سِيرة الفوضى( فصل من رواية ظل الفوضى)

دهب تلبو

:: كاتب نشـــط::
الى جوزفين الحقيقة

جوزفين بيتر لاكو الفتية بنت بورتسودان

بنت الشتات والتشظي وهي تصعد بالأمس -السادس من يوليو- بالضفة الاخرى طازجة البهاء

إليها …وهي القائلة " ربي امنحني القوة لأقبل تلك الامور التي لا يمكنني تغييرها"

بالامس كان القبول يا جوزفا …

بالامس هزمتِ مكيدة الموت!؛

ولا عزاء لنا -نحن أبناء الانكسار- سوى هذه الكلمات "الماسخة"


وَبَيْنَما يَغَيِّبُ الْآتِيُّ فِي شِفَاه اللَّحَظَةِ اللَّدْنَةِ،

تَغَيِّبُ الْمَتَاهَاتُ فِي الْمَتَاهَاتِ.

تَتَجْلى الْخَطِيئَةِ الْعَبْلَةَ مع ارْتِجْافِ فَرَائِصِ الزَّمَنِ

حِينَ يَلُفَّ الْخَرَابُ جنائن الْأَوْدِيَةَ الْهَشَّةَ برُدنِ عَبَاءتَهُ؛

تَتَطَايَرُ دَعَّابَاتُ أَطِفَالِهَا مَعَ صَيْحَاتِ الْوَغَى.

قَبِيلُ هُبُوطِ قَذِيفَةِ الِ أَرَّ بِي جِي عَلَى خَاصِرَةِ الْقَرِيَّةِ بِحَرِيقٍ.

تَنِزُّ الْبَشَاعَةُ مِنْ مَنْدِيل الْوُجُوهِ المتحرّقة.

يَنِزُّ الْمَوْتُ الصَّافِي؛

يَتَرَقْرَقُ؛

كَمَا يَتَرَقْرَقُ شُعَاعٌ مَهْزُومٌ مِنْ ضُحَّى الْمَكِيدَةُ.

إِذْ لَا يُبَيِّنُ لِلْغُيَّبِ وَجْهٌ.

في خِضَمّ التَّزَاحُمِ الْوَجِلِ؛- دَاخَلَ مُرَجَّلِ الْأَحْدَاثِ-،

هُنَا تَرَوِّي السَّلَاَمَةِ؛ حَيْثُ حِصْن الْمَدِينَةِ.

حَيْثُ الْخَيَالِ.

هُنَا الْفَضِيحَةَ، وَلَا غَرْوُ؛ مَقَرّ مِهْرَجَان الذُّعَرِ؛

وَاللَّيَالِي الْخَائِفَةُ مِنْ تِكَّة عَابِرَةٍ لِزِنَادِ مُتْخَم بِالرَّصَاصِ؛

خَائِفَةٌ مِنْ هَشَاشَة الرِّمَالِ.

فَلَيْسَ لِلْفَضِيحَةِ مَرْسَىٌ، أَوْ مُبْتَدَأٌ،

إِنّهَا هَكَذَا؛

فَضِيحَةٌ

تلبو
 

المرفقات

  • IMG_0373.JPG
    IMG_0373.JPG
    127.1 KB · المشاهدات: 1


  • (1)

  • منسيٌ القوافل

    أيتها الروح الشقية شقاء أسمال الفقراء،أنفضي عنكِ وعثاء السهاد ثم غيبِي في هذا البحر الطافح ألم وأمل، هذا المتحرر من التضاد والذي يقبل كل قاصدٍ له ، ليس مثل صحراء الثنائيات التي قتلكِ تيهها منذ صرخة ميلاد جسدكِ المنهك،أصيخي السمع للريح الطرية فالرياح هي صوت الإله وقطار الشدو لناي القصب لذلك يحبها العشاق من رعاة قرية "دقريس".
    أيتها الروح المشبعة بالأحاسيس الرطبة مثل مدن السواحل ادخلي هذه اللُجة الرائقة ففيها تتفتح الزنابق إلى جوار الزهرات السْامة وترقص جميع الحيتان جنباً إلى جنب،بعيد عن هواجس الافتراس أو التطفل،قبل التعنت اسألي نفسكِ هذا السؤال المباح " هل في ألأرض من استطاع أن يجني ما جنته أرواح الرعاة من سعادة؟.
    وقبل الحيرة سأهديكِ الإجابة التي تأتي بالنفي الصارخ، فقط لأنها متحررة دائماً وطليقة مثل رياح الشتاء ، أرواح الرعاة هدايا خاصة للمروج السندسية ، يضربُ الراعي من وراء قطيعه قيثارة الرحابة التي تعيش فيها روحه فتتناغم الحياة بقتل الأنانية داخل التجانس الأبدي.
    التضاد سيقتلكِ أيتها الروح المهترئة ، سيهرق ماء حياتكِ في رمالِ الضجر العطِشة لو لم تبعدي عن المتقابلات ذات فضاء الاحتمال الفردي ليل/نهار، نار/ماء ، حب/كُره ، أمل/يأس ، رجل/ امرأة كل واحد ينفي الأخر في تناطح أبدي! ، ليس هناك مزيدا من الحلم في البقعة التي تتشبثين بها بمخالب القُراد طيري يا صريعة السهاد المخاتل فإن البرغوث سينمو و لو بين شقي عود يابس إذا ما أمن الحياة ، هذا الكوكب شاخ وخارت قواه التي أهلكها الزيف وأجهزت عليها تخمة دخان المصانع التي لا تصنع سوى الفقر.
    آه من سبر غور الشعارات الزائفة ، آه من صدمة النفاق الفج ، سنون كثيرة مرت يا كرامة ، سنون فعلت بك ما سوف لن تفعله جهنم بابي لهب ، سنون ملأتك بالزوابع التافهة رمتك في لُجج الأحقاد وحضيض تفاهة الإنسان ، سنون عملت على قتل كل قيمك العليا منها والدنيا لترميك في العراء خِرقة بالية من لحم ودم ، نهبت جميع أشياءك الثمينة لترسلها إلى عوالمها الغائرة في غياهب الغياب ثم مِن حقدها تضن عليك حتى بالموت! ، ست وتسعون سنة هربت بك إلى أراضٍ غريبة ، بحور من الفوضى وسحب لانهائية من الزيف والانكسارات تجترها بألم وأنت تغوص في حمم براكين الظلال ، انه الشقاء الأبدي يا حسين ، الشقاء الذي لا شقاء بعده ، ذق المرارة أبداً يا من نستك قوافل الأجيال ، قلبك النابض بآلام النكبات وقداسة بريق العابرين لم يمل العذاب وثرثرة الدماء الفجة تحت سيسبان وتينه وأرجلك الحافية مثل سنبلة ذرة أدمنتا الطواف التائه ، عيناك اللتان خبأ بريقهما مازالتا تحدقان بفضول عين المصابيح على وجوه الأمنيات ، حتى رئتك المتكورة دوما مثل مشرد مازالت تراود الهواء المنتن لتثير زوابع الأوكسجين في الصدر المتهالك مثل خيام المخيمات،الرأس الهرمة والبطن المتقيحة،الأسنان المتآكلة،الشيء الغائب في وحل الرخو ،لقد مللتُ من اللامبالاة والتشتت في صحراء الأفعال التي لا تنتهي،التفكير،الأكل،الجنس،ابتسامات السوس،الذكريات،إنها دوامة لانهائية لشيطان حاقد ، ترعاها أيام عابثة بهزل إله معتوه ، تسعون نكبة تخطتها ستٍ سادرات في غي التواريخ الفوضوية ، أيتها الشفاه المثقلة بالقُبل المبتذلة ألفظي كلمتك الأخيرة التي تريحني،كل ما أريده أن أستكين الى فضاء العدم المريح ، مللت دورة الأيام السخيفة،تكرار الزوابع ، الحرور ومتماثلات المطر،الآن أيتها السفينة المتهالكة ضُمي الأشرعة وأوقفي التجديف فقد ظللتِ لستٍ وتسعين حولٌ تطوفين حول الهباء ، اللاشيء ، طواف عبثي حول الأكاذيب الكبيرة ، الفضيلة،النقاء، الثورة،السؤدد ، العدل، متعة الجنس ثم كذبة المواطنة المتساوية لتقبضي ثمن تلك الرحلة الطويلة ألم دامي! و رغم ذلك لم تضمي الأشرعة!، حرري جسدكِ من لعنة الموج وكيد الحوت ، حرريه من مكر التماسيح وبلادة الإخطبوطات ، اهربي إلى الشاطئ لتدسي أرجلكِ- الكسيحة- في رماله الباردة،اهربي إلى فضاء اليابسة إلي الرحابة ، إلى الزهور والحقول ، اهربي إلى السكون الأبدي والخلود.

    تلبو
 
(2)
كُنْه الأشياء




  • هاهي الأشياء تتكشف لتظهر على حقيقتها ، تتلوى مثل حية رقطاء وهي تتملص من ثياب الخيانة ، مثل شجرة تبلدي عتيقة تمارس إرشاء الصيف بوريقاتها اليابسة ، تظهر بكامل مشاعرها ، التوق ، الوجد والحنين ، تنشر الحبيبة على حبل الغسيل لتتلألأ مثل ثوب ناصع غُسل بالثلج ، وجوه الحبيبات رهيبة جداً ، خاصة ؛ إذا ما عرتك الأيام أمامها وفضحت عجزك لتتبين مدى المأساة ، فها أنا ذا مثل سُنبر قاسي عند نهاية موسم الإمطار أتركها ، أرحل بعيدا عنها وظلال السُنط ، بعيدا عن عواء "جريبيس" وزغاريد البنيات البهيات كما النوّار وذلك هو ثمن التعهد المستقبلي!.
    عندما اقسمنا على ميثاق "قولو( *) تعهدنا ببذل أرواحنا فداء للقضية وأجسادنا مطية للثورة المقدسة التي سوف تزيل شجيرات التهميش الشوكية وتعزق أعشاب التمييز الطفيلية،ثورة لزراعة أزهار العدالة الجميلة وطرح خبز المساواة المقمّر مثل وجوه عرائس النيل،كانت الغيوم ترحل هي الأخرى تاركة ذكرياتها على أوراق الشجر وأعشاش طيور ودأبرق ،عندما يرحل المطر مجرجراً سحب هزيمته النكراء تستمتع السماء بصفاء وجهها وتبتهج نجوم الثريا في سمرها الليلي البهيج ولكني لم أنل من ذلك شيء فقد رحلت أنا الأخر على مضض نحو الصحراء الكبرى قاصدا تخومها الجنوبية،لقد أقسمنا أن نلبي النداء "براً وبحراً وجواً" لذلك تركتها رغم سُخام وجهها،برق ثغرها ووضاءة الجبين ، لم أكن لأدري إن تعنتها كان اصدق من وعودي التي كنت اخفف بها ألم البتر"سوف لن يطول الغياب يا إكليلي المضفور من العاج الأسود،ستعانق أرجل طيور الرحو قمم أشجار العرد يوماً طالما أن السماء لم تعلن إفلاسها المائي،وبمثل ذلك المهرجان الماطر سنقبض فراشات اللحظة في بستان الحضور المزهر ، خذي هذا الوعد وأعطيني الرحيل.
    كانت تقف مثل ملكة على باحة منزلنا السعيد ، يزينها فستان مخصّر وطرحة "كريشة" تتدلى على صدرها الناهد ، القرية كلها احتشدت في مهرجان غير معلن فأسرة الشيخ كرامة تودع ابنها الذاهب إلى "بلاد الاغتراب" وذلك حدث جدير بالجمهرة وبذل الدموع المجانية من نساء القرية اللواتي يؤمن بأن الفُرقة حارة لذلك يجب تبريدها ببعض الدموع. وصايا من نساء ظللن ينتظرن لعقود رجال لن يعودوا قط واستجداء عودة من شيوخ يلاطفون الأيام كي تمكنهم من إلقاء نظرة أخيرة على أبنائهم الذين خطفتهم بلاد الجماهير إلى الأبد.
    من البعد كنت ألوّح لها بيدي الرجاء صارخا بصمت "أوقفِ شلال المقل هذا كي يتسنى لي الهرب من المهرجان،اتركيني لأرحل واقبضِ الميثاق.
    لم تنفك مني تلك الصورة وأنا على ظهر لوري النيسان ذو براميل المياه ، الصحراء لجوجة تلفح الوجوه بأتربتها الملعونة بينما اللوري الفحل يشقها مثل عريس في ليلته الأولى والقلب مازال معلق بخيط الحنين على جذوع أشجار العرديب ، كان سائق اللوري الضجِر ينبه دائماً على عدم الاقتراب من براميل الماء مهددا بأنه سوف يرمي بكل من يخالف أوامره على تلال الصحراء الوهمية ثم يبشر"سنكون بعيد أيام هناك وستشربون ما لذ وطاب" ما لم يدر بخلد السائق من المشروبات هو ذلك الذي كنت أغرق في بحوره ، لقد كان تحدي فعلي لرجل لم تتخطى أرجله بلاد النيل قيد أنملة،التساؤلات تضج في الرأس وكأنها ليلة مولد،كيف سيكون المقام الجديد؟ من هم ناسه؟ ، كيف سأتعامل معهم؟ في الحقيقة كنت أعلم أن اختيار قيادة الثورة لشخصي رئيس على الطاقم لم يكن موقف فالمنطق يقول باختيار رجل له خبرة ببلاد الآخرين ولكن هي أشياءنا اللزجة التي كنت اجهل كُنُنهها ، "سأتعلم من الأيام" هكذا برروا وقد صدقوا ، فألايام فقط هي من أعلمني بحقيقة أشيائي ودائما بقيت خير معلم.
    العوينات ، جبال اركنو ،الكفرة أرض الميلاد الجديد ورمي شكوك الهلاك جانبا ، ثم مدن كثيرة قبل أن نعانق ثغر المتوسط الباسم والعلم البارز ، طرابلس الغرب ذات البهاء.
    بدأت راحلة الحياة الجديدة تقلع ببطء وكثير دخانِ حنين ، تماما كما لواري أسوق القرى الأسبوعية المتجهة الى المدينة ، غير أبهة بعجرفة البدو وتملق فقراء التبو المقهورين ، في ليالي المنفى الأولى ظللت أتذكر كل شيء وكأني أواسي النفس بالذكريات ، اقلب الأحداث تارة بتأنيٍ ودودٍ وأخرى بذهولٍ شَقِفٍ ، ثم بحقد وسماجة أيضا،كثير ما كنت أغيب كليا في مقرن النيلين لأبدأ الإبحار عكس مجرى الأزرق الدافق طلبا للرفاق في غرفتهم العلوية،مشوش بالحنين ومشوب بآلام كثيرة وأماني كبيرة لا أعرف مبتدأها ولا أين تكمن مفاتيح تحقيقها لكني مؤمن بأنهم يستطيعون فك طلاسمها لذلك أستحضرهم ، الصادق هامش،النذير،عثمان ، محمود أنبياء الفكر وأولياء الحقائق ، إليهم اشكي غلواء البعاد وبهم استهين السهاد.
    "سنحقق مبتغانا ونحرر الوطن من كذب اللحى" كنت اكرر ذلك الوعد المقدس مرارا وأدعمه بالحلفان أبدا،فقد أقسمنا بالله والجدود العظماء على قمة الجبل المعظم ، على شفى شلال قولو الذي يجري ما جرت الحياة أن نرد للمعلم اعتباره وللوطن الحقيقة ، فما تركه فينا المعلم من إيمان لا تستطيع كل صعاب الدنيا أن تمحيه من القلب بل ذلك الشيء تشربته الدماء.
    فقط هو وصوت الحبيبة الدافئ يجعلان القلب مشرئب ، انفراج مبسمها الذي كدفق الحليب في سُخام قِدر ، تلك الومضة تجعل كل الطغاة يولون الأدبار ، سيكون ذلك اليوم غريبا وعصيبا عليهم جميعا كيوم الحساب ، وهو كذلك يوم حساب واقتصاص وهوى في سعير الفناء الذي قادوا إليه التقي النقي.
    أتوحد مع ذاتي عندما يصل التعمق إلى فضاء الانتصار لأبقى هناك طويل بين جنان العدالة مما حدا بالكثيرين ممن هم حولي الذهاب الى التأويل باني ممسوس وقد تطوع احدهم - كان فيما يبدو مصاب لدرجة ما بهوس المصطلحات- بالتحليل العميق لحالتي ليخرج بما اسماه"داء العزلة". كان شعورا غريبا ذلك الذي عشته وقتها ، خليط من الحزن والأسى والهيام ، نوبات من مرض الإيمان الزائد وهوس الانتصار، فتحنا المكتب بطرابلس بعد أن كتبنا على لافتته الخشبية "مكتب حركة/جيش تحرير السودان" ثم شرعنا في العمل،كانت التعليمات قاسية جداً ، تأمرنا بوضوح بالانخراط في العمل لتحمّل نفقات إعاشتنا "لا يجوز للمناضل أن يتلقى اجر ثمن لتضحيته من اجل قضية يؤمن بها" تفرقنا أيدي سبأ في طلب لقمة العيش وتأثيث المكتب الخالي ، كانت المدينة ارض حشر بغير موازين،تعج بالغرباء مثل بيت النمل ولكن رغم ذلك كان المشهد العام للسوق وطنيا أكثر من أسواق وسط البلاد التي نبذتنا،وجدت فيه كل رفاق الصبا والسابقين وسابق السابقين في ترتيب السنين ،فلم تضع وصايا أهل القرية سُداً كما توقعت.


  • تلبو

    _______________________________
    *قولو : اسم شلال على قمة جبل مرة غربي السودان(الناشر)
 
أعلى أسفل