حسين احمد حسين
:: كاتب نشـــط::
(1)
لم أدرِ لماذا يخرجُ الناسُ بكل ذلك الحرص لرؤيتها صباح مساء، فيُصعقُ من يُصعقْ، ويُجَنُّ من يُجَنْ، فقد كُنتُ يومها فى يُفُوع. وكلُّ استقرآءاتى لذلك كانت مقيدةً بسقوفِ النَّفسِ الطفلة، إلى أنْ زرت معرضَ الفوتوغرافيا بمدينةِ شلسى بلندن. ولكنْ تَعلقُ ذهنى منها جميلةٌ ونفيلة. ولا أذكرُ مِنْ مَلامِحِهَا إلاَّ ما يجعلنى أُمَيِّزُها عن سواها، بالرغمِ مِنْ أنَّها مُترفةُ الحسنِ وفى كلِّ شئٍ لها ميزةٌ عن سواها.
رأيتها فى احدى العطلات المدرسية ترتدى السروالَ و تركبُ الجوادَ وتُحَىِّ الغاشى والماشى، ، وتتفقُّدُ أحوالَ الأهلِ والعشيرةِ. تَسمرُ ليلةً هنا، وتسمرُ ليلةً هناك. فحوَّلتْ كلَّ ليالى القرية الى ليالٍ بِيض.
كان ذلك هو الأمرُ اللافتَ فى حىِّ البساتين الواقع على الجزء الذى يبدأُ فيه النيلُ فى الأعتدال عَنْ مُنحناه. وتلك هى الصورةُ الفطيرةُ التى تختزنها ذاكرتى لصاعقةِ الحسنِ آية. فتاةٌ مصابةٌ بالحياة، ولا يَحبِسُها تعقيدُ التركيبة النفسية لسكان الريف عن ممارسة هِواياتِها وعقائدِها الإجتماعية، كأنَّها نسمةٌ. ويستحسنُ النَّاسُ منها ما يُذمُّ عند سواها. وهكذا كانت تُملئ على الزمانِ والمكانِ حضورَها البهىَّ وحيويتَها الغامِرة.
وفى أوَّلِ العهدِ بالسفر، رِفقة الأهل والعشيرة، أذكرُ كنَّا ثلاثة إذْ ذهبنا إلى العاصمة المثلثة الخرطوم. ونحنُ بعدُ أحداث، كنَّا نُقسِّم العاصمة المثلَّثة، فنقول: ثلثٌ لأهل بحرى، وثلثٌ لأهل الخرطوم، وثلث لآية. فهى إذاً طَفْلَةٌ وحاضرةٌ فى النَّفسِ الطِّفْلة. وثلثُ آية تمَّ تحريفه فيما بعد إلى مثلَّث آية. وفى مثلَّث آية هذا، أذكر أنَّنا نزلنا ببيتٍ متواضعٍ لأهلٍ لنا من حى البساتين، تقومُ عليه امرأةٌ تبيعُ وتشترى. أمرأة سمراء، بدينة وجميلة تسمى السمحة، اسم على مسمى. غير أنَّ خديها الأسيلين مشوهان بالشلوخ وقد سربتِ الحياةُ الى جسدِها بعضَ التعب. لكنَّها مازالتْ كريمةً ونبيلة، وبيتُها قبلةٌ للمسافرين بين الريفِ والحضر. ولايخلو بيتُها من عددٍ من الأشخاص الذين يقيمون إقامةً دائمةً هناك، من غير أفراد أُسرتها.
نزلنا ببيتها وكان حالُنا يُغنى عن سؤالِنا. ملابسنا متسخة بذلك الغبارِ النَّاعمِ الذى يَعْلَقُ ملابسَ المسافرين بين أُمدرمان و دنقلا. آذآنُنا وأعْيُنُنَا مملؤةٌ بهذا الغبار، وكلُ شئٍ فينا اتَّخذَ لونَ ورائحةَ الكائناتِ التى تسعى بين المدينتين.
نادتْ السمحة على إبنتها آية لتدلنا على مكان الحمام وتبديل الملابس. أطلَّتْ علينا آيةٌ رَبْعَة. وجهُها كفلقةِ القمر. وشعرهُا أسودٌ فاحمٌ وطويل، ويومئ إلى أفريقيةٍ خاملة. إنَّها بنتٌ مملوءةٌ بالحنوِّ والحنانِ والود. ويوشكُ فمُها، إذا تحدثتْ، أن يشرقَ بإبتسامة. إحتفلتْ بنا آيةٌ واحتفلنا بها، وعطَّرتنا بعطرٍ باريسىٍّ جميلٍ، وألبستنا الملابس النظيفة، ورجَّلتْ شَعْرَنا. إهتمَّتْ بنا كما لو كنُّا إخوتها من أبيها وأُمِّها. وما رأيتُ فى حياتى قط شخصاً يُدخلُ السرورَ على قُلوبِ الناس كما كانت تفعلُ آية. وهى مُنذُ وِلادتِها تسكنُ هذا المثلثَ وتسكنُ فى كلِّ قلب.
يتبع...
لم أدرِ لماذا يخرجُ الناسُ بكل ذلك الحرص لرؤيتها صباح مساء، فيُصعقُ من يُصعقْ، ويُجَنُّ من يُجَنْ، فقد كُنتُ يومها فى يُفُوع. وكلُّ استقرآءاتى لذلك كانت مقيدةً بسقوفِ النَّفسِ الطفلة، إلى أنْ زرت معرضَ الفوتوغرافيا بمدينةِ شلسى بلندن. ولكنْ تَعلقُ ذهنى منها جميلةٌ ونفيلة. ولا أذكرُ مِنْ مَلامِحِهَا إلاَّ ما يجعلنى أُمَيِّزُها عن سواها، بالرغمِ مِنْ أنَّها مُترفةُ الحسنِ وفى كلِّ شئٍ لها ميزةٌ عن سواها.
رأيتها فى احدى العطلات المدرسية ترتدى السروالَ و تركبُ الجوادَ وتُحَىِّ الغاشى والماشى، ، وتتفقُّدُ أحوالَ الأهلِ والعشيرةِ. تَسمرُ ليلةً هنا، وتسمرُ ليلةً هناك. فحوَّلتْ كلَّ ليالى القرية الى ليالٍ بِيض.
كان ذلك هو الأمرُ اللافتَ فى حىِّ البساتين الواقع على الجزء الذى يبدأُ فيه النيلُ فى الأعتدال عَنْ مُنحناه. وتلك هى الصورةُ الفطيرةُ التى تختزنها ذاكرتى لصاعقةِ الحسنِ آية. فتاةٌ مصابةٌ بالحياة، ولا يَحبِسُها تعقيدُ التركيبة النفسية لسكان الريف عن ممارسة هِواياتِها وعقائدِها الإجتماعية، كأنَّها نسمةٌ. ويستحسنُ النَّاسُ منها ما يُذمُّ عند سواها. وهكذا كانت تُملئ على الزمانِ والمكانِ حضورَها البهىَّ وحيويتَها الغامِرة.
وفى أوَّلِ العهدِ بالسفر، رِفقة الأهل والعشيرة، أذكرُ كنَّا ثلاثة إذْ ذهبنا إلى العاصمة المثلثة الخرطوم. ونحنُ بعدُ أحداث، كنَّا نُقسِّم العاصمة المثلَّثة، فنقول: ثلثٌ لأهل بحرى، وثلثٌ لأهل الخرطوم، وثلث لآية. فهى إذاً طَفْلَةٌ وحاضرةٌ فى النَّفسِ الطِّفْلة. وثلثُ آية تمَّ تحريفه فيما بعد إلى مثلَّث آية. وفى مثلَّث آية هذا، أذكر أنَّنا نزلنا ببيتٍ متواضعٍ لأهلٍ لنا من حى البساتين، تقومُ عليه امرأةٌ تبيعُ وتشترى. أمرأة سمراء، بدينة وجميلة تسمى السمحة، اسم على مسمى. غير أنَّ خديها الأسيلين مشوهان بالشلوخ وقد سربتِ الحياةُ الى جسدِها بعضَ التعب. لكنَّها مازالتْ كريمةً ونبيلة، وبيتُها قبلةٌ للمسافرين بين الريفِ والحضر. ولايخلو بيتُها من عددٍ من الأشخاص الذين يقيمون إقامةً دائمةً هناك، من غير أفراد أُسرتها.
نزلنا ببيتها وكان حالُنا يُغنى عن سؤالِنا. ملابسنا متسخة بذلك الغبارِ النَّاعمِ الذى يَعْلَقُ ملابسَ المسافرين بين أُمدرمان و دنقلا. آذآنُنا وأعْيُنُنَا مملؤةٌ بهذا الغبار، وكلُ شئٍ فينا اتَّخذَ لونَ ورائحةَ الكائناتِ التى تسعى بين المدينتين.
نادتْ السمحة على إبنتها آية لتدلنا على مكان الحمام وتبديل الملابس. أطلَّتْ علينا آيةٌ رَبْعَة. وجهُها كفلقةِ القمر. وشعرهُا أسودٌ فاحمٌ وطويل، ويومئ إلى أفريقيةٍ خاملة. إنَّها بنتٌ مملوءةٌ بالحنوِّ والحنانِ والود. ويوشكُ فمُها، إذا تحدثتْ، أن يشرقَ بإبتسامة. إحتفلتْ بنا آيةٌ واحتفلنا بها، وعطَّرتنا بعطرٍ باريسىٍّ جميلٍ، وألبستنا الملابس النظيفة، ورجَّلتْ شَعْرَنا. إهتمَّتْ بنا كما لو كنُّا إخوتها من أبيها وأُمِّها. وما رأيتُ فى حياتى قط شخصاً يُدخلُ السرورَ على قُلوبِ الناس كما كانت تفعلُ آية. وهى مُنذُ وِلادتِها تسكنُ هذا المثلثَ وتسكنُ فى كلِّ قلب.
يتبع...
التعديل الأخير: