صاعقة الحسن

حسين احمد حسين

:: كاتب نشـــط::
(1)

لم أدرِ لماذا يخرجُ الناسُ بكل ذلك الحرص لرؤيتها صباح مساء، فيُصعقُ من يُصعقْ، ويُجَنُّ من يُجَنْ، فقد كُنتُ يومها فى يُفُوع. وكلُّ استقرآءاتى لذلك كانت مقيدةً بسقوفِ النَّفسِ الطفلة، إلى أنْ زرت معرضَ الفوتوغرافيا بمدينةِ شلسى بلندن. ولكنْ تَعلقُ ذهنى منها جميلةٌ ونفيلة. ولا أذكرُ مِنْ مَلامِحِهَا إلاَّ ما يجعلنى أُمَيِّزُها عن سواها، بالرغمِ مِنْ أنَّها مُترفةُ الحسنِ وفى كلِّ شئٍ لها ميزةٌ عن سواها.

رأيتها فى احدى العطلات المدرسية ترتدى السروالَ و تركبُ الجوادَ وتُحَىِّ الغاشى والماشى، ، وتتفقُّدُ أحوالَ الأهلِ والعشيرةِ. تَسمرُ ليلةً هنا، وتسمرُ ليلةً هناك. فحوَّلتْ كلَّ ليالى القرية الى ليالٍ بِيض.

كان ذلك هو الأمرُ اللافتَ فى حىِّ البساتين الواقع على الجزء الذى يبدأُ فيه النيلُ فى الأعتدال عَنْ مُنحناه. وتلك هى الصورةُ الفطيرةُ التى تختزنها ذاكرتى لصاعقةِ الحسنِ آية. فتاةٌ مصابةٌ بالحياة، ولا يَحبِسُها تعقيدُ التركيبة النفسية لسكان الريف عن ممارسة هِواياتِها وعقائدِها الإجتماعية، كأنَّها نسمةٌ. ويستحسنُ النَّاسُ منها ما يُذمُّ عند سواها. وهكذا كانت تُملئ على الزمانِ والمكانِ حضورَها البهىَّ وحيويتَها الغامِرة.

وفى أوَّلِ العهدِ بالسفر، رِفقة الأهل والعشيرة، أذكرُ كنَّا ثلاثة إذْ ذهبنا إلى العاصمة المثلثة الخرطوم. ونحنُ بعدُ أحداث، كنَّا نُقسِّم العاصمة المثلَّثة، فنقول: ثلثٌ لأهل بحرى، وثلثٌ لأهل الخرطوم، وثلث لآية. فهى إذاً طَفْلَةٌ وحاضرةٌ فى النَّفسِ الطِّفْلة. وثلثُ آية تمَّ تحريفه فيما بعد إلى مثلَّث آية. وفى مثلَّث آية هذا، أذكر أنَّنا نزلنا ببيتٍ متواضعٍ لأهلٍ لنا من حى البساتين، تقومُ عليه امرأةٌ تبيعُ وتشترى. أمرأة سمراء، بدينة وجميلة تسمى السمحة، اسم على مسمى. غير أنَّ خديها الأسيلين مشوهان بالشلوخ وقد سربتِ الحياةُ الى جسدِها بعضَ التعب. لكنَّها مازالتْ كريمةً ونبيلة، وبيتُها قبلةٌ للمسافرين بين الريفِ والحضر. ولايخلو بيتُها من عددٍ من الأشخاص الذين يقيمون إقامةً دائمةً هناك، من غير أفراد أُسرتها.

نزلنا ببيتها وكان حالُنا يُغنى عن سؤالِنا. ملابسنا متسخة بذلك الغبارِ النَّاعمِ الذى يَعْلَقُ ملابسَ المسافرين بين أُمدرمان و دنقلا. آذآنُنا وأعْيُنُنَا مملؤةٌ بهذا الغبار، وكلُ شئٍ فينا اتَّخذَ لونَ ورائحةَ الكائناتِ التى تسعى بين المدينتين.

نادتْ السمحة على إبنتها آية لتدلنا على مكان الحمام وتبديل الملابس. أطلَّتْ علينا آيةٌ رَبْعَة. وجهُها كفلقةِ القمر. وشعرهُا أسودٌ فاحمٌ وطويل، ويومئ إلى أفريقيةٍ خاملة. إنَّها بنتٌ مملوءةٌ بالحنوِّ والحنانِ والود. ويوشكُ فمُها، إذا تحدثتْ، أن يشرقَ بإبتسامة. إحتفلتْ بنا آيةٌ واحتفلنا بها، وعطَّرتنا بعطرٍ باريسىٍّ جميلٍ، وألبستنا الملابس النظيفة، ورجَّلتْ شَعْرَنا. إهتمَّتْ بنا كما لو كنُّا إخوتها من أبيها وأُمِّها. وما رأيتُ فى حياتى قط شخصاً يُدخلُ السرورَ على قُلوبِ الناس كما كانت تفعلُ آية. وهى مُنذُ وِلادتِها تسكنُ هذا المثلثَ وتسكنُ فى كلِّ قلب.

يتبع...
 
التعديل الأخير:
(2)

كانتْ حين تخرجُ فى الصباحِ الباكرِ إلى المدرسة، تُفتَحُ الأبوابُ والشرُفاتُ، فينظرُ إليها أهلُ المثلثِ عُنوةً وخِلسة. الكلَّ يحرصُ على أن يبدأ يومه برؤيتها، ويختمُهُ برؤيتها، هكذا كان يَحفظُ مثلثُ آية توازنه. أمَّا آية، فكانت تعلمُ أنَّ النَّاس ينتظرونها لينظروا إليها جيئةً وذهابا. ولم يكن ذلك ينقصُ من سجيّتها شيئاً. فكانتْ تحيِّهم ، وترسلُ نظرتَها اللاَّ - حسية فتحيِّدَ نظراتِهم إليها، وتؤنْسِنُها. فتتحولُ عباراتُ السُّوقةِ إلى تسبيح، فلم يمَسُها أحدٌ بسوءٍ قط. وترسلُ خاصيتها الفوق - إنسانية، فتوقرُ الكبير وتحترمُ الصغير. تعين المحتاج والضعيف، وتواسى الفقير والكفيف. كأنَّها بُعثتْ لتَحْشُدَ فى النَّاس الفرح. وللهِ درُّها، فقد كانتْ محضَ امرئٍ سمحاً.


وهكذا كانتْ رِحلةُ آية، من بيتها إلى أىَّ مكان، مليئةً بالأحداثِ والآيات. وهى ذاهبةٌ إلى المدرسةِ، ذات صباح، رأتها إمرأةٌ ترضعُ طفلاً بجوارِ خورِ أبى عنجة من جهةِ تفرُّعِهِ عن النَّيل، وكان الخورُ وقتها مملوءاً بمياه الفيضان. فأذهلتْ المرأةُ عن رضيعها، فسقطَ وتدحرجَ إلى الماء. فإذا بآية تقفزُ فى الماء بزيِّها المدرسىِّ وتنقذ الطفل. ولما أحضرته إلى أمِّه الذَّاهلة، فإذا بها تزدادُ ذهولاً من ملاحةِ ما رأتْ، فإنتهى بها ذلك الأمرُ إلى مستشفى التجانى الماحى.

وهى فى بلَلِها ذلك، رأها أحدُ المصورين الأجانب الخارجين للتوِّ من قاعة مجلس الشعب، وصاحَ وهو يرددُ: "هولى هيفِن"، وانهالَ عليها تصويراً. وكان كلما يريد أن يأخذ لقطةً مغايرة، يستبسمُها (سيىْ جِيز). فالكاميرا تَبْرُق وآية تَبْسُم، الكاميرا تبرق وآية تبسُم. استمرتْ هذه المعركة السّنية ردحاً من الوقت، ذهبَ على أثرها بصرُ المصوِّرِ مؤقتاً.

إستوقف هذا المشهد أحد السابلة (لعلَّه أخُ العازة)، فسأل المصور ما إذا كان عنده إذنٌ بالتصوير من الجهات المختصة. فردَّ المصوِّر قائلاً: "أنا فقط ممنوع من تصوير الكبارى والمناطق العسكرية". فضحك السائل من خبث ومكر المسئول، وقلَّلَ من حِدّةِ موقفه الأوَّل بعد أنْ أدرك أنَّ الرجلَ قد صار كظيما. وأنَّ الفتاة فى حصنٍ إلهىٍّ من الأذى. بعدها طلب المصوِّرُ من الحضور أن يوصلوه إلى مشفى العيون ففعل أحدهم.


كان ذلك اليومُ يوماً حافلاً من أيام آية. فوصلت المدرسة متأخرة قليلاً، ولم تحضر الطابور. دخلتْ إلى فناءِ المدرسة مع بداية جرس الحصة الأُولى، ومازالتْ ملابسها مبتلَّة. وفى الإتجاه المعاكس لها خرج مدرسا التربية الإسلامية والفيزياء من مكتبيهما ليدرسان حصتيهما فى فصلين متجاورين. إلتقتهما آية عند أوَّل فرندة الفصلين، حيتهما ومضتْ إلى فصلها. فإذا بإستاذ التربية الإسلامية يدخل، مُرتَبِكَاً، حصة الفيزياء ويدرسهم باب النِّكاح، وأُستاذ الفيزياء يدخل، صَعِقَاً، حصة التربية الإسلامية ويدرسهم الشحنة الكهربائية، درسانِ لم يُحضِّرْ أىٌّ منهما مادَّتَه فى ذلك اليوم. نُبه الأستاذان لما جرى، ولكنهما واصلا التدريس حِفاظاً على وقارهما، متظاهرين بأنهما إتفقا مسبقاً على ذلك. ويومها نجتْ الطالبات من رتابةٍ وواجبٍ ثقيلين. فَضَحَ هذا الأمر أُستاذ الفنون الجميلة بالمدرسة. فقد عبر عن هذا الموقف بلوحة نُقلتْ فيما بعد إلى مُتحف اللُّوفر بفرنسا، سمَّاها "خصوبة الجمال". ولو أنَّه عبر عن هذا الموقف بطريقة غير الرسم، لأُتهمَ بالزندقة والشيوعية، ولربما فُصِلَ من التدريس لسوءِ السلوك. على أية حال فقد ملأتْ شُهرتُه الآفاقَ بسببِ تلك اللوحة.

خرجتْ السمحة من منزلها لتلاقى آية القادمة من المدرسة بالقرب من أُستاد الموردة. فقد كانتا متفقتين منذ الصباح أنْ تلتقيا عند هذا المكان بغرض زيارة جارتهما التى نُقلتْ إلى مستشفى الدايات فى حالة ولادة متعثرة منذ يومين. فلمَّا دخلتا المستشفى، آية تسبقُ السمحة،إشرأبَّتْ رقاب النساء قبل الرجال نحو هذا المَلَك الذى يسعى نحوهم. وكانت السمحة تبسمل وتحوقل محصِنةً لإبنتها. أمَّا آية، فكانت تبُثُّ تحيتها المعهودة لكلِّ النَّاس، وسلمَّتْ على كلِّ المرافقين بِلا استثناء، فقام لها المرافقون بِلا استثناء. ومن ثمَّ إتجهتا إلى عنبر الحوامل. فلما رأتِ الحواملُ آية، أكْبَرْنَهَا وصَرَخْنَ صرخةَ امرأةٍ واحدة اشتدَّ عليها الطَّلق. ووضعتْ كلُّ ذات حملٍ حملها بصورةٍ مُفاجئة. فى ذلك اليوم أُسْتُدْعِىَ كلُّ الإطباءِ فى الإحتياط، وكل القابلات. ومنحتهم الدولة راتب ثلاثةِ أيامٍ كاملة وصارتْ فيما بعد راتبةً وسُمِيَتْ علاوة آية. وكلُّ مولودُ ذكر أو أُنثى، سمى بإسمها فى ذلك اليومِ تيمناً. فالبنتُ أية، والولد آية.

______يتبع ...
 
التعديل الأخير:
(3)

إزكاءاً لجدلية النَّكد، خصيصةُ النَّفسِ السودانية، فقد كان النَّاس يتوقعون أنَّ عمر آية لن يطول. وكانوا يتوجَّسون ويخافون من الكيفية التى سوف ترحل بها هذه الحورية من الدنيا، فكان يصيبهم الإرتعاش ويختلُّ توازُنُهم. غير أنهم كانوا يطردون هذا الهاجس الذى لا يستند إلى منطق، طالما أنَّها حيَّة وقادرة على العطاء، وعلى هذا النبل، وعلى كلِّ هذه الفرادة. ولكن كان ينتابهم ذلك الشعور المُعكِّر للصفو، بأنَّ الشئ الفريد لا يدوم وسرعان ما يرحل.


ذهبتْ الطالبة آية فى الصباح الباكر إلى المدرسة، وهى كعادتها جاذبة للعيون، تحىِّ وتهُشُّ، على جانبى الطريق، وتبش. ووجهها المبتسم أصلاً يضاعف من إبتساماته كلمَّا مرَّتْ على كائنٍ من الكائنات. وصلت إلى المدرسة وفى هذا الأثناء كان كلُّ شئٍ عادياً. وفى الحصة الثالثة، سألتها المدرِّسة سؤالاً، فقامت لمعلمتها لتجيب على سؤالها. فما أن استوت واقفة، فإذا بها تسقط على الدرج من غير مقدمات، أو إرهاص على أنَّ شيئاً مثل هذا سوف يحدث. فزِعَ كلُّ شئٍ واضطرب، وأغمىَ على أربع طالبات فى صفها. حُملت إلى مستشفى أُمدرمان فى غيبوبتها تلك ومعها البنات الأربع اللائي غبنَ عن الوعى، و صُرفتْ كلُّ الطالبات بالمدرسة منذ الحصة الرابعة. مرَّرَ الأطباء بعض المحاليل المنعشة على أُنوف البنات اللآئى غِبْنَ عنِ الوعْى، فَفُقنَ، إلاَّ أنَّ آية لم تَفُقْ، فأُدخلتْ إلى غرفة العناية المكثفة.


تقولُ نتيجة تشخيص مرض آية أنَّها مصابةٌ بمرضٍ عُضالٍ، وقد تقدمت مرحلة المرض وهى لا تعرف. فزِعتْ كلُّ الأكوان التى حولها وانشغلت عليها، ويا طالما كانوا يتوقعون شيئاً من نحوِ ذلك. وكانت هى فى مرضها آية فى الجمال، لا آية فى المرض، كأنها مقبلة على عُرس. إذا خرجَ النَّاسُ من عندها بكوا وانتحبوا، وإذا جاؤوها أنْسَتْهُمُ المرضَ والحزنَ والبكاء، وسربتْ إليهم أشعَّتَها الفوق – إنسانية، فتضحكُ مع هذه وتُلاطفُ ذاك. وما أن يخرجوا من عندها ومن دائرة سحرِ إنسانيتها تذكروا أنَّها سوف ترحل، فيبكون من جديد.


لقد تكفَّلت الدولة بنفقاتِ عِلاجها بالخارج، وتكفَّل كلُّ من عرفها بذلك. بل أنَّ أحد الناس باع بيته مساهمةً فى علاجها. غير أنَّها كانتْ تُصرُّ على عدم السفر. لقد فات الأوان، وأنَّ اللهَ لا محالة آخذٌ آية، ورافعٌ لهذه المعجزة الفريدة. كان كلَّ فردٍ فى مثلثِ آية، بل فى البلد قاطبة ممَّن عرِف بقصتها، يدعو لها. خاصةً بعد المقال الرقيق الذى نشره أحدُ أسرى إنسانيتها بإحدى الصحف السيارة وهو يستحثُّ الناسَ أنْ يتملَّقوا اللهَ بالدعاءِ لها. ولكن الله ادَّخرَ دعواتِهم تلك ليجازى بها آيةَ يوماً ما. أما الآن فحسبها السُّرور الذى أدخلته علي الناس، فقد جعله الله تسبيحاً سرمدياً لها. وما انفكَّ النَّاسُ يدعون لها بالرحمةِ و المغفرةِ، آناءَ الِّليلِ وأطرافَ النَّهار.

(4)

أكلتها العيون، أُقتُلِعَتْ منى، ونُزِعَتْ. هكذا كانتْ مناحةُ حاجة السمحة وجزعُها على بنتها آية يوم وفاتها. حزِنتْ إلى حدِّ الخروجِ عن المألوف، وحزن كلَّ الكون، وحزِن مثلث آية بخاصة. كانت حياةُ آية اختباراً كبيراً، وموتُها اختباراً أكبر. بعضُ النَّاس فقد صوابه بالمثلث، والبعضُ الآخر غير سلوكه مائة بالمائة. أما السمحة، فقد أراد اللهُ أن يكون اختبارها أكبر ممَّا تتصور. فهى لا تدرى حتى الآن، ما إذا كان الله قد إبتلاها بآية وأنعم عليها بِفِرَاقِها، او العكس. ولكن المؤكَّد أنَّ آية رحلتْ بأخوين إثنين لها، أحدهما فى اليوم التالى لوفاتها والآخر بعد إسبوعين من ذلك التأريخ الأليم. لم ينتحرا، ولكنَّهما ماتا حُزناً على أُختهما، وعلى أمثالِها تَحزنُ القلوب وتتفطَّر.


غير أنَّ السمحة قد إنتبهتْ لهذا الإمتحان العظيم، فصبرتْ وتجمَّلتْ وتحمَّلتْ الحزنَ الكبير. لكن مثلث آية لم يصبر، وها هو يفقد توازنه بفقد آية. لم يعُدْ النَّاس يخرجون صباح مساء، بل إعتزلوا الخروج إلاَّ لضرورة مُلِحَّة. بل إنَّ أحدَ مجاذيب إنسانيتها إتخذ لنفسه صومعة،ً ولم يخرجْ منها مبلغ العلم إلى اليوم.

(5)

كان ذلك منذ ستٍ وثلاثين سنة، بعدَ أيَّامٍ قليلةٍ من اليوم الذى ذهبتُ فيه مع آية إلى المدرسة. حيث تركتنى مع العم الصول تَقِى الدِّين تحت ظلِّ الشجرة التى تتوسطُ فناء المدرسة وتُطلُّ عليها كلَّ الفصول. ووقتها كان أُستاذ الفنون قد شرع توَّاً فى عملِ لوحةٍ لم أدركْ كُنْهَها فى ذلك الوقت. وكنتُ فى سَبْحِ كلِّ هذه السنواتِ أُفَكِّرُ فى آية، وأدعو لها بالرحمة. ولنَدْعُوَ لها بالرحمة، عِرفاناً لها بالجميل.

وعلى أيةِ حال لم أكن أدرى لماذا تُلاحِقُنى هذه الآية خارج تلك السقوف البريئة، وتدفعُنى دفعاً لِأنْ أنظر إليها بمنظورٍ أكثرَ نُضجاً، إلاَّ بعد أنِ إستفزَّتنى الأقدارُ من بقعتِها، وأنا قبل ذلك، وكلما سنحتْ سانحة، كنتُ أُغيظها قائلاً: "خُلِقْنا لِأُوروبا وأُوروبا لم تُخْلقْ لنا". والحقُّ يقال، ما وطِئْتُ موطءَ جمالٍ، إلاَّ وآية فريدتُهُ. ولا شيئَ يعدِلُ حُسنَها غَيْرُ حُسْنِها. نعم أفتقدها وأفتقدُ فيوضاتِها الإنسانية. ولكن هل تريد آية أنْ تَتَبَيَّنَ لى أينما ذهبتُ وتُنَصِّبُنِى حارساً لها فى الحسِّ والمعنى، أم أنَّها تُنَصِّبُ نفسها حارسةً لى؟ ألا يكفى أنها مُتَبَيِّنَةٌ بقلبى ومتأيِّنَة؟ فالإنسان جسدٌ وروح، وإذا ماتَ رُفِعَتْ روحه وفنى جسده. فماذا تريد منِّى هذه الآية بعد كلِّ هذه السنين؟

لم أفهم رغبة الأقدار بالزَّجِّ بى إلى هنا، لا جزئياً ولا كُلياً. ولكن علىَّ أنْ أُتابع حلقاتِ هذا المسلسل حتى النهاية. وهل لّى مِنْ خيار؟

يتبع ...
 
التعديل الأخير:
(6)

وعلى أىِّ حال، أنا الآن أتجول فى وسط لندن، زائراً لمعرضها السنوى للزهور. وقعت عينى على إعلانٍ مفاده أنَّ معرضاً للتصوير الفوتغرافى لأجمل اللقطات على أيام الحرب الباردة سوف يُقامُ فى مدينة شلسى الإسبوع القادم. قلتُ فى نفسى علىَّ أن أحضره، لعلَّ عينى تقع على لوحةٍ جميلةٍ من الجنوب فتغسل عنِّى هذه النوستالجيا. فقد تعبتُ من استدعاء ذاكرتى اليومى لشخوصٍ وذكرياتٍ سحيقة. خاطرٌ خاطفٌ قد يسوقك إلى الضحك، وتارةً إلى البُكاء، وتارةً لا إلى الضحك ولا إلى البُكاء. ولتعلم حينها أنَّك فى وضعية الإشمئناط.

إنسربتْ الأيَّام السبعَ سِراعاً، فذهبتُ إلى شلسى حيث معرض التصوير الفوتغرافى. ودار فى ذهنى سؤال! ما عِلاقة هذا التصوير الجميل بالحرب الباردة؟ فالحروب باردها وحارُّها لا يُنتج مثل هذا الجمال. هل نحن أمام حرب جديدة؟ حرب الفوتغرافيا يا تُرى؟ هل الكاميرا فى المعسكر الشرقى غيرها فى المعسكر الغربى؟ أين تقع فوتغرافيا عدم الإنحياز من الإعراب؟ هل للأيديولوجيا تأثير على الصورة؟ أين تأثير كيمياء المصوِّر والمصوَّر فى هذا السجال الفوتغرافى على وضعية الصورة؟ ما هى وضعية الصورة لبلد خرج توَّاً من المعسكر الشرقى وانضمَّ إلى المعسكر الغربى أو العكس؟ ما هو وضع مصوَّر برئ عن كل هذه الهرطقات؟

مرَّ كلُّ هذا بذهنى فى جزءٍ يسير من الثانية وأنا أتنقَّلُ من جمالٍ إلى جمال، وأتنسمُ لوحةً من أفريقيا، آسيا، أمريكا اللآتينية، أو من جزيرة العرب. غير أنَّك لا تحتاج إلى إمعانِ نظرٍ كى تدرك أنَّ هذا المكان يمثل ساحة حربٍ حقيقية وشاملة على القبح والكآبة التى يُخَلِفُها جور الإنسان على أخيه الإنسان.

مِلتُ إلى اليمين من المكان الذى أقف فيه، ثمَّ اتجهتُ إلى الجهة الشرقية من المعرض. حيثُ على بُعدِ عشرةٍ من الأمتار يترآى لى وجهٌ أسمرٌ على صورةٍ من الصور. قلتُ إذاً فالجنوب حضورٌ هنا فى هذا الجمال. نظرتُ من حولِ الصورةِ عَلِّى أجد ما يعزز هذه الفكرة. أرجعتُ البصرَ إلى الصورةِ، فأجدنى أشعرُ بالإنتماء. نظرتُ ثانيةً وتقدَّمتُ خطوةً، فالوجهُ ليس من كلِّ الجنوب، بل من أفريقيا، فازدَّتُ إنتماءاً. كلما أتقدمُ نحو الصورةِ أزدادُ انتماءاً. فالصورةُ ليستْ من كلِّ أفريقيا، بل من السودان، من أُمدرمان، فَمَارَ فى دمى نشيد العلم. فالصورةُ منِّى وأنا منها، وكلانا من بضعِ البستان، فامتلأتُ بنشيدِ الحياة.

اللهُ يا آيةَ مَجْمَعِ البَحْرَيْن، يا تُحْفَتَنا الصامدة ابداً فى الحربِ على الطَّمْسِ و المُسُوخ. ها أنتِ تَتَبَيَّنينَ هاهنا فى إطارِ لوحةٍ مستطيلةٌ، وتُحاربين القبحَ من كلِّ البرازخ. ماذا تستفيدين مِنْ كوْنِكِ مَلِكَةَ جمال العالم، وأنتِ بالعالم الآخر أو فى آخرِ العالم؟ لماذا كلُّ هذا الإستدراج؟ هل تريديننى أنْ أقطع عصاى لِأَقفَ بجوار لوحة أزبُّ عنها الحسَيينَ لتزبَّ عنى الحنين؟ هل تريدينَ منِّى أنْ أملأَ عَيْنَىَّ مِنكِ لتعْمَى عمَّا سِواك؟ هل هذا عَدْلاً؟

وبدأَ الزوَّارُ يتقاطرون وكلُّ واحدٍ منهم يدفعه إلى هذا المكان دافعٌ من الدوافع. وامتلأَ دفتر التعليقات عند أسفل الصورةِ بعباراتٍ شتَّى، من نَّحوِ: صاعقة الحسن، يا لِعظمِ القداسة، وهوىْ يا ليلى. وآية، كأنَّها فتاةٌ جبليةٌ فى يومٍ ماطر، تُفيضُ بالوضاءةِ. ويتصدقُ وجهُها الغنىُّ بإبتسامةٍ مُسْرِفةٍ للمَدَى.

تمَّتْ.
______
منشورة بمنتديات أُخرى.
 
التعديل الأخير:
أعلى أسفل