغت فيه إحباطاتي".
أسرعت الخطى نحو الفتيات الثلاث، ونظري مشدود إليهن أتساءل: أيهن تكون من نصيبي؟ بالطرف الأيسر فتاة ممتلئة الساقين، هذه لا أريدها ساق الأنثى الممتلئة دليل على مرور رجال كثر بجسدها، كنت أبث بين الأصدقاء جملتي الوحيدة مفتخراً، أنا الأول. في الوسط فتاة خصرها ضيق كحالتي، لا، خصرها كخصر ريم، إنها لي، انشغلت بهاعن فتاة الي. حين اقتربت منهن خفق قلبي وشهق فمي، يبدو أن التي تسير في الوسط ريم، نعم ريم، هذه العجيزة التي تترجرج أمامي أعرفها تماماً، عجيزة ضخمة، تخيلت صاحبتها تحتي على السرير، كل عجيزة ضخمة يسيل لها لعابي، حين حاذيتهن استرقت النظر إليهن، صدق قلبي لقد كانت ريم بينهن. التقت عيناي بعينيها، أرخت عينيها وأشاحت بوجهها عني، خرجت كلمات متحشرجة مني أناديها، لم تلتفت نحوي بينما أعين صديقتيها تلتهمني، بها اشمئزاز ونفور. تصلَّبتُ في وقفتي كأبله صفعه صديقه، أسرعن مبتعدات وضحكاتهن تصلني،.
لا أدري إلى أين أتجه. العودة إلى البيت أسلم، سأحبس نفسي فيه، لن أخرج. سيأتي صديقي شريف، سأعلم منه تفاصيل ما جرى، لن يبخل عليَّ، أعرفه يحب النميمة، سأحدق في عينيه حين أستفسره، لن أدع له فرصة يكذب فيها كعادته، تذكرت حسناته وجميل مواقفه معي، رغم ثقافته العالية، كانت به شجاعة وتهور، كنت أحياناً أسخر منه حين يتهوَّر وأذكِّره بجملته الأثيرة: "إن الشجاعة هي تغييب للعقل". كان يخلصني من ورطات أرتكبها، عنده وفاء ككلب ريفي، كم من المرات النزقة طردته وكدت أقطع حبل الود بيننا. هل يأتي؟ استحضرت ذاكرتي موقفه معي مساء توفيت الفتاة الغريبة بسريري، أتو وأستاجر سيارة يعرف صاحبها حملا فيها جثة الفتاة إلى أين؟ لا أدري حتى هذه اللحظة ونفسي لم تطاوعني بسؤاله أين رميا الجثة، وهو لم يخبرني. تذكرت موقفه حين قابلته مع حبيبته عائشة كيف هربا مني، فزفرت سأرجع إلى غرفتي.
بعزيمة كاملة رجعت إلى غرفتي، أحمل غيظاً وغضباً شمل كل معارفي. أمام باب غرفتي رأيت أحد أبناء الجيران، طفل لم يتجاوز العاشرة، حين اقتربت منه صار يبكي، وجسده يرتجف، صوته جعل أمه تطل برأسها وتناديه، رميت عليها تحية، ضاعت تحيتي دون رد. حملت بكاء الطفل بين أضلعي ودخلت غرفتي، لمحت غرفة شريف، بابها مغلق، صداع اجتاحني. رقدت علي السرير وأطلقت العنان لذاكرتي، أستحضر أيامي السابقة وأجتر نجاحاتي في اصطياد البنات، لكن الذاكرة احتُلَّت بتفاصيل جعلت قلبي يرتجف كمريض حمى، الذاكرة قادتني قسراً لطردي من الشركة ووريقة زينب وموقف رجاء السمينة، نزَّ عرق بجيبي، همست أنا لم أتعوَّد الهزائم، أصدقائي يقرّون بذلك، كل فتاة تستعصي عليهم فأنا لها.
لكن كيف يعيش الإنسان وحيداً؟ الوحدة قاتلة،؟ أنا لا أستطيع العيش وحيداً، مرت عليَّ سنوات لم أنم وحدي، دائماً ما تقاسمني فتاة سريري، فتيات بريئات وعاهرات، متزوجات ومطلقات وعازبات، أحياناً تفيض غرفتي بالفتيات أقسم ما فاض مني على صديقي شريف، هو من علمني ذلك، كان أحياناً يأتي ومعه سرب من الفتيات، أنال نصيبي منهن، ونسرد قصصنا عنهن، نفتخر ونتجادل، من كانت في نصيبي أجمل من فتاتك، لا فتاتي لعوب ومغرية، فتاتي بكر، هذه التصرفات أوقعتنا في شر أعمالنا. ذات مرة أحضر فتاتين غريبات السلوك، اتخذتا اسم سهام اسماً لهن، لم نهتم ونتحقق عن اسميهما الحقيقيين، نحن نبحث عن الأجساد ولا تهمنا الأسماء، الأولى سمراء اللون، بخدها شامة، والثانية بيضاء، كانتا جريئتين حد الدهشة، أصرتا على ممارسة جماعية للجنس بغرفة واحدة وعلى سريري، منذ دخولهما غرفتي شرعتا في نزع ثياهما، رعب أصابني من التعري، أحب أن تتعرى لي الفتاة في الظلام، صاحت سهام الأولى فرحة ويدها تعبث داخل حقيبتها، أخرجت زجاجة خمر لونها كعين ديك. في لحظات كانت ما تحويه الزجاجة تتسرب خلال الأوردة. تنهد شريف
- أريد مزيداً من الخمر.
قالت إحداهما:
- هاك بولنا اشربه ستسكرسكرة يني يمشي ويغني.
من وسط ضجيج الفتاتين حكى:
- هل تعرف يني؟ يني هذا رجل أجنبي كان يبيع الخمر أيام استعمار الإنجليز للبلاد، حين اجتاح المهدي البلاد حرم الخمر، وقد تأزم موقف يني، عاش سنوات تداعبه أحلام بنهاية المهدية وعودة الإنجليز، وقد سمع أخباراً تزعم أن جيش الإنجليز بقيادة كتشنر يعسكر بالقرب من الخرطوم وسيجتاحها اليوم، هذه المعلومة الكاذبة أفرحت يني فأخذ يستعد لاستقبال الجيش الإنجليزي، وقد عبَّ كمية من الخمر بجوفه حتى سكر وخرج يترنح قاصداً معسكر الإنجليز يلعن ويسب المهدية حتى وصل إلى معسكر الجيش، وهناك نال نصيبه من الزجر والضرب لأن المعسكر كان يخص أتباع المهدي..
حين فرغ شريف من قصة يني وضعت الفتاتان زجاجة أخرى أمامنا وصاحتا:
- هيا اشربا..
تناول شريف وأفرغ نصف الزجاجة، وضعها ماسحاً فمه.
تناولتها وأكملت ما تبقى، لا أدري ما حدث بعد ذلك، هل ضاجعنا السهامين أم لا؟. حتى السؤال الذي أجلت إطلاق سراحه، من أين أتتا بالزجاجة الأخيرة قد نسيته. لكن عند الفجر نهضت بصداع وقيئ، لفت نظري ورقة فوق السرير، قرأتها، كدت انفجر خيبة وغيظاً، حملتها وذهبت إلى شريف بغرفته، وجدته يتلوى من آلام ببطنه، حين رآني طنطن بكلمات شاتمة في الخمر، قلت له: "هاك اقرأ".. قرأ: "أيها الشقيان الخائبان لقد سقيناكم بولنا، ونرجو أن ينفعكم. الإمضاء بنات أبو لهب".
كلماتها أنسته آلام بطنه فصار يسب وأنا أحاول أن أضحك، ولكن قيئاً غلبني تدفَّق منتشراً على أرضية غرفة شريف الذي شاركني التقيُّؤ. هربت من تلك الذكرى بأن تقلَّبت على جنبي الأيسر، أحدث السرير صريراً مزعجاً، نفس السرير الذي تحمَّل أجساد فتيات لا حصر لهن. أذكر أكثرهن نوماً معي زينب، كنت أتمنى أن تنام معي ريم، لكنها أخلفت موعدها. عند تذكر ريم، وإخلافها موعدها، غادرت السرير، شعرت بإعياء وأوجاع بجسدي، عللتها بتعب وإرهاق، وكمية الغضب التي أفرعتها على الجميع. حاولت أن أبتسم لكن شفتي عصت ولم تطعني. كيف لمن كان في موقفي أن يبتسم؟ حتى أطفال الجيران صاروا يخشون ملامستي، لمست جسدي، بشرتي لامعة وسليمة، لا أحس بأوجاع، ولكن رأسي يؤلمني.
خاطر جعل الحرارة تسري بجسدي، وريقة زينب ماذا تقصد منها؟ جارتي تنتحب وترجف كعصفور مبتعدة عني. نعم أنا متعوّد على رجفتها وهي تحتي، ولكن رجفتها الآن تختلف، كانت ترتجف شهوة، بجسدها المكتنز، ما رأيته ليلة أمس بعينيها هو الفزع نفسه. زينب تطردني وتطلب مني أن أكون قوياً، سأكون قوياً يا زينب، لن أبحث عنك بعد اليوم، ولن أهتم بصديقتك رجاء، أرجو ألا ترسليها تستعطفني لن أعود إليك. هل تعلمين كيف عاملتني بجلافة؟ يكفي ما نلته من أجساد البنات، كنت أود أن أختم حياتي بجسد ريم، لكنها أنكرتني ونفرت مني وسط زميلتيها، ماذا يحدث؟ سؤال وحيد احتل ذاكرتي، لن يفك هذه الطلاسم سوى زينب، سأذهب إليها بالشركة، سأتسلل خلسة إلى مكتبها، أغافل السكرتير القميء أو السكرتيرة البلهاء، سأمر بمكتب رجاء، لن أحفل بها سأتجاهلها كما تجاهلتني، لو تطاولت ونادتني سألقمها حجارة من فمي، وسط زميلاتها، وأقول إنها راودتني عن نفسي ولكني استعصمت. ستصدقني زينب، أنا واثق من صفاء نيتها، ربما لحظة غضب سطرت لي فيها تلك الوريقة، وهي وريقة تحمل معاني مختلفة، سأتقبلها كنصيحة منها، لا أكثر من ذلك.
نهضت ببقية نشاط، أرتب كلمات الاعتذار التي سأتفوه بها أمام زينب، سأحضنها وأقبّلها أمام سكرتير الشركة القميء، وأغيظ السكرتيرة ورجاء، نأتي إلى غرفتي، لن أخونها بعد اليوم، سأقطع علاقتي بجميع من عرفتهن. فليذهبن إلى الجحيم، سأكتفي بزينب وحدها.


9
سيرة زينب أعادت لي ذكريات لحظات حميمية عشناها، تداخلت صور تلك اللحظات بفؤادي. ها نحن نتناول طعامنا، كيف تنازعنا في أول من يرشف الكأس الأولى، ها هي أنفاسنا تمتزج بقبلاتنا، صورة أخرى أنا وزينب نائمان على سريري عاريين، زينب تخلع ملابسها أمام المرايا أنهض وأحضن خصرها، تنفض شعرها الغزير، تلفحني رائحة عطر. وصورة أخرى لزينب وهي تناولني لقمة من فهما لفمي، وها هي ترقص عارية لي، ترسل لي قبلاتها عبر الفضاء. كلما بثت ذاكرتي صورة دب نشاط بي.
بذات النشاط تسللت من غرفتي، بخطوات مسرعة ومستقيمة، حتى لا يراني أحد خصوصاً جارتي اللعينة، نظري مشدود إلى الأرض، هدفي محدد وواضح، الشركة الوطنية للطيران، بل مكتب زينب تحديداً، أنا لا تهمني الشركة بل زينب. في سيري رتبت كلماتي، الاعتذار فضيلة، الجبان لا يعتذر، لذا ٍسأعتذر لها عن تصرفاتي وسأختلق تصرفات خرقاء وأنسبها لنفسي وأعتذر.
داهمني إحساس لذيذ انتصب له قضيبي نصف انتصاب، تلفت في الشارع، كأنه احتكر ضجيجه لي، أسرعت مبتعداً، تذكرت ليلة البول، أصابني قرف، ربت على قضيبي المختبئ بشعر عانتي، كأرنب خلوي، أسرعت في السير، بصري مشدود نحو رمل الطريق. وجدت نفسي قريباً من سور الجامعة، ملصقات تعلن عن مهرجانات، وأخرى تدعو لحفل ساهر، وبعضها يدعو لندوات ثقافية. هيجتني الذكرى ودخلت إلى الجامعة، عدت بذاكرتي سنوات، هل كنت ذات يوم هنا؟ أطلقت نظري يجوس بين المباني والأشجار، تلك الأشجار كم سمعت من كلمات الغرام والمحاضرات والندوات، استبحت شجرة ظليلة، جلست تحتها، عشب مخضر يحيط بي، عشبة تطاولت بعنقها على زميلاتها، قصفت عنقها، سال دمعها الأبيض، حتى العشب يبكي، تذكرت دموع جارتي، ودموعاً ذرفتها زينب، كان العشب ندياً، هواء منعش غسل رئتي، نفسي حدثتني بالوقوف على الأطلال، ليست الأطلال المتحركة كما يصف صديقي شريف البنات اللائي ضاجعهن منذ سنوات، بل أطلال الكليات، كلية الاقتصاد حيث تلقت زينب تعليمها، كنت أداعبها:
- دراسة الاقتصاد علمتك الاقتصاد في كلمات الغرام.
- هل تريدني أن أكتب فيك شعراً؟
هربت من تلك الذكريات ويدي تداعب العشب الندي، رأيت الطلاب يجتمعون دوائر دوائر، تحت ظلال الأشجار، انحيازي للأشجار واضح منذ التقيت في ظل إحداها بزينب، قلت لنفسي أروح عني قليلاً، وأسترجع جدالنا في تلك الأيام، حيث كانت المدينة بقبضتنا، كنا نظن أن الحياة خلقت هكذا، وما كنا ندري ما تخبئه لنا من مفاجآتها، اعتقدنا الجامعة بقعة محررة من التزمت والعسكر، كنا بدخولنا الجامعة ابتعدنا قليلاً عن زمن البراءة.
طردت تلك الذكريات ورجعت إلى الحياة والنشاط المحموم بين الطلاب والطلبات، قلت ربما أجد طالبة اقتصاد كزينب، تقتصد في كلام الغرام وتبذر في جسدها، يقول صديقي شريف "لكل طالبة كلية طعم مختلف، طالبات القانون لهن مذاق الورق الأصفر، طالبات التجارة لهن رائحة الدراهم، بنات الطب لهن رائحة حبة الإسبرين، بنات كلية الزراعة لدنات لهن رائحة الفطريات".
طردت حديث شريف واتجهت إلى أكبر تجمع، وجدت حجراً جلست عليه أبحلق في الفتيات وأمسح الطلاب بنظري، وأجتر ذكريات لي مع طالبات زرن غرفتي. كان صوت المايكرفون يأتيني، أسمع كلمات غاضبة تتبعها ضحكات ساخرة، وتصفيق وبعضهم يصفر، آه ما أجمل حياة الطلبة، فجأة شد انتباهي صوت أنثى، صوت تخلل مسامي انتعش له قلبي، نهضت لأملّي عيني من صاحبة الصوت، علمتني تجربتي، جمال صوت الأنثى يؤكد جمال جسدها، لا توجد أثنى دميمة وصوتها عذب، ولا أنثى جميلة وصوتها مُنكَر.. كنا نهتف "الأنثى صوت". مددت عنقي ولكن زحمة الطلاب حولها أعادت لي بصري خاسئاً حسيراً. شاهدت ما ينم على أن حرباً ستدور رحاها بين الطلاب، قلت أبعد عن الشر وغنِّ له، لست في حاجة إلى طعنة سكين مجهولة المصدر، أو رمية حجر طائشة. قررت مغادرة الجامعة إلى زينب، سأقص عليها زيارتي لكليتها، سيفرحها ذلك، كثيراً ما طلبت مني زيارتها. حاولت النهوض، شاهدت زهرة بنفسجية، قلت لنفسي لأحملها معي إلى زينب، يعجبها اللون البنفسجي. دنوت من الزهرة، قطفتها وثبتها علي عروة قميصي، هكذا أكملت أدواتي لإقناع زينب، تعجبها الزهور، أغنيتها الأثيرة "وسط الزهور متصوّر وجهه الصبوح ومنوِّر، رقة حنان ذي القمر مُدَّوِّر".
كانت تغنيها لي بصوت رخيم، صوت يغمر جفاف حياتي بنعومة مشتهاة، شعلة شوق لزينب بداخلي اشتعلت، ضاقت بي سوح الجامعة، سأغادر الجامعة إلى الشركة الوطنية للطيران، تشاهد زينب الزهرة البنفسجية على عروة قميصي، أمسك الزهرة أمدها لها، ستعلن عن فرحها بأن تفرد يديها وتضمني وتقلبني بخدي عدة مرات، أبادلها القبلات، أحس بنهديها تضغطان على صدري، يدي تمس ظهرها برفق، وألثم جبينها وأدس أنفي خلال شعرها، يستوي فرحنا، أليس اللون النفسج شعار المحبين؟ إنه اللون الدافئ، ستأتي معي زينب إلى الجامعة، تحقق رغبتها بزيارة كليتها، ثم نذهب إلى غرفتي. لن ندخلها، سنجلس خارجها نغيظ جارتي بجلستنا، نقلت رجلي اليمنى وكدت أنقل اليسرى، سمعت صوتاً أيقظني من حلمي الجميل، وسمَّرني في جلستي.
"الآن نقدم لكم مناضلة تحكي قصتها مع التحرش الجنسي".
كدت أضحك ولكن رغبة تملكتني لسماع تجربة ربما أستفيد منها، عدت إلى الحجر فجلست، أتاني صوتها:
"سأحكي تجربة مرت بي أيامي الأولى، كنت أحمل سكيناً تحت ملابسي، وقد شاءت الظروف أن آتي في منتصف الليل، وأنا غريبة لا أعرف أحداً، نعم أحمل خوفاً من سكان المدن، تقرَّب مني شاب في الثلاثين من عمره، استنجدت به ليدلَّني علي طريق حيث أود الذهاب إلى داخلية الطالبات أوبعض معارفي كما أوصاني أبي. تبسم بخث، يا للهول الداخلية بعيدة لن تجدي سيارة تنقلك إليها. لا أطيل عليكم كان هذا الشاب ذئباً في جسد إنساني، أغواني بمسعول حديثه وحليفته بالله، آه الآن أعلم أن أهل المدن يحلفون وهم كاذبون.
المهم أقنعني بالمبيت مع زوجته وأولاده حتى الصباح. حين وصلت منزله كان وحده، هو ليس منزلاً لا يحمل صفة واحده يستحق بها هذا الاسم، خرابة فقيرة وكئيبة كقلب ساكنها. المهم جلست على السرير، لا تضحكوا، نعم جلست بطرف السرير لأني لم أجد شيئاً أجلس عليه، السيرير عليه ملاءة مزرعة للقمل، يبدو أنها لم تسمع بالماء، تحت السرير صحن ضل طريقه من بكين إلى تلك الغرفة، قررت أن أظل صاحية حتى الصباح مخافة تلوث جسمي وملابسي. كدت أسأله كيف تقطن هنا؟ بدأ الشاب يلف ويدور ويهمس ويغمز، لكني ألقمته حجراً وأخبرته أني لست من النوع الذي يتخيله، لكنه كان شيطاناً كما قلت لكم، لم يردعه كلامي بل هم باغتصابي عنوة لحظتها أخرجت هذه السكين وشهرتها في وجهه، سبحان الله تحول من ذئب إلى حمل وديع يترجّاني ويتوسّل لي، أنا جبان، أنا نذل، أنا تافه، أنا خسيس، اعذريني، بصقت على وجهه وأشبعته كلمات بذيئة.. والآن لي سنوات أبحث عنه لأمزقه بهذه السكين"..
هنا قوطعت الفتاة بتصفيق له دوي، وهتاف يصم الآذان
- يسقط كل متحرش، يسقط كل جبان وخسيس.
تذكرتها، إنها خديجة آدم، عادت لي كوابيس تلك الليلة، لم أستطع الاقتراب منها ربما تعرفني وتشبع سكينتها من لحمي. غطيت وجهي بصحيفة كنت أحملها وغادرت الجامعة منكس الرأس إلى مبنى الشركة الوطنية للطيران، خرجت من الجامعة وهدير الطلبة يبتعد عني، سرت لا ألوي على شيء، لكن ذاكرتي قذفت مكنوناتها، تحسست قضيبي، يرقد كقط وديع بين فخذي، طالما فتك بمائة فخذ وفخذ ها هو ينوم كما تنوم القطط، انقبض قلبي، فعادت الذكريات إلى تبرجها بصدري. تذكرت حديث صديقي شريف تلك الليلة التي شربنا فيها بول السهامين: "تذكرت بعض قصص السكارى، أجملها حدثت لصديق لي، كنا نتسامر ونحتسي خمر رديئة وقد تعشينا بطعام بملاح الويكة وهو ملاح لزج، سها صديقي عن غسل يديه بعد العشاء، في الصباح دخل الحمام ولكنه خرج منه ساهماً فطنت لسهوة وسألته ما دهاك؟ رمقني وقال "أحدكم اغتصبني لأني حين دخلت الحمام وتخلصت من الفضلات وأردت غسل مؤخرتي شعرت بمادة لزجة"، فصحت فيه: "يا بليد أنت لم تغسل يديك من طعام العشاء".
حين أكملت جملتي اشتركنا في ضحكة واحدة.
رأسي من ذكرياتي صار ماخوراً، أين الذكريات العذبة؟ زينب مثلاً، تكومت حشجرة بحنجرتي بصقتها، البصقة الشقية وقعت على قميصي. نفضتها.
مررت ببعض الطالبات بجوار مقهى، يشقشقن، يخرجن أحرف كلمات ممزوجة برائحة إفطار ومشروبات، مزرعة زهور هي أجسادهن، تخيلت نفسي عارياً وسطهن، صرت كلي رغبة مترعة بالحنين إلى الأجساد، قلت من الأفضل لي النظر إلى الجهة الأخرى، لو توقف نظري عندهن ربما ارتكبت ما يقودني إلى تهلكة، لا أستطيع تصرفا آخر، سرت شحنة كهرباء إلى جسدي، أعدت النظر إليهن، غابة من النهود، وتلال من المؤخرات، أنهر من الشفاه، أصواتهن تلطم جدار القلب فيهتز، ماردي صحا من غفوته ربما تلقى إشارة من المخ، فاصل حاد بين الهروب والتهلكة، لم يعد ثمة مناص من الخروج، خاطر ماكر همس لا تخرج من هنا قبل أن يمتلئ فؤادك بالجمال، ربما تجد زينب أخرى، صرخت داخلي، كفى من تتبع الجمال وصل إلى حد القبح، دائماً نهاية الحلو مر.. زينب كانت عسل حياتي وهجرانها حنظلها، كاذب من قال الحلو لا ينفد.
تجاوزتهن إلى داخل المقهى، عادت لي ذكرى تلك الليلة، ليلة شربنا البول، انقبض قلبي، مرارة بحلقي، قيء في مرحلة اليرقة داهمني، يا لهذه الذاكرة اللعينة، صارت تحثني بالبحث عن السهامين وسط الفتيات بالمقهى، ألم تزعما أنهما طالبتان بالجامعة؟ انتقل بصري لجهة أخرى، شاهدت رجلاً له مظهر حقير، يرمقني. صرت أتألم لأشياء بخيالي، الخروج هو الطريق السليم الوحيد لي، لا أود أن أتجرع إهانات، تذكرت صديقي شريف، ينسب كل تصرفاته لشيطان بمخيلته وحده، فتضحك زينب، آه كيف تحول حبنا العظيم لركام من الحكايات؟ صدري مرجل لحكايات متناقضة، الرجل الحقير يرمقني، دخلت بين موجتين، موجة هوجاء وأخرى حزينة، سقطت فريسة لهواجس تنهش الروح، قلت لنفسي سأحفظ توازني، كدت أجن، لن أتشبث بخيالات وأوهام، فلتكن السهامان موجودتين، هذا الأمر لا يهمني، لو أردت البحث عن السهامين كيف أعرفهما؟ الخمر مسحت من مخزن الذاكرة هيئتهما.
مسحت الهواجس المريرة والذكريات عن رأسي، فغادرت المقهى، أحث السير نحو الشركة الوطنية للطيران. انطلقت ذاكرتي تخرج مكنوناتها، صارت لي قدرة مؤقته لاختيار ما أوده من مخزن الذاكرة، بسرعة كخاطرة رجل مرعوب قبل أن تغلق الذاكرة مخازنها، التقطت سيرة زينب، صرت أستحضرها وأناجيها، آه زينب، أنت دنياي، منك أخذت المعنى يا أنشودتي الأخيرة، تصحر قلبي بغيابك، يا بوصلة العشق، يا نقيضة الموت، توقفت مهمهماً هذه كلمات أضحت ثفلاً. زينب تحتاج لكلمات طازجة لم تلوِّثها الشفاه، زينب أعلى وأسمى من الكلمات، يبدو أن الذاكرة ذات مكر فريد، دلقت ذكريات مخزية، أثقلت خطواتي، كاذب من قال إن الذاكرة لا تعصي، حق لذاكرتي أن تعصي فقد ملأتها شؤماً، من أين لها بالفرح؟ الذاكرة كالمرأة، إذا عاملتها بلطف تجد منها اللين والرقة، أما إذا كنت ملوث الأفكار فهي جهنم، الذاكرة وعاء السلوك، كالماء لا لون لها. حرنت ذاكرتي في تلك الصور والأحداث، الفتاة التي ماتت بسريري، جارتي، خديجة آدم، أسماء كلما تذكرتها وجف القلب، نالني اضطراب، وأنا أحتاج إلى استثارة، أنا بطل الحزن والكآبة، كنت فضولياً في معرفة أسرار أجساد النساء، منذ سعاد قريبتي التي فتحت فخذيها كأول الأفخاذ التي تتعرى لي، إلى ريم التي شنقت روحي، وخديجة، ذكراها ترعبني وينقص ماردي عدة سنتمترات، أما زينب فهو يشهق لها ويصهل، مات الصهيل يا زينب، يبدو أني دخلت في أحلام، ربما انثيال الذاكرة ألهاني عن وعورة الطريق ومطباته.
حين أفقت وجدت نفسي أقف أمام باب الشركة. وقفت برهة، نظرت إلى مكتب الاستقبال، رأيت موظفاً آخر يجلس على طاولته، شاب تبدو على ملامحه طيبة ما، الطيبون هم أشرار الدواخل، الطيبة دائماً قناع لمكر وخبث، أعلم ذلك، ولكنني أخدع نفسي أحياناً، حتى البنات الطيبات بنات منكسرات وفاقدات الإرادة، تشجعت وعاجلت موظف الاستقبال:
- أريد زينب.
نهض الموظف وناداها عبر نافذة زجاجية
زال بعض همي حين لمحتها عبر النافدة تأتي نحوي، شلال كلمات حبسته بين شفتي، شهقة فجائية داهمتني، حين اقتربت مني توقفت مبتعدة عني، لم تحضن يدها يدي المهيأة لمصافحتها، خيوط بصري مشدودة إلى شفتيها. التقت أعيننا، اضطراب رأيته بعينيها الغائرتين، وجهها شاحب وحزين، تغطي شعر رأسها بخمار، شعرها الجميل الذي أهيم به، رسمت بسمة عصية وأنا أمد لها يدي، ترددت قليلاً، مدت لي يدها بقفازتيها صافحتني. سبقتني هي وجلست على مقعد جوار الموظف، رمت عينيها على المقعد وبيدها اليمنى مسبحة، بصوت خفيض سألتها:
- زينب، أخبريني ماذا حدث؟
طفرت دمعة منها وسالت على خدها، نهضت بسرعة ودخلت مكتبها، تبعها الموظف وأنا متسمر بمكاني. لقد أذلني الموقف، جاء موظف الاستقبال وقال لي بجلافة متأصلة فيه:
- يا أستاذ، الأستاذة قالت لك لا تحضر إليها بعد اليوم وتنصحك بالذهاب إلى طبيب!.
لا إرادياً أنفتح فمي يردد الطبيب، الطبيب، شعرت بأمعائي تتلوى وتنقبض، دوار برأسي. أسندت نفسي بالحائط، مطر حامض ينهمر من مقلتي، تهالكت على الأرض، تعرق جسدي كله، ضربات قلبي لها أزيز كمحرك طائرة متهالكة، أحتاج قليلاً من الهواء لتنتعش رئتي. زحفت مبتعداً عن الموظف. إحساس بالكآبة تملَّكني، وقعت تحت تأثر الهزيمة، كشجرة اقتلعت من جذورها، صرت أستغيث. يا إلهي أغثني.
أغمضت عيني من الوجع الخرافي الذي أحسست به. شعرت بيد قوية بأطرافها مخالب حمراء اللون تنهش دواخلي. استسلمت تماماً لمصيري، انتابتني موجة من اليقين لا أدري أين كانت كامنة.. تساوت عندي الحياة والموت، زحفت وزحفت، أصبحت خارج مبنى الشركة، نظرت نظرة أخيرة، رأيت الشارع يعج بالناس، الحياة تدور دورتها الطبيعية، عاد لي بصيص أمل، قلت لأتحرك قبل حضور الهواجس، حملت أرجلي وأنا أهمهم بانكسار مردداً جملة الموظف، "اذهب إلى الطبيب". شعرت بطعنة بقلبي، تساؤلات حمقاء وثبت من فمي: لماذا أذهب لطبيب؟
انطلقت أبحث عن شيئ يساعدني على التماسك، حاولت ردع الهواجس، همهمت، أنا لا أعاني من مرض يستدعي الذهاب إلى الأطباء، نعم شعرت بإعياء، ربما من التفكير، شعرت بقلبي المحطم صار يدق بوهن، الذاكرة استدعت زينب، لكن الشريط مر بسرعة خاطفة، تلت صورة زينب صورة الموظف وهو يزجرني، "اذهب إلى الطبيب". أذكر قالها بتأفُّف، نفسي تلحُّ بالعودة إلى الشركة لألِّقن الموظف درساً قاسياً، رغبة لم تكتمل النمو تغريني بالعودة إلى غرفتي، هاجس مخاتل طار ينقر في ذهني.. لا زينب لا تكذب، أنت مريض يا عبدالقوي، صرخت ويدي تدعكان جبيني، لست مريضاً، خيل لي أنني أسمع قهقهات ساخرة، تلفت في الشارع، كنت وحيداً منزوع الإرادة. تساءلت، ما يضيرني الذهاب إلى طبيب؟ سأذهب وأثبت براءتي لألقم الجميع حجارة. بإرادة طفولية قررت، يجب الذهاب إلى طبيب، ولكن أنا لا أشكو من عارض، ماذا أقول للطبيب؟، ما هي الأعراض؟ نعم بعض الحمى وصداع، تذكرت صديقي شريف يقول بتفقهه الجهول في الطب "الأمراض القاتلة لا يتبعها ألم، ولكنها تعلن عن نفسها بعلامات لا تبين إلا لبعض العيون". كاد ينفجر رأسي، والذاكرة حرنت في المواضيع المؤلمة لا تبارحها، رأيت الخوف بعيون الأطفال، الفزع بجارتي، شريف وهروبه مع عائشة، الموظف القميء، بل زينب.
يقال إن أمراضاً جديدة وفتاكة ظهرت، ولكن كيف عرفت ريم مرضي؟ بل كيف عرف صديقي شريف وحبيبته عائشة وجارتي وأطفال الحي بمرضي؟ هل أنا مصاب بمرض خبيث؟ يبدو ذلك، الذي يبعد زينب عني ويجعل عيون جارتي بحيرة دموع ليس بالمرض المعتاد كالحمى ورمد العيون والصداع، مرض يجعل زينب تبكي وتتحاشاني. لا ليس بي مرض، فقط إشاعة خبيثة أطلقها أحدهم عني، لكن من هو؟ سوأل مربك لي، سأبذل جهداً كالذي ابذله في اصطياد الفتيات حتى أعرفه. صديقي شريف اختفى سأذهب له بالأماكن التي يرتادها، سأعرف منه مطلق الإشاعة، أريد تفسيراً لما يحدث، جسدي يرتجف، ليس خوفاً. حين يتعرض الإنسان لبعض الأخطار يرتجف جسده ويتعرق. لملمت أنقاض روحي، لم يكن الأمر سهلاً، ماذا فعلت حتى أعاقب؟ لا شيء، نعم كنت سادراً في غيِّي ولهوي، لكنني لم أكن شاذاً، يجب أولاً ترميم روحي، هذا يتطلب معرفة الحقيقة، شريف وحده من يمتلك الحقيقة، أيضاً زينب، لكنها طردتني. أنا لست قطعة قماش يتخلص منها الجسد، أنا لا أزال قوياً ومتماسكاً، نفد صبري، صبر العشاق قصير النفس، ينتقل العاشق كالبرق من الجنة إلى الجحيم.
فتحت عيني أفتش عن عدو خفي، لدي قضية يجب تسويتها معه، الإتهام جاهز والدفاع عاجز، الضمير هو القاضي، لم أستطع أن أمسك نفسي من أن تسرح في تيه الأسئلة، أسئلة مراوغة كأنثى خبيرة بألاعيب الرجال، شيء ما انكسر بداخلي، شيء لا أعرف كيف أمسك به، كيف أستعيد تلك اللحظات من السعادة. أنا في حديقة رعب، نعم للرعب حدائقه هو الآخر، سأقمع تمرد الذاكرة بقوة طاغية متمكن من أدوات القمع، أدواتي هي الخمر، سأهرع إلى أقرب خمار، كلا بل عليَّ تحديد أولوياتي، شريف وليس غيره من يخبيء السر.
أشعلت سيجارة، وقفت أدخن بشره لفت نحوي الأنظار، هؤلاء الفضوليون، المرتعبون من كل نأمة إنسان، يحشرون أنوفهم المتسخة بمخاط لزج كذبابة ماخور في شؤوني الخاصة، أين المدهش في رجل يدخن سيجارة؟ اشتغلت بالبشر الفضوليين ولم أشعر بأن السيجارة انطفأت بين أصابعي، السيجارة كالمرأة تعطيك وتحترق، لا زينب كانت كلما أمتطيتها تفرح وتشهق بسعادة، كنت ساذجاً وغراً، حتى داهمتني المصائب التي نفرتهم مني، تخلصت من نساء كثر كما يتخلص المرء من قميص بالٍ، حظيت زينب وحدها باستمرارية علاقتها بي، دست على عقب السيجارة وتحركت، هاتفاً بتصميم "أريد شريف".
وجدت سيارة مركونة بالشارع، نظرت لنفسي عبر مرآتها، انعكست صورة وجهي عليها، نفس الملامح التي أراها كل صباح منعكسة على المرآة، هذا الوجه بعينين تتسعان لحظة الفرح وتضيقان عند ضيقه، شارب محفوف بعناية، لحية تزيد وسامة تقاطيع الوجه، أسنان ناصعة البياض، تمطَّى فرحي، ضربت جبيني بكفي صائحاً، إنه الوهم.
رغبة راودتني للنظرة الثانية، مسحت المرآة بكفي واقتربت منها، تضاءل الفرح، ماذا أرى؟ آه ما هذه الحبة على خدي؟ ارتفعت يدي ولامستها، تبدو خشنة، إنها حب الشباب، أنا لا أزال شاباً هذه الحبة تفضح من ينكرم ابتعدت عن السيارة، أحمل طمأنينة، شعرت بقاعدة أنفي باردة، تلمستها بيدي فعاد القلب إلى الحنجرة، لماذا ينزّ أنفي؟ نحن في أشهر الصيف، إنها ليست نزلة برد. تضاءل حجمي، رجعت نحو مرآة السيارة، كان أنفي ينز، مسحته بمنديل، رشح أكثر، أكيد هذه أنفلونزا. شقشق عصفور فرح بقلبي، يقولون إن الانفلونزا لا تدع مرضاً آخر بجسد الإنسان، إنها تتصارع معه وتنتصر عليه، إذن ليس بجسدي مرض خبيث. نفسي حاولت أن تغويني، لا تمسح ما رشحته أنفك اذهب لتراه زينب، هي من أخبرتك أن جرثومة الأنفلونزا تقضي كل الجراثيم الأخرى، أنا لا أصدق النساء، عشت حياتي وأنا لا أصدق أنثى كيف أصدقها الآن؟ الذي أعاني منه قليل من الإرهاق، سيزول، أنا واثق من ذلك.
تحركت مقترباً من المرآة للمرة الثالثة، كاد وجهي يلامس سطحها، جذبت طرفي حدقتي بأصبعي، ما هذا الاحمرار تحت جفني؟ بؤبؤ العين لونه يبدو غير طبيعي، سواده باهت، زينب كان يعجبها سواد عيني، عيوني أكثر سواداً، تصفها بالزرقة وحيناً تتهكم، "إن لون عينيك يا عبد القوي كحلي". هذه المرآة خائنة لا تعكس الحقيقة، مسحتها بمنديلي، وعدت انظر في انعكاس وجهي، فتحت فمي وأخرجت لساني، انعكس لونه أحمر قانياً. هلع رك بقلبي، همهمت نعم "أنا مريض".
ابتعدت عن السيارة كأنها كلب عقور، جلست بعيداً متكئاً على حائط بائس. الذاكرة رغم إجهادي أطلقت ماكيناتها تدور برأسي، طنين مزعج، يمور بداخلي، صور هلامية وكلمات فقدت معانيها تتدفق، آلام وأفكار خبيثة وأخرى بين بين، كيف إصلاح ما تهدم من روحي؟ شعور بالمهانة وسوء المصير الذي حذرني منه أبي، دموع الحزن تعلقت بأهدابي، انتابتني هلوسات ممزوجة باليأس، هذه اللحظة التي احتاج فيها إلى سند، شيء بداخلي دفعني للتحرك بحثاً عن شريف. قرأت بمجلة طبية بغرفتة أن احمرار اللسان أعلان الجسد عن مرض، لا لست مريضاً، ما أكثر ما يقوله الأطباء، أنا لا أثق بهم، الثقة كلمة لا تعني شيئاً، هي سلم المحبطين والفاشلين، أنا لست منهم، ولكنني خائف، أقر بذلك. لكن احمرار لساني زاد خوفي، أدخلت أصبعي ولمسته، أغلقت فمي، اجتاحني صداع، غشيتي كآبة. كثرت زيارة الصداع لي هذه الأيام، يبدو أني مريض فعلاً.
رجاء، جارتي، شريف، زينب، جميعهم زعموا مرضي، تذكرت حديثا لا يمل أبي من تكراره، "لا تجتمع أمتي على باطل"، كيف اجتمع هولاء؟ لكن ما نوع مرضي؟ هل هو حمى؟ يبدو ذلك، هاجس لا أدري أين كان همس، لكن الحمى لا تجعل الناس ينفرون منك يا عبد القوي، ألم تخبرك زينب؟ بالبلاد ظهر مرض خبيث، أنت مصاب بذاك المرض. وجدت نفسي أصرخ بصوت مرتفع، لا، لا لست مصاباً به. وضعت يدي على أذني، تذكرت جنوني الذي أسميه حباً لزينب، تلك السنوات كانت فيها حياتي متجراً لبيع العواطف، الشارون كثر، كنت في حلم جميل، أوصلني لمرحلة الإيمان به رضوخ زينب لنزواتي، حلم طرفه الوحيد الثابت أنا، أنا كائن لا يتغير، يجب أن أكون كذلك، شخص معصوم من الحق، لست وهماً، تحسست أطرافي، يدي، رجلي، رأسي، أنا مكتمل الأعضاء، داهمتني رغبة بأن أتحسس ماردي، عصيتها، ليس من الحكمة مسه في شارع عام أمام فضول البشر، لماذا أمسه؟ لقد أدى دوره بإتقان، التحية له.
أفكار سيئة تمور برأسي، أولها الانتقام من الجميع، ليس باليد حيل كثيرة، الانتقام أو الهروب، أيهما أقل خسارة؟ هذا السؤال البسيط كقبلة أم لطفلها الوحيد أزعجني. شهوة أن أرى زينب للمرة الأخيرة حركت أشياء تحس ولا ترى بعقلي، أشياء تمر مرور النسيم على مؤخرة عارية، لم أقاوم شهوتي، جرجرت قدمي مبتعداً، شيء غريب يحدث، كلما تحركت رجلي تدفقت الذاكرة. مرضي ليس له دواء غير قبلة من زينب، هي ثمرة ذقت حلاوتها وتبقى لي مرارة الثمرة، قصة حبنا خارجة من المألوف، ليست كقصص الحب التي تبدأ حسنة وتنتهي نهاية سيئة، قصة حبنا يجب أن لا تنتهي، ألم تقل لي في إحدى رسائلها "أحبك.. حتى الموت لن يفرقنا"؟ آه كيف يفرقنا مرض بسيط وتافه يا زينب؟
شعور مكثف بالحياة أسرعت له خطواتي، كأن شيئاً ما يدفعني دفعاً، ذكرى أيامنا الجميلة تجتاحني، فأسرع الخطى، تذكرت نصيحة شريف، "يا عبد القوي أمامك طريقان الأول أن تمارس الحياة بإرادتك، والثاني أن تدع الحياة تمارسك". همهمت سأختار الأول يا صديقي، أعلمه يحتاج لإرداة قوية، أنا لها. لكن تكالب المصائب أوهن عزيمتي وسحب مني قوتي، زلت رجلي في طريق وعر، بين الجنة والنار جدار شفيف، الآن أنا فيهما معاً، خطوة في الجنة وأخرى بالنار، كلما تذكرت زينب أسرعت الخطى، هل أنا أمضي إلى الجنة أم إلى النار؟ لا أدري، هل زينب جنتي أم ناري؟ طاف بخيالي طيفها، رف قلبي كعصفور نبت له زغب، لكنني سأواجه الحقيقة عارية، أنا بين نارين، حد فاصل بين التأريخ والمستقبل، لا يوجد ما يسمى حاضر، تاريخي مضى يجب عليّ صناعة مستقبلي، كثرة الطعنات علمتني أن أحترس.
لن أذهب بطريق يقترب من شارع الجامعة، ربما أنهت خديجة آدم حكايتها مع التحرش وتقابلني، كيف أتصرف؟، انحرفت نحو زقاق ضيق يسمح بالهروب والاختباء، الشوارع الضيقة صديقة المشردين والمحبطين. ساعدتني الشمس بغروبها، بل حفزتني، ظلام تحولت فيه الأشياء والناس إلى أشباح، همهمت "لن تعرفني خديجة". رأيت شبح امرأة تسير أمامي، خففت سرعتي كي لا ألحق بها، لكنها تسير ببطء، أردات عيني الارتماء على مؤخرة المرأة لكنني زجرتها، كيف أتصرف؟ وهذا الشبح يدب متمهلاً، سأركض حتى أتجاوزه، تركت الزقاق للشبح يذرعه. بالزقاق الثاني كثرت أعداد الأشباح، شبح سمين، شبح طويل، شبح قصير، خوف دق صدري، ليت شريف كان معي، صرت أهمس مردداً دعاء عملني له أبي، "أعوذ بكلمات الله التامة من كل عين لامّة"، ردَّدته مثنى وثلاث ورباع، حاولت استحضار آية الكرسي، وجدتها شردت من فوادي، كيف لا تشرد وأنا أتابع شريف في فجوره وزندقته؟ العلم نور ونور الله لايعطي لعاصٍ.. أعلم ذلك، لكن كلمات شريف تستقر بيسر بقلبي، ترنمت بها.
اختفت الأشباح، أسرعت مهرولاً حتى لا تظهر أشباح أخرى. هرولت عائداً نحو غرفتي، شيء يشدني نحوها، ربما أجد زينب مستلقية عارية، ليس على المرء أن يستصعب الأمور، وجود زينب ليس ضمن المستحيلات الثلاثة، ربما ما حدث لعبة، نعم لعبة غير محببة، سأعنّفها حتى تقبلني مائة قبلة حتى أغفر لها، آه لولا الآمال لبطلت الأعمال. حبي لزينب لا يزال في قمته، تلكأت في سيري، أمنح نفسي لحظات تعيش حلماً جميلاً.
تخيلت زينب عارية تبتسم لي بحنان دافق، ها أذنا أدعي الغضب، تدنو مني، أوليها ظهري، تأتيني من أمامي، أشيح عنها بوجهي، تطبع قبلة على خدي، أرفع يدي وأمسح أثر قبلتها، تطنطن: "هل قبلتي تضايقك يا حبيبي؟" تنتهي من سؤالها ويداها تطوقان عنقي، أبعد يديها عني، ينقلب الدور، تنهض ترتدي ملابسها، سأذهب ولن تراني.. أحس بقلبي يطير فزعاً، أنظر نحوها بنصف ابتسامة، تجلس قربي تحكي لي حكاية اللعبة التي مارستها معي، تعتذر "والله ورَّطني فيها صديقك شريف، هذه أفكاره اعذرني".
خطوت خطوات نحو الغرفة متمنياً أن يصدق الحلم، دفعت الباب برفق حتى لا ألفت زينب، أود أن أفاجئها بعريها، بهدوء أطأ الأرض، لن أضيئ النور، أتسلل خفيه أدس جسدي معها في السرير، تجاوزت الباب، انقشعت غلالة الحلم واجهتني الحقيقة واضحة كفضيحة ارتكبها متدين ملتحٍ، غرفتي خاوية، الأشياء التي تركتها بحالها، فقط الفئران زاد عددها، ضب في باطن الصحن المثلوم، سحلية تحت زير الماء، بعض الغبار بحافة السرير، جلست عليه، خلعت قميصي ووضعته على السرير، دخلت الحمام واغتسلت، الماء الدافئ أعاد لي نشاطاً أحتاجه، خرجت من الحمام، انحنيت تحت السرير، تناولت زجاجة الخمر، أنت سلواي، لن أنتظر أحداً يشاركني في إثمي وسكري، سأستعيض عن زينب بالخمر. وجدت الزجاجة فارغة، هل أخرج لإحضار خمر؟ لن يقتل الكوابيس سواها.
خرجت إلى ساحة البيت، صمت كثيف حولي، لا نباح كلاب ولا صوت آدمي، شاهدت جارتي تسعى نحوي، بسمة فرحة احتلت شفتي، أسرعت نحوها، فتحت لها الباب، دخلت بهدوء، كانت في السابق تدخل مهرولة وخائفة، جلست على السرير الذي شاهد تعريها وفجورها، نسيت هواجسي وجلست قربها، أبعدت جسدها عني، يدي التي كانت مرفوعة نحو كتفها هبطت بين فخذي، رمت نظرها إلى أرض الغرفة صامتة، احترمت صمتها، نفسي راودتني بسؤالها عن نفورها مني ونحيبها، لكني بلعت سؤالي الغبي، ولكن أسئلة أخرى تزاحمت لتخرج من كهف فمي، قمعتها كدكتاتور واجهته مظاهرة طلابية. ظللنا صامتين، حركة رجليها اعتقلت نظري، حركة عصبية، رغبة جامحة راودتني بأن أضع يدي على فخذيها، لكني لم أفعل، أصابتني الرجفة، تجاوبت رجلي مع رجفة رجليها، مرت دقائق والصمت يربطنا. حاولت قطع حبال الصمت، تنحنحت، أخرج فمي حشرجة. لساني أحسست به قطعة خشب، رفضت الكلمات الخروج منه، بلعت جملتي التي تكورت حروفها بلهاتي، سقطت دمعات على خد جارتي، لملمت أطرافها ونهضت مهرولة خارج غرفتي. سمعت صوت نشيجها وهي تدلف إلى بيتها، فرف قلبي، وعادت الهواجس تحتلني. ليتني سألتها لماذا زجرت الأطفال ومنعتهم الاقتراب مني؟ وما الذي يبكيها، رغبة غاضبة قادتني إلى اللحاق بها في بيتها، وجدت الباب مشرعاً فدخلت، ذعر بعينيها لمرآي، نشيجها المتقطع صك أذني. ككلب صيد تماديت وجلست قربها، تناولت ثوباً وتغطت به، تبادلنا نظرات حزينة ومرتعبة، خرجت وتركت جارتي تسبح في نشيجها داخل غرفتها.
غدا صباحاً سأذهب باحثاً عن صديقي شريف، حتى أعلم حقيقة ما يجري. عدت بأحزاني إلى غرفتي، نظرت إلى الساعة بمعصمي، ما زال الليل طفلاً يحبو، الليل مزرعة الهذيان، ونفسي مترعة بالخيبات، عبرت صور من أعرفهم بدماغي، صور هلامية تتداخل بدهليز نفسي الخرب، دعكت هامة رأسي، خربشت جبيني، وظلام الليل يمر بطيئاً، الهواجس صارت أكثر وضوحاً، الذاكرة لفظت مخزونها، ماردي ينوم متقلِّصاً على صفحة فخذي اليمنى، تعاسة لها طعم الحنظل تعرجت بسلالم حنجرتي، أهتاج حيناً وحينا أشعر بالخذلان. قسورة اندفاعي اللاهث انكفأت على نفسها، الذكرة تطلق عقالها في مدىً لا حد له.
شعرت بخدر يسري بجسدي، لا أدري كيف أتصرف؟ الخيارات تقلص عددها، خصمت منها زيارة زينب ولقاء رجاء وومداعبة جارتي، تبقى سؤا شريف كخلٍّ غير وفي، أي أرض ابتلعته؟ تحاملت وجلست على السرير، دوار برأسي، يدعوني للخمول والاسترخاء، ظهري تعرق، حرارة بجبيني، كيف يتعرق جسد في ليلة كهذه؟ النافذة التي أطل منها مسكتشفاً أسرار جارتي مشرعة، هواء بارد يمر عبرها، رفعت يدي نحو النافذة، الجو بالخارج بارد ورطب، خاطر مخاتل أنهضني، قبل أن يبث سمومه نظرت عبر النافذة إلى جارتي، رأيتها عارية تنام جوار زوجها الكهل، نفسي حدثتني أن أقذفهم بحجر. إن لم تنفع فضُر. ليلة كهذه كل خليل يلثم خليله سواك أنت يا عبد القوي.
حضرت صور أبي، اختفت الصور الأخرى، عليه ملابس بيضاء تحيط به نساء قاصرات الطرف، الخاطر المختال اتخذ مسوح متدينين، هذه إشارة لك يا عبد القوي، قم وصلِّ، همهمت "نعم سأصلي". همهمتي يبدو أنها أعجبت أبي، أرسل نحوي بسمة لها عدة معانٍ، هل أذهب إلى الطبيب قبل الصلاة أم بعدها؟ تعرى الخاطرالمختال، الطبيب أولاً لتعرف مرضك، صرخت بصوت هامس "لست مريضاً". جذبت رجلي، شعرت بأوجاع، شهقت وزفرت مرات عدة، كيف أصلي؟ لقد نسيت الصلاة، أين أنت يا شريف؟ أي لعنة أبعدتك عني؟.
هضت وقررت سأذهب أبحث عن شريف، بعد جهد دخل جسمي في ملابسي، تحركت بنصف نشاط، لن أستقل المواصلات، ربما أجد شخصاً أعرفه، والتعب يزول بالتعب، سأرهق جسدي بالسير. سرت وعيوني تتبندل في الشوارع يمنة ويسرة، المدينة التي أعرفها أضحت غريبة، أين سمار الليالي، وملفوظو الحانات؟ والفتيات المتسكعات؟ بل أين الباعة المتجولون؟ سابقاً في كل خطوة تصافح أذني تحيات من أمر بهم، مدينة أشباح صارت، أو هكذا بدت لي، ليس بالشارع أطفال، سيارة نقل عام تقف جواري، انحشرت فيها، لم أسأل عن وجهتها، تهالكت على أول مقعد، مذياع السيارة يبث أغنية عن هجر الحبيب، فنان أشتهر بغرامياته، توقفت السيارة في محطتها الأخيرة، لم أهبط منها، قلت للسائق:
- أود العودة معكم.
قررت أن أستقل جميع السيارت وأسير بجميع خطوط المواصلات، هبطت من السيارة وانحشرت في سيارة أخرى، سأغمض عيني لا أود رؤية المدينة، فأنا أعرف أزقتها وشوارعها، تسكعت فيها ما يكفي، كانت السيارة الأخيرة رحيبة المقاعد، مذياع ينبعث منه صوت مادح، "اذكر إلهك يوت بوريك طبك أحسن في من عاداك ومن يحبك". نسمه هواء أنعشتني، سرحت مع كلمات المادح، هذا ما أحتاجه ليس حكم شريف الفجة، طافت بي السيارة عدة شوارع، معظمها لي معها ذكريات، كنت أنفعل مع كل ذكرى، انفعالات هيجت سواكن كثيرة، علاقة طازجة نشأت بيني وبين سائق السيارة، كان إنساناً ودوداً يجيد فتل الحكايات، في كل رحلة كان يحكي لي غرائب قابلته أثناء عمله، غادرت السيارة والليل في رمقه الأخير. ودعت السائق، انطلقت أصوات الأذان من مساجد عديدة في وقت واحد، أحسست برهبة، لي سنوات لم أركع، كأن الأذان كان يناديني
تذكرت قبل سنوات هرعت إلى الصلاة، لكن صديقي شريف دخل فصاح حين رآني ساجداً ساخراً:
- عبدالقوي يصلي؟ هذه حالة تحتاج إلى توثيق، أين الكاميرا؟
تسمرت بمكاني أستمع إلى الأذان، حي علي الصلاة حي علي الفلاح الله أكبر الله أكبر، شعرت بصدري يعلو ويهبط، هواء منعش برئتي، ذرفت دمعاً، كيف أطهر روحي الملوثة؟ وأقلع عن الذنوب؟، تحركت وصوت الأذان عالق بقلبي، أبي يقول "التوبة تمحو الذنوب"، سأكفر عن ذنوبي بتوبة صادقة، سأتزوج، وأبتعد عن اللهو، أتجنب البنات وطاعة صديقي شريف في مجونه، بل سأدعوه إلى التوبة، سأبتدئ من الآن.
قررت العودة إلى البيت، غرفتي أصدق من كل النساء. لو نطقت بما حدث بها لدخل كل ضب في جحره. الحمد لله الجماد لا ينطق. سأغلق بابي ولن أفتحه لأي طارق، يكفي ما كسبته، لم أخسر شيئاً ولن أخسر. لو جاءت زينب سأخبرها بتوبتي وأني صرت إنسانا جديدا، أخيّرها بين الزواج أو الفراق بإحسان. عدت ونظري مشدود أمامي لم ألتفت يميناً أو يساراً وفمي يردد الله أكبر الله أكبر. سأدخل غرفتي، أطهرها من كل دنس، أغتسل، وأعود لألحق بالصلاة.















10
لبرهة تخيلت نفسي تجاوزت محطات الكآبة، مسحت ذاكرتي منها. استحضرت هيئتي قبل قراري بأن أصلي. منظري يدعو للرثاء، سأتخلص من هيئتي الرثة. أود هيئة نقية كقلب طفل، آثار الخمر من تجاعيد بالجبين وسواد تحت رمش العين، سيمحوها الوضوء. شعرت بنفسي خفيفاً، أعلم الانتقال صعب، عشرات السنوات أضعتها في لهو، الآن سأكفر عنها، سأقضي ما تبقى لي في الحياة متبتلاً ومستغفراً، الصلاة تمحو الخطايا، سأصلي، سأطأ بقدمي الطاهرة كل مكان نجسته، سأدعو غيري للفضيلة، سأبدأ بالخمار، هو مكمن الذنوب، أعيد لزينب طهارتها بزيجة نعقدها بمسجدنا.
كنت مندفعاً كسيل نحو غرفتي، كأني أهرب من تاريخي، غمغمت سأتوضأ لألحق بالصلاة، الصلاة بديل موضوعي ومقنع عن النساء. لحظة دخولي وجدت جارتي ملفوفة بثوبها داخل غرفتي، يا سبحان الله، سقطت توبتي، وذاكرتي انهمرت تعيد شريطاً هو عمري، انتفض جسدي، وأخرج شيطانه، غمغمت "لعبة القط والفأر يجب أن تنتهي"، هجمت على جارتي، نزعت ثوبها بعنف وأنا أصيح فيها:
- لماذا تغيرت معاملتك لي؟
- أخبروني أنك مريض.
وجدت نفسي أجلس علي الأرض متهالك القوى، أردد مستنكراً:
- أنا مريض؟ أنا مريض؟
لسعني اعترافها القاتل. ارتبكت، قشعريرة بجسدي، فتحت فمي وأغلقته ركضت جارتي إلى بيتها لكن صوت نشيجها لا يزال يطن بأذني، ابتل جسدي بالعرق، كنت لا أعرق، لكن منذ رفض ريم لي شعرت بجسدي ينهمر عرقا غزيراً، والآن يتساقط مني عرق كمطر خريفي، جلست على السرير وخدي يتكئ على يدي، تراءت أمامي لحظات عشتها أصابتني بضجر مر، ليس بحياتي ما يفرح، أحسست الدنيا الواسعة ضيقة، تحيط بي كآبة كجرو حصبه أطفال يتامى.. أكرر وأعيد جملة جارتي، ثم أنفيها مردداً "لست مريضاً.. لا أحس بآلام". تحركت نحو المرآة، إنها لا تكذب كفتيات هذا الزمن. نظرت لوجهي أو لانعكاسه على المرآة، ليس به شحوب بل نضر، أمعنت النظر جيداً، بيدي اليسرى رفعت رمشي، أرى حمرة ولوناً أزرق، نفس الألوان التي تحت الرمش، لكني أحس بإعياء، يبدو أن حديث جارتي حقيقي ليس كذباً، أخبرتها زينب، زعمت ذلك، لماذا لا تخبرني أنا؟ لا أنا لست مريضاً، إنها مؤامرة دنيئة، سألقن مطلقها درساً لن تنساه المدينة، ويسجل في التاريخ.
زادت ضربات قلبي، وعقلي انفلت يتذكر الأشخاص الذين افتروا تلك الفرية، توقف عند صديقي شريف، تساءلت: لماذا اختفى؟، سأنتظره حتى يظهر، لن أقص عليه قصتي مع جارتي ولا إخلاف ريم لموعدها حتى لا يشمت. أكثر إنسان يجيد الشماتة. جلست على السرير، لكن الهدوء والسكينة ابتعدا عني، كنت متوتراً، قلبي يدق كماكينة عربة في رمقها الأخير، تراءت أمامي صور من حياتي لي، أشاهدها أمامي، الطفل الوحيد بأسرتي، أبي إمام مسجد مدينتنا، رجل مربوع القامة معتدلها، أمي فاطمة تخطاها قطار التعليم، كانت مستودع حكمة، صبورة على شقاوتي، عصية الدمع، طفولتي لا أذكر منها شيئاً، حدثوني عنها، يقولون إني كنت مشاغباً وكثير الحركة، أتعبت أمي، وجدي لأمي أذكره جيداً كان حين يتشاجر أبي وأمي ينحاز لأبي ضد ابنته، يهتز شاربه الكث لحظة غضبه، شارب ينوء بحمله جسده النحيل، بفمه سيجارته، كلما أذكره الآن عنه نهمه إلى السجائر، أبي يمتعض من ذلك.
توقف تذكري عند عمي، نحافة تسعى على قدمين، كان مشاغباً، يقول أبي إني أشبهه، لا يصلي ويتعاطى الخمر يومياً، ينحاز لأشياء يمقتها أبي، يداوم على دخول السينما أو "السوء نما"، كما ينطقها أبي. من حسنات عمي وأفضاله التي كانت تفرحني في طفولتي، كان يصطحبني معه إلى أماكن لا يحبها أبي، كان مغرماً بالمقاهي والمنتديات الثقافية، ومعارض التشكيل، كانت له محاولات في الرسم، كانت تعجبني. كان عمي يحب رسم وجوه النساء، بغرفته لوحه معلقة، كانت تعتقل بصري، أذكر حاولت في سن السادسة رسمها، نزعت ورقة من كتاب كان يلازم عمي، بقلم وجدته على الطاولة، نقلت صورة الفتاة المعلقة إلى تلك الورقة، وحين حضر عمي بفرح طفولي أخبرته أني رسمت صورة الفتاة، لدهشتي غضب عمي لتمزيقي كتابه، مزق لوحتي، تضاءلت ومات الفرح بداخلي.
ومن تصرفات عمي غرامه بتربية الكلاب، كان يسعدني ذلك، كنت ألهو مع كلابه، "جرقاس خواف الناس"، "بوبي علي ظله يهوهي"، "توتو"، "خرمان"، ولبعضها أسماء تستحيي منها النساء، وهو يوزع بسمات الرضا، كلما تهربت امرأة من نطلق اسم أحد كلابه.. أبي يزجرني وينهاني من الاقتراب من كلاب عمي، لكنه كثير الغياب من البيت، يخرج فجراً إلى المسجد ومنه إلى متجره بالسوق الشعبي بالمدينة، كنت أخرج مع عمي إلى المكتبة الوطنية، وأحيانا نذهب إلى متحف الخليفة عبدالله وقبة الإمام المهدي، هناك يحدثني عمي عن المهدي وخليفته بإعجاب، حتى تمنيت أن أصبح مهدياً، يبدو أني زعمت لأندادي بمهديتي، لم يتبعني أحد إنما تبعتني ضحكاتهم الساخرة.
انتقلت الذاكرة إلى زنيب وهي تسألني عن عمي:
- كان عمي نحيفاً طويلاً له عيون عسلية طولة خمسة أقدام وستة بوصات،
تقاطعني:
- وشعره سبيبي، ولونه خمري، وجنسيته سودانية،
- يحب الخمر ورسم جوه النساء ويبغض اثنين: تدين أبي، والعمل.. كان يشجعني على تصرفات ترفع توتر أبي، ويحثني على مخالفة تعاليم أبي، ويتجاوز عن شخبطتي وتقليدي الفطير للوحاته.
تقبُّل عمي لشخبطاطتي زاد جرأتي، صرت أضيف إليها خطوطا ودوائر، كل لوحات عمي تتكدس بوجوه لفتيات، هذه مبتسمة وتلك ضاحكة وأخرى يسيل على خديها دمع حزين، يبدو أن عمي لا يحب رسوم بقية الأعضاء، خلف سرير عمي لوحة وحيدة مكتملة الأعضاء، تختلف عن نساء رسوماته، فتاة لها وجه مستدير بغمازتين، وخصر ضيق وشفاة ممتلئة، تكاد تقول لك قبلني، فاردة يديها كأنه مهيأة لتحتضن إنساناً تتمناه، لها ساقان ممتلئتان ومستقيمتان، كانت في طول عمي، سمعت أبي يعلن استنكارة لوجود تلك اللوحة، وقد تشاجر مع عمي بسببها، كان عمي مهتم بها وحريصاً عليها، حرص انتبه له جميع سكان البيت، أمي مع حبها للنظافة، كمعظم النساء، المراة خلقت لأجل النظافة يقول أبي، كانت أمي لا تتجرأ على نظافة غرفة عمي وتمنعنا من دخولها، نصرخ بشقاوة مطابين بالسماح لنا بدخولها.
هذا المنع نمّى بداخلي رغبة طفولية لمعرفة ما بداخلها، تجسست على عمي، لقد شاهدته خلسة ذات مساء، يقف ملتصقاً باللوحة فارداً يديه بمحازاة يديها بوجهه تعابير لم أعرها اهتماما في طفولتي. في إحدى غيباته من البيت تجرأت ووقفت نفس وقفته التحم جسدي بصورة الفتاة رفعت يدي كما شاهدته يفعل، انتابتني رغبة، وقشعريرة عمت جسدي، إحساس غريب تملكني، ربما نشوة كمتشرد قطم قطعة تفاحة، ولكن إحساس بالذنب قتل رغبتي بسرعة خرجت من غرفة عمي، ضميري أنبني: "ربما تكون اللوحة لجدتي رقية".
جدتي رحلت قبل التقاء أبي بأمي، لا أحد من الأسرة يتحدث عنها، حتى بعد وفاة أبي المرعبة والمخزية لنا، تلك اللحظة احتلت عقلي وقلبي، حاولت نسيانها لكن هيهات، أذكرها بتفاصيلها، الوجوم سكن الوجوه، حتى وجه أمي الصبوح أصبح واجماً كأنها هي من توفيت، تسربلت بصمت عصي واضعة يديها على خديها، لم تذرف دمعاً ولم تنبس ببنت شفة. أطبقت فمها. بعض معارفنا الذين حضروا عندما سمعوا بوفاة أبي، كانت تصرفاتهم مريبة، بسرعة أدخلوه في كفن وحملوه إلى مثواه الأخير، احتج بعض الذين لم يحضروا تشييع الجثمان، ساقوا اتهاماتهم بوجه المتسرعين بالدفن، وتطرف بعضهم مطالباً بنبش القبر، لكن همسات ركت بآذانهم قتلت معارضتهم. الذهول لم يكتفِ بأهلنا بل شمل المدينة، لقد أمَّ أبي الناس في صلاة الجمعة بالمسجد وبعد انتهاء الصلاة خرج مسرعاً. يزعم البعض أنه خرج مهرولاً إلى البيت، تعجبوا من ذلك ولم يغادر تعجبهم أفئدتهم حتى حين سمعوا بوفاته، يقولون إنه في تلك الخطبة دعا للمسلمين وشمل بدعائه اليهود والنصارى والنساء، وأوصاهم بوصايا لم يسمعوها منه قبل ذلك اليوم، وقرأ آيات من القرآن كأنها نزلت للتو، فيما بعد قال البعض عن خطبة أبي، إنها خطبة مودع..
أجمع من صلى خلفه أنه هبط من المحراب وهرول نحو البيت. عند دخوله انحرف نحو الحمام وصب على نفسه زجاجه بنزين وأشعل النار على جسده. تقول أمي إنها شمت رائحة الشواء تعم البيت، فتتبعتها، ظنت انبعاثها من غرفة الزوجة الأخرى حتى رأت الدخان يخرج من الحمام، فما كان بمقدورها كامرأة سوى الصراخ.
لقد مات أبي عارياً، خرج من الدنيا كما ولدته أمه، تناسلت شائعات عديدة عن تلك الحادثة، إشاعة تدعو للخزي والعار، يزعم البعض أن أبي لحظة دخوله شاهد إحدى زوجاته عارية يلتصق جسدها بأحد خدام المنزل، كانت زوجة أبي تلك فتاة في ريعان الشباب، كانت ذات صوت جميل، كنت أسترق السمع لها وهي تغني، ذات مرة تأوه عمي معلقاً عند سماعها تغني: "خساره صوت مثل هذا يضيع".
كانت تبكي بحرقة على موت أبي، صفعها أحد الرجال، كفّت عن النحيب، لا أذكر الآن ماذا حدث لها، لم أشاهدها بعد تلك الليلة، يقولون إن أبي تسمر ساعات يستمع بذهول لغنج زوجته وهي ترزح تحت خادمه. نفسه حدثت بالانسحاب حتى تكتمل متعتها تحت ذاك الزنجي، أذكره تماما، كتلة من السواد تحمل اسماً عجيباً فرج الله عبدالرجال.. شخص مفتول العضلات ضخم الجثة، كنت أراه دائماً يعمل، يغسل ملابسنا، ينظف الأواني، يسرع حين يرسله أحدنا إلى السوق، لا يكل أو يتبرم، يحمل الأطفال، ثم ينحشر في غرفة كئيبة بطرف منزلنا، كان يأتينا بالطعام ويجلس قربنا حتى تمتلئ بطوننا فيساعدنا في غسل أيادينا، ويعيد الأواني الفارغة وربما أكل ما تبقي من طعامنا. تلصصت عليه مرات عديدة، يترنم بأغانٍ بلغة لا أفهمها.
يبدو أن أهل أبي صدقوا الشائعة، لقد اختفى فرج الله أو طرد في نفس اليوم الذي احترق فيه أبي، بعض الآثار تؤكد أنهم قتلوه ومثلوا بجثته، لقد شاهدت بأم عيني عضوا ذكريا أسود كشرموط معلق على الحائط الخارجي لغرفة زوجة أبي، عضو أسود لشخص غير مختون، فعلمت أنه عضو فرج الله، أهل زوجة أبي ينفون تلك الشائعة ويزعمون أن أهل أبي مصابون بداء عضال، نتيجة لدعوة ولي صالح، يتبادلون حكايته بينهم بيقين.
قبل قرون حل بقريتنا ولي صالح من بلاد التكرون، مكث بالقرية عدة شهور يحفظ الناس القرآن، اكتظت خلوته بالصبيان والكهول نساء ورجالا، وقد كاد يصبح واحد من أهل المدينة، امتلك أطيانا ومزارع وعدة منازل بالقرية، ذات مرة وطلب من جد عائلة أبي أن يزوجه إحدى بناته، قوبل طلبه بالرفض، بل تجرأ جدي وطرده من القرية، ومن يومها صارت بعائلته لعنة معروفة للجميع.
أما قصة وفاة جدتي فقد انقسم أهلي في روايتها، كنت أحس بارتياح بعضهم لوفاتها، وحزن آخرين، البعض يقول إنها امرأة صالحة لحقت بجدي حزنا عليه، إنها توأمه في الدنيا والآخرة، ومنهم من يزعم أنها ماتت كافرة لأنها تجرعت شراباً مسكراً، أذكر أنني سألت أبي عنها فلطمني بكفه الخشنة وزجرني، صرت كلما تذكرت الموت ارتفعت يدي إلى خدي، وضعتها ساعة توفيت الفتاة التي أجهل اسمها، بسريري.
في وفاة أبي مكث بعض معارفنا معنا عدة أيام، نساء ورجال وصبايا وصبيان، كنت أنا في عمر البراءة، لا أعي كنه الموت، صورة جدتي كما وصفتها أمي تشبه صورة الفتاة التي بغرفة عمي، أين ذهبت تلك اللوحة. رغبة ملحة لأن أسأل عمي عنها، ظلت الرغبة مخبوءة بداخلي سنوات، كلما هممت بإخراجها شغلني عمي بقصة مسلية تلهيني، مات عمي، وترك فراغاً بقلبي، مع من أذهب إلى معارض التشكيل والندوات؟ ومن يقص لي القصص التي تذهب بعقلي؟ يشع جبينه وهو يحكي لي، كنت أفتح فمي مندهشاً وقلبي لتستقر قصصه، متعتي الجلوس بحضنه وهو يحكي، كنت أشم رائحة الخمر يبعثها فمه، ربما تسربت رائحتها إلى دمي، كان ينتشي حيت تأتي سيرة الأنثى بحكاياته، يحدثني عن النساء حديثاً ليس كالذي أسمعه من أبي عنهن، يتفوه بكلمات كنت أحفظها ولا أعي معناها، يقول لي إنه كان دون جوان زمانه، ويريدني ان أكون مثله يوصيني "لا تنتظر المرأة حتى تدعوك.. اقتحمها".
لذلك أحمل له محبة خالصة، أقاصيصه كانت سلواي، كلما جلست معة حكى لي نادرة من نوادره، له قصصاً دسمة، لا تشبه جسده الضئيل، كنت أنسب قصص عمي لنفسي حين أختلي بأصدقائي، بفضلها صرت فاكهة سمرهم، لقد كانوا يطالبونني بتسجيل قصصي الغرائبية. تنهدت، لماذا لا أنسى أنا؟ ألست إنساناً؟ ليتني كشريف، يلهو يشخبط رسوماته ويفسلف كل شيء، خالي البال من هموم الدنيا وفر عقله لرسوماته، يقودة قضيبه، كيف اختارني المرض وتجاوزه؟، كنت أنتقي ما اصطاد من بنات، لم يلوِّثهن إنسان قبلي.














11
في ليلة مواراة جسد أبي أرض قريتنا داعبتني قريبة لي، اسمها سعاد، فتاة كلما تذكرتها أحس بكياني يرتعش، صبية من صبايا الزمن الجميل، زمن براءة الطفولة، كانت في مثل عمري، جلست على الأرض وفتحت فخذيها وشمرت فستانها، دخلت بين فخذيها ضمتني بقوة، حتى صرخت وهرولت إلى أمي باكياً أشكوها، كانت أمي وسط النساء ومن بينهن والدة سعاد، قالت جادة: "بُلْ فوقها".
قالت جملتها وأشاحت بوجهها نحو والدة سعاد فربطتهما ضحكة نسائية، كلمات أمي كلما تذكرتها أشعر بخيبتي، وقد قادتني للتكفير عن تقصيري، وحببت لي البول في الأنثى، ليت أمي عاشت لترى الأجساد التي لهوت بها، كلما نزلت من أنثى أهمس لست ولداً خائباً يا أماه، كلمتها أكدت لي في مقبل أيامي أن الرجال لا يتخلّصون من طفولتهم. عدت مسرعا نحو سعاد كانت في جلستها تلك ارتميت فوقها، زادت من انفراجة ساقيها، دخلت بينهما، كانت مثانتي خالية من البول رغم انتعاظ شيئي الصغير، مرت قربنا بعض النساء تهامسن ضاحكات، زجرني رجل كث الشارب ركضت إلى حضن أمي.
بقية أيام حزننا على رحيل أبي أصبحت صبيات أهلي يطلبن مني أن لعب معهن عريس وعروس، كن يتنافسن في اللعب معي، يبدو أن تلك الأيام شكلت مصيري ولونت حياتي بخيباتي الوفيرة كعشب أرض استوائية، كبرت وترعرعت وصرت أحمل بدواخلي تلك الأيام، كلما تعرفت إلى فتاة نطت جلستي بين فخذي سعاد. نز جبيني عرقا لتلك الذكريات، فركته متنهداً أريد صديقي شريف، أين ذهب؟ لفحتني ذكرى أول يوم تعرف بشريف، في الكلية التقيت بصديقي شريف، جذبني إليه لوحاته، كأنه وعمي يشربان من منبع واحد، أذكر قلت له:
- أود لو ترسم لي وجه فتاة بمخيلتي.
- كيف أدخل مخيلتك؟
- سأرسم لك وجه الفتاة بالكلمات،
جلست وبدأت أستحضر وجة سعاد، ضفيرتان تداعبان خديها، فم صفير كقمر أسبوع، عينان كانعكاس ضوء قمر على ماء ينبوع، خصر كخيط عشب مخضر على بساط من الرمال، أنف كنافذة بقصر إمبراطوري، نهدان كرأس قط مدلل.
نظر شريف إلى كلماتي وعبس.
نهضت من قربه وصرت أتجول في المعرض، لوحات لو رآها أبي لأعلن في رساميها الجهاد، لوحات تشترك في أنها رؤية متعددة لشئ وحيد هو الأنثى، حتى وجوه الرجال بها مسحة أنثوية، أنهيت تجوالي في المعرض وعدت نحو مرسم شريف، وجدته جالسا على منصة، خلفة مكتوب الأنثى كما يراها التشكيليون. نفسي حدثتني بالاستماع للمحاضرة، لم يكن الحضور كبيراً، بعض فتيات وقليل من الشبان، تكلم شريف، لم يبدأ ببسم الله كدت أصيح فيه بموعظة يرددها أبي: "كل عمل لا يبدأ ببسم الله فهو أبتر". سبقني أحد الحضور، شاب ضخم له لحية صاح مهتاجاً
- أليس الخير في رسم المصحف من هذه الشخبطة، والتماثيل؟ يبدو أنكم تعبدونها من دون الله.
نهض محدثاً ضجيجا كثور مراهق، تدافر بعض الشبان فأخرجوا الشخص المهتاج، حدثت أيضاً ضجة بين الشاب ومن تضامن معه وبين منظمي الندوة، تبسم شريف قائلاً
- لا يزال بهذه البلاد من يرزح تحت الجهل والتخلف، وحتى نرضيه ولكي لا يأتي إلى الحقيقة من دبرها، ها أنا أبدأ إرضاءً له.. بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين، وأود أن أقول لأمثال هذا المتخلف أن الدين حالة تعاش وليس كلمات تقال، ونعود إلى موضوعنا وهو الأنثى عند التشكيليين. كما يعلم الجميع أن الأختلاف بين الفنان والإنسان العادي اختلاف في المقدار، الفنان له حاسة تخترق ظواهر الأشياء، وهو يبحث عن اللامرئي، موضوع هذه المحاضرة لأن أحد الحاضرين سألني "أراك مختصا برسم النساء"، وأنا أود أن أرد لماذا الأنثى؟ الأنثى طلسم من الطلاسم، ليس وجهها الجميل بخدوده ولا عينيها لأن لبعض الحيوانات عيونا أجمل من عيون المرأة، ولها جيد أجمل وأكثر انسياباً كالغزلان مثلاً، لكن لأن المرأة تحوي بداخلها أبعادا يود الفنان اكتشافها، بعض الرجال يريدها وليمة فوق السرير، اللهم اجعلنا منهم.
هنا ضجت القاعة بالضحك والهتاف، مضى شريف يقذف كلماته:
- بعض الرجال يحبونها خمرا تسكر وآخرون يريدونها ملهمة وهم الفنانون، في مقدمتهم الفنان التشكيلي والشاعر، كل فنان تشكيلي شاعر وليس كل شاعر تشكيلياً، والمرأة يا سادتي تجمع المتناقضات جميعها، قمة الرقة واللين مع قمة القسوة والعنف، قمة في الطهر وقمة في الخشة، كما تعلمون وراء كل رجل عظيم إمرأة وأيضاً خلف كل جريمة إمرأة، المرأة تضحك وداخلها ينزف دماً، تبكي وقلبها يموج سروراً، يحدثنا التاريخ عن تأقلم المرأة مع كل الظروف فقد تحملت عناء دهور من الشقاء ولم تنقرض كما انقرضت حيوانات كثيرة لم تتلاءم مع الظروف الديناصورات مثلاً، وأود أن أقول للذي سألني لماذا تختص برسم المرأة؟ أرسم المرأة لأني أبحث عن ثورة في الرسم تجمع تناقضات الحياة، والانثى حياة، فيها كل ما في الحياة، والفنان به جزء أنثوي، وهذا الجزء يحن إلى بعضه، ليت للسناء وجه واحد لأرسمه، ليس كما قال أحدهم ليت للنساء فم واحد لأقبله وأرتاح، هذا كلام شعراء، أقبح ما في المرأة فمها، وعلمتنا الطبيعة أنها تخفي الأشياء الجميلة ضناً بها، وهناك شعوب تعبد جزء من المرأة، اتخذوه إلهاً يعبدونه دون الله، لأنه في معتقدهم مصدر الخير، ويبدو أنهم صادقون، فقط ذهلوا عن أنه ليس مصدراً الخير بل مصدراً المتعة.
أحد الحضور ضخم الجثة يجلس جواري علق مقهقهاً:
- هذا الرجل فاسق جداً.
تعليقه أثار همهمات متباينة من الحضور، القتطت أذن شريف بعضها فبادلها ببسمة مستهزئة، ختم شريف محاضرته، وسط تصفيق لأيادٍ شتراء، هبط من المنصة، تجمهر حوله بعض الحضور فيهم الذي أثنى عليه ومن بينهم بعض الفتيات.
ونحن نخطو داخل المعرض، توقفت عند لوحة لفتاة رغم جمال تقاطيعها ينقبض لها القلب، فتاة تحمل إناء من الخزف، الذباب اتخذ من جبينها مطاراً، تجلس تحت شجرة شاحبة، بهامة الشجرة صقر، خلف الفتاة كلب باسط قدميه، مكتوب تحتها "سعاد". كاد قلبي يطير، صرت أردد سعاد، سعاد، تراءى لي طيف سعاد، تضمني بين فخذيها لأبول فيها، كانت سلواي، أغلقت قلبي عن كل النساء، أقسمت القلب لسعاد أولاً واخيراً، لكن كيف أبر بقسمي؟. حتى زينب رغم كرمها الحاتمي لم تضئ تلك البقة المظلمة في حياتي، ظللت سنوات باراً بوعدي: سعاد وكفى.
تلك الفترة بدأ ماردي يشهر جوعه للأفخاذ النسائية، فتيات المدينة اللدنات الأجسام، وأنا أرفض بإباء، لكن خيط تماسكي انقطع، كيف لا ينقطع وفتيات كأنهن خرجن من أحلام الشعراء يحطن بي؟ هذه ذات صدر طافح بالشهوات، وتلك بأفخاذها العارية تحتك بي، وأخرى ترسل نحوي بسمة حانية لها مغزى واحد، وأنا القروي القح، سليل القسوة والرجولة، أحمل بين جوانحي عطش الصحارى وجفاف أشجارها، في القرية كانت حياتي تدور بين قوسين الصلاة وطاعة الوالدين وغض البصر حتى يواري المرأة الخباء، وهنا بهذه المدينة، كل خطوة تقودك إلى متعة، والمتعة تفتح أقواسا أقوى من تلك الأقواس، بين التمنع والشهوة انقطع حبل تماسكي، كف قلبي عن تحذيراته وتنبيهاته بقرويتي، في كل حركة أجد أنثا تدعوني، باحثات عن متعة وقانصات جيوب، ولبعضهن مآرب أخرى، كون من المتعة يشرع أبوابه لدخولي.
إحداهن كادت ترميني في شباك شبكة إجرامية، أيضاً اسمها ريم، التقيت بها بكلية الفنون، كانت أكثر البنات في المعرض حركة، ملابسها تشهر جوع مفاتنها، وجهها مطلي بألوان عديدة، لو وقفت وسط اللوحات لتبدت لك لوحة بريشة رسام مبتدئ، تخلط كلمات فصيحة بأخرى خليعة، توددت إليَّ، وأنا القروي الذي يعشق المرأة الممانعة، توجست من حركاتها، كلما ابتعدت منها تقربت مني..
قال لي شريف:
- الحمد لله أنك هجرتها هذه ريم- هذه أول مرة أسمع شريف يحمد الله- فتاة لا علاقة لها بالكلية ولكنها تداوم على الحضور يومياً وقد شكلت مجموعة من البنات هدفهن إيقاع الطلبة في شبكة إجرامية لبيع المخدرات وسطهم.
ريم هذا الاسم الملعون، الأولى حاولت تلويث سمعتي، والأخرى أخلفت موعدها معي، أول فتاة أعرفها تخلف موعداً، هذا ما أغضبني وقررت الانتقام منها، بحبيبتي زينب، لكنها هي أيضاً خذلتني، مسحت سنوات عاشتها معي، سنوات التحم جسدي بجسدها، هربت مني وطردتني من مكتبها. ذكرى زينب أيقظت مواجع كنت قد حاولت دفنها، جارتي تتهمني بأوصاف بشعة، كل دخلي كنت أصرفه عليها، كيف تتجرأ وتسمح لنفسها بالارتياب في سلوكي، لن أغفر لها، لكن أين صديقي شريف؟ بل أين اختفى؟
ضاقت حجرتي، وحنجرتي جفت، وذهني توقف عن ذكريات طفولتي وعائلتي، قطار الذاكرة توقف عند محطة زينب، تنهدت ما أقسى موت الأحلام، زينب حلم جميل عشته، لعنة أصابت حنانها، قلبها أضحى صلداً كمحارة جف بحرها، كيف يتحول الإنسان إلى النقيض؟ عسل الأيام يصير علقماً، كيف لمن يهب الحياة أن يستبدلها بنقيضها؟ رعشة الحب تصبح رجفة نحيب، جلست وحيدا كقبر في الفلاة، فرقعة الأصابع مهنتي الوحيدة، الذاكرة صارت غورا سحيقاً، أتأمل سقف الغرفة بعينين اتسعتا مع البياض، دورة الدم باردة وهامد جسدي، يداهمني وعيٌ مشؤوم، هربت نفسي في براري الأباطيل، أحتاج أنثى تمنحني بارقة أمل، هي زينب ليس غيرها.
حاولت محاورة أعذار تقيني شر شماتة الأصدقاء، خبأت وجهي تحت الملاءة، وكان أن سطعت الذاكرة، زينب هي المنفى وهي القريب البعيد، خاطر مخاتل شق طريقه بين تلافيف الدماغ، يلسعني آمراً، اكتب لزينب، ترجاها، لمسة حانية منها هي كل ما تحتاجه يا عبدالقوي، لا تنتصر لنفسك، انتصر للحب وتلك الليالي العامرة بالنشوة والنشاط، قم حرك هذا الجسد المنهك كقارب قديم، لا تفكر في الهروب، تلك الأنثى الرائعة، زينب، تنتظرك، دع معاينة المشاهد القديمة، أنت ابن الحاضر، لا تتأوه ولا تزفر مكنوناتك.. حاد كطعنة محارب هارب، هو فراق المحبين، زينب أنثى تحتاجك يا عبدالقوي، تضج شهوة تنخض لها أعضاؤك، اجمع قوتك المبعثرة كتراب قبر جديد، هيا انهض، أحسب الأيام المقبلة، اقتل القلق الجاثم على صدرك،ظ
توارى الخاطر المخاتل خلف غيمة روحي، عاد الدم يجري بعروقي، جلست وبيدي قلم وأمامي الأوراق، سأفض بكارة الأوراق، أعدت ابتسامتي إلى شفتي، أشعلت سيجارة، السيجارة خدن زينب، كانت تقول لي "أي سيجارة لا أشعلها لك أنا لا أعدها سيجارة". زجاجتي تشكو الفراغ، بقاعها جيش حشرات قضت عليه، دخان السيجارة التحم بسقف الغرفة، أزعج بعض رفاقي بالغرفة، سحلية، ضب، وحشرات صغيرة اختلفنا في مسمياتها، قرار كأمير عصري يلح عليَّ أن أكتب، الخاطر المخاتل يلح بتشنّج، العجز صديق الخائبين، أصابعك مهيأة وقلمك على الطاولة، غمغمت "سأكتب رسالة إلى زينب". تناولت القلم والأوراق وجلست على الطاولة التي كنا نتناول عليها طعامنا معاً، نفس الطاولة التي كانت تتخلص فيها جارتي من ملابسها: "حبيبتي زينب يا صنو روحي، لا يزال خيالك إذا جن الليل يسري، فيهيجني". لا هذه بداية غير موفقة: "المحترمة زينب، قلبي يسأل عنك وكذلك غرفتنا وملاءتي وسريرنا فقد صريره".
توقفت عن الكتابة متسائلاً، أين تجد الاحترام؟، هل المحترم يطرد من يستجير به؟ لن أنافقها بعد اليوم، إنها عاهرة، سأكتب ذلك، تناولت القلم وكتبت: "العاهرة زينب قضيبي الذي تعود على الولوج في حفرة فخذيك الواسعة، جمع بمواسيره كمية تملرك حتى الكفاية، أرجو حضورك رافعة رجليك إلى عنان السماء، وفاتحة حفرتك الكبيرة ليصب فيه ماردي ماء زلالاً".
توقفت عن الكتابة. هذه قمة البذاءة، وخطاب كله كذب وافتراء، شيئ زينب ليس واسعاً، لا. النفاق يجدي ربما تعود لي، سأكتب كلمات محايدة، لها ألف معنى، "المحترمة زينب أين غفرانك وتسامحك مع هناتي وخطاياي؟ هبيني أغضبتك مرة واحدة فلقد أفرحتك ألوف المرات، ولا تنسي يا حبيبتي أننا صرنا روحاً واحدة في جسدين كما يشدو المغني الذي تعجبك أغنياته، طالت غيبتك يا حبيبتي، وأنا صرت كتلة شوق. شريف يسأل عنك، وكذلك غرفتنا والسرير والملاءة".
توقفت عن الكتابة، لا، هذه قمة الانكسار، المرأة لا تحب الرجل المنكسر القلب، المرأة عدو الضعف، وصديقة القوة والقهر، لن أكتب لها، مزقت كلماتي. دفعت الطاولة برجلي، تساقطت الأوراق على الأرض، نهضت أحمل عود ثقاب لكي أحرق كلماتي، تطايرت في الهواء، جمعتها وضممتها بين أصابعي، كورتها وأدخلتها في فمي، لن أكتب لزينب، يكفي أنها طردتني سأطردها من قلبي، كما تقول أغنية يعجب بها الفتيان، "زي ما نساني قلبك أيضاً قلبي ينسى". لكن قلبي كيف ينسى زينب؟
أطل الخاطر المخاتل يبث كلماته، أنت يا عبدالقوي إنسان بلا مبادئ، أقسمت لزينب أنك لن تنساها، لماذا تبحث عن أعذار لتصرفاتك، أنت قميء، لن تدوم لك الحياة، ذقت حلاوتها فتجرع مرارتها، اطفأت السيجارة، توارى الخاطر، تبعته كلماته الغبية، لست ملزما بتقبل تصرفات الآخرين، الآخرون هم الجحيم، لن أظل أحترق في جحيم الأصدقاء، الصديقات كثر، نفيس المعادن وحدها لا توجد على السطح، النساء يملأن سطح الأرض، لا توجد امرأة مستوية كشعاع، المرأة كلها نقائص وعيوب، زينب كلها عيوب، كانت تحاصرني، لقد مللت جسدها، لن ألتزم بأنثى واحدة، لكل امرأة جسدي، سأكتب لزينب كلمات حادة كشفرة، سأكتب لها سطرا واحداً. "فلتنقطع شعرة معاوية التي بيننا"، لا بل سأكتب :"لقد انتحر شخصك بداخلي". قهقه الخاطر المخاتل، هل انتحر شخص زينب بداخلك؟ لا. يجب أن أنحره، أطل الخاطر، ستندم، غمغمت، لن أندم ولن أهتم بها، الفتيات كثر، أنا ما زلت شاباً، سأخرج الآن ولن أعود إلا وبصحبتي فتاة.
وضعت القلم، ارتديت قميصي الأحمر وبنطالاً وحذاء، وهممت بالخروج، أشعلت سيجارة أخرى، كحة ماكرة احتلت حنجرتي، تففتها على الأرض، ماذا أرى؟، رشحت دماً وليس لعاباً، يبدو أني حقيقة مريض، لكن ما نوع مرضي، تهالكت جالساً على السرير، أخشى أن يكون سرطاناً لكن السرطان ليس معديا، لكنه قاتل، تذكرت شقيقتي فاطمة حين ماتت بالسرطان، تساقط شعر رأسها، كانت تتألم وتصرخ بعنف حتى تمنينا موتها، الموت رحمة لها، وتذكرت بعض مرضى السرطان حين لازمت شقيقتي بمستشفى الأورام، من بينهم أطفال رضع، آه ما أقسى الألم حين تراه بجسد طفل، لم أشاهد أحداً بمستشفى الأورام رشح دماً، إذن الذي بي ليس سرطاناً، ربما مرض أكثر خبثاً ومعدٍ.
انهمرت ذاكرتي، تساقطت منها صور مخزية، أحسست بنفسي قمامة آدمية، نهر جف عشب ضفافه، صحراء عصفت بها أنواء ورياح، تساقطت أرواق تماسكي، وعقلي يستحضر، تلالاً من اللعنات تلسعني، هرولة كلمات حبيسة الصدور الغاضبة نحوي، الأطفال شنقت البراءة بصدورهم، قالوا لي لا تعدينا، جارتي الحرباء صرخت فيهم ابتعدوا عنه بعيداً، تذكرت زينب حين رشفت منها قبلتي الأخيرة، أخبرتني عن ظهور مرض خبيث. كحة أخرى بحنجرتي، حلقي جاف، بوابة عيني أظلمت، خبا بريقهما، صدري يلعو ويهبط، مؤخرة السيجارة البنية أرسلت حرارتها لأصبعي الإبهام، أطفأتها.
برعب تحركت نحو المرآة، وجهي أنعكس أكثر شحوباً، جفني ألتصقا علي بعضهما. دخلت الحمام ابتل جسدي بالماء، انتعش الجسد لكن كيف تنتعش الروح؟ أبي يقول بالصلاة والصيام، عمي يقول إن الفنون تنعش الروح، أنا أنحاز إلى عمي، ليتني أطعته ودخلت كلية الفنون الجميلة، لكن أبي أصر على إدخالي كلية دينية، الدول القوية تفرض شروطها على الفقيرة، انصعت لشروط أبي، أدخلت علوماً في جمجمتي ولكنها لم تستقر بقلبي كما يود أبي.
طرقات على الباب، خرجت من الحمام، صدري عارٍ، تركت الكحة بالحمام، فتحت الباب ولايزال شعري تتساقط منه قطرات الماء، فتحت الباب ولم أنظر إلى الطارق، عدت إلى غرفتي والطارق يتبعني، صوت أنثى سألني
- عملت شنو؟
سؤالها المباغت الحزين جعل بصري ينتقل إليها، إنها جارتي. رفعت رأسها نحوي، تقابلت أعيننا برهة، بوجنتيها مشروع بسمة، حاولت أن أبتسم، لكني لم أستطع، تشابكت نظراتنا، كل نظرة تحمل معنىً مختلفاً، نهضت جارتي وهمت بالخروج، حاولت أن أترجاها لتجلس لكنني لم أفعل، تحركت نحو الباب، تابعتها بنظرة لا تحمل معنى، نظرة أقرب إلى الحياد، عند منتصف الباب التفت نحوي وقالت:
- اذهب إلى الطبيب وأخبرني بالنتيجة، أو اذهب إلى شيخ يعالج بالقرآن..
سرى بجسدي تيار غضب ركضت مندفعا نحوها، أمسكتها من شعر رأسها وجررتها إلى داخل الغرفة، بكلمات مخلوطة بزبد صرخت:
- مرض جديد معدي!
تراخت يدي عن قبضتها وتهالكت:
- مرض جديد ومعدي؟ مرض جديد ومعدي؟
صرت أردد جملتها ولم أشعر بانسحابها.



























12
جلست متقرفصاً كطفل توقع صفعة، نهر أسئله يتدفق بذهني، نهر من جمر أسئلة ولهب هواجس، تقلصت حياتي، كل السنوات التي عشتها أضحت هباء، الأقدار تسخر مني، ما كان قريب المنال أضحى بعيداً، الموت والحياة وجهان لعملة واحدة، ناقوس رعب يدق بصدري، كيف أفارق هذه الحياة؟ لي فيها ذكريات وفتوحات عظيمة، ظاهرياً ليس بي ما تدعيه جارتي، الأمراض الخفية فتاكة.
يبدو أني فقدت القدرة على كبح الذاكرة انثالت، أين تجد جسدا مياسا كجسد زينب؟ بل أين من حبيبات الغفلة؟ جارتك كانت صمام أمان لنزواتك المفاجأة، سيرث شريف كل فرس طوعتها، ستخلو له زينب وجارتك. انحنى رأسي حتى لامس طرف السرير، انتحبت صامتاً، الرجال لا يبكون، أعلم ذلك، ضحك الرجال بكاء، لكن كيف أضحك؟ الذاكرة حرنت في جملة جارتي الأخيرة، تعيدها بنبرات مختلفة تزرع الرعب، نعم جملتها لا تنبئ بخير، هذيان الذاكرة مستمر، من يكبحه وكيف؟، كأس خمر؟، أم سيجارة؟ ما يضجرني حقاً هو موقفي البين بين، الحياة لا تخلو من آلام، أعلم ذلك، لكن كيف أتصالح مع وضعي؟، لا إرادياً نهضت، تحسست قوامي، لا تزال به فتوة، آه من قوامك يا عبدالقوي، هل تنشد الفتيات هذه النغمة المحببة لي؟ لقد تعهدت نفسي كثيراً، رغم بعض نزواتي وتهوري، كنت أنتقي الفتيات، كنت أهرب من المرض كهروبي من الموت، المرض في بلادنا مطية الموت، هروب البنات مني نوع من الموت، كيف الحياة بلا أنثى؟ ما فائدة سريري؟
خاطر آخر يبدو أنه أشفق على حالي، طريق وحيد لعودة زينب لك هو العلاج، اسمع وصية والدك، لا تربِّ المرض، يقين وبصيص أمل منحني له الخاطر، تساءلت هل أذهب إلى طبيب؟ هل أذهب إلى معالج بالقرآن؟ انقسم تفكيري حين فكرت في الإجابة على سؤالي، تذكرت جملة عمي "الفكر هو مهنة العقل"، وعقلي تاه في برارى روحي، كيف أستنجد به؟ ربما أحتاج لحاسة سادسة، شعور مدلهم يقود ذاكرتي، انصاعت مرتاحة لتلك القيادة، من قاع الذاكرة نطت جملة كثيرة التكرار عند أسرتي، تذكرتها، الأطباء لهم قلوب كالحجر، قالتها أمي، لم تتلقفها من أحد، علمتها التجربة، أختي فاطمة قالتها حين ذهبنا بها إلى مستشفى الاورام، حتى أبي لم يسلم لسانه من النطق بها..
فقد كنت أصدقها لولا تجربة عشتها، تجربة كات تودي بي إلى الضياع وتقود خطاي إلى قمة الإجرام. كان هذا ذات نهار، كنت أود أن أقضيه في عزلة، أو عطلة من النساء، مزاجي كان متسامحاً مع ذلك النهار، لم أعر أي اهتمام لمزاج شريف في الخروج، لا حاجة بي لإثارة أحاسيسي، ذاك النهار كان هو الدهشة التي بحثت عنها، ارتاح الجسد من عناء، تجرعت كأسا وحيدة من خمر وطني، لا حاجة لمزيد، تركت بعدها الحياة تجري كما تريد، لا أرغب في أي شيئ، أنشد راحة فقط، لا أذكر هل هو يوم جمعة أم يوم خميس، المهم هو يوم من الأيام، مر صباحه كما أردت، عند منتصفه جاءت زينب إلى غرفتي، كانت ليست كعادتها مكتئبة، شعرها منفوش، ترتدي ملابسها بإهمال، برجليها علق غبار، جلست على السرير صامتة، اندهشت لاكتئاب زينب، حاولت تسليتها، بكلمات تطرب كل عاشقة، لكن هيهات، ذهبت كلماتي بلا جدوى، سألتها
- ما بك يا زينب؟
كانت إجابتها دمعتين وتنهيدة، كنت منبطحا على السرير، اعتدلت جالساً ويدي تربت على ظهرها
- أنا حامل.
فجأة وجدت نفسي أنهض وعيوني تلتصق ببطنها. دخلت في مرحلة بين الشك واليقين، تضخم إحساسي بالفضيحة، دلقت ذاكرتي مخازي كثيرة، أطفال حديثو الولادة التهمتهم كلاب ضالة. نشط الخاطر المخاتل يبث سمومه، زينب صادقة ما العمل؟، هذا ما جناه ماردك، أي مصير يتنظرك، لا تجبن، تزوجها، لا تقتل طفلك، يكفي ما ارتكبته من الآثام، انكفأت صامتاً ونشيج زينب يحرق قلبي، يزيده الخاطر حموضة.
طال صمتنا، هياكل الدموع بمآقينا، ثرثرة بين شروخ الروح، كلمات شاحبة استسلمت لمصيرها، عرائش الذكريات احترقت، تفتح الذاكرة أقواسها، أفواهنا تخرج لسان الحرف الأول وتصمت، ثوانٍ تهرول نحو أمها، تتكور دقائق الوقت في نبضة قلب، يرشح الجسد عرقاً له طعم الخيبة، برودة الأطراف تمطت عانقت الخيال، القلب ضاق بمحبسه، صار يدق على القفص كطبل بيد صبي، تتلاقى عيوننا في صمتها، بياض أسنانها تلون، بريقها خبا، تهمس زنيب بحروف مبهمة ومطلسمة.. يلفنا الغموض وتتجلى الفضيحة كلما همسنا، السرير وحده يتكلم سيك سيك سيك، الكون الشاسع ضاق بنا، الغرفة محبس أنفاسنا، هرعت نحو الزير كرعت دون رغبة، كطفل غرير مددت كوب الماء لزينب، رفضته، تبسمت وقلت بكلمة خجلة:
- نذهب إلى قابلة..
صرخت زينب:
- لن أذهب إلى قابلة.
قالت جملتها وخرجت، ناديتها لم تهتم بنادءاتي. مكثت بالغرفة، لم أك مرتاحاً، نعم كنت متوتراً، كقط محاصر، أغمغم اليوم الذي اخترته لراحة جسدي كاد يزهق روحي، كانت ليلة طويلة داهمتني هواجس مرعبة، كلما انقضى هاجس جاء آخر أكثر رعباً، تجمعت بصدري هموم ضاق بها، هممت بهجران المدينة، سأختفي، لتتحمل زينب ما جنته على نفسها، لن أحمل أعباء زينب بزواجي بها، ولن أهرب ليس نبلاً أن أهرب، كيف أسمح لنفسي بنسيان لحظات السعادة التي عشتها مع زينب؟ لماذا لا أتزوجها؟ إنه الحل كما طلبت هي، لكن كيف أتزوجها؟
زينب لم ترتكب فاحشة، أنا شريك أتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية، لن يفر قائد من معركة، لا فرق أن تكون أباً بعقد شرعي أو بغيره، ما تحمله زينب هو ابني كيف لي أن أنكر؟ كان جسدها حصاناً قبلي، لم يمسسه بشر، هي الوحيدة التي لم تخدعني، وهبتني جسدها برضا، الزواج هو رضا الطرفين، ومن أدراني أني ليست ابن زنا، فليكن ابن زنا. خديجة رفضت بإباء لم أتخيله أن تمنحني جسدها، دافعت عن شرفها بنبل يكفي نساء البلاد قاطبة، عادت الرعشة إلى جسدي لتذكري خديجة.
جرى جدال سري بين عقلي وقلبي، وأطياف مرعبة تتشابك مع أخرى مفرحة، رفعت همتي، نهضت بحماس مقاتل جريح أجتر تاريخ علاقتي بزينب، جاءت في وقت كنت أحتاجها فيه، قاسمتني أيام تعاستي، وملأت قلبي سعادة لم أجدها عند غيرها، كنت أطلق عليها "هبة السماء لي" سأذهب إليها بمكتبها وأتزوجها.
يبدو أن الهواجس والاضطراب أدخلاني لجة تأزم، هربت إلى زجاجتي، سأشرب حتى تهرب عقارب هواجسي إلى حجورها، نط إلى رأسي حديث عمر الخيام" أجمل ما يبتاع به الدراهم هو الخمر، فعجبت للخمار ماذا يشتري بنقوده؟". كيف تحتمل مصائب الدنيا دون خمر ونساء؟ شكراً لصانع الخمر، شكراً لمكتشفها، وشكراً لخالق النساء. تناولت الزجاجة أدخلت عنقها بفمي وصرت أجرع، وضعتها على الطاولة تشكو طريقتي الخرقاء في مص رحيقها، كأنها تزجرني، ما هكذا أُحتسى، نحن نُحتسى على مهل رشفة إثر رشفة، نحن والنساء شقيقات في الرقة. سرى دبيب الخمر بجسدي، خدر لذيذ كقبلة فتاة فاجرة، شعرت به، يبدو أن الخمر انتصرت على الهواجس. دخلت في نوم عميق.
صبيحة اليوم التالي نهضت كما أنهض كل يوم، ما شربته ليلة أمس كان خمراً جيدة الصنع، لم يصحبها بنات الخمر، صداع وجفاف لعاب وحرارة جسد، ليس كبول السهامين. دخلت الحمام، أدندن بأغنية، هذه عادة عندي، خلعت ملابسي، ووقفت عارياً، حين لامست أول نقطة ماء جسدي، تذكرت زينب والحمل، كدت أخرج من الحمام عارياً، ارتديت قميصي الأحمر، خرجت من غرفتي أنيقاً ونظيفا كقلب مراهقة، أوقفت أول سيارة صرخت إلى شركة الطيران، لم أتفاوض مع السائق في أجرة المشوار، أغلقت باب السيارة.
حين هبطت من السيارة، أخرجت أوراقا نقدية وناولتها له، أدخلها بجيب قميصه ولم يحصها، نظرت لنفسي، ما زال قميصي بأناقته، الحذاء يلمع نظيفاً، شعري لم تعبث به الريح، جسدي يفوح منه عطر، تبسمت، شكلي يشبه العرسان، كان باب الشركة مغلقاً، أشعلت سيجارة لعلها تقلل من توتري، وقفت أنتظر حضور زينب، بالساحة الأمامية للشركة، ها هم منسوبو الشركة يحضرون، رأيت سيارة نقلهم، ستنزل زينب، قبل دخولها المكتب سأناديها، فرغت السيارة من العاملين، ليس بينهم زينب، شاهدت رجاء، صحت فيها منادياً: رجاء.. رجاء، وقفت بمكانها تحركت نحوها، لم أصافحها وهي لم تهم بذلك، سألتها عن زينب،
- زينب لم تحضر اليوم.
فتحت فمي ليخرج سؤال مخنث، استعصى عليّ النطق، ركضت رجاء إلى مكتبها، وأنا تشعبت برأسي الأفكار، وأسئلة حيري أكاد أراها تتقافز أمامي، رغبة صغيرة داعبتني، بأن أجلس بمكاني، مكذباً رجاء، إنها كاذبة، ستأتي زينب، صديقي شريف أمرني بعدم الاهتمام بها، نعم لديه خبرة بالتعامل مع النساء، سأعود إلى غرفتي. تحركت من أمام مبنى الشركة، لن أستغل سيارة أجرة، التسكع يجدي في مثل حالتي، بتؤدة سرت، لم أستطع إغلاق ذهني من اجتراره، يبدو أن للذهن مقدرة على طيِّ المسافات، لم أشعر بالزمن، وأنا أحث السير نحو غرفتي.

















13
مستجيراً من رمضاء بداخلي، في القلب أصوات تدق جداره لأفسح لها الطريق إلى الخروج، الجسد فقد كثيرا من تماسكه، ما كنت أحسبه صراطاً أضحى تعرجات تجيش بها النفس، دائرة ضيقة كخاتم تحزني، حنين يتملكني إلى كلمة رضا ولو كاذبة، تعتقني من خوف خفيّ ومجهول القوة، القريب صار بعيد المنال، صرت لا أملك سوى سلاسل أوهام تكبل نفسي، ملك فقد حاشيته، أنا مهدد بالنفي من حياة كنت صاحب فتوحات فيها، نفسي تتمزق على مصيرها، غرفتي هي الوحيدة من يستوعب وحدتي، لا صديقات ولا أصدقاء، لا أفخاذ نسائية، لا خمر وطني ولا أجنبي، غرفتي وأنا وثالثتنا سيجارة، ثالوث فقد قدسيته، توهجت روحي لحظة ولوجي باب الغرفة، هوامش ضئيلة الفرح شعرت بها، انطفأت بسرعة، حالة احتدام وكر وفر لهواجس عديدة حين رأيت باب الغرفة مفتوحا، كرجل ينظر إلى باب الجنة وأقدامة على شفير جهنم، تلك حالي، كيف أستوعب ما أراه؟ وقفت وسط قسوة بالغة التعقيد ولهفة لينة وناعمة كخد زينب، تشظت الذاكرة، وجرت أسئلة لم أستطع قمعها، بخطوات لا تخطئ اقتربت من الباب، قلت ربما جارتي، بانفعال غمغمت "سأطردها، وأصرخ فيها يا عاهرة اذهبي لزوجك الكهل".
قلت في نفسي ربما سهوت عن إغلاق الباب، ولربما زينب، فهي تمتلك نسخة أخرى من المفتاح. خابت توقعاتي، وجدت الغرفة خالية. فرحت سأخلو بنفسي، أرتب الأحداث التي مرت بي، أفسرها وأؤوّلها. تناولت زجاجة الخمر وجرعت منها جرعات. استلقيت على السرير، نظري تعلق بسقف الغرفة، حائط كئيب عليه آثار بيت عنكبوت، ضب رمادي يزحف خلف ذبابة، متأهباً بلسانه لتصبح وجبة له، سحلية تمرح تحت الزير، فأر صغير يرسل راداره المسمى عيوناً في كل الاتجاهات. تنهدت. كل قاطني غرفتي تركوا همومهم لي وحدي، نقلت بصري إلى الباب، لي حاسة سادسة كلما نظرت نحو الباب جاءت زينب، لكنها اليوم لن تأتي، تنهدت، اليوم لا خمر ولا جسد أنثى، تدافعت الهواجس، نفسي اضطرم فيها حنين إلى زينب، بل إلى جسدها، أحسست بفيض عاطفي يجذبني لها، هي نبع صفاء، كيف أكدره بموقف مشين؟ تعودت على غضبها، لكنها تطرفت أخيراً، لقد طردتني.
مددت يدي إلى زجاجة الخمر، لقد نفدت الخمر، والذكريات تشتعل بذاكرتي، يجب قتل الذكريات، إذا تركت نفسي للذكريات سأجن، دخلت في ثنائية المواقف، بين بهاء حالتي وعتمتها، حيرة غامضة وحالة فرح واضحة، أتأمل حياتي في مرآة الأزمنة، أرى وجهين، مندغمين بالبياض والسواد، بمن أستغيث؟ كلهم هجروني، تركوني في تيه لا حدود له، طرق وعرة وموحشة، أشاهد أمامي إشارة واحدة بطريق واحد يقود إلى هاوية، يجب أن تكف الذاكرة عن دلق هواجسها وكوابيسها، حتى أفك العلاقة بين الحلم والواقع سأسكر، الواقع أمرّ من الحلم. هرعت إلى بيت خمار أعرفه، يقودني نسيج من حنين وتعب، ذاكرتي تدور في حلقات مفرغة، قدمي تطأ الأرض خفيفة كمطر رشاش، خيالي سبقني إلى بيت الخمار، رجل ستيني عصبي المزاج، فضيلته الوحيدة لا يغش في الخمر، ويضحكنا حين يقول "من غشنا ليس منا"، يهفو لمساعدتنا حين تأتي معي زينب، ويغض الطرف عن حكاياتنا السرية بمنزله، وسط الزجاجات الفارغة المعدة للحياة، نداء خفي يدعوني إلى العودة إلى الغرفة، هدأت سرعتي، ثنائية المواقف عادت لي، بين العودة إلى الغرفة وبيت الخمار، ليس موقفاً سهلاً الاختيار بينهما، لكن قوة مجهولة دفعتني إلى بيت الخمار.
حملت زجاجتي وعدت إلى غرفتي، بين جوانحي شعور أهوج، أترنم بأغنية مستهترة، يكسوني فرح غامض وحلو، ملمس الزجاجة بيدي أحس به خصر فتاة متمدنة، وقفت ورفعت الزجاجة أمام ناظري، هززتها تماوجت أحشائها، أعدتها إلى يدي، خيط لا يرى بين هيجان قلبي واضطراب الخمر داخل الزجاجة، صرت أتغزل فيها، وأسير مترنحاً ممتلئا نشوة، فرحاً كبحار هزم موجة لها عنفوان التماسيح، صدري يفح ويضج شوقاً، اعتقلت ذكريات زينب بمخزن سري بتلافيف الذاكرة وأغلقته بجرعة خمر، تقودني الشهوة والانتشاء، دفعت الباب برجلي أحدث صريره المعتاد، لا أريد منغصات بعد اليوم، سأتخلص من الباب والنساء، وضعت فم الزجاجة بفمي، سالت خمر بمجراها عبر الحلق، مسحت فمي، همهمت رفيقتي الوحيدة هي الخمر، سأسكر حتى أرى الديك حماراً، وأرى الفاتنات بغايا هجرهن الجمال، سأكيد للكائدات، لا سحر سوى هذه الزجاجة التي تزيل الهموم، سأنعش جسدي، آه ما أقسى الحرمان، ستمتلئ شراييني، وضعت الزجاجة تحت السرير. ضجت الذاكرة محتجة على حرمانها من مهنتها، كأنها عدو شرس ضد راحتي السليبة، أحضرت طيف زينب وهي تحثني هيا بنا إلى طبيب ليجهضني. صرت أستعيد تلك اللحظات.
حكاياتنا السرية، ضحكاتنا على معتوهي الشوارع تهكمنا من علاقة شريف وعائشة، غضبنا واحتجاجاتنا، تلك السنوات كنا نقهر كل الصعاب، نزرع الأفراح بكل مكان نسير فيه، مشدودين إلى بعضنا بحبل من الشوق واللهفة، يعجبني مسير زينب معي بالطريق، متماسكي الأيدي، أحرف نظري إلى اهتزاز نهودها حين تسرع الخطى، كانت مع خطوت تشعر بها ترفعهما قبل قدمها، وهي كانت تعرف إعجابي بهما فتزيد سرعة اهتزازهما، يمتلئ صدري بفرح غامر، تخرج من فمي جملة تفرحهها: "أنت يا زينب غزالة برية".
أغمضت عيني، فانفلتت الذاكرة تعيد مشاهد مختزنة، كدت أراها، مشهدا إثر مشهد، خروجنا من الغرفة، أصرت زينب أن نسير بنفس الطريق الذي تقابلنا به أول مرة، رضخت لطلبها، بل أعجبتني فكرتها، انحرفنا نحو الطريق، اقتربنا من شجرة ظليلة، قبل ملامسة أرجلنا لظلها التفتت نحوي زينب آمرة:
- أود أن نعيد نفس خطواتنا الأولى، هل نسيت ذاك النهار الذي التقينا فيه؟، تجلس أنت تحت ظل هذه الشجرة وأمر أنا أمامك.
نظرت لها، دهشت، كيف غفلت عن مكرها؟، كانت ترتدي نفس ملابسها التي قابلتها بها أول مرة، حتى تسريحة شعرها هي نفس تسريحة ذاك اليوم، جلست تحت الظل، ابتعدت زينب خطوات وجاءت تسير نحوي، تماسكت أيادينا بفرح.
سرني المشهد فرسمت بسمة على شفتي، يبدو أن بسمتي حسدتني عليها الذاكرة فدلقت مشهداً آخر، رأيت نفسي ومعي زينب، نود الذهاب إلى طبيب يجهضها، أوقفنا سيارة أجرة، ركبت زينب بالباب الخلفي وجلست أنا جوار السائق. أدار سيارته، من مذياعها انطلق صوت يرتل القرآن بصوت شجي، شعرت بهزة بكياني لسماعي الترتيل الجميل، أحسست بحياتي هباء، كأني ذرة غبار، كأني قمامة حي فقير، لعنت نفسي، كيف ابتعدت عن هذا الجمال؟ سحرني صوت المقرئ، ورأيت تصرفي بإجهاض زينب جرماً شنيعاً، شعرت به يقصدني "من قتل نفس بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً".
والسيارة تسير وأذني معلقة بالمقرئ، زينب صامته أمام هيبته، حين توقفت السيارة وهممنا بالنزول منها سمعت "إذا الموؤودة سئلت بأي ذنب قتلت". نزلنا بشارع يعج بالأطباء، قلت في نفسي ما سمعته من آيات عظة لي، كيف أكفر عن جريمتي؟ ترءات أمامي صورة أبي يدعوني لصلاة الفجر وترتيله القرآن بصوته الرخيم، وتذكرت عمي ولوحاته، أمي، جدتي، تذكرت فرج الله، نفسي حدثتني بالكف عن إجهاض زينب، تباطأت في السير، تقدمتني زينب إلى إحدى العيادات، فهي دليلي. تبعتها كمنوم، وجدنا الطبيب وحده، في ريعان الشباب، يضع سماعة بعنقه، بلا مقدمات قالت له زينب:
- يا دكتور أنا حامل من هذا.
وهي تشير نحوي، تبسم الطبيب
- أدخلي أنت يا حلوة.
دخلت خلف ستاره، دخل خلفها الطبيب، وأنا في انتظار النتيجة أرتجف رعباً، ذاكرتي الخبيثة وجدتها سانحة، فانطلقت تخرج مكنونات الشر، يتفوه بها الخاطر المخاتل، أنت يا عبد القوي قمئ كبئر مهجورة، ينبغي أن تكون لصاً، سارقا حقيرا، ملأت جمجمتك بما يضر ولا ينفع، ضميرك هزيل كذيل كلب، نذرت نفسك للذة، لا تبالي بما تشعر به من خدعتها وصيرتها عاهرة وكانت تتوقعك عاشقاً، تعاملك مع زينب فظ، كبلتها بفرح مزعوم، والآن تهرب منها، سيأتي إليك الطبيب بخبر لا يسرك، إنه أخبر السلطان، قم اهرب كما تعودت دائماً، تهرب من المواجهة، أنت إنسان هش وجشع، اعترف لها، اطلب الغفران، اسجد تحت قدميها، اكشف خبيئة نفسك الدنيئة، لن يجيدك نفعاً صمتك، قم تحرك، حرك بقع مظلمة بداخلك، شعرت بجسدي يتعرق، لساني يمضع كلمات الخاطر المخاتل، كان طعمها حامضا كخمرة مغشوشة، شاركت مؤخرتي بقية الأعضاء في التعرق، عاد لي الطبيب باسماً:
- خذه فتاتك ليست حاملاً بل توهم.
كدت أطير من الفرح، ظهرت علينا زينب مشرقة الوجه، داهمتني رغبة في أن أحضنها، أجلت الرغبة حياءً، لا يجب أن نظهر عتهنا وجنوننا أمام الطبيب، حياتي التي كانت انقلبت رأس على عقب عادت إلى وضعها الطبيعي، طمأنينة وثقة خرجت بها من عند الطبيب، غادرنا عيادة الطبيب الإنسان، سرنا صامتين لا نتحدث، ربما بدواخلنا نفس الموضوع، عيوننا تجنبت أن تلتقي مع بعضها. الفضيحة التي خيمت فوقنا، ستكون ذكرى، عقدة في الرباط السري الذي يربطنا أنا وزينب، لا ندري إلى أين كنا نسير. زينب لم تسألني وأنا لم أخبرها، لو سألتني لن تجد عندي إجابة، بعد أمتار صرخت في سيارة أجرة، فتحت الباب لزينب، ركبت، جلست قربها، حين سألنا السائق إلى أين؟ أجبنا سوياً إلى غرفتنا، ضحك السائق ولكنني لا أعرف غرفتكما، أعلمناه جهتنا وانطلق بنا. هبطنا من السيارة، سبقتني زينب راكضة إلى داخل الغرفة، حين لحقت بها وجدتها تقف مشرعة يديها لاحتضاني، طوقت خصرها ورشفت قبلة، بفرح غمر قالت لي:
- الآن زال عني هم أرقني أياما، صدقني مرت عليّ لحظات فكرت بالانتحار، لقد انتابني شعور لا أستطيع وصفه، كنت مستعدة لفعل أي شئ، وفي نفس الوقت كنت محتاجة إلى من يسندني ولم تخيّب تمسكي بك، نعم إنه الخوف من الفضيحة، منذ طفولتي أخشى الحمل دون زاوج لأني كانت لي صديقة حملت من حبيبها فقتلها أهلها قتلة شنيعة، لقد غرز أبوها مسماراً في قمة رأسها ورماها في البحر، تخيل حين انتشلوها كانت رائحة جسدها زنخة حتى اليوم حين تأتي سيرتها أشم تلك الرائحة، الأيام الماضية كانت في الأحلام تأتيني صورتي منفوخة ومتعفنة مثل صديقتي تلك.
حين أكملت اجتراري لقصة زينب وحملها الكاذب سرى ضجر بين جوانحي، واجتاحتني رغبة في السكر، قاومتها، لن أسكر لعن الله القائل "اليوم خمر وغداً خمر وبعد البعد خمر"، حكة بجسدي تقول لا نوم لك، تقلبت على جنبي، أطلب نومة هادئة أو مزعجة، المهم نوم، ولكن النوم صار عدوا لي، نهضت قائلاً: "إلى الطبيب".
ارتديت ملابسي وخرجت، مسحت الشارع بنظري، كان قفراً من الناس المتبطلين والسابلة، لا نساء لا رجال، ماعز ناحلة تبحث عن كلأ بلاستيكي، طائر رمادي اللون يحلق في الفضاء، دجاجة خلفها صغارها، احتموا بجناحيها رهبة من ظل الصقر، همهمت حتى صغار الحيوانات تعرف الموت، يا سبحان الله، صوصوت الكتاكيت استجابة لكأكأة أمها، اختفى الصقر، أعلنت عن إنسانيتي نهرت الماعز وقذفت الدجاجة وصغارها بحجر، وانطلقت في الشارع، إلى المستشفى. سرت مسافة ونظرت إلى غرفتي وغرفة جارتي، وطاف بصري ببعض البيوت، كم من تعيس تحتويه هذه الجدران؟ أيهما أكثر تعاسة رجال مدينتنا أم نساؤها؟ زوج جارتي يتقدم قائمة التعساء وزوجته احتلت أعلى قائمة التعيسات بعد موقفها مني. تنهدت لست وحدي التعيس، من يتذكر مصائب الآخرين تهون مصيبته، جارتي لن تجد بديلاً لي، زينب ستظل سنوات تبحث عن حبيب، جاري الكهل يعلم بخيانة زوجته، فأنا لست متزوجاً، لو تزوجت زينب لن تخونني، حبيبة لم تخن، كيف تخون وهي زوجة؟ أنا لست تعيساً ولا بائساً، نلت من الدنيا نصيبي، آلاف الحلمات والشفاه لثمتها، أجساد نساء عبرت فوقها، جسد زينب مسرحاً لفتوحاتي، بل روحها الشفيفة أقترنت بروحي، غسلت عني أدراني. لكن موقفها الأخير أزمني، ألانتقال من السعادة إلى التأزم أحدث تعرجات بروحي، الأيام اتخذت شكل العناكب، سأذهب إلى الطبيب، براءتي تحتاج لشهادة طبية، شهادة أشهرها في وجوه الجميع، أصرخ في كل الوجوه، أتيتكم سليماً كفحل بصلة شتوية، ستندم جارتي من موقفها مني، تنتحب زينب وتشهر اعتذارها، لن أهتم، سأهجرهن، لن اقترب منكن يا عاهرات، أحمل عدة نسخ من براءتي، أوزعها في جميع الأماكن، مبنى الشركة الوطنية للطيران، منزل جارتي، باب غرفتي وغرفة شريف، وأعلق إحداها بعنف، وربما أثبت بعضها بزجاج سيارات النقل العام، ليعلم الجميع سلامة جسدي من الأمراض.
أنهيت حواري مع نفسي، كفت الذاكرة عن هذيانها، وقفت أمام مجمع طبي، شعرت بنفسي ترتجف، ذاكرتي أطلقت حكم وأقوال صديقي شريف، "الأطباء واللون الأبيض وحقن الوريد رسل الموت"، "الفاصل بين الحياة والموت زيارة الطبيب"، "كثيرون ابتلعهم الفناء فقط لأنهم تأخروا عن زيارة الأطباء". غمغمت بضجر "يا لهذا الذاكرة اللعينة"، تعيدني لسيرة هربت منها سنين عددا، الموت، يا للهول، الفناء، الاختفاء عن ظاهر الأرض، لمن أترك الأصدقاء والصديقات؟ تراءت صورة شقيقتي فاطمة، تهمس بكلمات واهنة كجسدها، أريد أن أموت، رفضها للعلاج، إلحاح أمي عليها، وهي تمسح دمعات شقيات سلن نهراً بخدودها، جدي رحل بشجاعة إلى هناك، هل سألحق به قريباً؟ لا أريد الغياب، عليىالأرض ما يستحق التشبث بالحياة، تبقت لي عدة أفخاذ قبل رفع رايتي البيضاء، لا يزال ماردي ينتفض، أريد قليلا من الوقت أيها المرض اللعين، الخاطر المخاتل ينفث سمومه، أنت في روطة وجودية، ارفع راية الاستسلام، لن تعود لتلك العهود، الطبيب لن يعالج خواء روحك، تذكر من رحل، أين أبوك؟ بل أين أمك؟
نسمة باردة لفحتني، اختفى الخاطر، تلفت حولي، لست وحدي من يتنظر الطبيب، نفسي حدثتني ستعود لك زينب إذا قابلت الطبيب، أنت في حد فاصل، تذكر زينب هيا تقدم، هززت رأسي وخطوت نحو المبنى. بنظرة منكسرة كبقايا خريف قديم، نظرت إلى المبنى، أناس كلعنة ضلت طريقها يقبعون على حواف المبنى، كهول وكهلات يسدون الباب بما تبقى من أجسامهم التي نهشت الأمراض لحمها، أضحوا بقايا أناس، عيون غائرة حدقت نحوي، بما تبقى من ماء عيني، قرأت اللوحات المعلقة، طبيب نساء وتوليد، طبيب أمراض نفسية، طبيب عمومي، طبيب أمراض جلدية وتناسلية، تدحرجت دمعتي، السؤال المقلق دق باب القلب، أيهما أختار؟ متى كنت أختار يا قلبي؟ دخلت كلية دينية رضوخاً لرغبة أبي، ماردي كان قائداً متكبرا يقودني إلى المهالك، قلبي يضخ دمه كلما شاهدت عيني أنثى، وأنا لا أعلم نوع مرضي، لكنهم يقولون عنه معدٍ، الأنفلونزا معدية، ليست هي، اخترت طبيب الأمراض الجلدية والتناسلية، بجسدي عدة حبوب، المكان مهيب، محشو بعدد من الناس، رائحة عقاقير لطمت أنفي، تهيجت الذاكرة، تذكرت جملة أمي ومرض أختي، انطلق شيء ما مني، شيء لا أعرف كنهه، شيء كالأكلان يحفر ثقبا طازجا بجدار القلب، تهالكت جالساً على أقرب مقعد، مسحت الحضور بنظرة خاطفة، تعيس وسط تعساء، المكان لا يدعو للريبة التي سكنتني، أطباء بسماتهم بيضاء كملابسهم، ممرضات ينشرن فرحا مصطنعا، تتبادل الكلمات بجميع اللغات، والمرضى تشهق أفئدتهم وتبرق أعينهم في متابعتها للأطباء، وأسئلة حيرى تجهلها الممرضات، أسئلة مشحونة بالأنين والأوجاع، انكفأت أبحث عن المرض غير المرئي، تحسست ذراعي وعنقي وقدمي وحككت عيني، أعضاء سليمة، لكن أشعر بوهن وبالقلب تعاسة.
الخاطر المخاتل يدق ناقوسه المزعج، هل ما جنيته يجنبك التعاسة يا عبدالقوي؟ هذا الوهن هو تراكم آثامك، اذهب إلى غرفتك التعيسة كقبر أقبع بداخلها حتى ترحل إلى من سبقك، أبوك، أمك، جدك، تحركت يدي تجوس بجيبي، أريد سيجارة، تقيأ الخاطر المخاتل التدخين ممنوع بهذه الأمكنة، همهمت رأيتهم يدخنون هنا، تواطأت نفسي مع الخاطر، لم أشعل السيجارة، مؤخرتي تعرقت، رشح جبيني عرق مالح، لكن الذاكرة استعادت نشاطها، وأنا أجلس بصالة عيادة الطبيب، زيارة الأطباء لم أتعودها، لست وحدي إنما كل أهلي، لماذا نزورهم ؟ ولدينا طبيعة منحتنا نباتات تصلح علاجاً لكل مرض، الحرجل للإمساك، القرض لعلاج التهاب الحلق، القنقليز يجفف المعدة من الماء، وبعض النباتات التي لم نحفل بإطلاق أسماء عليها تساعدنا أحيانا في علاج أمراضنا، وهي أمراض تنتقل من جيل إلى جيل، تعودنا عليها وتآلفنا معها، كنا نعرف وقت حضورها وكيف نقاومها، بين أهلي من مكث عدة أيام بخلوة شيخ، دائما شيوخ الخلاوي لهم سحنات متشابهة، يمكث أحدنا اياما بالخلوة يحفظ فيها آيات من القرآن وأدعية تساعد النباتات في علاج بعض الأمراض المستعصية، يغسل جسده بتفاف الشيخ، ودخان بخوره، أمراضنا ذات رحمة لا تمكث أياما كثيرة، تغادر جسد من تحل به، نعم أحيانا لا يستطيع الجسد تحملها، نحمله وندفنه بمقابرنا، نحزن عليه أياما ثم نعود لحياتنا الرتيبة، مقابرنا كانت فيما مضى قليلة وكئيبة المنظر، لا تبعد كثيرا عن قريتنا. طالت جلستي شعرت بضجر ممل، أنتظر الدخول على الطبيب، نقص عدد من حولي رجالا ونساءً وأطفالا، تبقى أمامي قلة، أولهم جاري المسن، تشاغلت بقراءة آيات مكتوبة بخط ناسخ ماهر.
جاري المسن يكح باستمرار، يهتز جسده الناحل، يضع يده بفمه يكتم كحته المزعجة، ذبابة على هامة رأسه تلهو، امتعضت سكرتيرة الطبيب وبعض المرضى، أغاظني موقف السكرتيرة، يقولون عنهن ملائكة الرحمة افتراء وهراء، شاركت جاري في كحات متواصلة، نعم الكحة تضايقني، ليتني لم أفعل رشح دم من فمي على بلاط الصالة، رفع ترمومتر غضب السكرتيرة، نقلت بصري إلى جهات أخرى، الصالة تعج بالمرضى، كانت عيونهم تلتصق بي، ربما شفقة، لا أود شفقة من أحد، أنا عبدالقوي القوي، ذاكرتي انتقلت تستعيد أشياء لا أعيها وشخوصا التقيت بهم في مسيرة حياتي، صاروا في تلافيف الذاكرة، نوال حبيبة صديقي عماد، كانت صافية الوجدان كما اتفقت شلة الأصدقاء، أن بينهما حبا تاريخيا كما وصفنا علاقتهما، أين هما الآن؟ لا أدري، بل أين شلة الأصدقاء؟. سليمان وعثمان والزبير، صرت لا أتذكر أحداً منهم، تفرقت بنا السبل.
في طريقي إلى عيادة الطبيب قابلت إيمان، تجر خلفها سلسلة من الأطفال، أمامها يسير رجل قصير بدين ذو تقاطيع صارمة، يحمل لحية منفرة، بلهفة انحرفت نحو إيمان، جفلت مرتاعة، كنت أود معرفة أخبار قدامى الاصدقاء منها، جفلت مني مقتربة من زوجها القصير. كنت أو أن أسألها عن حبيبها سليمان، لكنها ابتعدت لتلحق بزوجها الحمار، آه ما أجمل أيام الصبا. أذكر حين أقتربت منها ويدي ممدودة نحوها جفلت، ابتعدت عن إيمان الكلبة وزوجها الحمار، لست غاضباً عليها بوصفي لها بالكلبة ولا على زوجها بالحمار، بل أعلن حقيقتهما.
كيف ينتقل الإنسان من الإفراط إلى التفريط؟ لم أجد إجابة على سرالي. أعلم أن بعض الناس يفرط في الدين ويتطرف في الوله بالنساء والتشبب بهن، وآخرون لا هذا ولا ذاك، لكن الانتقال الفجائي من المجون والفسق إلى تطرف في التدين لا أعرف له مثالاً، عمي عاش حرا طليقاً لا يقيده قيد ولا يردعه واعز، أبي ولد متديناً واحترق متديناً، هل أموت على سوء الخاتمة؟ أم الموت هو الموت؟ ضربت جبيني ليكف عن هذيانه.
نهضت عن مقعدي واخترت مقعدا آخر ربما تقل هواجسي. جلست متوجساً، مرعوبا من عودة الهواجس، هربت منها، أطلقت لعيني حرية التجوال في الحاضرين، بيميني تجلس فتاة في مقتبل العمر، نحيفة الجسد، تحضنها امرأة مسنة يبدو أنها والدتها، قربهما يجلس شاب وشابة، لا تبدو عليهما آثار مرض، قلت ربما حملت الفتاة منه وأراد إجهاضها، ليتهما سألاني سأدلهما على الطبيب الإنسان الذي أعاد لي رسوم العملية، جاري المسن ابتعد عني، جاء مسن آخر جلس جواري، يختلف عن الأول بثرثرته التي لا تنقطع، لكنه فجأة التزم صمتا مريباً. نقلت بصري في الحائط، أسماء الأطباء مكتوبة بخط جميل، صور لأجنة في أرحامها، وصور لأطفال يرضعون أثداء، جاري المسن تنازل عن صمته
- أذهب وسجل اسمك عند السكرتيرة.
نهضت نحو السكرتيرة، فتاة من النوع الذي أجيد اصطياده، لو كنت في زمن غير هذا لراودتها عن نفسها، وقفت أمامها، رفعت رأسها نحوي، مسحت جسدي كله، اضطربت ربما عرفت مرضي، ابتسمت وهزت رأسها وبيدها قلم، سألتني:
- ما ٍاسمك؟
- عبدالقوي إسماعيل،
مندهشة سألتني:
: قلت من؟
- عبدالقوي إسماعيل؟
صممت برهة والقلم يداعب أسنانها بنقرات خفيفة:
- إذن يا عبد القوي سوف تقابل دكتورة خديجة آدم.
قبل استقرار اسم الدكتورة بذهني تراجعت من إكمال جملتي وذهني يقودني لتلك الليلة التي أغويت فيها خديجة آدم بمحطة القطار، وشريط الذكريات يمر بسرعة يتوقف عن كلماتها في الجامعة لا تزال تطن بقلبي.
- أنتظر مقابلة ذاك الصعلوك المأفون الذي تحرش بي أول يوم آتي فيه إلى المدينة.
هرولت مبتعداً عن العيادة، ربما تسمع خديجة آدم مناداة السكرتيرة لي، كيف أتصرف؟ ٍسأنكر أني الرجل الذي تحرش بها، سأدعي أني غريب بهذه المدينة، يكفي مرض خبيث، لن أتسطيع مواجهة فضيحة أخرى، صورة خديجة آدم وهي تتوعدني أمام الطلبة هزت وجداني ذاك اليوم، كيف أتحملها الآن؟ تلك الأيام وهي تتوعدني كأني رأيت جهنم تخرج من صدرها ويتلقفها الطلبة، وهتافاتهم ملأت فضاء المكان: يسقط كل متحرش.
شعرت بأوجاع تناوشتني، ووجل ورعب، وخوف من متابعة السكرتيرة لي، ألم تسألني عن اسمي مرتين؟، ربما تكون الدكتورة أخبرتها بقصتي معها، ركضت مبتعداً، التفت للواراء، لم يلحق بي أحد، لا ذاك شاب أراه يخرج من العيادة يتبعني، ربما أمرته السكرتيرة بالقبض علي، همهمت، "تجدها عند الغافل"، كلما أسرعت يسرع الشاب خلفي، انحرفت بطريق جانبي، أيضاً انحرف الشاب خلفي، شاب مفتول العضلات، إذن ليس أحد المرضى، بل يود قبضي، أسرعت ناداني: يا شاب، يا شاب، لم أعره اهتماماً، أسرع وركض خلفي لحق بي، ضربات قلبي ازدادت:
- ما هو أقرب طريق إلى قلب المدينة؟
تنفست الصعداء، ويدي تشير نحو طريق آخر غير الذي سأسلكه. ذهب الشاب بالطريق الذي وصفته له، وقفت أراقبه حتى اختفى، ثم سلكت طريقي مهملاً.
سأذهب إلى طبيب آخر. مضيت مبتعداً، سأذهب إلى المستشفى الحكومي غداً، مشافي الحكومة نطلق عليها المقر الدائم للأمراض، كنا نتحاشى الذهاب إلى المستشفيات الحكومية، سرت مسافة وتلفتُّ خلفي، ربما ذاك الشاب اللعين يلاحقني، لن أقتنع أنه لا يعرف الطريق الذي يؤدي إلى قلب المدينة، هذه حيلة ماكرة، يريد زرع طمأنينة بقلبي، لكن هيهات، أنا أمكر مما يتوقعون، قررت أولاً الذهاب إلى غرفتي لقد بلغ الإعياء مني منتهاه. سأرتاح قليلاً وبعدها في صبيحة الغد سأذهب إلى الطبيب.
























14
كأني سرت أميالاً، رهق بجسدي، دخلت غرفتي، لحسن حظي كان بابها مشرعاً، ارتميت على سريري، جسدي متهالك، ولكن ذهني يموج، داخل قوس لا نهاية له، نعاس طرق جفنيَّ، أطبقتهما، ليتني لم أطبقهما، كلما أطبقتهما صحا عقلي منفلتاً، يدق أطراف القوس ومتنه، شعرت بظلال إنسان على الباب، تمنيت ألا تكون جارتي، أو أي أنثى، أتتني ضحكة صديقي شريف، ضحكة فرحة، وهي شرك جيد لو استغله في اصطياد البنات، البسمة رسول مؤتمن إلى قلوب الصبايا. خبرتي علمتني ذلك، انتفض جسدي لرؤيته، رغم معاناتي، أحسست براحة، عاجلته:
- اسمع يا صديقي، أنت تعلم أنني مصاب برض خطير والناس صارت تتجنبني.
حاول مدارة حزنه بضحكة، خرجت ضحكته فاترة، أو ضحكة خشنة كما يطلق هو على بعض الضحكات المفتعلة:
- اسمع يا عبدالقوي يا صديقي، المرض ليس عيباً ويقال إنك مريض بالأيدز..
كلمته حين نطقها أحسست بدوار يجتاحني، طفرت دمعة منه، مسحها بكم قميصه.
خرج شريف، ليته لم يخرج، اندفعت الهواجس تدق طبول فزعها ورعبها، صدري صدى لصوت الطبول، أمطر فمي كلماته الحزينة، الأيدز لن يتركني حتى يدخلني القبر، جسدي الجميل سيتحلل، يصبح وجبة شهية للديدان، أبي قال بيقين يحسد عليه "بالقبر ثعبان يقال له الأقرع لدغته تحس بأوجاعها سبعين خريفاً"، كانت روحي ترتجف رعباً وأبي يقص عما يلاقيه الإنسان بالقبر. قربت زياتي للقبر، الإيدز لن يتركني، كف القدر صفعتها قاسية ومؤلمة، بين طرف ثانية تجد نفسك على حافة هاوية لا تدري ما بها، بصيص أمل يظهر قليلاً ويراوغ قبل تشبُّثي به، وساوس تتعلق بقلبي كعشب طري، لدنة ورخوة، بثور جلدي تثور، الجلد غطاء الروح، يتخذ شكلها ولونها، الذاكرة تعود عهود إلى الوراء، تتقلص المسافات وينطوي الزمن، كنت طفلاً مشاغباً، وشاباً يتيه بوسامته، الآن تنطفئ شهوته، كيف تسلل لي هذا المرض الخبيث؟ أين كان كامناً؟ ركام من المشاعر الحزينة هي أنا، تذكرت شخبطاتي الطفولية على الجدران، أحب فلانة وأموت في عيون علانة، تذكرت آخر عصفور قصفت عنقه، كان يصيح فزعاً، الفزع قرين الموت، هذا ما اكتشفته، لن أفزع، سأهرب إلى أيام حلوة عشتها، ضربت جبيني، أين ذهبت تلك اللحظات الجميلة؟ هل تخلصت الذاكرة منها؟، يبدو ذلك.
أطل الخاطر المخاتل، من الغباء استحضار ما توده، مثلما كنت تلهو بالحياة ها هي الحياة تلهو بك، إنه العدل، اختر طريقة موتك، فرصة سانحة لتختار، الموت بيدك له طعم الانتصار، دنت لحظة الصفر، الموت سيرسل سلاسله لتشنق روحك النتنة. هتفت، لا لن أنتحر، نهضت أركض داخل غرفتي، لا أعرف كيف أتصرف؟ هل أنتحر؟ إنه الموت، أعلم أن الأيدز مرض قاتل، ولكن كيف تسلل إلي؟ أي بنت نقلته لي: زينب؟ لا. خديجة؟ يمكن إنها وخزتني بالسكين تلك الليلة، ربما تكون ملوثة بفيروس الأيدز، لا. إنه البعوض، نعم البعوض.. الأطباء يقولون إنه لا ينقل الأيدز، كذب الأطباء، همهمتي هباء.
أركض داخل غرفتي كحبيس جدارن قاسية، دب إرهاق إلى جسمي، ارتميت على السرير، تضامن الإرهاق من المرض فدخلت في إغماءة، صارت الكلمات تتردد بأصوات ليس من بينها صوت شريف، أطفال الشارع، جارتي، زينب، رجاء، أمل، وخديجة، كلهن يصرخن في وجهي أيدز، أيدز. تراخت عضلات جسدي، أفقت، لا إرادياً يدي تحسست قضيبي، كان كثعبان ميت، لا حركة فيه، حاولت دغدغدته لينهض، لكن هيهات، أغمضت عيني، شعرت بأبي يحمل بيده سكيناً همست: "أبي أنقذني"، لكنه توارى، ليخلفه عمي كان بوجهه حزم لم يكن به، أمي رأيتها تشيح بوجهها عني بفزع، رأيت زينب ورجاء وأمل وخديجة يسبحن في بحيرة دماء يغتسلن بشوك، نادتني زينب وهي ترفع كوبا مليئاً بالدم:
- هذا لك أجرع.
أغمضت عيني، نحيب وقف بحنجرتي، عاد أبي للظهور:
- نصحكتك ولكنك تابعت هواك، أنا لست أبوك.
ترجوته لكنه لم يبالِ بنداءاتي، اختفى ضاحكاً، شاهدت أمي تحمل سكيناً وتهوي بها على جسدي، صحت فزعاً، أنقذوني. طافت بذهني السهامان، إنهما من أصابني، شعرت بنفسي في هوة عميقة، عاريا ونساء كثر يبلن في إناء كبير وأخريات يغرفن ويصبُبن في فمي الفاغر، تضخمت بطني صارت جبلاً في هامته بنات عاريات، تحتهن نهر يجري تسبح فيه ضفادع وثعابين وتماسيحـ بضفتيه عشب كثيف، رأيت نفسي تدنو نحو النهر تشرب وتشرب، سهام الأولى تأمرني:
- اشرب يا تعيس،
سهام الثانية تقطع حزمة عشب وتصيح:
- هاك عشب عانتي املأ بطنك يا شقي،
رفضت، تساقطت قربي كرات ثلجية، تحسستها لذعتني حرارتها. سهام الأولى نزعت حزمة عشب من النهر وضعته بين فخذي، اختفى ماردي، بل رأيته بين يديها ضئيلاً كربطة عنق، نظرت لقضيبي تلهو به السهامان بحسرة. جاءت أمي تحمل سيفاً في هيئة مسبحة، وخديجة آدم خلفها نزعت سكينها من جفرها وشهرتها في وجهي نهضت فزعاً، كانت الملاءة على الأرض قميصي الأحمر تحت رأسي، جسمي ينزف عرقاً.. أطل الخاطر المخاتل، لن تقبل توبة وأنت في الرمق الأخير، تحتاج إلى دهور من الاستغفار لتغسل ذنوبك يا عبدالقوي، أين فصاحتك وتشدقك؟ اليوم لن ينفعك الندم، نفسك حببت لك الخبائث فأطعتها، كم فتاة بريئة قضيت على أحلامها؟ تزوج زينب لتموتا معاً، ألا تعلم الزانية لا يتزوجها إلا زان.
حين تأتي سيرة زينب ينتفض جسمي كعصفور ذبيح، نظرت إلى المصحف، مددت يدي نحوه لأتناوله، انكمشت، همس الخاطر المخاتل، لا تلمسه يا نجس، غمغمت سأتوضأ، لكني نسيت الوضوء، لا، يجب أن أغتسل أولاً، سأتطهر بالصلاة، تحكرت وسط السرير، خواطر شتى تروح وتجيئ، على امتداد أفق الذاكرة، هبطت من علياء الأماني إلى أسفل الخيبة، الطين يجذبني إلى أسفل، نهض ماردي من غفوته، غبطة أصابتني بفرحة قصيرة، تذكرت موقف أحد المثليين، وجدناه ذا صباح يكلم الناس ويزع حلوى على قارعة الطريق للمارة، نساء، رجال، أطفال، منشرح الصدر مسرورا يخبرهم أنه يوزع هذه الكرامة لأن شيئه قد نهض من نومة استمرت ثلاثين عاماً، ضحكنا وسخرنا وبأفواهنا حلوى مثلية كواهبها.
بلعت الذاكرة ذاكرتها وصامت عن الهواجس، شيئ مريب يحدث، تحت جلدي الدم يحدث أصواتاً كرعد خلب، نمل يتراكض بمجرى الدم، ثعابين تنفث سمومها، ارتفعت حرارتي، إنه الإيدز يعلن سلطانه على كريات دمي، بعد قليل سيعلن بيانه الأول، وبعدها موسيقى الجنائز، لا لا أريد أن أموت وحدي، نبرة غريبة تعلنها شفتي، موت الجميع عرس، سأنقل العدوى للجميع، سمعت من قبل أن مريض الأيدز يصبح إنساناً حاقداً على المجتمع، أكد لي ذلك شريف، أنا لست حاقداً، لكني منتقم، من ذاق أيامي الحلوة عليه مشاركتي في عذاباتي، سأبدأ بشريف وبعده زينب ورجاء، كل من أعرف، شريف رفض الذهاب معي إلى طبيب، لن أصيبك يا صديقي وحدك، هل أذهب إلى زينب؟ نعم سأقول لها علمت نوع مرضي.. وأنت أيضاً مصابة به، سأصرخ بصوت مرتفع أمام زملائها، أنها أصابتني بعدوى الأيدز، ليتحاشوها وينفروا عنها، أشعلت سيجارة وأطلقت دخانها في سماء الغرفة، تابعته بنظري يتلوى كفتاة شبقة، تساءلت أين وصل الأيدز؟ في أي عضو يختبئ؟ تحسست عنقي، وجبيني، ظهري، بطني، كل الأعضاء تداعت تشكو، تذكرت نصيحة أبي "لا تتمارضوا فتمرضوا فتموتوا". لن أتمارض يا أبي، بين الشك واليقين حركة واحدة، نهضت، ارتديت ملابسي وهممت بالخروج.
عادت التساؤلات إلى مجراها بصدري، أيهما أفضل: الطبيب أم الدجال؟ سأجرب الدجال يكفي تجربتي مع الأطباء، ربما بثت خديجة آدم قصتي بينهم، الدجالون أعرف أحدهم. حكايتي مع الدجال لم أسعَ لها، زينب من أدخلتني تلك التجربة. خرجنا أوقفت سيارة أجرة، سارت بنا بشوارع ضيقة كانت السيارة تتهاوى في الطرق كامرأة لعوب. هبطنا من السيارة، أمام بيت شيخ بابكر، بناء كئيب المنظر، حيطان جالوص مطلية بروث بهائم، بابه خرب، أوساخ أمام ساحته، بالقرب أطفال عليهم ملابس عليها شعارات منظمات إغاثة لدول عدة، وبعضهم عرايا يلعبون وأرجلهم المغبرة ملوثة ببقايا فضلاتهم، خرجت من منزل شيخ بابكر أثناء وقفتنا ماعز عليها آثار جرب، قلت ربما جاءت للعلاج عند الشيخ، ربما تمثل لها الشيطان في هيئة تيس ونكحها، هممت بإخبار زينب بخاطرتي المضحكة، رأيت كلبا يخرج خلف الماعز، هز ذيله لنا ودنا يشم التصقت زينب بي، قلت ويدي على رأس الكلب:
- هل تم علاجك؟
طالت وقفتنا، مر بنا بعض الأشخاص، يرمون تحيتهم. كثرت التحيات علينا والأطفال يلهون وسط تلك الأوساخ، انتابتني تلك اللحظة أحاسيس غريبة، وانشطر فؤادي، توهمت نفسي بين يدي الشرطة. دخلنا سورا من الطين منخفض، بابه كقلب فقير، حديد يعلوه صدأ، أمام الباب أثر ماء قد دلق للتو، حين تحركنا تطاير ذباب ووبعض حشرات، همهمت ساخراَ "النظافة من الإيمان"، فليقتل الذباب بمنزله.
قبل دخولنا سمعنا صوتا أنثويا يدعونا بلغة عربية فصيحة إلى الدخول. قابلتنا امرأة يبدو من هيئتها أنها من عصور الظلام، عليها ثياب رثة، عيناها غائرتان، بيدها المعروقة تحمل مسبحة مضيئة بلون سماوي، صاحت فينا للمرة الثانية
- أدخلوا.
- أنا بنت الشيخ.
همهمت زينب بكلمات لم أتبينها، توجهت المرأة لي بحديثها:
- أنت أدخل هنا.
أشارت إلى غرفة واطئة، دخلت الغرفة لم أجد شيئاً أجلس عليه، تلفت يمينا ويسارا، أخيرا تقرفصت على سجاد لونه باهت، يبدو أنه من العصور الوسطى، صار عقلي يعمل كمصنع حديث، كيف تركت زينب وحدها مع امرأة يبدو من محياها شر مقيت؟ ناوشتني رغبة في اللحاق بها، نهضت من قرفصتي ودخلت الغرفة الثانية.
تلفت في الغرفة التي عم جوها بخور، وعبقت بها عطور، حوائطها خالية من أي أثر فني، مطلية بلونين أحمر وأسود، لاحظت بالجانب الأيمن ستارة سميكة، سمعت عبرها صوتا رجاليا:
- كلتوم من معك؟
- زائرة جديدة تطلب بركتك وكرامتك.
- أدخليها.
اندهشت من لغة الشيخ الفصيحة، وتذكرت قصة قصها عمي عن صديق مسرحي:
- أحد زملائي بالكلية بعد تخرجه لم يجد عملاً، ضاقت به الدنيا، أخيرا اهتدى لفكرة عجيبة مهما حاولنا إثناءه عنها لم ننجح، غاب منا عدة أيام، وحين جاء كان يمتطي سيارة فارهة وبجوارها فتاة جميلة، اندهشنا، سبحان الله من حال إلى حال، قال لنا وسط ضحكاته، هي الشيء الوحيد الذي لم يتغير فيه، قال
لقد فكرت فكرة عبقرية، اشتريت لي ملابس خضراء وعمامة حمراء ومسبحة، ذهبت إلى ضواحي المدينة، استأجرت غرفة، وزعمت لهم أني شيخ أعالج كل مرض، مستفيداً من خبرتي في الكلية، وقد وسوست لإحدى العاهرات، هي صاحبة الغرفة التي استأجرتها، ذهبت تلك العاهرة العجوز تنقل الخبر عن كراماتي المزعومة من منزل إلى منزل، أيامي الأولى كنت لا أحدد سعراً لعلاجي، درت عليّ أموال كثيرة ولكن ذات أمسية جاء إليَّ رجل ثري معه فتاة هي التي تجلس قربي الآن بالسيارة وزعمت أن شيطاناً تزوجها، قلت لها أنا الوحيد الذي يطرد الشيطان، تخيلوا كيف طردته؟ اصبروا قليلاً، المهم أدخلت البنت، أجلستها على الأرض فوضعت يدي على هامة رأسها وتمتمت بأشعار بذيئة لأبي نواس ومظفر النواب وعمر بن أبي ربيعة، وتناولت زجاجة خمري ورشفت منها جرعات، ثم أمرت الفتاة: اشربي.
شربت كما لم يشرب بشر، خرجت لوالدها وقلت له دعها معي أسبوعاً. المهم هذا الأسبوع كنت أسقيها خمراً وأمارس معها الجنس، كانت شبقة لدرجة لا يتخيلها أحد.. ثم ختم حديثه وهكذا طردت الشيطان. فرح والدها ومنحني هذه السيارة.
أمسكت المرأة العجفاء زينب من يدها ودفعتها دفعا نحو مكمن شيخ بابكر، أنا منتظر بتوتر بالغرفة، جاءت المرأة وناولتني كوب ماء، شكرتها. خرجت علينا زينب بهيئة غير التي دخلت بها. خرجنا كانت تسير خلفي بخطوات بطيئة، استعجلتها، لحقت بي ممسكة يدي:
- تعال أحكي لك ما حدث من الشيخ.. حين دخلت إليه خلف الستارة، صدمت. لقد رأيت شاباً يرتدي ملابساً لا يرتديها الشيوخ، كنت أتوقع أن أجد عجوزاً عليه عباءة وبعنقه مسبحة ولحية مخضبة بالحناء، سرحت بصري في غرفته، مقاعد وثيرة مرصوصة بانتظام لا تجيده سوى أنثى، أتبسم لرؤيتي، قلت:
- يا شيخي أنا أشعر بآلام بجسدي.
- هذه الأيام كثرت الشياطين بالمدينة، وما ترينه في زحمة المواصلات والأسواق ليس بشراً بل أبالسة.
ارتعبت وتخيلتك أنت يا عبدالقوي وصديقك شريف وبعض الأصدقاء بل أمي وأبي من الشياطين، ومضى الشيخ:
- أخبرنا الرسول الكريم أن الشياطين رغم قوتهم ضعاف أمام كلام الله، لديّ وصفة لطرد الشيطان الذي حل بجسدك، أخذتها أمانة من أبي الذي ورثها من أبيه،
تبسم قائلاً:
- هل مارس معك أحد كالذي يحدث بين المرأة والرجل؟ لا تكذبي..
وجدت نفسي أنساق:
- لا لست عذراء.
- إن الذي أفقدك عذريتك هو الشيطان أتاك بصورة إنسان..
قاطعت زينب منفعلاً:
- هل أنا شيطان كما زعم هذا الدجال؟
- يا عبدالقوي هذا الشيخ أو الدجال، كانت بعينيه اشتهاءات حيوانية وبهما بريق مخيف، الكحل يزيدهما قبحاً وبسمته لزجة والعطور التي سكبها على جسده لها رائحة خراء كلب، لكن أصبر لأخبرك بمآربه الخبيثة، غسل عينيه بجسدي أوقفهما كثيراً عند ساقي، وقد كشفتهما له عن عمد، يبدو أنه كان يعاني صراعا بين شهوته وما يلزمه وقار الشيوخ.
- اسمعي يا زينب أن الذي بجسدك طفل شيطان لم يبلغ بعد، وطرد الخبيث عن جسدك مهمة ميسورة، غداً عن الساعة التاسعة مساء تعالي وحدك..
رفع يديه وتمتم بكلمات لم أفهمها، لغة غريبة، ثم ضمهما إلى بعضهما ومسح جبينه بهما وقال مع السلامة.. مد لي يده وحين ضم يدي بهما ضغط بقوة وهو يبتسم وكاد لعابه يسيل:
- لا تنسي موعدنا غدا الساعة التاسعة مساء وأرجوك لا تعطي الشيخة كلتوم شيئاً.
هربت من تلك الذكرى ونفثت غضباً:
- لن أذهب إلى شيخ، بل أطباء فقط.
حين أنهيت نطق كلمتي، هبت الذاكرة اللعينة من غفوتها، تذكرت خديجة آدم، تلك الشخصية الشبح، ظلت تطاردني، ربما لها عدة وسائل لتنفيذ انتقامها، لا أستبعد وقوفها خلف إشاعة مرضي الخبيثة، ليتني قاومتها تلك الليلة بانتزاع سكينتها وبغرز ماردي بين فخذيها، أردت إغلاق شاشة الذاكرة، لكنها كانت عصية، أطلقت هواجسها تتلاعب بي، نبشت مخزن أسئلة مخزية، كيف أستدرج البنات بعد اليوم؟ همهمت محدثاً نفسي، لماذا أستدرجهن؟. الهلع الذي سكن قلبي من تصرفات زينب ورجاء وشريف وإشاعة مرضي قتل همة ماردي، الجنس ابن شرعي للطمأنينة، من يكون مقموعاً في الشارع العام لن يكون بطلاً في السرير، ليتني اتبعت طريقة شريف. لم يتعب نفسه في اصطياد البنات، ينصحني، "لا تبذل جهداً في الأنثى، كلف قوادة لترتاح"، لن أنحني، كانحناءة ماردي، الموت مصير كل حي، هل الخوف منه يقي؟ صرت أستحضر قائمة من أعرفهم من الموتى، قائمة طويلة كرت، لكن كيف أموت بمرض أجهله؟ سأوصي صديقي شريف أن يبني لي مقبرة تليق بي، ألم يوصني
- عندما أموت اكتب على شاهد قبري "هنا يرقد من عاش كما تعيش الحويانات" لكن لا تنس زراعة شجرة مثمرة فوق قبري، لينتفع الناس بموتي لأنهم لم ينتفعوا بحياتي.
- حاضر يا صديقي شريف لكنني أنا لا أريد شاهد قبر، ليكن قبري مجهولاً، فقط لوعرفت من أصابتني بالمرض اللعين.
ربما تكون السهامان مزجتا بولهما بجرثومة المرض. ليس غيرهما من أصابني بالمرض، لن أموت قبل قتلهن، هبطت رجلي من السرير فارتطمت بالزجاجة. مسحت تلك الذكرى بجرعة هواء، يبدو أن هواء الغرفة تلوث هو أيضاً، غباش في رؤيتي للحياة غطى ما انتويته من مسامحة للآخرين، تبقى بقلبي الانتقام وحده، لن أدعهم بعدي يستمتعون بحياة كنت فاكهتها، لن أكون مضغة بأفواههم النتنة، سأكف عن البحث عن منقذ، أود الانتقام من الجميع، لكن كيف أصرعهم جميعاً بضربة واحدة؟ زينب، رجاء، جارتي، شريف الذي لم يعد صديقاً، ليس أمامي غير الاستعانة بعاهرة العارهات، ست أبوها، أعلم أنها بلا وازع ولا أخلاق، سأكون سخياً معها، بعد انتقامي منهم سأنتقم منها هي أيضاً. لن أترك بعدي من يستمتع بحياة حرمت منها أنا. جلست أفكر في طرق لا تخطر على بال أحد منهم.





















15
طرقات عنيفة على باب غرفتي الذي لم يتعود على مثلها، خشيت لو استمررت أن تخلع الباب المتهالك، طرقات أطارت حيلي للإيقاع بالجميع في حبائل مكري، عكفت منذ دخولي الغرفة أفتل الأفكار الخبيثة، الخبث يعالجه الخبث، كما تخابثوا عليّ سأتخابث، لن أكتفي بإطلاق إشاعات مدمرة، نعم الإشاعة كادت تدمرني، لكن هيهات، الإشاعة سلاح الجبناء، أنا لست جباناً، سأبدأ بأحبهم إلى قلبي، زينب، كلما كان الحب عظيماً يكون الانتقام أعظم.
يبدو أن الذاكرة أشفقت على حالي وأرادت مساعدتي في انتقامي من زينب، لقد أحضرت الذاكرة لي ما يجعل انتقامي مدمراً، تذكرت الشامة السوداء بين نهدي زينب، إنها قنبلتي الموقوتة، سأذهب إليها بالشركة، أقف أمام الباب كقائد منتصر، أنفث غضبي في وجه موظف الاستقبال الذي راودها كما أخبرتني، بصوت كفحيح ثعبان أقول له بفحش مخمور:
- جئت أريد موظفة معكم لها شامة بين نهديها، تدعى زينب، لأن ماردي هذا، أشير بيدي إلى بين فخذي، له أيام لم يَلْهُ بين فخذيها.
سينفتح فم الموظف بدهشة، لن أدعه يستمع بدهشته بل أواصل بصوت مرتفع:
- أخبر زيب أن الرجل الذي تتعرين له كل يوم ينتظرك بالخارج.
أقول كلماتي المدمرة وأغادر الشركة أترك خلفي موظف الاستقبال يلملم ذهوله، وبعدها سيعم الخبر وينتشر. الطرق يتواصل، انقطع خيط فكرتي، تساؤل أحمق لا مبرر له يدق جدار القلب، ربما الطارق هو زينب؟ لكن الطرقات كثر، ربما استعانت برجاء وربما شريف أتى معهما، همهمت سأطردهم، تلفعت بملاءة، نهضت من رقدتي على السرير وتحركت نحو الباب، نصف وجل ونصف أمل يقودان دفتي.
الطرقات تستمر بعنف، تساءلت هذه دقات غضب، خوف كثيف رك بقلبي، الذي صار هو الآخر يطرق الصدر، انفتحت مجارٍ لأسئلة كثيرة بفؤادي، أسئلة تحتاج لسنوات من الاجترار حتى أجد لها إجابة، الخوف قيد للفكر، إحساس بالضياع تسربلني، خشية في داخلي تنمو بسرعة، بحثت عن أقنعة تقيني ما يواجهني بالخارج. الطرقات ترتفع وهمهمات أناس كثر، رجال، أطفال، نساء، جرت ذاكرتي شريط حياتي، من يكون الطارق؟ تساءلت، تبكمت جوارحي جميعها، اللسان قطعة خشب، العين ثقب تمر عبره عتمة، الأذنان صمتا، الجمجمة صارت تنز عرقاً، جسدي تحول إلى رجفة، دواخلي تهتز مع كل طرقة باب.. طرقات تحدث أصوات متباينة في قوة الصوت، كلمات تطايرت فوق سور المنزل، كلمات غاضبة.
من ذا الذي أغضبته؟ إجابة وحيدة على هذا السؤال، لا لم أغضب أحداً، أنا إنسان مسالم وودود، حاورت قلبي، مستدعياً خرائب روحي، الجرأة توارت خلف هاجس مريض، ضلال الأفكار حرمتني لذة الحياة لثانية واحدة، منها انبثق خوف مداهمة متوقعة، موقفي عصيب أرق من رمش امرأة عاهرة، صور باهتة الألوان تقد شغاف القلب، قارب الأمل أبحر في لجة مخيفة الظلام، ضاقت المسافة بين القلب والعقل، اندمجا في رسالة وحيدة كعجوز في ليلة ماطرة، انجُ بنفسك، صرت أنهش في جسد ماضٍ بائس ومستقبل وئد مبكراً. عادت الذاكرة إلى حفرها، نبشت لي خديجة آدم، تراجعت مرتجفاً، القلب هبط إلى حضيض قدمي، إنها خديجة آدم، سأصير بين غضبها إلى لا شيئ، حبة رمل مدعوكة بكعب حسناء شبقة، ظلام الليلة عم دواخلي، وجيب قلبي أكاد أسمعه زحفت نحو الباب أتلصص، عاد لي البصر خاسئا وحسيراً، لا أرى سوي صوراً باهتة، أشباح لأشباح، الطرقات على الباب زاد عددها وارتفع صوتها، انصرفت أغمغم إنها خديجة آدم، أرسلت من يقتلني.
زادت ذاكرتي من هلعي وخوفي، أحضرت صورة ذاك الغضب بعيني خديجة، لن يطفئه سوى الانتقام، أين أختفي منها؟ تلفت عبر حوائط الجيران، ليس ثمة مفر، رأيت رؤوساً فوق الأسوار تراقبني، تخيلتها ترسل نحوي شماتة، الاحتمالات تتسع وتضيق، احتمال زينب، احتمال شريف، احتمال جارتي، احتمال رجاء، احتمالات تأتي وتختفي، احتمال وحيد استقر مخرجاً لسانه، إنها خديجة آدم ليس سواها، تهالكت مقعياً، بطني أحدثت أصواتاً منفرة، الذاكرة تخلت عني، انكفأت على نفسها، همهمت أين أنت يا ذاكرتي؟، هل صرت خادمة مطيعة لامرأة إرهابية؟، نعم خديجة آدم إرهابية، هل لمجرد رغبة في جسدها تنتقم؟ خرجت سلسلة من الأسئلة، كيف يا خديجة تحملين غضبا له سنوات؟ ماذا يحدث إذا أغتصبتك تلك الليلة؟، هبت الذاكرة من غفوتها. أيقظتها أسئلتي الملحاحة. أكاد أرى السكين بيد خديجة آدم تقطر دماً هو دمي، الطرق يرتفع.
تمالكت نفسي، نظرت عبر كوة الباب، شاهدت رجالاً كثرا وأطفالا ونساءً، حدقت جيداً، صاحب المنزل يحمل عصا، ورجل نحيف له لحية تخللتها شعيرات بيضاء يعلق مسبحة بعنقه، امرأتان لا أعرفهما، تتوسطهما جارتي، توقف الطرق وجاء دور أصواتهم المرعبة، افتح بسرعة.. إنه مجرم خطير.. يجب حرقه.. لا نطرده فوراً.. فليخرج عاريا.. نسلمه السلطات.. لا لا يهمنا أمره بل نطرده.. أنا أود بيتي،.. انقطعت الأصوات عاد الطرق، ليس بالأيدي بل بعصا، تساعدها حجارة قذفت داخل السور، أحدها وقع على رأسي، تلفت داخل السور لعلي أجد أداة أحمي بها نفسي ريثما ينجلي الموقف، لكن الطرق ازداد عنفاً، مددت يدي نحو الباب، حين فتحته صاحوا:
- اخرج وغادرنا فوراً.
تصلبت قرب الباب ويداي متكئتان عليه، أحاول إخفاء رجفة أصابتني، تقدم صاحب المنزل نحوي، بعض الأصوات أوقفت تقدمه:
- أريد منزلي اليوم.
أحاطوا بي، كنت في وسطهم منكسرا ومبلبل الفكر. قال حامل المسبحة بعنقه:
- أرجو أن تسمع الكلام وتغادر كما غادر صاحبك دون إزعاج ومشاكل.
كأن ماء بارداً دلق على جسدي، همهمت "شريف..، شريف". ضجوا متهكمين مههمين بكلمات فاجرة، دوار لفَّني، دواخلي تجيش بانفعالات متوحشة، هروب شريف أزعجني أكثر من تجمهر هؤلاء الخائبين والخائبات، كيف سمحت له نفسه بأن يمسح آلاف الذكريات وملايين الخطاوي المشتركة بيننا؟ كيف يهرب في لحظة مفصلية؟ كيف أخفى عني ما انتوى؟ أسئلة تعرَّق لها جسدي، جارتي لم ترحم ضعفي، قالت بصوت بدا لي غريباً
- شريف حمل أخلاقه ومضى.
تعالى لغط كثير، سباب، شتائم، حجارة صغيرة تنقر صدري وباب غرفتي. انصرف صاحب المنزل وصاحب المسبحة، جارتي تبعتها المرأتان إلى غرفتها، أكيد ستواصل تناول وليمة اسمها عبدالقوي إسماعيل، الأطفال ابتعدوا يصفقون ويتصايحون، الأيدز، الأيدز، عدت أدراجي إلى الغرفة توسطتها واقفاً، سريري لن أحمله معي، وكذلك زير الماء والصحن، لن أحمل شيئاً.
جلست على السرير للمرة الأخيرة قبل مغادرتي، حزينا وكئيبا، كنار مطفأة في سهل لم تجد إنسانا يذكيها، كلمات باهتة ومستهلكة تدور بمخيلتي المنهكة. أشعلت سيجارتي الأخيرة، لم تفلح في كبح الحزن والكآبة، لم أحارب؟ لم هذه القسوة منهم؟ ألأني أحفظ أسرارهم؟، أين أذهب بركام الذكريات؟ هل ما كانوا يعلنونه لي حبا كاذبا وهم يحملون كل هذه الكراهية التي رأيتها بأعينهم وهم يطرقون باب غرفتي؟ لماذا صراخهم القاسي كنبتة شيطانية؟
هبت بداواخلي عاصفة هوجاء تقتلع المشاعر، تزرع حزنها، كيف تحملت هذا الوسط المرعب؟ إذن سأغادر هذه المدينة العاهرة، أقتلع نفسي منها، سأتألم وحدي، بعيداً عنها وعن قاطنيها، سأتركهم يجترون ذكريات باهتة عن فحل مر ذات يوم هنا وترك آثاره، يدعى عبدالقوي إسماعيل، لن أقع فريسة لسنوات عشتها بهذه المدينة العاهرة، سأغض طرف القلب، وطرف العين عن تلك الأيام. ثمة خطر يحيط بي إذا مكثت ليلة واحدة بها، إنهم توعّدوني بشر مستطير، ولا بد أنهم فاعلون، المدينة سلبتهم جميع فضائلهم التي خرجوا بها إلى الدنيا. سأغادر قبل أن يباغتني ما يضجرني، لا أحب المباغتات، سأتخلص من تاريخي بالمدينة كما يتخلص جسدي عن ملابسي، إنها العودة من حيث أتيت، سأغادرهم إلى قريتنا، أقف على أطلالها، أصرخ في وجوه أهلي أتيتكم مهزوماً، أتيتكم أحمل جرثومة المدينة لأنكم الترياق، أذرف دموع الندم بأحضان أهلي.
لكن الخاطر المخاتل يسخر مني، يا عبدالقوي تعود لأناس هجرتهم حين كانوا يحتاجونك وتعود إليهم جيفة؟ أنت أناني وبشع، أمكث بهذه المدينة التي لوّثتك ولوّثتها، أنت روح مجردة من العطاء، جسد خرب، أنت شجرة خبيثة اقتلعت من جذورها.
وضعت يدي بجانبي رأسي، صرخت كفى.. كفى، زاد تشتت الأفكار واإخضوضرت مزرعة الهواجس بالرأس. الذي كان يقيناً صار توهماً، دهاليز معتمة هي الحياة، سنواتي بالمدينة هباء، الأفخاذ النسائية أكوام لحم نتن، ما حسبته جنة هو لهب يحرق، سألت نفسي، لماذا تجلس هكذا كامرأة داهمتها الدورة في الشارع العام؟ قم تحرك زمن الرحيل قد أزف. ربما تأتي خديجة آدم بصحبة صاحب الدار وتغرس سكينها المتعطشة لدمك، لا رجاء لك في أنثى بعد اليوم، تلك السنوات كانت برقا خُلَّبا، وحلماً تخلّلته كوابيس، هي نتاج ما زرعته. صرخت في وحدتي: يا إلهي أنقذني.
بهمة ناقصة نهضت، أول ما أوليته اهتماماً غرفة شريف، لمحت بابها مغلقا، تحركت نحوها، تحركت الذاكرة وكرت شريطها، جرت صور باهتة تلح، هذا هو شريف يتجرع كأسا، وأنا أمصمص شفتي إثر جرعة أخرى، زجاجة يشع ما بداخلها، ها هما السهامان تضحكان ساخرتين، خديجة آدم تحمل سكيناً تقطر دماً، زينب تحمل وردة حمراء تمنحها بمحبة لشريف، رجاء تشتبك مع زينب منافسة لها للفوز بقلب شريف، دعكت جبيني، اختفت الصور حاملة رعبها، وجدت نفسي أقف أمام غرفة شريف، نظرت داخلها عبر ثقب بجدارها، كانت خالية، همهمت بغضب، حمل شريف الكلب جمع أشيائه وغادر.
لم أصاب أنا؟ أين العدل في الدنيا؟، كنت أنتقي فتياتي وشريف كل من دبّت ولم تهب ضاجعها، أينجو من الأمراض وأبتلى بها أنا؟
آه سأغادر هذه المدينة، لن أحفل بمن ألتقيهم في مقبل أيامي، صفعني حجر على قفاي، التفت نحو مصدره، إنه أحد الأطفال، أسرع يلحق بالرجال، جارتي ولجت بيتها وبصحبتها تلك المرأة، أكيد ستحكي لها قصصاً كلها كذب عني، لن تذكر عربدتها بسريري وخيانتها لزوجها. تصلبت في وقفتي، الذاكرة تمرح بها أفكار متباينة، اشتبكت أسئلة مع هواجس مريرة، خيالي طوى سنوات حياتي، كورها كتله أكاد أراها أمامي، منذ كنت مضغة في رحم أمي إلى آخر حجر وقع على هامتي. عدت ووقفت أمام غرفتي ناظراً إلى بيت جارتي، لعنتها وقفلت راجعاً.
جمعت حاجياتي الفقيرة، قليل من الخمر بقاع الزجاجة، تجرعته، وتفلت، أخرجت عود ثقاب وأشعلت فيها النار، ألسنة اللهب جذبتني لها، مددت يدي فوقها، وصرت أحدق فيها تتداخل ألوانها، من قال إن للنار لونا واحدا؟ للنار ألوان كثيرة لمن يبصر، أحمر، أصفر، بني، أسود، حتى السماوي، النار تلتهم كل ما ألقيته فيها، قميصا رثَّاً، بنطالاً عاش دهراً ساتراً عورتي، قميصاً نسيته جارتي ذات ليلة، تخيلت أن جارتي ملفوفة بقميصها تحترق أمامي، هبط حقد وارتفع فرح بقلبي، تحوَّل القميص إلى رماد، تلفتُّ في الغرفة، نزعت قميصي الأحمر من المسمار قذفت به إلى النار، رأيت ملابس داخلية لزينب، حملتها بأطراف أصابعي ودنوت من ألسنة اللهب، ارتفعت تشبَّثت بأطراف فستان زينب، رفعته إلى أعلى والنار تسري فيه، آخر ما يربطني بها، فرح باهت اللون شملني. تلفتُّ أبحث عن شيء تطفئ به النار شهوتها.
مددت طرف أصبع قدمي الكبير نحوها، لسعتني حرارة شعرت بها في هامة رأسي، عاد عقلي إلى جلسة لي مع أبي ذات صباح، كانت أمي تعد لنا الإفطار، طارت شرارة علىي خدي، صرت أبكي، مسحت أمي أثر النار بماء وملح. انتظرت النار حتى خمدت، أخرجت قضيبي وهصرت مثانتي، أفرغتها في الرماد.
عند الساعة السابعة مساء، هذه الساعة لي معها ذكريات كانت زينب تأتي فيها إلى غرفتي، لن أحمل معي ذكريات، نفسي حدثتني بالبحث عن شريف فزجرتها، ربما عاد إلى قريتهم البائسة، خرجت وألقيت نظرة أخيرة إلى غرفتي، وسرت لا ألوي على مكان محدّد، أرض الله واسعة، لن أذهب إلى قريتنا، ليس بها من يعرفني، ولا أريد أن أنكأ جروحاً قديمة، نبحني كلب جربان، حصبته بحجر، وسرت كلما تقدمت خطوت تقدمت الشمس إلى مرقدها.

 
رد: ضلالات قديمة: رواية

محمد خير
كما عودتنا بأسلوبك المتفرد ورسالتك الأدبية فى أن "الروعة يمكن أن نجدها فى دائرة محورها القذارة وبين طيات القصص الكاتمة للأنفاس" بتجسيدك للواقع الذى ينفر الكتّاب منه ..
ولهذا اقرأ ما تكتبه لأن التفرد فى كلماتك التى تزكم الأنوف

عند القراءة
تجد نفسك معلقاً بين الحروف .. لا تهم الرائحة ولا الكلمات ولا الوصف .. بقدر مقدرتك على السرد الجاذب والواضح حد الوقاحة
ولأن كل ذلك ولّد لنا رواية لا تشبه الا إسلوب شخص اسعدنا برواية أولى أكثر قذارة زاد عدد القراء فيها عن السبعين ألفاً.

إستمتعت بقراءة الرواية متمثلة فى شخصية عبدالقوى
أكملت الجزء الأول منها .. دون توقف
لا يمكن أن تغفل عن المواصلة فى اليوم التالى لأن التسلسل يجذبك لتعرف أكثر
ماذا سيحل بعبدالقوى وشريف
لى عودة .. بعد أن أكمل ما تبقى .. من نصوص

تحياتى لك محمد خيرالله ..
سعيدة بعودتك وأنت تثبت أنك لا تقل روعة عن أى كاتب مشهور إرتفع إسمه فى العلا
وشكراً على هذا التفرد
 
رد: ضلالات قديمة: رواية

محمد خير ...... اخير ليك تسمع كلام البنية الاسمها دنيا دي وتكمل بسراع
شوف سأعيد اقرأ من اول في الفترة دي كمل ارجووووك .... انا قاعد غايتو ... آهن​
 
أعلى أسفل