سيرة قذرة ( رواية قذرة جدا جدا)

سِيْرَةٌ قَذِرَةٌ

رواية




محمّد خير عبدالله




























الفصل الأول



لكي أقتل ثرثرة أمي من خيبتي، ويبتلع أبي تهكمهُ علي، ذهبتُ إلى مقابلة مدير تحرير الصحيفة، أحمل بجيبي وصية له (يهمني أمره) كنت ألوك فيها حتى سال لُعابي، أمري لا يهم أحد، أعرف ذلك، أبي كان يتذمر على نطفته التي استقرت برحم أمي، لو كانت صادقة، أمي ماتت حنيتها بعد تخرجي من الجامعة بشهر واحد،أنا نفسي لا يُهمني أمري، أمّا البنات فقد سمعتهنّ يتمنيّن موتي، إحداهنَّ لها صدرٌ كبصقه فقير أدمن سف (الصعوط) قالت وهي تدق ذاك الصدر بيد معروقة: موتك يسرني...
غمغمتُ: لذا لن أموت لتموتي بغيظك، وبالتأكيد لعنتُها ولعنتُ سُلالتها، بنت الجيران الشبقة التي كانت محطة لحيوانات منوية لشعوب يحتار أعتى جهاز حاسوب في إحصائهم، قالت وهي تعلن شبقها حين قابلتها في طريقي، كنت سكراناً تفوح من فمي رائحة بصل وخمر وطني رخيص، بتلك الحال راودتها عن نفسها، لطمتني بتأفف: اذهب لواحدة غيري، وأخرى انفعلت حين غازلتها، وأنا لا أنوي المغازلة: أنت تحتاج لغلام وليس أنثي، أربكتني جملتها، انفعلتُ فيها، وصفتها بالكلبة وكل الحيوانات التي شاهدتها في حياتي واستقرت بدماغي، أبشع الصفات وصمتني بها تلك الفاجرة، كيف لشاب مثلي أن يراود غلام؟ خذلني لساني حين وددت أن أرد عليها: غلام كشقيقك؟ هل شاهدتني هذه الفاجرة أمشي مع أسامة جارنا؟ ربما! المهم ليلة البارحة حمل أبي عصاه غليظة كقضيبه، كما يفتخر أمام الأصدقاء، يصفه كوتد، لحظتها كنت أشفق على أمي النحيفة، وأتخيل أبي بوتده المزعوم فوقها، ولكنّي أتذكر مداولات بعض الأصدقاء عن النساء، يتفقون (المرآة النحيفة أمتع للرجل) فأحسد أبي على تمتعه بجسد أمي، بعد حديث أبي عن قضيبه صرت أتجسس عليهما حتى أسمع تأوهات أمي، لكن أبي ذاك المساء خيّرني إمّا العمل أو مغادرة البيت، طنطن ودس بجيبي الوصية التي أحملها الآن، طنطنة أبي أصابتني بأرق وعصا أبي التي لم تكن كعصا موسى قهرت أحلام ليلتي وجمعت هواجس وكوابيس واتتني في نومي، غادرت هذا الصباح البيت بأرقي وجيبي يضم وصية إلى مدير التحرير، لم أحفل بمناداة أمي لأفطر قبل خروجي، في الطريق إلى مبنى الصحيفة قلّت إحباطاتي داعبت خيالي أحلام يقظة، ممنياً نفسي أن يضحك لي الحظ، ليس كضحك صديقتي حنان حين وجدتُها بحضن ابن الجيران، كنت أُدندن بأغنية هابطة منتشياً، قابلت جارنا أُسامة المنبوذ لانحرافه الجنسي، يتمايل في مشيته، توجستُ وتشاءمتُ، انحرفت عن الطريق متعوذاً، أسرعت الخُطى، إمام مسجدنا ذكر جارنا أسامة في إحدى خُطبه بأنّه من قوم لوط، وصبّ عليه لعنات ونحن نردد خلفه آمين، قال أحد الموجودين: عقوبته أن يُرمى من أعلى مئذنة حتى يدق عنقه، بغباء تساءل أحد الحضور: مسجدنا ليس به مئذنة! هل نبني واحدة لكي نرمي منها أسامة؟
مات السؤال في فم الرجل وآذان الحضور، أبي حذرني بالابتعاد عن أسامة، حمدت الله أن أسامة لم يلحظني، سيلتصق بي أذا رآني! إنّه كملاح الويكة الذي تجيد أمي صنعه، ذات مرة ألحّ أسامة أن يمشي معي إلى السوق، رضخت وسرت معه مسرعاً متحاشياً أن يراني أحد ويخبر أبي. أمّا الآن سرعتي أبعدتني عنه، عُدتُ إلى دندنتي بصوتي الأجش، ريم التي تمنيتها في ليالي الشتاء كانت تتضايق من قبح صوتي، لعنها الله، حين اقتربتُ من مبني الصحيفة أغلقتُ فمي ومازالت أحرف الدندنة بحُنجرتي، تحسست الوصية بجيبي، إنّها الترياق الوحيد لصد سخرية أبي وعودة الحنان لصدر أمي، وصية أتى أبي بها من قريب لنا كانت له علاقة عاطفية بأمي، أبي كان يعلم ذلك، تخيلت أبي وهو يمسح من ذاكرته تلك العلاقة وهو يستكين أمامه ويتشفعه أن يبحث لي عن عمل! فدخلت قلبي شفقة لأبي، كنت حين أود إغضاب أمي أذكر لها قريبنا هذا، فتموج عروق عنقها وينزُّ جبينها عرقاً، المهم قتلتُ هذياني، أصلحتُ ياقة قميصي ونفضت تراب علق بحذائي، بللت يدي بلعابي ومسحته بها، لللعابِ فوائدٌ أخرى يهمس بها الكبار في جلسات المساء، أخرجتُ الوصية من جيبي، ضممتُ عليها أصابعي، ودخلتُ مبنى الصحيفة، وجدتُ السكرتيرة أمامي كانت تدلك شفتها السفلى بقطعة ثلج، ضحكتُ، وكدتُ أقول لها: إضافة الملح إلى الثلج يمحو الجروح، ونفسي ولجتْ عوالم أخرى، بعض الرجال لا يجيدون التقبيل، أحدهم يلتهم الشفاه وينهشها، كالذي أدمى شفاه السكرتيرة قبل دخولي عليها، وبعض الرجال يميلون إلى الرجال كجارنا أسامة، اضطربتْ السكرتيرة حين رأتني أمامها فعاجلتها بثقة ناقصة: أريد مدير التحرير. أنزلتْ يدها عن شفتها وحدقتْ بوجهي كقطٍ ابتل بماء، حدقتُ فيها أنا أيضاً، كان شعرها مبعثراً واحمرارٌ بخديها وبريق بعينيها كدت أقول لها بتهورٍ عُرفت به، لا يهمك، الجنس بالمكاتب له مذاقٌ آخر، كمذاق كوب قهوةٍ من يد مومس، لكنّي بلعتُ جُملتي، السكرتيرة، ويدها على شفتها سألتني بانزعاج: لماذا تريد مدير التحرير؟
أجبتها بجلافة مكتملة ويدي تتحسس الوصية: هو من يريدني، جُملتي هذه حيّدت موقفها العدائي وحولته إلى عاطفة، قبل أن تموت عاطفتها، عاطفة السكرتيرات كتيّار هواءٍ يمر عبر نافذة سيارةٍ مسرعة، ردتْ وقد رسمتْ بسمة مصنوعة: عنده اجتماع! سراً قلت وأنا أُحدقُ في ورمِ شفتها: إنّ الإجتماع قد انتهى قبل حضوري، زاد تحديقها وعادتْ يدها اليسرى تتحسس شفتها: اجلس حتى ينتهي الإجتماع. جلستُ على كرسي قربها متوتراً، نهضتْ السكرتيرة ودخلْت مكتب مدير التحرير، أغلقت الباب خلفها، قلت في نفسي: ألآن ستخرج بورم في مكانٍ آخر غير شفتها!
عادتْ مسرعة، وقبل جلوسها قالت لي: ادخل عليه. نمتْ بداخلي رغبة لمداعبتها فقلت مدعياً البراءة: سأدخل بعد خروج الذين يجتمع بهم سيادته!
بمكرٍ ودهاء كأنّها تعودتْ على ألاعيب أمثالي ردتْ: خرجوا عبر الباب الآخر،
قالت جملتها بامتعاض، حاولتْ مداراة امتعاضها فنهضت وعادت إلى مدير التحرير، نظرت إلى ردفها قلت لابد أنّ مدير التحرير لديه فحولة زائدة! ردف السكرتيرة كمؤخرة دجاجة بلدية انتزع ريشها، مؤخرة لا تثير رجل، نقلت بصري إلى غرفة المكتب، إمتدت يدي إلى مقعد السكرتيرة وجدته دافي يبدو أنّها أخرجت هواء من أستها قبل حضوري بثواني، خلفها آيةٌ قرآنية تحض على التقوى، وأيضاً جوارها ثلاجة تستعملها للشرب وأشياء أخرى من بينها دلك شفتها بثلجها كلما دخلتْ على مدير التحرير، عادت السكرتيرة: أنّه في انتظارك!
فتحتُ الباب ودخلت عليه، لم يرفع رأسه نحوي: تفضل اجلس، جلستُ وأنا أبتلع هيئته بنظري، له وجه كمؤخرة قرد بحديقة حيوان حكومية، شعيرات بجانبي الرأس، صلعه كصلب طفل لقيط، رفع بصره نحوي، قابلته ببسمة بلهاء، مددتُ الوصية له تناولها وهمهم: لا توجد مشكلة نحن نحتاج إليك، طاف بخيالي ارتباك السكرتيرة عند دخولي، هذا الوجه الأنثوي بجسد مدير التحرير كيف رضيت به؟ قلت في نفسي: أولاً سأنتزعها منه وأرميها بعد ذلك، أنا لا أجامل المرأة التي تهب جسدها لمن لا يستحقه، تراجعتُ، لا لن أفعل لو فعلت سأكون صديق المنكسرات وهذا ما لا أرضاه لنفسي.
نهض مدير التحرير وتبعته قال للسكرتيرة : ألحقيه بالقسم الإجتماعي.
ثم التفت نحوي: ستكون محرراً بالقسم الإجتماعي بالصحيفة.
عاد مدير التحرير إلى مكتبه وتركني مع سكرتيرته، أبعدتْ يدها عن شفتها المتورمة وهمت بالحديث، التقت عيناها بعيني، كنت أُمعن النظر في ورمِ الشفة، قالت لي كأني صديقٌ قديم: صدمت الباب عند دخولي فأحدث جرحاً.
قلتُ لها باسماً وأنا أكتم خبثي: للأبوابِ غرامٌ مع الشفاه.
بعهرٍ فاضحٍ وضحكةٍ ماكرة ردت: بالذات هذه الباب!
انفتح أمامي باب آخر لمداعبة السكرتيرة: الأحياء ليسوا وحدهم الذين يحبون الجمال!
سألتني: هل تؤمن بالشيوخ والتصوف؟
أجبتها: أنا أؤمن بكل شيء ألم يقل الشاعر:
ما جاء نبي إلا وكنتُ** سليمان من آل البيت فأتبعه
إتسعتْ حدقتاها وبان جمالهما، جمال شغلني عن تورم شفتها السفلى، انبهرتُ وعزمتُ:
هذه السكرتيرة لي، أو ماتبقى منها ليبحث مدير التحرير عن سكرتيرة أخرى، مالت نحوي السكرتيرة قائلة: يبدو أن لك علاقة بمدير التحرير، استوعبك بالقسم الإجتماعي فوراً، داعبتها ضاحكاً: علاقتي به أقوى من علاقتك معه.
ارتجف جسدها قليلاً وقالت بيديها قبل لسانها: ليست لدي علاقة معه إنها علاقة عمل فقط!
قلت لها وأنا أضمر حديثاً آخر سيأتي يومه: أريد أن أبدأ عملي الآن. ماهو المطلوب مني؟
قالت: إن هذا القسم أهم أقسام الصحيفة وهو يهتم بأخبار الناس الذين هم في القاع والذين على قمة الهرم، أخبار الزواج والطلاق والوفيات، السجون، المقاهي والأسواق، وكل ما يحدث في المجتمع، مد مدير التحرير عنقه عبر الباب، كضبٍ صحراوي، تلك اللحظة نمت بداخلي كراهية نحوه، حاول مداعبتي حين ابتسم لي قائلاً: ابدأ عملك وأريد تحقيقاً عن المقاهي والأسواق الشعبية.
ساعدته السكرتيرة وتبرعت لي بما أعلمه: اختلط بهم حتى تعرفهم.
قلت وأنا أهم بالمغادرة: سأفعل.
لحقتني السكرتيرة وقالت: أرجو أن تقابل زميلك في القسم، قبل سؤالي عن زميلي وقف أمامي شاب شاحب الوجه غائر الوجنتين ضيق الجفن صافحني، قالت السكرتيرة: هذا هو زميلك، ثم أشارت نحوي: إنّه زميلٌ جديد، تصافحنا وتبادلنا كلمات معتادة عن الجو الصحفي والإرهاق والعنت، خرجتُ من الصحيفة وقد نويت أن أغوص في المجتمعات، فقيرها الذي أنتمي إليه طبقياً _مُكرهاً_ وثريها الذي أشتهي أسلوبه، ولو شئت الدقة أشتهي أجساد فتياته، نحن الفقراء نحسب الأثرياء كائنات لها أجساد من ذهب وفضة، وتدغدغ أحلامُنا طلاوة ولين أجساد النساء الثريات، ألأصدقاء بحيّنا الطرفي، وهم فقراء الفقراء، لهم أقوال كثيرة عن الأغنياء، جميعها تجعلك تنحاز لهم أو لأجسادهم، يزعم بعضنا من أصحاب الخيال الخصب أنّ فتيات الطبقة الثرية شبقات، وأنّ أجساد الفقراء تداعب أحلامهن، في هذا المجال يتداولون قصصاً عن فقير بائس أصبح ذو مال لأنّ فتاة غنية شاهدته عارياً وأعجبت بفحولته التي دل عليها ضخامة قضيبه، وفقير آخر أصبح معبود فتيات المجتمع المخملي لرائحة إبطيه، ويقولون إنهن تحاشينه حينما أصبح يتعطر ليطرد الرائحة الزنخة لإبطيه، وأكثر الفقراء ينجذبون للسماء طمعاً في بنات الحور حين يفقدون العشم في بنات الأرض، ويشذ فقراء آخرون يحملون حقداً طبقياً يذمون الأثرياء، وهذا الحقد لم أنجُ منه أنا، كنت أقسم أمام الأصدقاء بحيّنا الفقير: سأتزوج ذات يوم بفتاة غنية، يسخر مني البعض: غنية وغبية؟
أشتط: ليس بالأغنياء غباء!!
يوافقني أحد أندادي: الأغنياء بما لديهم من مال كنزوه يختارون الفتاة الفقيرة الجميلة ويتركون القبيحات لأمثالنا من التعساء، باختصار أنهم جمعوا الحسنين الغنى والجمال.
بالجامعة عرف الجميع برغبتي في إقامة علاقة مع فتاة غنية، وهذا ما حدث، بعد محاولات عديدة، لا تخلو من الإحباطات ونفور الطالبات مني، وقد وسمنني بالملحاح وصفات أخرى أحدثت جروحاً بقلبي، من بينهن ريم العرجاء، تغزلتُ فيها ومدحتُ جمالها وأنا أعني بجمالها ثروة أبيها التاجر المرابي، رغم ذلك رفضتني. السنة الثانية بالجامعة تم مرادي وتعلقتْ بي إحداهن، رغم قول صديقي الذي اسمحوا لي أن أصفه بالصديق الحاقد: هذه ليست أنثي! إنّها مركز قومي للدمامة، بعينيها عمش، أسنانها بارزة، وأذكر أنّي عاجلته متشبثاً كغريق: لها صدرُ غزالٍ نافر!
قهقه الحاقد: هذا توهمٌ منك ياصديقي!
قلت له وأنا أخفي تبرمي: دعني بوهمي الجميل.
لم يرتدع بل واصل تبجحه: إنّها تفتح رجليها قبل أن تفتح فمها!
غمغمت بكلمات فاحشة بحق الصديق، الآن حين أتذكر حبيبتي التي كنت أغني لها:
في عيونك ضجة الشوق والهواجس..
أقر أن صديقي على حق ولم يكن حاقداً، المهم تخرجتُ من الجامعة وليس بذاكرتي حبيبة أفتخر بها، حين التحاقي بالعمل الصحفي، دغدغت مشاعري رغباتي القديمة، أقسمت سراً وأنا أقف أمام المرآة أمني نفسي: سأجد فتاة ثرية!
كنت شاباً غراً يظن أن العالم ملك يديه، يدفعني نشاط لولوج عوالم مخملية، وتخيلتُ نفسي ألتقطُ فتاة من المجتمع الراقي، وبلساني: من يمارس الجنس مع إحدى فتيات ذاك المجتمع ينتصر لطبقة الفقراء على مر التاريخ، مستعيناً بما حبتني به الطبيعة من وسامة، وما اكتسبته من معرفة هي كدٌ وفكرٌ واجتهاد، ليس أمامنا نحن الفقراء أن نغادر محطة الفقر سوى للعلم، من أراد قصراً منيفاً فعليه بالعلم، ومن أراد فتاة حسناء عليه بالعلم، ومن أرادهما معاً فعليه بالعلم، رغم أنف القائلين: (الجهل مريح) أبي يقول بحكمة دهور: (النشاط غلب الذكاء).
تقول أمي بحكمة نسائية: أسوأ شيء أن تُذعن للفقر!!
ولكن مدير التحرير الأصلع ذو خبثٍ أصيل وليس مكتسب كما علمت فيما بعد، صلعة مدير التحرير نتيجة لمرض جلدي وليست عبقرية، وإن كان يظن ذلك، ويعلن: أنا أبو الأفكار، كنت أهمس بعد جملته الغبية: إن أفكارك لها رائحة نتنة كأنّك تخرجها عبر دبرك! لكن مدير التحرير الغبي وجهني للذهاب إلى المقاهي وأماكن المهن الشعبية، يريدني أن أقضي يومي متجولاً ليخلو له الجو لينهش شفة السكرتيرة المسكينة، نعم مسكينة، سآخذها منه، كدتُ في تلك الساعة أرفض العمل بالقسم الإجتماعي ولكن زميلي همس في أذني: هكذا مهنة المتاعب، ولو لديك ميول أدبية فنعم الإختيار، لأنّك ستجد بالمقاهي مادة تصلح لكتابة أدبية، وأنصحك أن تبدأ بالمقهي الكبير، أنا واثق ستجد مواد تفرح مدير التحرير وترفع أسهمك!
قبلتُ نصيحة زميلي. خرجتُ ذات مساء أحمل أدواتي الصحفية متوجهاً إلى المقهى الكبير بقلب مدينة الخرطوم، أجتر معلومات عنه تبرع لي بها الزميل المذكور، بمكان قصي جلست وطفقت أنظر وأُسجل بذاكرتي، هذا المقهى بمقاعده المتآكلة التي فقدتْ رونقها القديم، تساقط الطلاء عن حوافها وثقوب تقاسمت أرضيتها، شجيرات المقهى الشاحبة بحزن لاقتلاعها من مكانها الأصلي وسجنها بهذا المكان، إحدى هذه الشجيرات الأكثر شحوباً، أتوا بها من بلاد يموت من الحر قملها، و شجيرة أخرى رغم نحافتها تطاولت نحو السماء تبحث عن هواء نقي يشفي اصفرار أوراقها، وعمال المقهى خاصمتهم النظافة، سحنتهم المتباينة تخبرك عن أصولهم الريفية وقبائلهم، وبعضهم ينتمي لدول الجوار، يرتاد المقهى الكبير أصناف شتى من البشر ألوان لا تجمعها دولة واحدهة بأرضها، سحنات أفريقية وعربية وآسيوية وبعضهم لا عربي ولا أفريقي، تجد فيهم العاطل عن العمل والمتعطل والعامل، المتعلم والجاهل، رجال كهول وشباب، يأتي من الرجال الذي لفظته المكاتب الحكومية، أثر انقلابات عسكرية أرادتْ تطهير الخدمة الوطنية من المتلاعبين، يأتي إلى المقهى لعله يجد من ينفث فيه غيظه والظلم الذي حاق به، ومنهم الذي يعمل بشركات وآخرين يمتهنون مهن حرة، كما يطلق على المهن الطارئة، وهي عكس ذلك، أيضاً يَعبر أبناء الشمس وبناتها المقهى الكبير يلتقطون ما يتساقط من الطاولات، مقابل صفعة بالخد أو ركلة على الظهر بأرجل العاملين المتسخة. ويشيعونهم بصفات حيوانية، وتأتي إلى المقهى الكبير بعض الفتيات، فتيات تمردنّ على المجتمع، رائدات تغيير كما يُطلق عليهن، إذا تفحصتهن أدركتَ أنّ التغيير شمل حديثهن الذي تمتط حروفه، تحس بالحروف تخرج من بين شفاهن الملساء اللامعة كأنّها تعطرت للتو، وملابسهن القصيرة التي تشف لتبرز أجساداً تحمل نهوداً ضامرات، يقول أبي بحكمة كهول: إذا زاد علم المرأة نقص فستانها.
يصر بعض السفهاء أنّ النهود المشربة لأعلى تدل على سهولة التقاط صاحبتها، معظم بائعات الهوى كانت لهنّ نهود مشرئبة، قبل عبث الأيادي بها. سكرتيرة مدير التحرير مكتنزة الصدر يبدو أنّه كان يرضعهما، الشابات اللائي يترددن على المقهى الكبير يحملن نهود كوجه محامي عجوز. وبالتأكيد يوجد بهذا المقهى عدد من المثقفين والصحفيين والكتاب، وتحديداً بالأمسيات حيث يجتمعون، يحملون رهق النهار الخرطومي الحار، ينفثون أمراضهم المسماة نقاشات، يتجادلون ويطلقون الأوصاف على بعضهم. بحس صحفي أيقنت من صدق زميلي، هنا توجد مواضيع جاهزة للعمل الصحفي،جلست كقط خلوي شم رائحة عدؤه التقليدي أراقب وأتصنت وأسجل بمفكرتي. أوليت اهتماما بشلة المثقفين، وتناسيت صرخات أمي: ياولدي لو تريد رضائي أبتعد عن السخانين!!
وهي تقصد الكتاب، ذلك صبيحة أحد العطلات ذهب معي إلى البيت كاتب شاب، يحمل حقيبة جلدية شخبطها برسومات منفرة، يرتدي أسمال من قماش ردي الصنع، رائحة فمه تجلب الصقر كما نقول في أمثالنا، أسنانه مصفرة يرمي التمباك كيفما أتفق، قرب الزير، تحت العنقريب، امتعضت أمي وسألتني: ماذا يعمل صاحبك؟
قلت لها بفرح حقيقي: كاتب!!
لم تفهم، حاولت أن أشرح لها:
:أنه شاب معروف ومهم واسمه وصورته على الصحف، وأفردت صفحة الصحيفة لتشاهد أمي صورة صديقي..
دقت صدرها مندهشة،" أمي تومن أيماناً كاثوليكي أن الذين ترى صورهم بالصحف موتى فقط، فكثيراً ما زرفت دموعاً على صور جميلة لأطفال بالصحيفة..
: مسكين مات صغير!
مهما أحاول أن أقنعها أن الصحف لا تنشر صور الموتى فقط، لا تصدقني، الآن أجد الصدق في موقف أمي من المثقفين، كلما تعرفت على أحدهم، نط حديث أبي: الفقر يعدي كالأمراض، وتذكرت زفرات أمي التي تطلقها كلما جاءت سيرة الثقافة بفمي، وسخانين ومعفنين، لكن رغم عفانتهم تنجذب نحوهم الفتيات، حبيبتي ريم العرجاء العمشاء رأيتها ذات مرة مع أحدهم أنا أوسم منه، رواسب كثيرة نمت مقتي نحو الكتاب والمثقفين، زميلي بالصحيفة يلح
- بالمقهي الكبير أهتم بشلة المثقفين، أنهم عبارة عن تجمع لعادات متنافرة، وسلوكيات فيها المنحط ومنها الرفيع، ستجد أنيق المظهر ونتن الجوهر، وستجد من يتخذ الثقافة وسيلة للتكسب، أنهم يتفوهون بكلمات مطلسمة..
ختم زميلي حديثة بجملة
- أمّا المثقفات أحذرك بالابتعاد عنهن!
قلت له وقد اتسعت حدقتا عيني
- كيف أعرف المثقفات؟
وضع يده على كتفي
- نحيفات كأمنية فقير، بائسات كزرع خاصمته الأمطار، أمّا رائحتهن كرائحة فيل مات قبل أسبوع!!
قاطعته
- تتحدث عن المثقفات؟
رد
- ليس لهن من الثقافة سوي الجسد المبذول لكل طارق، وبرؤؤسهن عناوين كتب وأسماء كتاب.
ضحكت من موقف زميلي من المثقفين، أنه يشبهني، وينتمي إلى حزب أمي، كدت أسأله
- هل كانت لك علاقة مع أحدى المثقفات؟
كتمت سؤالي وخرجت، في اليوم التالي جئت إلى المقهى الكبير، ذهني يضج بتصورات هلامية زرعها حديث زميلي ومشاهداتي ليلة أمس، وصلت المقهى مساء يوم ماطر، الأمطار تكسو الدنيا جمالاً ولكنها تمنح الخرطوم قبحاً أو تكشف عورتها، وهي على كل حال عورة يشمئز منها الانسان، كعورة حواء العاهرة بحينا، كانت سمينة كبغل تجلس على مقعد منخفض فاتحة رجليها نذهب لها ونحن في بداية المراهقة متسللين من المدرسة، نقف أمامها طابورا متوتر تجذب احدنا وتدخله بين رجليها وتهزه مرة أو أكثر وتستلم منه ثمن المضاجعة الغريبة، كذلك تفعل بالآخرين، نخرج منها وقد فقدنا ثمن الإفطار ونفتخر إننا مارسنا الجنس مع حواء ونتطاول في الكذب عن ضيق فتحتها وتأوهاتها ونحن نمتطيها، وبعض الأشقياء منا يدخلون خلف جارنا أسامة ويخرجون متوترين، هولاء كنا نلعنهم ونبتعد منهم. كانت أرضية المقهى مغطاة بمياه الأمطار وقد خلطت بمخلفات الطعام وعرق العمال. وقفت خارج سور سجلت بذاكرتي ملامح المقهى سحنات رواده، عدت إلى الصحيفة، وجدت مكتب السكرتيرة خالي منها، قلت في نفسي: شفتها الآن تحت رحمة مدير التحرير، اجتاحتني رغبة انتظارها بمكتبها حتى تخرج، وأضايقها كما ضايقت حبيبتي ريم ذات مكر، قابلتها ذات مساء وكنت أقود عربة أبي في طريق اشتهر بفتيات الليل وبائعات الهوى، أوقفت العربة ونادينها ببراءة. ريم..ريم.. أجلستها بجانبي في العربة، قالت لي كاذبة ذاهبة لقريبتي بحي (...) ذكرت حياً قصياً، قلت لها أنا على استعداد أن اوصلك لقريبتك وأعيدك! قد العربة بتمهل حتى وصلنا منزل قريبتها المزعوم وانتظرتها ساعات، ثم أعدتها إلى بيتهم، بهذه الطريقة أضعت عليها موعداً مع حبيب غيري! أذن ساضايق السكرتيرة وأبعدها عن انتهازية مدير التحرير، جلست أحمل أوراقي أتصفح فيها، جاء زميلي، صافحني وطلب مني الدخول إلى مكاتب القسم الاجتماعي، قلت له:
- أود مقابلة السكرتيرة!
تبسم قائلا:
- إنها في إجازة
نهضت وغادرت مبني الصحيفة وبرأسي أتساءل:
- ارتاحت شفاه السكرتيرة، كيف يقضي مدير التحرير يومه بغيابها؟ أنه لا يعمل أي شي سوي رضع الشفاه.
بعد يومين جئت إلى المقهى الكبير واتخذت لي مكاناً قصياً، أتجول بناظري في وجوه الرواد، كنت كل ساعة اطلب كوب قهوة أو شائي، هذه الطلبات الكثيرة ربطتني بنادل المقهى، ولي أن أقول نشأت بيننا علاقة، وهو شاب اريتري يتكلم العربية بطريقة مخنثة، يخلطها بلغات أوربية وافريقية، وحيناً يتكلم العربية كأنه حفيد سيبوبه. أمدني ذاك الشاب بما أوده من معلومات عن تاريخ المقهى وتاريخ اريتريا، اخبرني أنهم يقتلون السارق حصباً بالحجارة في الميادين العامة، سألته:
- كيف تعاقبون المثليين؟
برهة رأيت اندهاشا يعلن عن نفسه بجبينه،
- ليس عندنا مثليون!!
صرنا أنا والنادل الاريتري صديقين، كذلك استطعت خلال أيام إقامة علاقة مودة مع شلة المثقفين، كل يوم أتأكد من صدق زميلي وموقف أمي منهم، برؤؤسهم تصورات هلامية عن الكون، القملة عندهم جبل والجبل قملة، يتجادلون في اللاشي، يهربون من احباطاتهم نحو زجاجة خمر وكلمة نابية بحق الحكام،يفترسون أعراض الناس وينسجون علاقات متوهمة مع النساء، يتحدث احدهم عن ليلة قضاها مع فتاة كأنه قاتل مع خالد بن الوليد. أول الحضور من شلة المثقفين، الشاب سليمان السمجان،، أقول شاب تلطفاً مني، فهو في العقد الرابع من عمره، بين القصر والطول، أسمر اللون، ضيق الجفن، "كل ضيق الجفن نجيب يقولون" ولكن سليمان باتفاق الجميع غبي، بعينيه احمرار، تقول أمي بحماس يشاركها فيه كل السودانيين
- العين الحمراء دليل شجاعة،
أسالها بمكر:
- كيف انتصر الانجليز باخضرار عيونهم على جدودنا؟
ترد بيقين يغيظني
- الله أراد ذلك!
فلنعد إلى سليمان وندع أمي تجتر تاريخاً متوهماً، برأس سليمان شيب تمرد على محاولات الإخفاء، كلما صب سليمان على شعره صبغة أطلت شعيرات بيضاء، سليمان يبغض اثنين بياض الشعر والنادل الاريتري، يأتي إلى المقهى مبكراً، قبل مغيب الشمس، يحمل حقيبة على ظهره، حقيبة مليئة بكتب سياسية، وبصدره موامرات صغيرة يرتكبها، نتيجتها قهقهات يطلقها الأصدقاء، يسير بخطوات موزونة، يطأ الأرض برفق. ينتمي لدولة مجاورة يفاخر بها، فخر يخفي به هواجس تنتابه، حين وصوله إلى المقهى يمسح الحاضرين متفحصاً، ويعيد بصره إلى أرضية المقهى، أرضية أسمنتية حفرت عليها الأقدام حفراً فصارت كرأس صحفي أصلع، كما وصفها احد الرواد "الان حين أنظر لوجهي بالمرآة تدهشني بلاغة الوصف"، لو تمعنت في وجه سليمان لحظة حضوره لشاهدت هواجس تكاد تطل منه، وقابلتك تعابير لاتفسر على جبينه، يرمي تحيته بصوت هامس على من سبقه، ويجلس على كرسي ملتصقاً بالحائط، يقول ضاحكاً
- علمتني الحياة أن أعطي ظهري لحائط سميك..
يدخل يده في جيبه ويخرج ثمن كوب القهوة، ليس بخلاً بل حرصاً، ويذهب للنادل" نادل آخر غير الاريتري" ويعود يحمل قهوته، قبل أن يرشف منها يتلفت يمسح المقهى بعيني صقر، عينين عليهما خبث أشتهر به، يدنو بشفته نحو الكوب، تسبقه ضحكته القصيرة الخفيضة، يقطعها سماعه كلمة
"السلام عليكم"
يرميه بها الطويل الأهبل، هذه صفته،اسمه ادم، على جسده بنطال جنز رمادي صار لونه أسوداً به ثقوب بالخلف، يقول سليمان أنها نتيجة ما يطلقه دبر آدم من غازات، بجيب قميص آدم صندوق سجائر وطني، وهي الوحيدة التي تدل على وطنيته، كما يقول عن نفسه في لحظة ضيق، وهو شخص في العقد الخامس من العمر قضي نصفها في نضال، مع حزب عقائدي، أراد الحزب أن يجعل منه شاعراً، أمر احد منسوبيه من النقاد أن يكتب دراسات نقدية عن قصائد ادم، وهي قصائد قد حشاها بمفردات النضال وزخرفها بمفردات عاطفية يجزب بها قلوب الشابات، تقول معلومات تحصلت عليها، ليس بحياة آدم امرأة، كان حين يشاهد فتاة يتلوي جسده من الفرح كحرباء،
يقول سليمان
- حين يحلم آدم يحلم بولد إبليس وليس ابنته
.يرد سليمان السجمان على ادم تحيته بضيق وتبرم
- أهلاً
قبل تبادل الكلمات بينهما، يأتي حسين، شخص قصير كوتد، بوجهه وسامة، داخل جمجمة حسين ربع عقل، كما يقول الحضور، ولكنه يستعمله بطاقته القصوى، يعمل بصحيفة لا يقرأها احد، تسخر الشلة وتتهكم بقولهم:
- تطبع ألف نسخة ومرتجعها ألف وخمسمائة..
بالجامعة أراد حسين أن ينضم لحزب يوصم بالإلحاد، طمعاً في بنات الحزب، لكنه ألتحق بحزب شمالي ألهوي، دائماً يأتي حسين مصطحباً فتاه، وعلي ظهره حقيبة، ينشرح ادم لحضور حسين، تأكد لنا في ما بعد أن ضحكة آدم للفتاة وليست لحضور حسين، يكسو وجه آدم بسمة يمقتها سليمان الذي يقول عن ادم:
- انه يشبه الحمار حين يبتسم..
يصافح حسين سليمان وآدم، يضع حقيبته بجواره ثم يجلس، أما الفتاة فتصافحهما وتمد يدها تقطف ورقة من شجرة قربها وتغادر المقهى، في هذه اللحظة يري حسين القاص الباهت يأتي نحوهم، فيتعوذ مهمهماً، همهمة حسين تجعل سليمان وادم ينقلان نظرهما، فيشاهدان القاص الباهت، يصيح ادم –الباهت جاء!
القاص الباهت لا نعرف له أسماً، ينادونه بالباهت، نحيف كقشة صحراوية وجهه خالي عن تعبير، لا تعرفه فرح أم حزين، يضحك كديك خصي، يحب النميمة، يقولون..
- لو كان وحده لنم عن نفسه!!
علاقة الباهت مع البنات اختصرها أحد رواد المقهى..
- صديق المنكسرات!
ويشرح جملته بقوله:
- الباهت لا يتودد إلى فتاة إلا أذا علم بنهاية علاقتها العاطفية مع آخر
يأتي الباهت إلى المقهى خلسة قبل جلسته يرميهم بخبر، دائماً يأتي بالأخبار السيئة؟ يصرخ فيه آدم ويهم بطرده، قبل اكتمال صرخة ادم يظهر ياسين السمين، سمنة ياسين دخلت نقاشات الشلة.
يقول حسين
- الجثة الضخمة تدل على صغر العقل!
يوافقه ادم بسرعة، "ظهر ياسين مرة واحدة بالمقهي" الإخبار تقول انه التحق بأحدي الحركات المسلحة بدارفور، بعد ياسين يأتي عمر الطيب، أو عمر المدمن كما يحلو للبعض مناداته، شاب بدأ عملة بصحيفة رياضية، أوهمه البعض، أنت مثقف!، صدق وهجر الصحف الرياضية وصار يكتب مقالات عن الثقافة ببعض الصحف، مقالات كلها سب وشتم في الأخرين، وهذا ما عرضه لمشاكل عديدة، رغم طيبة قلبه، حين يضحك عمر يفتح فمه بأتساع يعتقل عيون الشلة، يقول آدم:
- الضحك بصوت عال من علامات الغباء والتخلف العقلي..
يوافقه حسين لكنه يضيف مستدركاً:
- يقول علماء النفس من كانت به علامة تخلف واحدة ربما يكون عبقرياً
بسخرية يرد سليمان ضاحكاً:
- اكتشفنا عبقرية بأحدنا!
تكتمل جلستهم حين تأتيهم بالمقهي محاسن "فاتنة المقهى"، كما يطلق عليها بعض الرواد، وهو لقب يفرحها، تبنته وصارت وسط صديقاتها، تضع يدها على صدرها وتفتخر أنا فاتنة المقهى الكبير، تأتي تعرج، يهمس سليمان السجمان..
- كل ذو عاهة جبار وشرهم الأعرج!
يداعبه آدم:
- شرهم الأعرج وليس العرجاء لا تحرف الحديث -!
وينقلون بصرهم من عرجها إلى وجهها بألوانه المتنافرة، يتمعنون فيها أو يسترقون النظر إليها، عليها ملابس تشف وتكشف عن جسد هجره الأغراء، صدر ضامر وأرداف لا تبين للناظر، رجلها اليمني أقصر من اليسري، رغم ذلك لها شفاه جذابة للعيون، بفم ضيق لكنها حين تفتحه تتقافز الكلمات الفاحشة، أطلقت عليها الشلة "الوعاء الفاحش"، حين حضور فاتنة المقهى تنتشر البسمات بينهم، لو أمعنت النظر فيهم، كل واحد يتمني جلوسها قربه، وهي تعرف ذلك، آدم يفرك يديه ويبتسم، سليمان السجمان يتحرك عدة مرات، عمر يمسح فمه من رائحة الخمر، حسين يرتفع صدره بشهقة مسموعة، تجول فاتنة المقهى بنظرها فيهم ويدها تنفض مؤخرتها، بعناية تختار من تجالسه، الذي تجلس قربه يشعر بزهو يبين بريقاً بعينيه، للفتاة هذه عادة غريبة، فهي تولي اهتماماً زائداً لكل جديد من شلة المثقفين، توهمه بهيامها وتعلقها به، بعضهم يصدق توهمها الذي لا يدوم أكثر من أسبوع، فتهجره لتختار غيره. وهذا ما جعلهم يتفقون على ذمها، فاتنة المقهى لا تطيل جلستها بينهم، حين تحس بارتياحهم لها وأن الشهوات بدأت تسري فيهم، تنهض واقفة، تتمطى فيبرز نهدها الضامر، ثم ترميهم بكلمة من قاموسها الذي يحتشد بكلمات بذيئة، وتغادرهم، بعد مغادرتها تنطلق أفواههم في حديث عنها.
يقول حسين وهو يضمر خبثه:
- أنها فتاة بريئة
يختلف معه سليمان بفجور ثوري
- أنها فتاة لعوب
يتدخل ادم بخبثه:
- هذه الفتاة مر بجسدها كل المثقفين الذين اعرفهم..
يقاطعه سليمان وقد تحرك من الكرسي ومال نحوه وضحكته الخبيثة مخبأة بين شفتيه:
- هل أنت من بينهم؟
يضحك ادم ضحكة يعجز سليمان عن تفسيرها،
- دائماً ضحكته غريبة..
يقول سليمان، ويواصل..
- هذه من تكتيكات التنظيم.
ينفعل حسين:
- كل التنظيمات لها تكتيكاتها..
انفعال حسين أراح آدم من حوار سيطول مع سليمان السجمان عن فاتنة المقهى، بصوته الخافض يهمس سليمان، همساً ينقل به نقاشهم لمجري آخر
- كل تنيظم يتشابه أتباعه جسداً وروحاً ولغة..
يرد آدم ويده مرفوعة كمن ينفض ذبابة ماكرة احتلت جبينه
- هذا معروف بالضرورة..
ويواصل حديثه:
- أنا في جلستي معكم بهذا المقهى أستطيع معرفة الانسان لأي تنظيم ينتمي من طريقة سيره في الشارع العام،
وينهض يمثل طريقة البعض في السير، يمشي خطوات ينظر في الأفق ويقول:
- هكذا نمشي نحن في التنظيم..
ثم يحني ظهره ويسير خطوات..
- هكذا يمشي أتباع التنظيم الديني.
ينطلقون في قهقهات، تشجع سليمان..
- أنا أعرف كاتب القصة من الشاعر وأنا بجلستي من نظرة واحدة، ويمضي يثرثر:
- كاتب القصة يمشي متعرج الخطو، والشاعر يسير بخطوات مستقيمة!!
يقاطعه حسين:
- كيف يسير النقاد؟
يرد بسرعة
- الناقد يسير خطوة إلى الأمام وثلاثة خطوات إلى الخلف...
تدخل القاص الباهت وسال سليمان:
- كيف يمشي السياسي؟
نظر له وصمت.بواصل الباهت سماجته
- كيف يسير المثلي؟
ينقل سليمان بصره نحو حسين ويصمت. ثم يغلبهم طبعهم فيعودون يثرثرون ببعض أسماء الكتب والكتاب، يختلفون حين يتداولون أنواع الكتب، ويتفقون في صب لعناتهم على كبار الكتاب، ذاك ديناصور حاقد على الجيل الجديد، والأخر يسرق أفكارهم، وبالتأكيد لا تنجو الحكومة من لعناتهم. باختصار كما تقول أمي
- لا يعجبهم العجب ولا الصيام في رجب.
آه ليت أمي تعلم.. أنهم لا يصومون رمضان!
هكذا تقضي الشلة ليلتها بالمقهي الكبير، لا تحسبوا أن العلاقة بينهم جميلة ومنسابة كبقية العلاقات، كل منهم يصلح أن يكون محور لرواية، أحياناً يعكر صفوهم حضور البعض، يتململون في جلستهم، لو كان ثقيل الظل، في نظرهم، يغادرون المكان واحداً تلو الأخر، بهذه الطريقة لفظوا كثيرين. منهم البروف الذي وسموه بأنه لا يجيد سوي المصافحة، يأتي مرات قليلة بصحبة القاص الباهت، يصفق سليمان متعجباً
- كيف أصبح مثل هذا "بروفسير"؟
يسانده الجميع في تعجبه واستنكاره، تنطلق ألسنتهم في ذم التعليم! ومن الذين يحضرون إلى المقهى كاتب قصص الأطفال، قصص رديئة كسلوكه المريب، يدعي النضال ويذم الحكومة والمتعاملين معها، وقد اختفي حين أكتشف عمر الطيب إن جميع كتب القاص المناضل -هكذا يعرف كاتب قصص الأطفال نفسه- قد طبعها امن النظام، أحياناً يأتي معه شخص سمين الأوراك، منفوش شعر الرأس، يرتدي بنطال جنز متسخ وقميص أحمر، يجهر بكلمات النضال والثورة وينفي الغيبيات معلناً ألحاده،. أطلقت عليه الشلة لقب "المناضل الملحد" وقد فرح بهذا اللقب، كلما حضر للمقهى تقيأ معلومات عن فساد الحكام، دمغة سليمان بالجاهل، وقال بتقعر:
- الإلحاد كسل ذهني!
المهم داوموا على الحضور إلى المقهى، تكبر الشلة وتنقص، وحكاياتها تكبر، ومنها حكاية الذي تتبعنا سيرته من أفواه هذه الشلة وآخرين، شخصية مريبة، شكله الخارجي لا يشبه جارنا أسامة وتختلف هيئته عن هيئة المثقفين، أجسامهم خشنة يشتركون في النحافة، إما صاحبنا فله جسد أنثي وبشرة ناعمة، أول ظهور له بالمقهي في احد الأمسيات، يغطي شعر رأسه شيب، بذراعه الأيمن يتدلي أكثر من تميمة، وعلي ذراعه الأيسر نتؤء بارز، وعلي عنقه عقد نسائي، له كرش ممتدة إلى الإمام وأرداف أنثوية، صوته خفيض تخرج الكلمات من فمه مشوشة، أردافه قادتني لمقارنتها بأرداف حواء العاهرة. تلك الأمسية محفورة بذاكرتي كأنها حدثت اليوم رغم مرور سنوات عليها، كنت أجلس مع الشلة، سليمان السجمان وعمر المدمن وحسين وآدم وفاتنة المقهى يجري بيننا حديث عن الأوضاع العامة، فجأة شعرت بالشلة تنسحب، سليمان خرج مطاطي الرأس وآدم وضع صحيفة فوق رأسه وأنسل، وحسين هرب بالباب الخلفي للمقهى وفاتنة المقهى رغم سكرها حملت حقيبتها وخرجت وقد سقط من الحقيبة مانع حمل ذكوري - قد استفدت منه - وعمر أختفي كيف ؟ لا أدري، اندهشت ونقلت بصري لبقية الرواد هناك مجموعة تلعب الورق، هولاء مجموعة يتجادلون في الكورة! ولكني شاهدت شابين بينهما فتاة يدخلان المقهى، جلسوا قربي، أرخيت أذني انتباها، علمت من السمين صاحب الأرداف والكرش البارزة إن له نظرية زعم أنها أتته بعد تفكير عميق، فحواها "لا يمكن معرفة الثقافة السودانية ألا بمعرفة مكونات التربة السودانية،، وسمعت الفتاة تقول له:
- هذه نظرية يهودية!!!
تدخل الشاب الآخر ضاحكاً
- هل أنت يهودي ياجلال؟
لم يرد عليه بل صار يعدد كيف الاستفادة من نظريته التي ستنقذ الثقافة السودانية، بضيق قالت له الفتاة
- وضحها لنا ياجلال؟
ابتسم وقال:
- هي نظرية مرتبطة بالجغرافيا واختصارها أذا أردت معرفة مكونات الثقافة لأي بلد عليك معرفة تربته!
نهضت وغادرتهم أبحث عن الشلة وجدتهم يقفون بمكان قريب يراقبون جلال! بوجوههم رعب حقيقي، حين وصولي سمعت ادم يقول لحسين
- يريد أن ينفي عن نفسه الشذوذ!
دنا حسين برأسه من ادم وقال:
- بعض الشاذين جنسياً لهم علاقات سوية مع الجنس الآخر.. وواصل حديثه:
- ربما تكون الفتاة التي معه شاذة أيضاً!
رد ادم بيقين:
- ليس ربما بل أكيد أنها شاذة!!!
قال سليمان:
- إن الشاب الذي حضر معه مرتبط به جنسياً!
وقد نالت الفتاة التي حضرت مع جلال تعليقات بذيئة، أكثرها بذائة نفثتها فاتنة المقهى
- الذي تتبعه ليس رجلاً! بل هي أرجل منه!!
ثم التفتت نحوي قائلة:
- لا يخدع بنت الناس أنه ليس رجل!!
وختمت جملتها...
- الترزي ذهب برجولته، لماذا لا يذهب إلى الترزي؟!
قاطعها حسين:
- أراك تتحدثين عن الفتاة كأنها رمزاً للشرف أنها وقف للنكاح..
أتم حسين جملته ونفض يده في الهواء غاضباً..
ردت فاتنة المقهى:
- لم أقل أنها شريفة ولكنها أحسن من جلال!!
ومضت تقول...
- نحن النساء خلقنا لذلك أمّا أنتم كيف تحولون مخارجكم لمداخل؟
وارتفعت نبرة صوتها وهي تحدق في حسين..
- أنت لو تريدها اذهب إليها!
رد حسين عليها:
- أنا لا أدافع عن جلال أنما قصدي القول " وافق شنٌّ طبقه".
ثم انتقل حديثهم عن علاقة بين جلال وجهاز أمن النظام..
قال عمر ضاحكاً:
- اقسم بأباريق الخمر أذا لم اعرف لكم السر بين جلال والفتاة...
قال سليمان السجمان:
- لما يقسم عمر بأباريق الخمر صدقوه..
تدخل آدم معارضاً:
- لا تظن علاقته بالخمر جيده يا سليمان، كأس وحيد يجعله يتقياَ كل أسراره!!
قاطعه سليمان بخبث...
: ألا ينفع معكم في الحزب؟
رد آدم على خبث سليمان:
- نحن لا نقبل أمثاله وأمثالك!
أحس سليمان بغربته فتحوصل بصمت اشتهر به، تدخل حسين موجهاً كلامه لأدم:
- لكن عمر نحن نعرفه يحب الخمر بل ويعشقها..
نقل حسين الحديث حين سألني:
- هل تعرف لماذا شاب شعر جلال؟
لم ينتظر إجابتي، فقال:
- شاب شعره نتيجة لتسرب حيوانات الترزي المنوية!
بتبرم قاطعته فاتنة المقهى:
- كلنا يعرف ذلك!
تدخل سليمان قائلاً:
- إنه رجل مشبوه! اسمه ليس جلال، بل الفيلاني..
ومضى يقول:
- الورم الذي بيده أثر عضة كلب أراد التهامه حين قذفته عند ولادته أمه على قارعة الطريق خوف الفضيحة، والآن يحتل منصب أمنياً كبيراً! وكان من الذين يعذبون المعتقلين، أيضاً انه شاذاً جنسياً! على الرغم من زواجه ثلاث مرات!!
تدخلت فاتنة المقهى وقد صرت وجهها:
- تلقاهن الثلاثة كلهن كجلال عاهرات بنات عاهرات!
قال عمر جملة أنهت وقفتهم تلك:
- أصبح وضعنا مكشوف يجب علينا الاختباء عن هذا اللعين...
أكد سليمان:
- أنا غريب لن أحضر للمقهى بعد اليوم..
آدم كان صامتاً كسى وجهه هم سألته
- هل تختفي أنت أيضاً؟
قال:
- أنا أول من يختفي لأن لجلال ثأر معي..
قال جملته وبحلقي سوال لم أستطع البوح به لابتعاد لآدم، هكذا ذهب كل واحد بطريق مختلف، وقفت بعد مغادرتهم والأسئلة تضج بداخلي، هل اختفي؟ وصورة جلال احتلت مقدمة رأسي، أنه لا يشبه جارنا، الذي تقول أمي:
- إنه امراة..
قلت لها:
- ليس له نهود يا أمي!
ضربتني وأخبرت أبي، تطاير شرر من عينيه، وضغط أصبعه السبابة بأسنانه المصفرة، كيف كانت أمي ترضي أن يقبلها أبي باصفرار أسنانه؟ ريم العرجاء قالت لي:
- لولا اصفرار أسنانك لصرعت الحسناوات..
عدت إلى البيت ودعكتهما بعطور وملح وليمون، فارتفعت ابتسامتي، حين عدت لريم وجدتها بحضن صديقي بأسنانه الداكنة. طالت سرحتي في ماضي عميق، وجدت نفسي وحديداً، الشلة اختفت بهلعها من جلال. قلت لنفسي أحثها أنا ليس عندي ما اخسره.. هل أذهب إلى المقهى؟ لا مفر، التردد لا يجدي، حب استطلاع كالذي قتل القطة قادني إلى المقهى لأستبين الحقيقة من أطراف أخري، أوصاني مدير التحرير المخنث قائلاً:
- في التقرير عليك أخذ رأي جميع الأطراف.
السكرتيرة تردد خلفه كببغاء بشفتيها اللائي استباحهن..
- الآراء المختلفة تعطي التحقيق صدقتيه..
عدت للمقهى وجدت جلال وشلته غادروا، جلست على مقعد مهتريء قرب الباب، أجتر المعلومات وأسجل فرحاً بمعلوماتي الخطيرة، سأثبت لمدير التحرير قدرتي على اختراق أماكن مجهولة هل يعلم مدير التحرير أن المقهى الكبير يسمي السوق المركزي للمثليين والمثليات، هل يعلم أن عملاء الأمن والمخبرين مزروعين فيه؟ وهل يعلم حال المناضل حينما يلتقي رجل أمن عذبه ذات يوم؟ سأقرأ تحقيقي للسكرتيرة أولا، جلست بمكان قصي بالمقهى، مكان يسمح لي برؤية الجميع، أخرجت ورقة أسجل بها إفادات شلة المقهى، سمعت حركة أرجل قربي، رأيت النادل الاريتري ينظر نحوي ويبتسم، حين تقابلت نظراتنا أشار لي بأن أغادر المقهى، قبل نهوضي رفعت بصري رأيت شاباً يبدو من النوع الذي يثق فيه القلب، لكن قلبي كيف يطمأن؟ طلب الشاب مني مبتسماً بتهذيب..
- هل يمكن أن أجلس معك؟
وصية أبي "لا ترفض من يود الجلوس معك" جعلتني أرد.
- هذا يفرحني
قبل أن يجلس نادي النادل
- لو سمحت أثنين قهوة، واحده لي والأخرى للأستاذ... وبصوت خفيض سألني عن أسمي قلت له كاذباً
- اسمي محمد..
أفرج عن بسمة قائلاً:
- أنا أيضاً اسمي محمد!
جاء النادل بكوبي القهوة، وهمس بأذني:
- اخرج!
رشف محمد رشفة ثم وضع الكوب وقال لي:
- لو سمحت أود أن اعلق على تصرفات أصدقائك حينما انصرفوا لحظة حضور جلال!
كانت يدي ممدودة نحو الكوب حين قال جملته..
قلت له:
- هل تعرفهم؟
قال:
- بالتأكيد لا اعرفهم ولكنهم من الرواد المداومين على الحضور وكنت أسترق السمع لنقاشاتهم التي تعجبني أنهم كتاب كبار على مايبدو من حديثهم!
قلت:
- صدقت ولكن هل تعرف جلال أيضاً؟
تناول كوب القهوة ورشف رشفتين..
وقال:
- تأكد لي أنك لا تعرفه لو كنت تعرفه لانسحبت مع أصدقائك، وحتى يطمئن قلبك أنا ليس منهم...
قلت له:
- من هم؟
قال:
- الذين يضرون الناس بل اعتبرني فاعل خير جاء ليحذرك من جلال! أولا أسمح لي أن احكي لك قصته:
- انه طفل لقيط، نهشت الكلاب يده وكادت تبترها، وربما ألتهمته لولا حضور أحد الرجال وطردها، وأيضا تعرض لحالة اغتصاب في طفولته، ويعمل في الأمن، متزوج من ثلاثة نساء اعرفهن: الأولي كانت معنا بمدينتنا وأبعدناها لسلوكها المنحرف، كانت عبارة عن جسد مبذول للرجال، كل من دب ولم يهب صب ماءً في بئرها، والثانية أيضاً كانت لها علاقة ما بصديق لي وأنه أول من قبلها، أمّا زوجة الثالثة، هذه لم أقابلها ولكن أعرف أنه تزوج بامرأة ثالثة! ولكن هذا لا يهم فالمهم أنه يظن أن لديه نظرية كبرى..
قاطعت محمد
- أي نظرية؟
- نظرية أدعي أنها فكرية ألهمه بها الله، يزعم أن هناك ارتباط بين الأدب والجغرافيا، دخل في مشاجرات عديدة بسببها، أحد المثقفين زجره: كيف تدعي انك صاحب نظرية ولم تصدر كتاباً واحداً، وسخر منه آخرون كثر لكنه أصر على التبشير بنظريته، ولكني أظنها من بنات دبره...
تعلقت ضحكة بحنجرتي، وددت كتمها لكنها خذلتني، نهض محمد وقال لي:
- أرجوك أبتعد عنه وإذا وجدته يتحدث عن نظريته الترابية فلا تقاطعه فهو يعتقد أنه المفكر الوحيد!!!
قلت لمحمد:
- أنا ممتن لك لأنك أفدتني بهذه المعلومات..
فافترقنا، أنا سعيد بتلك المعلومات، فرحاً كنت وقد نويت على تتبع سيرة جلال ـ أطلقت على بحثي "السيرة القذرة".


























الفصل الثاني



شحذت حواسي جميعها، وجندت طاقتي، وكلمات محمد وشلة المقهى الكبير التي استقرت بفؤادي كانت زادي، صرت أبحث وأنقب في سيرة جلال، كأثري ينقب في صحراء عن خبيئة قديمة، أو كعاهرة مسنة همت بتذكر أول عاشق لها، زرت الحي الذي عاش به جلال، عند دخولي الحي قابلني كلب يلهث خلفه أطفال الحي يحصبونه بالحجارة، تذكرت حديث محمد، قلت في نفسي ربما كان هذا الكلب حفيد الكلب الذي نهش يد جلال، ضحكت وذهبت مبتعداً، هربت بزقاق ضيق، تقمصت شخصية عابر سبيل، سالت رجل مسن يجلس أمام داره عن جيب الله
أخرج ضحكة باهته وقال:
- رجال كثر يحملون هذا الاسم من تقصد؟
قلت
- اقصد جيب الله زوج فاطمة عبد الستار والد جلال!
رأيت امتعاضاً على الرجل وزادت تقطيبه جبينه، ورد:
- جلال الملعون!!
لم ينتظر ردي بل واصل يتقيأ:
- كانت عندي معزة وحيدة ضاعت بسبب جلال الملعون، مارس معها الرزيلة فقتلتها، هل أنت صديقه؟
قلت للرجل المسن:
- هذا لا يصدق، ولكني أريد جيب الله!
لطمني الرجل بكلمة واحدة ودخل داره
- لا أعرف!!!
ابتعدت عن الرجل،بأذني أستغفاره وهمهمته وتصفيق يديه متعجباً، تقابلت مع الأطفال يجرون جثة الكلب، استوقفتهم وسألتهم عن منزل جيب الله، لم يعيروني أذنا. جست بعدهم بالحي رأيت مقهىا شعبيا، رغبتي في القهوة تملكتني، دخلت المقهى ،كان يعج برواده، قبل جلوسي طلبت كوب قهوة، وضع النادل كوب قهوة وكوب ماء، صرت أرتشف على مهل وأذني تلتقط أحاديث الرواد، خرجت
بمعلومات وافرة، معلومات تدعم موقف سليمان السجمان حينما قال:
- السودانيون مغرمون بالثرثرة..
اذكر أن آدم اختلف معه قائلاً له وبتحدٍ:
- أنت كاذب!
وذكر له محاسن السودانيين، نفس المحاسن التي تؤمن بها أمي، لم يقتنع سليمان السجمان بل قال جملة أوقفت كلمات آدم بجوفه:
- أنتم تنظرون لأنفسكم بعيونكم! لماذا لا تنظرون لأنفسكم بعيون الشعوب الاخرى؟
المهم ثرثرت سكان الحي الذي عاش به جلال أفادتني. تشجعت حيت جاءت سيرة أسرة جيب الله بينهم، فسألتهم عن جلال، كثرت الاختلافات بينهم في معرفة تاريخ مولد جلال وتضاربت، وهي معلومات لا تفيد في التحقيق الذي انتوي كتابته، قررت مغادرة المقهى، دخول بعض السكارى أرجي خروجي، جلس هولاء السكارى ومن أفواههم تندلق كلمات السباب، بادلهم البعض سباً بسب، توهطت في جلستي، هولاء بغيتي، أرخيت أذني استمع بانتباه لكلماتهم السمجة، انتقلوا من سب الحضور إلى سب جدودهم وذكروا تاريخ الحي أمطروا أهل الحي براميل من اللعنات، أخرجوا كل فحش بصدورهم، وتطرقوا لسيرة العائلات التي هاجرت أو طردت، تدخلت مدعياً السكر..
- كعائلة جيب الله!
صنوا وفتحوا عيونهم برهة، وأفواههم تبارت في ذكر سيرة جيب الله وجلال، علمت من ثرثرت السكارى ،وآخرين انه تربى بين امرأة من غرباء الشمال واحد المواطنين المحليين، وقد همس احدهم بيقين:
- انه ابن الحركة الدينية التي ظهرت تلك الأيام..
ويصر الذي يعرفون أمه الأولي، أنها سرقته من احد المشافي حين احضره احد فاعلي الخير، وجده جنيناً لفته قطعة قماش كانت بجسد احد الفقراء، "هذه المعلومة تؤكد أصله الفقير" الكلاب نهشت جزء منها وقضمت قطعة لحم من ذراعه الأيمن، مازال أثرها واضح حتى الان حين يكشف زراعه قبل مشاهدة التميمة التي أضحت سمة له يصفعك نتوء بارز بذراع جلال، قال الرجل الستيني الذي ألتقط جلال..
- انه كان في طريقه لصلاة الصبح فشاهد كلاب تحيط بشي ما، كرجل متدين ووطني يحمل قدراً كبير من الخير، زجر الكلاب وابعدها، وحين أقترب انحني ليتبين ذلك الشى، رأي قطعه القماش بأطرافها ينز دم، تحوقل وتعوذ، لعن الزمان وأهله، (مسكين الزمان كل محبط وعاجز يلعنه) الرجل رفع القطعة بأطراف أصابعه انزاح الغطاء كاشفاً عن صبي حديث الولادة، اضطربت المسبحة بعنق الرجل، وزادت ضربات قلبه، تجمد في وقفته، تساءل وهو بتلك الانحناءة هل يترك الطفل للكلاب التي تقف متحفزة للهجوم؟ لو ترك الطفل ستلتهمه الكلاب، أم يصيح حتى يأتي البعض، أم يجلس قربه حتى تشرق الشمس، ارتفع ترمومتر الخير بداخله فألتفت نحو الكلاب، أخذ حجارة وقذفها نحوها، بعضها أبتعد والأخر مازال قريباً يلعق لسانه، آخر الأمر تغلب الواعز الديني فحمل معه الطفل إلى المسجد، كان المسجد قد امتلأ بالمصلين، الذين اجتمعوا حول الطفل يتفرسون فيه، علا اللغط بينهم وهم يبحثون عن وجه شبه بين اللقيط ورجال الحي، ويستحضرون سلوك الفتيات لعلهم يعرفون أمه، أستغل أمام المسجد الفرصة لخطبة عن الزنا يصليهم بها، ذهب بحثهم سدى، تطوع بعض الحاضرين بقيادة الرجل الذي ألتقطه وحملوه إلى قسم الشرطة، تخلف إمام المسجد بحجة واهية لم يعرها الناس اهتمام، مروا بالمكان الذي وجد به الطفل ـ أثر دماء على الأرض وعلي مبعدة كانت الكلاب منتشرة، ابتعدت إلى حيث جنين آخر، (لو تجاوز مدير التحرير نهش شفاه السكرتيرة وحرث بمكان خلق للحرث ربما كان لهما جنين لقيط) عند دخول الرجال القسم، ارتسمت عليهم انفعالات مختلفة ومتباينة، وجدوا على الباب بعض الجنود. تقدم فاعل الخير، بزهو نحوهم،
- وجدنا هذا اللقيط!
قال آخر:
- هذه جريمة دخيلة على مجتمعنا!.
أدهشهم أن الجنود لم ينفعلوا مع الجريمة، صدمهم أحد الجنود
- هذه ظاهرة طبيعية!!
وقال جندي آخر:
- أذهبوا به إلى مقر رعاية اللقطاء
تدخل الجندي الأول وأمرهم:
- أذهبوا به إلى الضابط..
تزمر بعضهم وهموا بترك الجنين ومغادرة مبني القسم، وأصر آخرون من بينهم فاعل الخير على الانتظار، فاعل الخير يحمل لفافة الجنين بيديه حين حضر الضابط، رأى الضابط جمهرة الناس فتحرك نحوهم قبل دخوله مكتبه هرع نحوه جندي..
- سيادتك هولاء يحملون لقيط حديث الولادة..
تقدم فاعل الخير مد يداه الممسكتان باللفافة نحو الضابط
- هذا الجنين وجدته فجر اليوم وأنا في طريقي إلى الصلاة
نظر الضابط إلى الجنين ثم نقل نظره إلى جندي كان قربه:
- اجر اللازم وأذهب معهم إلى المستشفى
وربت على كتف فاعل الخير وقال:
- يجب الذهاب به إلى المستشفي أولاً
قال أحد الرجال:
- هذه مسئولية القسم نحن أحضرناه حتى لا تأكله الكلاب، وهو روح إنسان..
رد عليه الضابط بلا مبالاة:
- أكملوا فعل الخير!
ودخل مكتبه، أمر الجندي الرجل الذي وجده بالانتظار والطفل بحضنه حتى يكمل الإجراءات، فاعل الخير وذهنه يستحضر في الحسنات الذي رفعت رصيده بانقاذة لطفل، يغمغم بحديث سمعه من الإمام "من ينقذ واحد كأنما أنقذ أمة كاملة"، (هذه الحسنة الوحيدة التي كسبها إنسان من معرفته جلال)، أكمل الجندي إجراءات البلاغ، أستلمها فاعل الخير وذهب إلى المستشفي حيث أودع الطفل بها. كانت إجراءات المستشفي أقل قسوة، في الاستقبال سمع..
- هذا اللقيط العاشر الذي نستقبله اليوم، أرجو تسليمه لعنبر المواليد مجهولي الأبوين.
أحدى الممرضات لها صدر مكتنز وعجيزة وفيرة استلمت الجنين من فاعل الخير، وضعت الجنين بلفافته وشكرت فاعل الخير، الذي عاد إلى منزله منشرح الصدر ليحكي عن بطولته في إنقاذ طفل لقيط، بالمستشفي لم يجد الطفل العناية المرجوة، كانت الممرضات في حالة رهق نفسي وجسدي، أهملن الطفل، شاهدت أحدى النساء الطفل المهمل، غافلت الممرضات، يقول البعض أن تواطؤ تم بينها واحدى الممرضات، أخذت المرأة الطفل وخرجت به متخفية من المستشفى، امرأة، تعمل ببيوت الأثرياء، تغسل الملابس، تنظف الأرضية، يلتصق جلدها بعظمها، ترتدي ثوب قد بلي لطول معاشرته لجسدها، تتغطي به ليلاً حين تنام وترتديه نهاراً، خرجت والطفل بحضنها، تحمد الله على الغنيمة التي تحملها، وذهنها يقودها تغمغم:
- حين أذهب إلى بيت فاطمة سأقول بأنه ابن ابنتي...
جاءت به المرأة المجهولة الاسم إلى احد البيوت، هذا البيت استقر فيه الطفل فيما بعد، مدعية انه ابن ابنتها، الأسرة تقطن بحي طرفي ولكن تمدد المدينة أصبح من الأحياء الوسطي بها، اعتنت به تلك الأسرة، الزوج جيب الله الخائب، الخائب صفه لحقت به نجهل مطلقها الأول، والزوجة فاطمة التي فطمها الفقر عن الإنجاب، فاطمة من بقايا الأسر التي جاءت مع الأغراب الذين أتوا من الشمال واحتلوا البلاد حيناً من الدهر، بعد رحيلهم لأسباب سياسية لا نود الخوض فيها مخافة ترهل السرد وليس لسبب أخر، تركوا خلفهم بعض الأسر الفقيرة، قليلها اختلط مع أهل البلاد الأصليين والبعض الأخر عاش في تأففه منهم، ومن بينهم أسرة فاطمة أم صاحبنا الذي نتحدث عنه، نقول أمه مجازاً، رفضت أسرتها الاختلاط بالسكان تزاوجاً، والتي انساقت مع شهواتها وتعلقت بواحد من السكان الأصليين قوبلت بالرفض من أسرتها وأخريات تم أبعادهن من البلاد لشبهات تحوم حول علاقة لهن مع احد السكان الأصليين، لظروف مجهولة تزوج جيب بفاطمة عبد الستار، يقول البعض قبلت الزواج بجيب الله لان قطار عمرها تجاوز الخمسين عاماً، وكان جيب الله حين زواجه بها قد بلغ الستين من العمر، عاشا سنوات يبحثان عن ابن يرثهما جيب الله يمني نفسه بابن بلون أمه ابيض البشرة يغسل به سواده، لأنه يوقن بصدق "لكل أبيض ولاية طبيعية على كل أسود" جيب الله رجل اسود كامل السواد، انف أفطح وشفاه بها شقوق كروحه، في شبابه عمل طباخاً عند الغرباء، اكتسب بعض عاداتهم في المأكل والملبس وطريقة الحديث، كاد يصير كواحد منهم لولا سوداه، بعد رحيلهم ورث المنزل الذي عاش به الطفل جلال، وللاسم بحياة جلال قصص نحب أن تروي، المرأة التي التقطته أطلقت عليه محمود وحمل هذا الاسم لمدة نصف ساعة وهي المسافة التي قطعتها المرأة من المستشفي إلى منزل أمه التي اشترته.
- ما شاء الله ولدك اسمه شنو؟
تلجلجت وقالت:
- محمود!!
ردت صاحبت المنزل وهي تقترب من الطفل تتمعن فيه
- ما شاء الله ولد جميل!!
وفي سرها قالت بيقين كما حكت فيما بعد
- والله الولد ده مسروق!!
بعد أن أنهت المرأة عملها ببيت جيب الله كانت قد اتفقت مع فاطمة على سعره، خرجت المرأة وبما تحمله من نقود للسوق، اشترت فستان بلون احمر، أكدت مصادرنا أن نقودها نقصت عن ثمن الفستان، والتزمت للبائع بتكملة المبلغ بعد شهر، تقول نفس المصادر أنها لم تف بالتزامها، الاسم الثاني الذي حمله جلال اسم بشير لمدة دقيقة واحده، ذلك عندما حضر عصرا جيب الله وأخبرته زوجته فاطمة بحكايته، تجشأ وقال
- خلاص نسميه بشير.
رفضت فاطمة وقالت:
- أنا سميته جلال.
ردد جيب الله الاسم.. جلال جيب الله.. جلال جيب الله..
نال جلال عناية من فاطمة وجيب الله، كانا لا يبخلان عليه بحنان ومال، نشأ جلال بتلك الأسرة، منذ طفولته ظهرت بوادر شروره، والذي أفرح فاطمة أنه لا يرفض الرضاعة من أي ثدي، يرضع الغنم والكلاب والحمير، كان في طفولته يلتهم كمية طعام تكفي رهط من الرجال،أما تصرفاته التي كانت تزعج فاطمة،فكثيرة لا تحصي أقلها مناداته لها بالحلبية بنت الحلب، تقول مصادرنا أنها انتوت ذات غضب التخلص منه، وأسرت لأحدي جاراتها أنها حين تلقمه ثديها ليرضع كان يعضها بأسنانه حتى كاد يقطع حلمتها، ويقولون أنها ندمت على الجنيهات التي دفعتها فيه،كان حين يشبع يبول فوقها، أمّا تصرفاته خارج المنزل تختلف عن تصرفات الأطفال الأخرين الذين في مثل عمره، كان يأتي بأفعال تغضب، مثل فقع عيون الحيوانات المنزلية، وقطع رقاب الطيور الداجنة، دجاج، وحمام، والذي يزيد غضب فاطمة تبوله في أواني الطعام وأحياناً يلوثها بما يلفظه دبره من خراء، طالت تصرفاته الرعناء الجيران، تقول أحدي جارات أمه..
- كان يغافلني ويبول في الطعام الذي أعددته..
وقال جار آخر:
- وجدته ذات نهار ممسكاً بدجاجة لي، نتف ريشها وهي حية، ثم وضعها بين رجليه يريد أن يدخل قضيبه بدبرها!!
وجار آخر يمتلك معزة واحده وجد جلال يدخل قضيبه بمؤخرتها، وقد أفتى إمام المسجد بحرمة لبنها ولحمها ووجوب قتلها وهكذا فقد الجار معزته الوحيدة. أراد جيب الله تعليم جلال بإدخاله مدرسة يتعلم فيها حتى ينفعه في كهولته، ولكن تصرفات جلال وتذمر الجيران قادت رغبة جيب الله لإدخاله بالخلوة، ربما نار القران تبعد عنه تصرفاته التي جعلت جيب الله يوقن أن الشيطان سكن جسد ولده. ذات صباح خرج وبمعيته جلال إلى خلوة قرب منزله، خلوة يتلقي بها الصبيان تعاليم الدين واللغة العربية، قال للشيخ:
- هذا أبني... قالها بصوت خافض
بنفس الصوت الهامس
- أريده أن يصبح شيخاً مثلك!!
وقال جملة يقولها الآباء عند إدخال أبنائهم المدرسة... "لكم اللحم ولنا العظم"!!
شيخ الخلوة رجل ستيني، يعمل ترزي بالأمسيات ويدرس بالخلوة صباحاً،يسكن بالحي نفسه، رجل أسمر طويل القامة،له لحية يغطي بياضها بالحناء، وهو أحد أتباع تنظيم ديني أتي به الغرباء الذين كانوا يحتلون البلاد، أستلم الشيخ الطفل جلال من أبيه جيب الله وسجله مع طلابه، بالخلوة كان جلال يلتهم الآيات التهاماً عجيباً، وله صوت حين يرتل الآيات يجذب الأفئدة نحوه، وتختفي النخنخة منه، في كلامه تحس بالحروف تخرج من بين شفتيه كمعظم البشر ولكن صوتها يزفره بأنفه، بالخلوة تبناه ذاك التنظيم الديني، أعجب جيب الله، وأفرحه اهتمام الترزي بابنه جلال، كل يوم يسأل الشيخ عن أبنه جلال، يرد الشيخ ويده على هامة جلال...
- هذا ولد صالح، سينفعك!!
ينشرح صدر جيب الله، يقول البعض الذين عاصروا تلك الفترة أن علاقة الترزي بجلال شكلت سلوكه الحالي، وبهذه الخلوة ضمت المنظمة الدينية جلال إلى صفوفها، لو تتبعنا رعاية تلك المنظمة لجلال نجدها بعد تجنيده وتلقينه بعض مبادئها التي كانت تستقر بعقله بطريقة أدهشت الجماعة، صارت تمده ببعض كتبها، وشملته برعايتها، وتدعوه لمعسكرات تقيمها ورحلات ترفيهية يقول بعض الخبثاء أن أفراد تلك المنظمة أعجبه جسد جلال، وتمثلي المدينة بإشاعات عن ميولهم ألغلاميه، وقد كان لجلال جسد به تقاطيع أنثوية، كالأرداف والخصر، وجيب الله شاهد العيون تتابع عجيزة ابنه، فصار يوليه اهتمام لاحظه الناس بالحي، وكان دائم الأسئلة لجلال كيف يقضي يومه بالخلوة، وحيناً يأتي للخلوة خلسة. في سن العاشرة صار جلال مربع القامة وكرش بارزة، لولا كبر عجيزته لما استطاع الوقوف، العجيزة أصبحت ميزان عدل لكرشه، كثرت شكاوي الأطفال وأهليهم من تصرفات جلال، يضرب هذا ويبول بفم من يجده نائماً منهم، وحين يهم والده بضربه يهرب لمنزل الترزي، الذي يكتمل فرحه بضم جسد جلال على صدره ويحس ببوادر لذة تكسوه، يعود جيب الله لدارة ويتركه مع الترزي دون أن يمسه بشي، ولكن حدث ما جعل جيب الله يفور من الغضب، ذلك عندما كان ساجداً يصلي، دنا جلال منه وبال على رقبته، اندهش جيب الله للبول ينهمر على رقبته يبلل لحيته وتنزل نقاط منه على السجادة، قطع صلاته ورأى جلال يقف خلفه وقد كست وجهه ضحكة فرحة، تناول جيب الله حذاء وقذفه عليه، هرول جلال يضحك خارج البيت، وجيب الله خلفه يحمل غضبه مضريه، سبقه جلال لحضن الترزي، الذي فتح يده وحضنه، كما يحضن صقر فارة، لكن جيب الله اقسم..
- لابد من ضرب الولد.
حاول الترزي أن يحول بينهما لكن محاولته عادت خاسرة، نال جلال ركلات وصفعات من جيب الله، الذي عاد ليغتسل ويكمل صلاته وترك جلال بحضن الترزي، كان الترزي ساعة حضور جلال قد أكمل صلاته ويسبح بمسبحته، التي كانت بيديه الاثنتين، يجر في حباتها ويسبح وتمتم بدعاء قديم، قطع تسبيحه دخول جلال وجيب الله وبعد خروج الأخير كان جلال قد أخذته نومه، حمله الترزي برفق وأرقده على السرير، وعاد يكمل تسبيحه، وقع بصره على عجيزة جلال الضخمة تعوذ وعاد لتسبيحه، أكمله ومسح وجهه بكفيه، وحاول النهوض، التفت للمرة الثانية لجلال لطمته العجيزة الضخمة وقد انزاح عنها الغطاء، ببقية تقوي اكسبها له الدعاء هم بتغطيتها، لامستها يده، أحس ببرودتها، تعوذ ويده لاصقة بها، ضغط عليها برفق سرت البرودة بجسده ووصلت لقضيبه الذي أنتعظ،رفع يده عن العجيزة الباردة الشهية، ثم عاد ثانية للمسها، سرت برودتها لبقية الأعضاء، وأحس بدف بين ضلوعه، ادخل أصبعه بين طرفيها لم يجد شعر، بل أحس بحرارة بجسده، تلفت وهز رأسه هذه الحركة أشعرته بالمسبحة بعنقه، هم أن يتعوذ ويلعن الشيطان لم يطاوعه فمه، ضغط أكثر بيديه على إلية جلال المنبطح على السرير يغط في نوم،انحني الترزي وطبع قبلة بخد جلال، هذه القبلة أنتعظ لها قضيبه، امتدت يده وقرصت القضيب ليرتخي، وساقته ذاكرته لتاريخه الشخصي، وأسئلة تتناطح بداخله، هل يخدعني الشيطان؟ كيف أقابل الناس، كيف يعاملني الأخوة بالتنظيم، وكانت أجوبة الأسئلة محرجة كإليتي جلال الراقد على السرير، تحرك الترزي واخذ كتاب ديني يحوي تعاويذ تطرد الشيطان، بلهفة فتح الصفحة الأولي، غشاوة غطت عينيه، وطمست الأحرف، بل زادت انتعاظة قضيبه، بطرف عينيه لمح إلية جلال أحس بها تناديها، هيا، تحرك، لن يشعر بك احد، وبعدها استغفر، وضع الكتاب وتبع المناداة، جلس بطرف السرير ويده تسبقه نحو جلال، امسك بالمسبحة وطرحها من عنقه، حتى لا تتلوث. رفع رجلة اليمني ووضعها بالجانب الأيسر لجلال، ويده تخلع سرواله، تساءل كيف أصبح قضيبه بهذه الانتعاظة، تذكر هذه اللحظة ساعة بشبابه وعجزه عن ممارسة جنسية كاملة لضعف قضيبه، رفع يده لفمه ليصب عليها لعاباً يسهل عمليه الإيلاج، امتدت يديه ومسكتا كتف جلال ووضع قضيبه المنتعظ بين فتحته وضغط بقوه شيطان كما قال من شاهد المنظر، أحس جلال بشي غليظ يعبث بدبره بعنف، فصرخ بصوت عال، امتدت يد الترزي يكتم صراخه، ويده الاخري تساعد القضيب في الإيلاج، كلما دخل القضيب زاد صراخ جلال، جلال يصرخ والترزي يلج، الصرخة الأخيرة جعلت فؤاد جيب الله يرتجف، علم أنها صرخة ابنه، ركض نحو منزل الترزي، وجد البعض قد سبقه، كان الترزي قد قضي وطره ومازال عارياً وكذلك جلال الذي نزّ دم من دبره، تساقط على الملاءة، انحني جيب الله يحتضن جلال وبعض الأفواه تصيح المستشفى المستشفى، والبعض الأخر امسك بتلابيب الترزي وبعض الأكف عانقت خده، والكلمات تنهال عليه لاعنة وشاتمة. وأستغل منسوبو التنظيم الملحد، حالة الهرج وفوران الغضب، استغلوها بإحراق خلوة الترزي، وهمّ بعضهم بإخراج زوجته من البيت، تدخل الكهول وصدوهم عن ذلك، خرجت زوجة الترزي تلعن وتسب فيه، وهي تكيل التراب على رأسها الكاشف، يقال أن احدى النسوة سألتها
- هل كان يعاشرك؟
نظرت للمرأة وقالت:
- كزوجك.
الأمسية التي كان بطلها الترزي، الذي انتهك براءة جلال، الحي تحول لأفواه فاغره، تمارس بإتقان، الهمس والغمز واللمز، والأعين تتابع بدهشة وفضول، العسس الذين يقودون الترزي عاري الجسد، منشغلين عن عربة نقلت جلال إلى المستشفى، بمعيته والده جيب الله، وأمه فاطمة، وبعض النسوة اللائي قادتهن رغبات مختلفة، ليس المجاملة من بينها، والشباب الذين تابعوا الترزي بقبضة العسس، يطلقون ضحكات ساخرة، وكلمات بذيئة كتمتها أياديهم التي وضعوها على الأفواه، وهي تشير لقضيب الترزي الذي نال تعليقات لا داعي لذكرها لفحشها، جسد الترزي العاري نزّ عرقاً، لحياء تسربله، أظلمت الدنيا بعينيه وهو يشاهد نساء يعرفهن جيداً وسط الجموع، يثرثرن ويغمزن فيه، خديجة زوجته كانت وسطهن، شاهد على جبينها دمعات وذهول، حق لها أن تبكي، ربما الترزي تلك اللحظة قادته ذاكرته وهو يمسح تلك الوجوه لأيام خلت، كان يجد الاحترام، وكم تغطت وجوه النساء حياء، حين يقابلهن في الطريق أو هن يحضرن أولادهن إلى خلوته لدراسة القرآن، ويشملن زوجته بنفس الاحترام، بالتأكيد مناظر كثيرة تداخلت برأس الترزي، ستذهب كل إمراة لتجس موخرة ولدها، ربما يكون الترزي لاطه، وتجدها سانحة للتقيوء بكلمات السباب التي يخزنها صدرها، والرجال يصفقون بأيديهم تعجباً من الانحدار الذي وصل إليه، سمع همهمات تنخفض وترتفع، تصك أذنه كلمات تتطاير من الأفواه المحيطة به، يقول جاره وصديق طفولته:
- كنا نقف خلفه للصلاة ولم نشاهد عليه ما يسيئ!!
يرد احد المنتمين للتنظيم الملحد، بحديث هربت كلماته من ذاكرته وتبقي معناه:
- لا يزال الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقي بينه وبينها زراع فيعمل بعمل أهل النار والعكس صحيح.
اهتز جسد الترزي عند سماعه شخص لم يتبينه يهمس:
- فساد الشيوخ لا يتداوى!!
بحث عن صاحب الجملة بين الجموع وهو يستحضر الصوت، رفع احد الشبان عقيرته:
- لكن يا جماعة الولد مغري!!
رمقته بعض العيون مستنكرة، نفض الترزي رأسه وهو بعربة العسس المتجه إلى القسم، يحيط به عسعس لا يعرفهم، ولكن ذاكرته المشئومة قادته لأحاديث ستدور بين أصحابه في التنظيم، وربما حدث انقسام فيه، أمّا المعارضة الملحدة كما وصموها ستجد في فعلته مبتغاها، وتنشط في بث الحادثة بإضافات تجيدها، قطع ذكرياته الهذيانية صوت احد الجنود يقول لرفيقة بصوت عال:
- كلهم هكذا، هذه ليست المرة الأولي.
ضحك الآخر وردّ:
- كلما طالت اللحية زاد الانحراف.
ضحك الأول وقال
- مثل التيوس تماماً.
لو كان الترزي في وضع غير وضعه الحالي لأشبعهم خطبة عصماء كالتي يرددها في الميادين العامة، وهو خبير في الدفاع عن أخوانه في التنظيم، الذي تقول المعارضة الملحدة أن شروط الانضمام له أن تلاط، كلما أتقنت اللواط كلما ارتفعت مكانتك فيه. الترزي بكامل عريه، لم تفلح قطعة قماش افردها له احدهم، لم تفلح في ستره، نظر إلى الجنديين بمسكنة لا تتوفر عند الذين ضمهم للتنظيم، وأراد أن يطلب منهما الكف عن أساءته، أحس بلسانه قطعة خشبية، وذاكرته تقوده قهراً لأخوان له، وتلاميذ كانوا يأتون لخلوته، لم تحدثه نفسه بالاقتراب منهم، أعادته ذاكرته الملعونة إلى جلال، تراءت أمامه إلية جلال حينها همهم:
- ولكن جلال هذا شي أخر.
لكزه احد الجنود..
- وصلنا يا شيخ!!
قال يا شيخ بسخرية واضحة، فتح الترزي عينيه وهو يهبط من العربة الحكومية، والجنديان خلفه:
- ده بتاع الولد!!
قال احدهما
كان الجنود بالمركز قد تواطأت أياديهم عن عملها واتوا ينظرون إلى الترزي يهمهمون
- شيخ في أرذل العمر يرتكب الكبائر؟
- أعوذ بالله، تبقي له شبر من القبر!!
- قالوا الولد مغري خالص!!
كاد الترزي أن يقول للأخير صدقت، لسانه لم يطاوعه سأتجاوز عن استجواب الترزي بالقسم، لأنه معلوم بالضرورة كما يقول الفقهاء، رغم التكتم تداولت المجالس الحوار الذي دار بين المتحري وعلي الترزي، سأله المتحري عن اسمه ومهنته، وعمره وكيف ولماذا ارتكب الجريمة، زعم الترزي أن الشطان خدعة، سخر منه المتحري عندما نسب عمله لخدعة شيطانيه، وسأله:
- هل لديك دليل يؤكد أن الشيطان قد خدعك؟
لم ينتظر المتحري رد الترزي بل قال له بحسم:
- أركان الجريمة مكتملة وبقية كلامك اخبر به القاضي..
طوى المتحري دفتره ونادى جندي آخر وقال له بسخرية لا تتوفر في أمثاله من الجند
- قود شيخنا هذا إلى الحراسة.
أتى الجندي ولكز الترزي على ظهره وأمره
- قم أمامي!!
قام الترزي بتكاسل وسار أمام الجندي الذي قادة لحجرة الحراسة وادخله بها. هذه الحادثة أستغلها التنظيم الملحد في إغلاق الخلوة وأطلق عليها وكر الإجرام! وهم بتحويلها إلى ناد لولا احتجاج البعض، صبيحة اليوم التالي غادر جيب الله الحي، غادره ليلاً وبمعيته فاطمة، وانقطع أثرهما، ولكن مازالت الأفواه تجتر قصة الترزي وجلال، وبعض الذين يحبون الأخبار كانوا يذهبون للقسم يتابعون القضية، وقد حكى أحدهم:
- أحضر الترزي أمام القاضي حليق شعر الرأس وبعنقه مسبحته التي نعرفها، وقف بمذلة والجنود خلفه تطل من عيونهم بسمات استهزاء رغم صرامة الموقف، رفع القاضي رأسه عن أرواق إمامه وسأل الترزي:
- ما اسمك؟
- علي.
- مامهنتك؟
- ترزي.
قال احد الجنود
- يعلم الصبيان يامولانا!
لم يهتم القاضي بتعليق الجندي إنما وجه سؤاله للترزي:
- قُص علينا ما حدث؟
- كنت أصلي عندما أتاني جلال يركض خائفاً...
قاطعه القاضي
- من جلال؟ ولماذا كان خائفاً؟
- جلال هو الولد الذي اتهمت به، وكان يجري لأن والده أراد أن يضربه!
- هل تعرف لماذا أراد أبوه أن يضربه؟
- نعم سيادتك، لقد بال فوق عنقه.
ارتفعت همهمات من الحضور، أوقفها القاضي بطرقات على الطاولة وسأل الترزي:
- قص علينا ما حدث، أرجو أن تكون صادقاً
قال الترزي:
- يامولانا كنت أصلي عندما أرتمى جلال بحضني، يرتجف من الخوف وأتي أبوه خلفه غاضباً، أحتمى بي جلال، منعت أبوه من ضربه، خرج أبوه يسخط ويسب، وكان جلال بحضني دافئاً، أخذته ووضعته على السرير، وعدت لصلاتي أتمها، أنهيت الصلاة ونظرت إلى جلال، كان يغط في نوم عميق.
قاطعه القاضي وهو يعتقل ضحكة رسمية
- ثم ماذا بعد؟
تلفت الترزي
- يامولانا كان جلال في نومته تلك قد انكشف جزء من جسده، وأنت يامولانا تعرف الشيطان اللعين، قد وسوس لي، وحصل ما حصل! علت همهمات الحضور، القاضي بضيق طرق بالمطرقة، عمّ السكون قاعة المحكمة، قال القاضي:
- أين المجني عليه؟
رد جندي الحراسة
- هاهو يامولانا..
التفتت أعين الحضور نحو الطفل جلال، كان يقف أمام الجندي وعينيه تجولان ببلاهة في القاعة، وأصابعه داخل فمه، قال القاضي للجندي:
- اخرج الحضور.
خرج الجمهور من القاعة يضجون بضحكات وتعليقات متضاربة بعد ذلك تناقلت الألسن أن الترزي نال عقوبة صارمة وأطلق سراح جلال.










الفصل الثالث




المعلومات التي توفرت لدي رفعت ترمومتر أهتمامي لإكمال بحثي عن جلال، وليس أمامي سوي استنطاق شلة المقهى الكبير، هذه الشلة مخازن معلومات، مخازن لها مفاتيح عدة، عمر السكير كأس من خمر وطني، آدم كلمات مدح وتقريظ لقصائده الركيكة، حسين كلمات غزليه في جمال صديقاته، سليمان السجمان همسات كاذبة عن ميزات دولته وقاطنيها، لكن أين ألتقيهم؟ أعرف أنهم لن يأتوا إلى المقهى، ولكن كما يقول أهلي صادقين "صاحب الرائحة يفتش خشم البقرة" والبقر بالخرطوم هي المقاهي والعمارات التي تحت التشييد، مرت أيام لم يظهر أحد من الشلة بالمقهي، وأنا تقودني الرغبة للإلمام بحكاية جلال، فصرت أبادر بالمجي إلى المقهى وأغادره حين يغلق أبوابه، لعل أحدهم يأتي خلسة ليستطلع الأمور، علق احدهم على حالي قائلاً:
- أراك تأتي مع أول آذان وتغادر مع آخر سكران!!
كدت أيأس من ملاقاة أحد منهم. لكن ذاكرتي تقودني لمواقف الفيلاني مع الشلة فيرتفع ترمومتر إصراري لتكملة حكاية جلال القذرة، ذات تسكع كنت أسير في الشوارع أبحلق في الناس، أقرأ اللافتات وعناوين المكاتب والشركات، غلبتني ضحكة فاجرة وانأ أطالع لافتة مكتوب عليها بخط جميل" ترزي العرائس" لأن حسين اخبرني أن جلال كان يتحاشى السير بشوارع بها ترزي، واخبرني احدهم، لا اذكره الان، انه تتبع جلال فترة فرآه حين يمر بشارع به ترزي يديه تلقائياً تلتصقان بمؤخرته، كما قص على النادل الاريتري.
- جلال حينما يمر بجوار ترزي ينحرف نحوه حتى يكاد يلامسه ثم يهرول راكضاً بذعر.
في تسكعي ذاك رأيت آدم ومعه حسين يقفان تحت ظل عمارة لم تكتمل، يهمسان، بهدؤ اقتربت منهما،كلص حريف، تلاقت أعيننا قبل أيدينا، استعجلت المصافحة، أخبرني زميلي الصحفي أن مدير التحرير كان لا يصافح الناس بحجة أن اليد أقوي ناقل للجراثيم، قلت له:
- أذن ليصافحهم برجله!!
قهقه زميلي
- أنه يصافح بدبره!
كتمت دهشتي من جرأة زميلي، وسألته عن علاقة مدير التحرير بسكرتيرته.
ضحك
- قل علاقته بشفتيها؟
ومضى يقص:
- كانت حين تخرج من مكتبة تتقاطر شهوتها بجسد دافي ترتمي بحضن أول من تقابله، كانت حين خروجها منه ننتظرها لنظفر ببقية جسدها، نفضت ذاكرتي المتخمة بانتهازية مدير التحرير وشفاه سكرتيرة وبجاحة زميلي وعدت إلى قذارة الفيلاني.
بلهفة سألت آدم وحسين:
- أين اختفيتما؟
تنهد آدم كحالته حين يقرأ علينا قصيدة ركيكة:
- هذه قصة طويلة!!
في سري قلت وأنا أجتر جملة فاتنة المقهي
- كل أشياء آدم طويلة..
هذه الجملة ملكها، ولكنها تستثني قضيب آدم بقولها
- أنه قصير كطفل منغولي!!
رفع آدم يده وأشار لجرح بصدره
- هذا سبب اختفائي!
زفر جملته المبهمة وهو يرفع قميصه لأعلى
- أمّا ظهري فليس به قطعة سليمة من ركلة وطعنة
في سري قلت
- "لم تدع لخالد بن الوليد فضيلة"!!
كشف آدم بعض جروح بجسده
- لكني سأنتقم منه..
قلت له:
- ستنتقم من من؟
رد بسرعة
- العاهر أبن العاهرة...
زاد الأمر غموضاً
- من تقصد يا آدم؟
بنفاذ صبر قال
- الفيلاني!
سألته وأنا أحبس بسمة فرحة
- ماذا فعل لك الفيلاني؟
قبل أن يفتح آدم فمه رد على حسين بضيق
- جلال التافه اسمه الفيلاني، ألم تعرف ذلك؟
لطمته بإجابة جافة
- أعرف الذي لا تعرفه!
وبذات اللهفة سألت آدم
- اخبرني بالقصة!
للمرة الثانية أجابني حسين
- كان آدم بالمعتقل!
تجاهلت ردود حسين وسألت آدم
- هل الذي قاله حسين حقيقي.
بهمس أجابني:
- بكل أسف نعم..
دخلت في صمت لا ادري ماذا أقول، فجأة كلمح البصر نهض حسين وآدم وغادرا، نهضت الحق بهما، لكني رأيت فتاة هيفاء، جميلة كقمر، شهية كوليمة أمراء العصر العباسي، شعرها ينساب يلامس أردافها، لها أرداف يحلم بها الشعراء، وجهها كرغيفه بحلم جائع، وأنا تلك اللحظة كنت كنار مطفأة في سهل سافنا فقيرة، اعتقلت الفتاة بصري وتعلق بها فؤادي، ورفعت ضربات قلبي، شهقت ونفسي تحدثني:
- أنها لك، أتبعها!!
كدت أفعل لكني تذكرت بيت شعر يقول "البنات الجميلات في مكاتب الأمن واللاجئين" فماتت رغبتي فيها، وخاطر آخر يأمرني:
- الحق بآدم وحسين..
لعنت النساء الجميلات وطالت لعنتي القبيحات أيضاً، قال أحدهم بالمقهي الكبير ذات مرة:
- السودانيات أقبح النساء العربيات!!!
قاطعته
- لكنهن أجمل الإفريقيات!!
لطمني بجملة ككف عفريت
- ماهية علاقتك بالجنس الآخر؟
حماقتي ارتفعت، ثرت فيه، "الثورة تغييب للعقل كما قال أحد الحكماء" ثرت وقلت:
- أنا ضاجعت فلانة الزراعية وفلانة المهندسة، ومارست الجنس بالدول العربية والإفريقية، وضاجعت بنات قبائل لم تسمع بهن.
ضحك من اعترافي قائلاً:
- هذا اعتراف يجعلك تحت طائلة القانون، لا تنسي الاعتراف سيد الأدلة
خفت من حديثه فقد سنت الحكومة التنظيم الديني التي أطلقت عليها الشلة "حكومة الفيلانيون" أول من أطلقه سليمان السجمان، وتبنته الشلة بالسكوت الجماعي، كما سنت حكومة التنظيم الديني انتخابات تسمي كواردها التي فازت أنها فازت بالسكوت الجماعي، المهم سنت حكومة الفيلانيون قانون الشروع في الزنا والشروع في الكذب والشروع في السكر، والشروع في معارضة الحكومة وكانت عقوبتها التشهير والجلد والسجن والغرامة، وقد طال هذا القانون كثير من الشباب والشابات، وصارت بجيوب الرجال قسائم الزواج تحوطاً، لا يخرج الرجل إلا وقسيمة زواجه بجيبه، وكأي قانون تعسفي استفاد منه كثر، مزوري قسائم الزواج، والجند الذين أوكل لهم القانون قبض المتلبسين بالشروع.
لا علينا، المهم، بعد اختفاء آدم وحسين وانطفاء شهوتي بالحسناء، خرجت أهيم على وجهي والأسئلة بداخلي تتناطح:
- هل قابل آدم الفيلاني؟
هل الفيلاني هو من أعتقله؟ أنهم يقولون عنه إنه شاذ، جارنا الشاذ كنا نخاف نحن منه أيضاً، ولكن أمي تقسم أنه جبان، وأبي يصر، كل من يتساهل في حماية دبره جبان! إذن الفيلاني جبان، وصلت لهذه النتيجة رشوة لداخلي الذي صار يضج بهواجس وخواء يغمرني، أشعلت سيجارة أجنبية، كنت أعلن حبي للأجانب بحضور آدم، نساء، سجائر، لغة، ملابس، يشجعني سليمان بخبثه، ينفعل آدم، حبيبتي ريم تمتعض من تدخيني، أجبن من الرد عليها بجملتي التي كنت أصفع بها من يعترض على تدخيني "الفرق بين الانسان والقرد هو التدخين"، بعضهم يلاجج "القرد أيضاً يدخن" أرد عليه أن القرد يدخن تقليداً وليس أصيلاً.
نقلتني ذاكرتي لتلك الأمسية بالمقهي الكبير حين ظهر جلال، رأيت الرعب يتسربل الشلة، وخروجهم متخفين بطريقة مضحكة، نعم استفدت من هروبهم بواقي ذكري سقط من حقيبة محاسن، والآن هاهما آدم وحسين يختفيان، أيقنت من وقوف الفيلاني وراء اعتقال آدم. قلت في نفسي تلاقت قمم، قمة النضال مع قمة الخسة، هذه فرصة حري بي تسجيلها، لكن أين التقي آدم؟ لقد أختفي، قلت لنفسي: سيأتيان عاجلاً أو آجلاً إلى ظل العمارة، فصرت آتيها صباحاً وأمر بها مساء، أبحث عن آدم وحسين، باءت محاولاتي بالفشل، وتقزمت رغبتي في لقياهما، أو بالا حري دفنتها بصدري، ولكن مدير التحرير الغبي يطالبني:
- أين موضوع المثليين ياسيدي؟
أرد عليه
- لم يكتمل بعد..
يزداد غباؤه
- أريد أن أطلع على ما كتبته؟
تهربت منه بناءاً على نصيحة زميلي..
- لا تسمح له بذلك سينشره باسمه، هذا موضوع خطير!
ألح مدير التحرير في طلبه واستعصمت برفضي، مدير التحرير يتبني المثل القائل (إذا تشاجرت دودة مع صقر حتماً الدودة على خطأ) ناداني صبيحة يوم وقال:
- منذ التحاقك بالعمل لم تنشر تحقيقاً واحداً لذا أرجو أن تبحث لك عن عمل في مكان آخر!
ضحكت بصوت عال ومددت لساني نحوه وقلت له بتشنج:
- الأيام بيننا ياهذا!
خرجت منه غاضباً لحق بي زميلي قائلاً وهو يجهل أني هجرت الموضوع باختفاء حسين وآدم:
- أنشر موضوع المقهى الكبير بصحيفة أخري وسيندم مدير تحرير صحيفتنا...
قلت له:
- سأفعل، سأفعل، سأفعل لأغيظ مدير التحرير المخنث!
فغر زميلي فمه وسألني:
- حتى أنت عرفت؟
ومضي يقول ولم ينتظر إجابتي:
- أن مدير التحرير كان من رواد المقهى وخشي أن تأتي سيرته بمقالك وله علاقات مشبوهة مع بعض المثليين بالمقهي الكبير، وما زالوا يزورنه مساءً نهاية الدوام:
قطعت حديث زميلي بقولي الكاذب
- أنا اعرف ذلك.
خرجت أحمل غضبي، سرت مسافة ونظرت نحو مبني الصحيفة، نظرة وداع، سأفسح المجال لمدير التحرير يلعق شفاه سكرتيرته، كدت أقول السكرتيرة القبيحة. لكني تذكرت جملة القرد الذي لم يستطع نيل التفاحة فقال عنها مسيخة. عدت لتسكعي الذي أدمنته، التسكع معناه أن تعرف وانا أعرف الكثير المثير عن الخرطوم. عاد مصنع عقلي يعمل بطاقته القصوى، أنتج أسئلة محرجة، كيف لإنسان عنكبوتي الجيب العيش بمدينة الخرطوم؟ مدينة تفتح رجليها للغرباء وتضمهم عن بنيها. قلت في نفسي الانسان الحقيقي هو من يعتذر حين يخطئّ، ربما كان مدير التحرير على حقّ، أقصر الطرق للوصول هو انتهاز الفرص! أنحني للعاصفة! وزادت أسئلة أمي الملحاحة عن عطالتي، وتذمّر أبي من كسلي وخيبتي، وقد مات جنين الحب بداخلي للسكرتيرة، أمي تقول بحكمة افريقية:
- لاشيء يقتل الحب سوي الفقر وألم الأسنان.
لكي ألجم لسان أبي واجعله يبتلع تهكمه، وأفرح قلب أمي بحثت عن عمل آخر، بمساعدة البعض التحقت بدكان قريب لي، مهنه التجارة مهنة شريفة، قالوا لي، قلت:
- نعم هي مهنة شريفة لكنها تحلب العقل من أفكاره وتقتل كل موهبة..
مكثت عدة سنوات أعمل وقد سقط عن ذهني العمل الصحفي، رغم تردد زميلي الصحفي وإلحاحه بالعودة إلى العمل الصحفي، كنت أوعده وأنكث بوعدي، كان زميلي ينقل لي إخبار شفاه السكرتيرة، وأن مدير التحرير انتقل لصحيفة أخري وتبعته السكرتيرة، توصلت لنتيجة أن الشفاه تدمن! حين تركت العمل بالمتجر مع قريبي، قررت متابعة سيرة الفيلاني. كانت مياه كثيرة مرت عبر الجسر كما يقولون سنوات تعقبها سنوات، تطفو سيرة الفيلاني على سطح ذاكرتي، ثم تختفي، وحين يشدني الحنين إلى الشلة احضر إلى المقهى الذي لم يسلم من المتغيرات، ساحته صارت موقفاً للسيارات، النادل الاريتري عاد إلى بلادة بعد تحريرها، أقف على أثار الشلة، هاهنا كان يجلس سليمان السجمان يرشف كوب قهوته، وهنالك بالركن الذي تحول ساحة للصلاة، كان يتقى عمر ما فاض من الخمر، وفي ذاك الركن تشاجر آدم وسليمان، وفي ظل الشجرة الوحيدة التي اقتلعت أعلنت فاتنة المقهى فجورها، وبهذا المكان قرأ الفيلاني نظريته التي أجمعت الشلة على لفظها والسخرية منها، وبذاك الركن تفوهت الشلة بلعناتها التي شملت الساسة والكتاب والنساء، الوقوف على الأطلال تعيدني لجدودي العرب، يقفون عليها يندبون حظوظهم ويستحضرون جلسات مع حبيبات، ولكن شواغل كثيرة تمر بي تنسيني الفيلاني وسيرته القذرة، منها البحث عن عمل، ولكن ما تتناقله الألسن عن اعتقالات طالت الشلة، زرعت بقلبي توجساً، "الخواف ربي أولاده " وبما أن أولادي بعمر الزهور فخوفي أكبر!! كيف لا أخاف وقد تناسلت إشاعات عن طرق التعذيب الحديثة، إدخال زجاجة بدبرك!! ضحكت لقصة أحدهم أعتقل وكان يحمل فتيل صغير وعند تفتيشهم له وجدوا الفتيل فسألوه:
- لماذا تحمل فتيل؟
رد عليهم:
- قالوا أنكم تدخلون الزجاجة بالدبر وأنا مصاب بالبواسير لذا حملت هذا الفتيل لتدخلوه بديلاً عن زجاجتكم!
كل قصص الاعتقالات والتعذيب الصادقة والمتوهمة زرعت بقلبي رعباً، أقسى أنواع التعذيب لمدخن مثلي هو حرمانه من السجائر، أمي تقول التدخين يقتل همة الرجل قلت لها اسألي زوجتي، نقلت نظرها إلى زوجتي فطالت بسمتها السقف، ومن يومها صارت لا تنهاني عن التدخين. حمدت لها صمتها لو تمادت لقلت لها أن أبي أكثر الناس تدخيناً وأخرج من بطنك دستة حيوانات!! كثرت الأقاويل عن فظاعة طرق التعذيب، لم يسلم مواطن بالخرطوم من الاعتقال، خشيت على نفسي فغادرت الخرطوم احمل هواجسي وخوفي إلى مدينة القضارف، الأقدار هي التي قادتني لهذه المدينة، لماذا اخترتها؟ لا أذكر سبباً لذلك، ربما لبعدها عن موطني الأصلي، ولن يخطر على بال الفيلاني وجودي بها إذا بحث عني، ولربما لقربها من الحدود حيث توجد جيوش المعارضة، التسلل منها أسهل، إذا ضاقت بي السبل سأتسلل إلى المعارضة وأصبح بطلاً، أنقل لهم إخبار متوهمة عن الداخل، قصة الفيلاني وحدها تنصبني ملكاً للثرثرة، بالقضارف مارست مهن مختلفة، عامل بكافتيريا، مزارع، تاجر متجول، ومهن أخري أقرب إلى التسكع، القضارف مدينه يسهل للإنسان أن يندمج في مجتمعها. أهلها يؤمنون أنها تمنح من يأتيها واحد من ثلاثة أشياء، تزوجه، أو تغنيه، أو تقتله، ويبدو إني كنت عصياً على مدينة القضارف، لكنها كادت تنسيني الفيلاني وسيرته القذرة، طاب لي المقام فيها، ودخلت مجتمعها الغني بعادات قبائله، ومساحة تقبل الوافد أليها، وكدت أمسح عن ذاكرتي الفيلاني وشلة المقهى، لكن يبدو أن لعنة الفيلاني ظلت تتابعني، يقول سليمان:
- الفيلاني لعنة الأمكنة!
ويصيح آدم
- أيضاً الفيلاني لعنة الأزمنة.
ذات صباح كنت أسير بشارع ممتلئ بالعمال الزراعيين، منتشياً أترنم بأغنية (ياسمسم القضارف الزول صغير ماعارف، قليب الريد،)، هي أغنية شعبية عن القضارف، الشارع يطلقون عليه "شارع المليون غبي"، قلت لنفسي وأنا أسير فيه: هكذا أصبح أسمه شارع المليون وواحد غبي، ابتسمت للفكرة التي قطعتها مناداة باسمي، تساءلت
- أنا غريب بهذه المدينة من الذي يناديني؟
ألتفت إلى مصدر الصوت، سمعته للمرة الثانية، شاهدت شخص طويل كالهم في القلب يناديني، وقفت أنتظره وهو يقترب مني، لم أعرفه، أبتسم ومد لي يده مصافحاً. وقال:
- ألم تعرفني؟
أجبته بخفة
- لا.لا.
زادت بسمته التي تخفي خلفها مرارة
- أنا آدم، كنت معكم بالمقهى الكبير..
أنقسم فؤادي وأنا أتساءل
- آدم الشاعر المناضل؟
أجابني
- نعم صديقكم الشاعر آدم!
سألته وقد تعانقنا
- ما الذي أتى بك؟
جذبني من يدي قائلاً
- هيا ياصديقي لمكان آمن!
خطر ببالي جملة قرأتها لأحد الفلاسفة تقول "لا يمكن لإنسان عاش تحت نظام قمعي لمدة عام واحد أن يكون سوي السلوك" كنت دائماً ارددها لمن يرى في سلوكي ما يعيب وما أكثر عيوبي، المهم أن هذه الجملة صارت عزاء لي، ومبررا لخوفي من الاعتقال، خرجت أنا وآدم من شارع المليون غبي، بخروجنا فقد أسمه، جلسنا بقهوة بائسة، طلب لي آدم فنجان قهوة وطلب لنفسه مثله، قلت في نفسي هذه سانحة لن تتكرر، وعلي انتهازها: "الانتهازية أقصر الطرق إلى الشهرة" والدليل مدير التحرير الغبي، كان فحّاماً وترقي لبائع صحف وبانتهازية أتقنها صار مدير تحرير، ليت شفاه السكرتيرة تتحرر من فمه الأبخر، بلا مقدمات سألت آدم عن الفيلاني، انطلقت كلماته وقد اختلطت بخبثه القديم، أن الخبث يستقر بباطن القلب كما تقول أمي، يسب ويسخط، تركته حتى يهدأ واعدت سؤالي، نظر إلى بعينين بريقهما كشرر يطل من جفنين قد ضاقا وقال بفمه الذي قذفنا بكلمات ركيكة يسميها شعراً
- هل تذكر آخر مرة تقابلنا فيها تحت العمارة ومعنا حسين؟
قلت
- كأنها حدثت اليوم!
تنهد ورشف من قهوته
- كنت أود أقص عليك ما لقيته من العاهر أبن العاهرة، ولكني شاهدت أحد أتباعه يحوم حول العمارة التي كنا نستظلها..
سألته وبذهني الفتاة الجميلة كقبلة التي كدت اتبعها ذاك اليوم
- هل قلت أحد أتباع الفيلاني أم احدى أتباعه؟
لم يفطن لسؤالي وربما لم يتبينه، رد
- قلت لك شاهدت أحد أتباع القذر ولهذا انسحبت مع حسين..
تذكرت تلك الجلسة كان ثلاثتنا نجلس تحت ذاك الظل وأمامنا أكواب القهوة، فجأة اختفى آدم وحسين! قلت لآدم..
- لي سنوات أبحث عنك، ولكن اخبرني ماذا تعمل القضارف؟
أجابني
- لاشي فقط رزق اليوم باليوم!
سألني آدم
- ما الذي أتى بك أنت؟
قلت صادقاً
- لا أدري!!
ضحك لأول مرة
وأنشد بيت درويش"نأتي إلى بيروت كي نأتي إلى بيروت"
ضحكت
- مازلت تحفظ الشعر ياصديقي؟
- هل الشعر ينسي؟ أنه كالأوكسجين لنا نحن معشر الشعراء..
قلت منافقاً له
- أذكر كنت كل ليلة تنفحنا بقصيدة جميلة!!
تنهد
- آه... ذاك زمان لن يأتي، كنت أظن العالم بين قدمي فتاة جميلة..
قاطعته
- مثل فاتنة المقهى الكبير؟
وضع يده على كتفي وقال
- أسمع هذه البنت نحن ظلمناها كثيراً وهي أشرف من الفيلاني وقد علمت أنها أسمعته كلاماً يستحقه بالمعتقل!
سألته
- أيضاً هي اعتقلت؟ هذا موضوع جميل!!
رأيت اندهاشا مرسوماً على جبينه
- كيف تقول عن اعتقال إنسان موضوع جميل؟
ضحكت
- لأني اكتب في سيرة الفيلاني، وكدت انتهي من كتابه تقرير عن الفيلاني باسم سيرة قذرة واعتقال فاتنة المقهى يفيدني وأود إن تمدني أنت بما تعلمه عنه...
قال بفرح ممزوج برغبة في الانتقام
- أنا جاهز وسأحكي لك تفاصيل التفاصيل عن أبن العاهرة..
سألني وضحكته مازالت مستمرة
- هل أبدأ من لحظة اعتقالي وما واجهته بالمعتقل؟ أم كل ما أعرفه عن العاهر؟
أجبته:
- أريد أخباري عن ما تعرفه عن الفيلاني.
أعتدل بجلسته صار يحكي بتشفي عن جلال قائلاً
- رغم مرور السنوات، ذاكرتي تستحضر هذا الملعون، قابلته في مسارات الحياة المتعرجة، يبدو لي أن اغتصاب الترزي له أضاف عقدة إلى عقده الكثيرة، أولها عقدته من أمه التي ربته، أذكر أول يوم ادخل منزلهم، كان هذا أيام أبدي رغبته الانضمام إلينا بالتنظيم الذي كلفني بهذه المهمة، رأيت أمه، كانت طويلة القامة بيضاء البشرة، قال لي الفيلاني
- هذه الحلبية أمي!
اندهشت كيف يصف إنسان أمه بالحلبية وكما تعلم نحن نطلق هذه الصفة على الغجر، قالت أمه جملة مازالت تطن بأذني حينما سمعتنا نتناقش
- أنا أمه لا افهم حديث جلال المتقطع الحروف كيف تفهمه أنت؟
نعم كانت الأحرف كما تعلم تخرج عبر منخاريه، حملت تكليف التنظيم بجد، صرت أسأل وأستفسر عنه، زرته في منزلهم جلست معه ساعة واحدة زفر دبره خلالها أكثر من مائة فسوه ومثلها من الضرطات، وتتبعته في المدرسة، جمعت معلومات مخجلة عنه وعن أسرته، انه طفل لقيط تبنته هذه الأسرة، وتعرض في طفولته لحادثة اغتصاب، وهي التي أرقت والده جيب الله وهو الرجل الذي تبناه، وقد استفاد التنظيم الملحد من حادثة الترزي ونحن أيضاً في تنظيمنا استفدنا منها..
سألت آدم بلهفة
- كيف استفدتم منها؟
رد
- أصبر يا أستاذ ستأتي في حينها...
وواصل حديثه
- المهم في الأمر أن طفولة جلال كانت تختلف عن أي طفولة، لقد فقد البراءة منذ مولده كما يعلم الجميع، ولد في مذود!
قاطعته
- لا يعيب إنسان ولد بمذود، سيدنا عيسي عليه السلام ولد بمذود ببيت لحم،
أنتفض آدم قائلاً
- كيف سمحت لك نفسك أن تذكر القذر مع سيدنا عيسى في جملة واحدة؟
اعتذرت، هدأ آدم وصار يحكي
- كان جلال بعد حادثة الترزي المتدين، هل تعرفها؟
أجبته بسرعة
- نعم!
عاد آدم يسرد
- كان جلال يصحو من نومه هلعاً يصيح: دبري... دبري، ويده تحك فرجه، الأطفال في سنه عند صحوتهم يبدءون يومهم بغسل وجوههم أمّا هو فقد كان يبدأ يومه بغسل دبره، وسط ذهول أمه، وسخط والده جيب الله، صمت آدم يبحث عن اثر حديثه بوجهي، ثم واصل حديثه
- اشتكي بعض الشبان بالحي إلى جيب الله لان جلال كان يرهبهم ويجبرهم على ممارسة اللواط معه، وحين يفرون منه يبلغ تأزم جلال مداه، يلتقط بعض الأعواد، فيدخلها بدبره حتى يسيل الدم، وقد أطلق عليه اسم الكلية المهوبلة، لكثرة ما يطالب به رفاقه للطلوع فوق ظهره، يقول بعض أنداده...
- إنهم في قمة أنهماكم في اللعب يطلب منهم جلال ذلك، ويساعده جسده الضخم في إخافتهم!!!
كل هذه الأحداث تنقل بإضافات لجيب الله وفاطمة، فاطمة التي أصابها خرس مفاجئ، وجيب الله كان قلبه يرفض تلك الأقاويل، لكن ذهل ذات مرة، كان نائماً فأحس بشي يعبث بقضيبه، نهض مفزوعاً فوجد قضيبه داخل فم جلال يمص فيه، حين هم بضربه هرب منه نحو الترزي، تلك الساعة حدثت عملية الاغتصاب، جيب الله بعد هذه الحادثة هداه تفكيره للبحث عن علاج لجلال، قادة تفكيره إلى شيخ اشتهر بعلاج الأمراض النفسية...
قاطعت آدم متسائلاً عن الشيخ؟
أجاب ادم:
- ليس شيخاً بالمعني المعروف، أنه احد الوافدين من غرب أفريقيا يدعي شيخ أبكر..
تدخلت مستفسراً
- عرفته لقد رأيت جلال معه! أليس هو ذاك الشخص الذي يبيع عروق المحبة وكتب صفراء أمام منزل الدكتور المناضل الذي يدعو إلى علمانية الدولة، بوسط الخرطوم؟
رد أدم
- نعم هو نفس الكائن الذي وصفته، ولكن هل رأيت الفيلاني معه؟
رددت بيقين
- نعم رأيتهما معاً.
قال ادم هذه
- معلومة مهمة لي!
لم أسأله عن أهمية المعلومة بل طلبت منه مواصلة الحكي...
سألني
- أين توقفنا في قصة اللوطي؟
قلت له
- جيب الله ذهب بابنه جلال إلى الشيخ...
ضحك ادم
- ابنه... هههه جميلة جداً..
ثم واصل حديثه
- تفل الشيخ برأس جلال وهو يتمتم بتعاويذه، وقال لجيب الله:
- ولدك راكبه شيطان...
رد جيب الله مومناً
- عشان كده جبته ليك..
نظر الشيخ لجلال، جذبه ردفه المكور ونعومة بشرته، وقال:
- خلاص خليه معي.
ترك جيب الله أبنه جلال عند الشيخ وقد اوصاه به خيراً، قاطعته بجملة
- ربما فهم الشيخ أن اللواط فعل خير!
ردد آدم كلمة خير عدة مرات، وقال:
- المعلومات عندي، أن ذلك الشيخ قد لاط جلال مرات عديدة، في أحداها وجده جيب الله متلبساً، فوق ظهر جلال، ولكن الشيخ أقنعه أنها الطريقة الوحيدة للعلاج ،قائلاً وقد كسى وجهه صرامة ورفع يده عليها المسبحة نحو وجه جيب الله..
- والله أنا لا رغبة لي في ولدك لكني عزمت على ذكرى وأدخلته بدبره ليتعالج، حسب تعاليم الشيوخ.
وعندما رأى الشيخ الاطمئنان يعم جيب الله واصل حديثه
- الشيوخ قالوا في مثل حالة ولدك لازم يتعالج بنفس العلاج، الم تسمع يا جاهل: وداويهم بالتي هي الداء؟
ولان جيب الله يجهل أسرار الدين صدق حديث الشيخ واقتنع أن ما قاله الشيخ احدى الآيات، والشيخ بهذه الحجة أصبح يلوط جلال صباح مساء، يواصل ادم يحكي بفجور أختص به وحده:
- أن الشيخ في زيارة جيب الله تلك، نادي جلال وسأله
- هل شعرت بتحسن؟
هز جلال رأسه مؤيداً وأرتمى في حضن الشيخ ويداه يبحثان بين فخذي الشيخ، ضحك الشيخ وصار يضرب في ردف جلال:
ويقول:
- أخرج ياشيطان!
توقف ادم عن الحكي لأن ضحكة ماكرة احتلت فمه، أطلق سراح ضحكته وقال:
- كان جلال حين ينزل الشيخ من ظهره تكسو وجهه بسمة مغرية، ومازالت هذه البسمة لم تتغير كلما لاطه شخص، تشعر بها منتشرة في جسده، يخرج جلال من الشيخ الذي ينهمك في غسيل قضيبه بعد أن قضى وطره من جلال الذي يسرع منتشياً إلى أنداده، يلهو معهم، ويقص عليهم دون تحرج ما فعله الشيخ به، يقول احد الأطفال الذين أجبرهم جلال على إدخال قضيبه بدبره، أن جلال يقول له بلا تحرج أمام الأصدقاء:
- حق الشيخ كبير وطويل ليس مثل حقك القصير ده!!
الصبي المسكين ينكمش،هنا تظهر بشاعة جلال ويرغمه
- مثل مافعلت لي أنا أريد أن افعل فيك!!
يرفض الفتى ولكن جلال يصرعه ويعتلي ظهره، ولجلال تصرفات أخرى تنم عن حقد، كلما وجد جلال شخصاً نائماً سل قضيب وبال فيه، وإذا وجد فتاه وحيده بالطريق العام يمسكها ويضمها وأصبعه يجوس بين فخذيها، وكثرت التعليقات من قاطني الحي وتذمرهم الذي يصك أذن جيب الله وفاطمة. توقف آدم عن الحكي ليشعل سيجارة، ربما تعينه ليتذكر قصة جلال، انتظرته حتى أطفأ سيجارته وواصل:
- بالمرحلة الثانوية زاد ردف جلال، كأنما مسه شيطان، بعنقه مسبحة وبذراعه حجاب يحميه شر حاسد إذا حسد، وجسده أكمل استدارته شحيماً بطيناً، وهذا ما أهله ليتزعم تنظيمه الديني بالمدرسة وزاد تقرباً لأستاذ التربية الدينية بها، بالمدرسة الثانوية كان اسمه متداول بين رجالات التنظيم الديني خارج المدرسة، ليس اسمه الحقيقي!!!
- اسمه الحركي الذي أطلقه عليه التنظيم الديني هو الفيلاني، يبدو لأنه يشبه الفيل أطلق عليه هذا الاسمَ، ومضى ادم يقول:
- أوكلت إلى الفيلاني مهام خارج المدرسة، وتقول معلوماتنا أنه شارك في مسابقة حفظ القران بدولة اسلامية، وأن كبير التنظيم قد قربه إليه وصار من خاصته، ولم يبال بالاحتجاجات التي تصله عن سيرة جلال، أحدهم غادر التنظيم غاضباً، محتجاً لقص حكاية الترزي مع جلال لكبيرهم بالتنظيم، قال إن كبيرهم صرخ فيه:
- لو حاسبنا عضويتنا على مثل ما حدث لجلال لما تبقي احد معنا!
ثم واصل جملته:
- هذه الطريقة الوحيدة لضمان ولاء العضو!!
ثم رفع صوته، وسأله:
- هل مازال دبرك سليم؟
يقسم الزاعم أنه قال لكبيرهم:
-غيرك لا اعرف احد حدث له مثلما حدث لجلال..
يضحك الزاعم ويقول إن كبيرهم لا إراديا وضع يده على موخرته، أتم ادم جملته الأخيرة وانطلق يقهقه ويربت على كتفي، حتى قلت متى يصمت عن القهقهة؟ كلما فتح فمه ليقول كلمة تغلبه ضحكة طويلة، أخيراَ صمت وهمس:
- من مخازي جلال سوى استهلاك دبره فإن روحه أيضاً استهلكها!!!
تعجبت من حديث آدم ودخلت في صمت كثيف، تشجعت:
- كيف استهلك جلال روحه؟
أحس ادم بأهمية ما يخزن من معلومات فأرتفع زهو لايشبهه:
- هذه المعلومات أسرار حزبية لولا صداقتي لك لن أبوح بها!!
أقسمت له لن تخرج من صدري، أعاد حديثه:
- لأنها معلومات خطيرة!
قلت له بنفاذ صبر:
- لن أبوح بها لأحد!
أعتدل في جلسته وأطفأ سيجارته الوطنية خلفه وقال:
- المعلومات تقول أن جلال حاول مرات عديدة التمرد على تنظيمه والانضمام لتنظيم أخر..
- هل هذا أمر حزبي؟ أم مرض نفسي؟ سألني:
أجبته
- لا أعلم يا صديقي!!
جهلي أصابه بشرنقة غرور فأمطرني بما يدور بين التنظيمات من التنافس، والكيد السياسي، وقتل الشخصية بإطلاق إشاعة عنها، تحملت خطبته السياسة على مضض، شاهد الامتعاض سجل حضوره فعاد لقصة جلال...
- ابتدأ بتنظيمنا، تجسسنا عليه ورفضناه، للمعلومات التي قلتها لك قبل قليل، يدق ادم صدره بيده ويقول بفخر ثوري أنا كنت وراء رفض جلال، وقد هم بعض الرفاق بقبول عضويته كفترة تحت المراقبة، ويواصل ادم حديثه:
- لوقت قريب كان الطلب الذي تقدم به جلال لينضم إلينا، عندي، اذكر ذاك اليوم الذي رفضناه فيه جيداً ،قد أوكل لي التنظيم أخبار جلال برفضنا طلبه، قابلته وأخبرته بذلك، لقد تقبل حديثي ببرود، كدت أسأل آدم: لماذا رفضتموه؟ ولكني كتمت سوالي كأنما علم بسوالي المكتوم أجابني..
- لانحرافه الجنسي!
واصل حديثه، لم تنقطع متابعتنا لجلال، لقد علمتنا التجارب ذلك، وقد علمنا أن جلال ذهب لتنظيم آخر، وهو تنظيم مخترق من قبلنا، ومن جماعتنا بهذا التنظيم الأخر الذي يوصم بالإلحاد علمنا انه كاد يقبل عضويته، وقد مر طلب انضمامه من المسئول الأول إلى المسئول الأعلى، طالت فترة الرد بالرفض أو القبول، ذهب جلال مغاضباً إلى مكتب التنظيم، ادخلوه على الرئيس الأعلى، أجلسه وبدأت الأسئلة، أبن من؟ أين تسكن؟ لماذا تود الانضمام لنا، وجلال يرد، كاد المسئول الأعلى يوافق على طلب الانضمام، أمسك القلم ليوقع أسمة مزيلاً موافقته، لكن دخول احدهم أجل الاعتماد، وسوس الذي دخل في أذن المسئول وناوله ورقة وخرج، افرد المسئول الورقة ونظرها، كأنما يشرب اسطرها ثم طواها بعناية وادخلها الدرج، بعدها كسى المسئول وجهه بصرامة.. وسأل جلال:
- هل تعرف على الترزي؟
نهض جلال كملسوع ثعبان واضعاً يده على دبره، ضحك المسئول وخاطبه:
- اجلس يا... لوطي!!
قالها هامساً، بآلية جلس جلال، اخرج المسئول الورقة من درجه ومدها إلى جلال وقال وكسى وجهه صرامة وخاطبه وهو يحدق فيه:
- اقرأ....
بيد مرتجفه قرأ جلال:
(بلاغ رقم 213 لسنة 1962 أمامي وبحضوري أنا القاضي (...) وبحضور الشاكي جيب الله محمد ضد على حسن (الشهير بالترزي) بخصوص البلاغ المقدم في مواجهته باغتصابه ابن الشاكي (جلال) بعد استمعت المحكمة إلى أقوال الشاكي وأقوال المتهم والشهود أقرر الآتي: السجن لمدة سبع سنوات واجبة النفاذ، مع الغرامة المنصوص عليها..)
هنا انهار جلال تماماً. نهض مسئول التنظيم واستلم الورقة ثم وضع يديه على الطاولة وخاطب جلال:
- اسمع يا أنت هذا المستند لا يوجد خارج درجي، أرجو أن لا أضطر لإخراجه وإشهاره، وهذا يتوقف عليك...
بوهن قال جلال:
-علي أنا؟
- نعم يتوقف الأمر عليك..
قال المسؤول جملته هذه وجلس على الكرسي، موقناً من اصطياده لجلال، طال الصمت بينهما المسئول يحدق في جلال وجلال يلصق بصره بالأرض، قطع جلال الصمت وقال بانكسار:
- ماذا تود أن افعل؟
ابتسم المسئول وقال:
- الأمر بسيط جداً...
بسرعة قال جلال:
- ماهو ؟
لم يرد المسئول بسرعة أرادها جلال بل تمعن فيه جيداً وقال:
- أن تستمر في تنظيمك وتمدنا بكل معلومة نطلبها منك.
- هل توافق؟
أجاب جلال بوهنٍ:
- موافق.
زادت فرحة المسئول وقال:
- خلاص اتفقنا سرك في بئر لن يطلع عليه احد ولكن أذا أحسسنا أو شعرنا بخيانة تأكد أن الجميع سيعلم به.
- "عارف." الكلمة الوحيدة التي استطاع جلال النطق بها وهو يغادر مكتب المسئول. دخل آدم في صمت طال، أنا رأسي يضج بأسئلة متشابكة، وصدري امتلأ غيظاً على جلال، وسرحت أستحضر كل ما عملته عن جلال وأقارن بحديث أدم الذي قطع سرحاني بجملة ساخنة:
- كل هذا لا يساوي الأيام التي قضيتها بالمعتقل تحت رحمة العاهر!
قال جملته هذه وهو يوليني وجهه، فتحت فمي لأحثه على الكلام، لكنه سبقني:
- أسوأ أيام حياتي التي كلما أتذكرها ينقبض قلبي، ليتني قتلت الفيلاني، قاطعته:
- لو قتلته لما قابلتك!
التفت نحوي كأنما أول مرة يشاهدني وزفر قائلاً:
- كنت ذات نهار أسير بشارع القصر، بالقرب مصرف المزارع، شمال وزارة المالية، عندي موعد مهم مع حبيبة كضوء الشمس، يانعة كثمار خريفية، مستقيمة كشعاع -هذه كذبة بلقاء من آدم أرجو عدم تصديقها- السيارات بأبواقها ترعب العابرين، ومن بينهم أنا، كانت العربات تسير بسرعة جنونية، حاولت أن أعبر للاتجاه الآخر من الشارع، حيث تقف حبيبتي، أتت سيارة مسرعة، حاولت أن أتفاداها، قفزت خارج الشارع، انحرفت السيارة نحوي، أيقنت حينها من الموت، توقفت قربي، ارتميت على الأرض، هبط منها سائقها ومعه بعض الأفراد، حملوني على أيديهم واركبوني فيها، تجمهر الناس، سمعت صوتاً يزجرهم بعنف:
- ابتعدوا!
تحركت السيارة بنفس سرعتها الجنونية، وأنا بين الحياة والموت، قصدي بين الموت والموت، كان بيميني احدهم ويساري آخر، كل واحد منهم يمسك بيدي بقوة، ويد أخري تدفعني من رقبتي إلى أسفل المقاعد، بالتأكيد عصبوا عيني بقطعة قماش سوداء، كنا في المقعد الخلفي للسيارة، سمعت لغطاً يدور حولي:
- هل هو نفس الشخص؟
- نعم..
ضحك أحدهم بفجور..
- جسوا جسده
امتدت بعض أياديهم وتحسست جسدي وقالوا:
- وجدناه سليم سوي بعض الرضوخ البسيطة...
زادت الضحكة وقال صاحبها...
- المهم مؤخرته تكون سليمة!
الصوت رغم معاناتي تبيننه، انه صوت الفيلاني، حينها أيقنت أني في قبضته، تململت في جلستي، زادت القبضة على يدي، سارت العربة بشوارع أكاد رغم إغماضهم لعيني أعرفها، أخيرا توقفت السيارة، سمعت الباب الأمامي يفتح ويهبط منها احدهم، شعرت به يقترب من الذين حولي
- انتظرا حتى أناديكما!
ظللت في قبضتهما، يبدو أن أمراً أتاهم بإنزالي من السيارة، أرخت الأيدي قبضتها عن معصمي، فتح الباب الأيمن وهبط من كان بيميني وجذبني من يدي شدة الجذب كادت ترميني على الأرض، لحقت مؤخرتي ركلة من الآخر، تبعتها صفعة، والشتائم تنهال على، والسياط تأتيني من كل جانب، واليد تجذبي، سمعت صرير باب حديدي يفتح، ركلة أخرى رمتني داخل حجرة أرضيتها رطبه، أحدهما أغلق الباب وبصق على وجهي، رفعت يدي وأزلت الغطاء عن عيني، وجدت نفسي بغرفة لا تزيد مساحتها عن متر واحد، بها كوة صغيرة قرب سقفها، أرضيتها مبتلة بالماء، يسرح فيها نمل كثير، وأشخاص مكومون عليهم ملابس ممزقة على وجوههم كدمات وجروح ترشح دماً،ارتعبت للمصير الذي سألاقيه،نقلت نظري منهم هربت به نجو الجدران الخشنة القميئة، قرأت مخربشات مكتوبة بدم، "نحن وقود الثورة، لاتجبن إمام الجبناء" كل دور أذا ما تم ينقلب، وإذا الشعب يوماً أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر" توقفت عند جملة كتبها احد المعتقلين سجل تحتها أسمه تحتها "الثوري" الجملة تقول"أن الشعب السوداني كشهوة المخنث يمكن إن تختفي عشرون عاماً ولكنها حين حضورها الويل لمن يقابلها".. هذه الجملة أضحكتني في موقفي العصيب بالزنزانة الكئيبة، وزرعت أمل بداخلي تحسست جسدي، كدمات على خدي، وجروح على عنقي، أمضيت تلك الليلة بالغرفة، لم يسألني أحد، وفي صبيحة اليوم التالي بدأ استجوابي، جاء احدهم سمين كبغل، نهرني..
- قم!
نهضت ونفضت التراب عن جسدي المعفر، وتبعته، كلما مررنا بأحدهم قال الذي يقودني:
- هذا آخر الشلة الخبيثة!!!
فكان رد الآخر صفعة على خدي أو ركلة على ظهري، أدخلت غرفة فسيحة، تمعنت فيها، بها طاوله أنيقة وأعلى منها على الحائط بخط كوفي مكتوبٌ (العدل أساس الملك)، كانت الغرفة خالية، الطاولة خلفها كرسي وأمامها كرسي حدثتني نفسي بالجلوس عليه، في هذه اللحظة أنفتح الباب ودخل الفيلاني يتبعه بعض زبانيته، قال لي الفيلاني:
- قادك حظك النحس للوقوع بين يدي يا آدم...
صمت وحنيت رأسي، خاطبني أحدهم:
- لماذا لا ترد على سيادته التحية؟
رمقته بطرف عيني، قال له الفيلاني:
- دعه سيعرف كيف يرد!
جلس الفيلاني خلف الطاولة وزبانيته يحيطون بي، أشعل الفيلاني سيجارة ومج دخانها على السقف، وهو يتمايل بالكرسي الوثير، الصمت يعم الغرفة، قطع الفيلاني الصمت...
- كيف تريدون إن يتفسح أخوكم آدم؟
أتته أصوات متداخلة...
الزجاجة، الماء، الشطة، الكهرباء... كلما نطقوا جملة تصلب جسدي
ضرب الفيلاني الطاولة بيده:
- أولاً أخلعوا عنه ملابسه!!
هجم على ثلاثة غلاظ يحاولون نزع ملابسي، قاومتهم ضحك الفيلاني
- أنت موخرتك موخرة من ذهب؟
ثم خاطب الآخرين، أنزعوها منه، زادت شراستهم وانهارت قواي، تمزقت ملابسي المتهرئة وصرت عارياً أمامهم، تقدم نحوي الفيلاني وأنا مشدود الوثاق، بعصاه يحملها بيده داعب قضيبي...
وسألني:
- لماذا هو قصير هكذا؟
رد احدهم:
- من قلة الاستعمال!
قهقه الفيلاني وعينيه مازالتا على قضيبي، تلك اللحظة أحسست بمعاناة الفيلاني، لم يستطع أبعاد عينيه عن قضيبي، لولا وجود زبانيته لوقع عليه يمصه، وقف مسافة ينظر وينظر تدلي لعاب من فمه وسقط على قضيبي، مسح فمه من اللعاب بسرعة وخوف والتفت نحو زبانيته..
- أبطحوه على ظهره لنعرف موخرتة هل مازالت سليمة!!!
فجأة وجدت نفسي مرمياُ على بطني وعصاه يحاول إيلاجها بدبري! قاومت ما استطعت، كفوا عن محاولتهم إيلاج العصاة وأنهضوني وأجلسوني على الكرسي، عاد الفيلاني لمقعده فأشعل سيجارة أخري وخاطبهم:
- هذه موخرة أسمنتية لا يثقبها سوي قضيب الترزي...
أبحثوا عنه وآتوني به، أمّا هذه الجرذ فارموه خارج المدينة هذه الليلة، جاوبه صوت ضاحكاً..
- أنا له!
نظرت لصاحب الصوت..
- هل تتخيل من رأيت؟
لم ينتظر إجابتي بل واصل حديثه كأنه يقرأ من لوح إمامه
- إنه المناضل الملحد!
حين ذكر آدم سيرة المناضل الملحد انتقلت ذاكرتي لماضي بعيد تلك الليلة بالمقهى الكبير والمناضل الملحد يفتخر أنه ولد مناضلاً ويمضي يقول:
- لحظة أذيع البيان الأول خرجت من بطن أمي صارخاً..
قاطعة سليمان:
- إذا كنت صادقاً فهذا دليل على تأييدك للانقلابات؟
ربت آدم على كتفي، وسألني:
- أين سرحت؟ قلت له:
- دعك مني واصل حديثك...
تنهد آدم
قال المناضل الملحد جملته القميئة واقترب مني، بصق على يده ومسحهما مع بعض وصفعني، وهو يقهقه بنشوة غريبة، وقال:
- سأهتك عرضك أنا يا آدم!
قلت له وأنا أعنيهم جميعاً
- ألا تخافون الله؟
ارتفعت قهقهات المناضل الملحد وسألني متبجحاً وهو يشهر بطاقته إمام ناظري:
- هل يملك الله بطاقة مثل هذه؟
ومضي يقول بذات الاستهتار:
- هذا المبني لا يدخله أحد لا يملك بطاقتنا..
تدخل الفيلاني وأمرهم بالكف عن الكلام، وطلب منهم بالكف عني، ثم التفت نحوي وأنا أرتدي ملابسي الممزقة...
- أذهب وألزم الصمت وسنساعدك على الصمت، نادي المناضل الملحد وأمره خذوا له صوراً عارية...
وقال لي:
- بهذه الطريقة نلزمك بالصمت يا آدم يا شاعر يامناضل!
كانت السخرية واضحة في حديثه، تقدم نحوي بعض الإفراد ونزعوا ملابسي الداخلية بعنف، صاح فيهم الفيلاني:
- المصور، أين هو؟
رد عليه احدهم وهو يحرك كاميرته بيده..
- ها هو..
ثم تقدم نحوي التقطت لي صور وأنا عاري الجسد! وقف الفيلاني وقال لي:
- الآن تبقى عمل بسيط يا شاعر..
صمت فترة كشهقة كلب بلع سماً وقال:
- أكتب قصيدة مدح في حكومتنا! وبعدها سنطلق سراحك، ما قولك؟
قلت له:
- كيف أكتب شعراً هكذا؟
رفعت أصابعي الملطخة بالدم نحوه! ضحك وقال:
- خلاص سنطلق سراحك واكتبها وأرسلها لنا، والآن يمكنك أن تذهب!
نهضت وارتديت ملابسي الممزقة، برقة مدهشة قادوني لعربة سوداء، أدخلوني بل حشروني فيها، كان الوقت ليلاً، تحركت بنا العربة بسرعتها المجنونة، حتى خرجنا من مدينة الخرطوم، كان من معي شبان صغار السن، سمعت همهمتهم... (الفيلاني مريض نفسياً/ البنت التي يقال لها فاتنة المقهى أحرجته أمامنا /أين نجد له الترزي؟/ كلما أحضرنا له ترزي طلب المزيد!!/ عمر الطيب مسكين لا يستحق كل ماعذبناه به/ لا.لا./ أصمتوا لا تثرثرون!....)
فُتح الباب ودفعوني من الخلف إلى الأرض، وهموا بالمغادرة تتبعهم قهقهاتهم البغيضة، احدهم يبدو أن به بذرة خير دس بيدي مبلغ واحد جنيه! نهضت في ذلك الظلام الدامس، وجدت نفسي وسط مقابر، لا أعرف أين أنا، تحركت في كل الاتجاهات، لم أتبين طريقاً يقودني إلى المدينة، قبيل انبلاج الصبح شاهدت خيالاً، بصوت واهن نادينه، وقف بعيداً ربما ظن أن الذي يناديه لص أو مجرم، قال لي:
- ماذا تريد؟
قلت له:
- أين الطريق إلى الخرطوم؟
من مكانه قال:
- اتجه شمالاً ستصل...
ثم أسرع مبتعداً، تحاملت على نفسي وسرت حتى وصلت عند الصبح إلى الطريق العام، وجدت عربة لحسن حظي بها مقعد واحد شاغر، ركبت فيها، كانت عيون الركاب تثقبني متسائلة عن هيئتي بشعري المغبر وجسدي المتورم، سألني سائقها ليطمئن:
- من أين جئت؟
قلت:
- كنت معتقلاً!!
فجأة داس كابح السيارة، برهة ندمت على تسرعي وهممتُ بالنزول منها، كانت عيون السائق تلتهمني:
- ماذا قلت؟
همستُ وأنا أحني رأسي
- كنت معتقلاً!
رفع السائق صوته، كان صوتاً جهوري:
- هل كنت معتقلاً ؟
صوته طاف برؤؤس الركاب فطارت عيونهم نحوي. شعرت بارتياح يعمهم، وصاروا يلعنون الأنظمة الشمولية، وتصرفات الأمن التي لاتشبه أخلاقنا، وصلنا سوق السجانة بوسط الخرطوم، قلت للسائق:
- أنزلني هنا...
ثم مددت له بالجنيه، رفض بإصرار، وهبط معي وقادني إلى عربة أخري وقال لسائقها، لا تأخذ منه أجرة!! ودنا منه وهمس:
- هذا أحد مناضلينا!
ركبت العربة الأخرى، وصلت البيت أكاد أموت من الإرهاق والتعب، مكثت أسبوعاً بكامله لا أخرج، في هذا الأسبوع جاءني بعض الزملاء بالتنظيم وعلمت منهم أنهم أوصلوا رسالة إلى الفيلاني في نفس لحظة اعتقالي فحواها "روح آدم بروحك، وطلبوا مني الاختفاء إلى حين، مكثت بالبيت عدة أسابيع، الأصدقاء كانوا ينقلون لي أخبار الاعتقالات، وتصرفات الفيلاني الخبيثة، احدهم اخبرني أن الفيلاني في لحظة سكر قال أنه ينتظر قصيدتي في مدحه! وانه لن ينتظر أكثر بل سيعتقلني حتى اكتبها أمامه، ونصحني الأصدقاء بالاختباء بعيداً عن أعينه، وهكذا جئت إلى هذه المدينة، ضحك آدم أخر ضحكة أسمعها منه وقال:
- والآن أنا أمامك سليم المؤخرة!!!
لا أعرف كيف خرج مني هذا السؤال
- هل كتبت قصيدة مدح في الفيلاني؟
بأريحية أدهشتني قال آدم:
- نعم كتبت قصيدة ولكنها ذم وليس مدح ولو كنت أعلم أني سأقابلك لأحضرتها لك..
قلت له سآتي يوم آخر لاستلامها منك..
بهدوء خرجت وتركت آدم بغوص عميقاً في دهليز ذكرياته المريرة، رأسي يضج والدنيا صغرت أمامي، والأمور تداخلت متشابكة، وصرت أتخيل في القصيدة التي كتبها آدم يمدح فيها الفيلاني، رغم زعمه أنه كتب قصيدة ذم، لكن قلبي يحدثني أنه فعلها، الثقة في القلب تجدي! كما قال احد العارفين، اكتشفت تلك اللحظة صعوبة الشعر، تذكرت قول أحدهم بالمقهى الكبير يرد على قصيدة لآدم: الشعراء أربعة، شاعر يجري ولا يجري معه وشاعر صوال وقت المعمعة وشاعر من حقه أن تسمعه وشاعر لا تستحي أن تصفعه، وكاد يصفع آدم. قادتني ذاكرتي اجتر حكاية جارنا المخنث، تقول أمي:
- في طفولته كان يعذب الطيور الداجنة، بقطع رقابها عن جسدها... وآدم أخبرني عن طفولة الفيلاني التي تتشابه مع طفولة جارنا، قلت في سري:
- بما إنّ للثوار وجه واحد كذلك للمثليين دبر واحد، ضحكت وضحكت، وأعين الناس تثقبني!!!











الفصل الرابع


مدينة أم درمان، أو العاصمة الوطنية أو بقعة المهدي، هي المدينة التي اختارها المهدي عاصمة لدولته، بعض الأخبار تزعم أن شرارة الثورة المهدية أشعلتها حادثة زواج رجل برجل بمدينة الأبيض، هل نحتاج لمهدي آخر يقاوم الفيلاني؟ سليمان قال لي في لحظة صفاء كل العالم ينتظر المهدي أمّا أنتم في السودان فقد أنهيتم هذه الأسطورة! أذكر أني ضحكت بخفة دم وداعبته:
- إن المهدي السوداني هو المهدي المنتصر وليس المهدي المنتظر.
المهم في القرن الماضي كانت مدينة أم درمان تعج بأماكن اللهو، والخمور، والبارات، وقد انتشرت بها بيوت المومسات، بتصديق من الحكومات المتعاقبة، حتى استولى على السلطة جعفر النميري، يبدو انه أراد تطهير المدينة من الرزيلة، في نوبة ثورية أصدر أمراً بإغلاق البارات وبيوت الدعارة، وهكذا أغلقت البيوت، ولم يغلق البارات التي بالصدور، بعد إسقاط حكمه وبما أن الدعارة أقدم مهنة عرفتها البشرية ظهرت بعض الأماكن بالأحياء، يبدو أن السلطات غضت الطرف عنها، قال ذات مرة سليمان السجمان:
- الفرق بين المدينة والقرية أنه الأخيرة لا توجد بها بارت ومقاهي وعاهرات!!
حكومة التنظيم الديني رغم تشددها كانت ترعي بعض البيوت، ولسان حالها يقول "قليل من الفسق يجدي" وكبيرهم ينصحهم في مجالسهم الخاصة "تهتكوا ياابنائي" من هذه البيوت بيت اشتهر باسم بيت محاسن، وبعضهم يطلق عليه تندراً "البيت الوطني" سمعت به كغيري، علمت مايجري فيه، يقال أنها اشتهرت بإحضار طالبات الجامعة والثانوي، ومرتادوه هم من الطبقة الحاكمة، وكبار رجالات الدولة، وبعض الأثرياء، ذات نزوة حدثتني نفسي بالذهاب للبيت الوطني، لن أقول أغواني الشيطان كما قال الترزي، حزمت أمري وذهبت إلى بيت محاسن، ترويحاً عن نفس أمارة بالسؤ، ورأسي يضج بأسئلة حائرة، تبحث عن إجابات مستحيلة، تحركت من المحطة الوسطى بالخرطوم، مررت بالمقهى الكبير، أو السوق المركزي للمثليين، أطياف الشلة وضحكاتهم ما زالت تدق جدران القلب، موامرات سليمان الصغيرة كعقل حسين، قصائد آدم الركيكة، نظرية الطين الوطني،فسق فاتنة المقهى، القاص الباهت يحمل قصته الوحيدة يطوف بها على الرواد، قلت سبحان مغير الأحوال، هكذا تقول أمي، كنت أرتدي ملابس بلدية،استعدادا لمعركة،في العقل العربي مضاجعة أنثي يعد معركة، قال احد الشيوخ عن العلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة: فقيراً ذهب بذات مساء إلى حضن فقيرة وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية "أذن ذهبت إلى بيت محاسن اطفي مرارة أيامي القاسية، "كل الحياة قاسية" لإنسان نشأ وعاش ردحاً من عمره في ظل حكم فاسد وشمولي،حين وصولي إلى أم درمان نزلت بمكتبتها العامة، أدور بقاعاتها وأقف تحت ظلال أشجارها، أيام الانجليز كانت هذه المكتبة تتبع لقلم المخابرات، يبدو أنها شهدت ممارسة الشذوذ الذي أدخله الانجليز، استرجع سنوات بعيدة، بهذه المكتبة بشر جلال بنظريته الطينية، وسمع قهقهات الأستهزاء من روادها. وأذكر أن احد الطلبة مثلي الجنس كان تلتف حوله البنات، كنت أتحاشاه وبذاكرتي قصة جارنا أسامة الذي حذرني أبي من الاقتراب منه، طفت بأروقة المكتبة، كتب عتيقة تملأ الرفوف، جان جينيه يجاور عبقرية عمر، الغزالي يلتصق بابن رشد، وكتب دينية وأخرى لا دينية، من هذه الكتب خرج الكتاب والمثقفين، وقد ساهم بعضها في إفساد الذوق العام وساعدت في انحراف البعض، نبشت ذاكرتي وهي ترجع سنوات إلى الوراء، أحد كهول حينا يصر:
- التعليم هو سبب ميوعة وانحلال الأولاد؛ لذا لن لأسمح لأولادي بدخول المدرسة حتى يفسدوا!
تلك اللحظة تطاولت وقفزتْ من حضن أبي وقلت كأني سقراط عصره..
- إنّ أسامة جارنا لم يدخل مدرسة!
اضطرب الرجل الكهل، وتذكرت وأنا داخل سور المكتبة أن احد الفيلانيين دافع عن نفسه بإيراد أسماء فلاسفة وكتاب فيلانيون مثله، كانت المكتبة العامة بأم درمان تلك اللحظة مكتظة بطالبات الجامعة، طالبات كعصافير يحضن كتباً، والهمس يختلط باللغط، قلت ربما بينهن من تزور بيت محاسن تحت شعار"الجنس مقابل التعليم"!! خرجت تقودني نزوة، متجهاً لمقصدي بأحد الإحياء الراقية، وأنا أستحضر وصف المنزل، وجدت منزلاً من الطوب ومطلي بألوان زاهية، أثر الأرجل بائنا لي، وقفت بعيداً أراقب المنزل، أتى رجل يتلفت ثم دخل، وكذلك فعل آخرون، ورأيت فتيات تطل رؤؤسهن عبر السور، أرهفت سمعي، التقطت كلمات تخص الجانب السفلى للأنثى والرجال، رأيت الرجل الذي دخل أولاً يخرج بهيئة أخري ليست كالتي دخل بها، كان لحظة دخوله متوتر الجسد مضطرب فزع، وخرج مرفوع الرأس بارز الصدر منشرح الجبين، ابتعد أمتارا قليلة وأشعل سيجارة مجّ منها ومضى يتمطى، تذكرت نقاشات الشلة بالمقهى الكبير عن الجنس، ضحكت على تعريفاتهم الساذجة، ورأيت بعين خيالي وأنا طفل تضمني حواء العاهرة تلك المرأة السمينة ذات الأوراك بين رجليها تهزني مرة أو أكثر وهي تمج دخان سيجارتها، ثم تدفعني عنها، أركض نحو ألأصدقاء ارتجف ولساني يخبرهم..
- لقد ضاجعتها!!
تابعت الرجل بنظري يتبختر كغازي عقائدي، حتي اختفى عن مد بصري، ذهب توجسي وأيقنت أنه بيت محاسن، أو بيت متعة الضالين أمثالي، توكلت على شجاعة مستمدة من انتعاظة قضيبي لتخيلي ما سألقاه إذا دخلت، والشهوة عمت جسدي، للشهوة ارتعاشه كأرتعاشة حمى الملاريا، طرقت على الباب طرقات خفيفة كما طرق الرجل الذي شاهدته يدخل قبلي، فتح الباب، أدخلت رجلي ونظري قد سبقني، رأيت فتيات بملابس لا تستر عوراتهن، ورجال مخنثين، يثرثرون بكلمات فاحشة، بساحة المنزل شجرة أكثر اخضرار من شجر أم درمان، في طفولتي كنت أعتقد أن الأشجار تحس بالمكان، وأن للأشجار أديان ومواقف أخلاقية كالبشر تماماً وقد صرت أصنف الأشجار، شجرة النيم هي فحل الأشجار وشجرة المانجو أنثى، وشجرة الليمون مخنثة، كان أندادي يضحكون بسخرية مني، وأنا أتمسك بموقفي، قالت عنها الشلة أنها أفكار طفولية... ألتصق بصري بالشجرة ورغبة جامحة تدعوني للجلوس تحت ظلها، أقترب مني أحد المخنثين يشبه مدير التحرير، ربما قريبه، مدير التحرير يشبه الحيوان المنوي، سألني المخنث وهو يتمايل ككلبه شبقة:
- ورا ولا قدّام؟
لم أفهم مايعنيه.. ظهر جهلي برجفة في جسدي "وزغللة" بعيني، حدقت بساعده ربما أجد نتوءاً وكدت أساله:
- هل تعرضت لكلب في طفولتك، لتذكري قصة عمر عندما تتناول الشلة الحديث عن أحد الناس وتصفه بالمخنث، كان يسألهم هل عضه كلب، عمر يعتقد أن علاقة ما بين لعاب الكلاب والتخنث...
زجرت احدى الفتيات المخنث وأمرته بالابتعاد عني..
- أبعد عنه،هذا جاء من أجلي!!
قالت جملتها وهي تلتصق بي، ابتعد المخنث مكسوفاً بفمه مشروع بسمة خبيثة، كانت الفتاة شابة يفوح منها عطر أنثوي، قمحية اللون، قليلة الحجم قصيرة استحضرتُ فتوي الحجاج بن يوسف الثقفي "من تزوج فتاة قصيرة وطلقها على الدولة نفقتها"... والشلة بالمقهي كانت تميل للفتاة القصيرة حين يدور حديثهم عن النساء، حبيتي ريم كانت أيضاً قصيرة، حين هجرتني صرت أبغض النساء القصيرات، قادتني الفتاة إلى غرفة صغيرة، يتوسطها سرير مغطى بملاءة، ذات ألوان متداخلة، أحمر أزرق، أصفر، بالحائط صور عارية وشبه عاريات لممثلات عربيات وأجنبيات، جلست على السرير ويدي بين فخذي تضغطان على قضيبي الذي تمرد على محاولاتي بالتزام الهدوء، جلست قربي الفتاة خرجت يدي عن طوعي وطوت خصر الفتاة، أراحت رأسها على صدري، سألتها:
- ماذا تعني كلمتي (وراء) و (قدّام)؟
أطلقت ضحكة خليعة وضربتني على فخذي وقالت
- ورا معناها رجل وقدّام معناها إمراة!
واستمرت قائلة
- لكنك أعجبتني أنا..
أجبتها كاذباً:
- أنت من أبحث عنه!!
فرحت لجملتي، يقولون المرأة عقلها بأذنها، لكني اكتشفت أن عقل المرأة بين رجليها وعقل الرجل بقضيبه، نهضت الفتاة قائلة:
- نشرب؟
أجبتها
- هكذا تكتمل المتعةً!!
خرجت وأحضرت عدة زجاجات من الخمر الأجنبي، كدت أسألها: من أين هذه الخمر؟ لعلمي أن الحكومة الدينية أو حكومة جماعة الفيلاني قد تشددت في منع الخمور، كتمت سؤالي، وضعت الزجاجات على طاولة قاعدتها مستديرة، منتصف دائرتها ثقب دائري، كطاولات المقهى الكبير، يقول سليمان السجمان ساعتها ونحن جلوس حولها: أن فتحة الفيلاني أوسع من هذه الثقوب، صبت الفتاة لي كاس وصبنت عن نفسها، قلت لها
- أشربي يا روحي!
يقول سليمان السجمان بتهكمٍ:
- حين يقول لك السوداني يا روحي فلا تحسبه يمدحك بل يذمك! لأن للسودانيين روح شريرة!!رغم مرارة تعليق سليمان كنا نضحك.
تناولت الفتاة كأس ملئ وأفرغته بجوفها دفعة واحدة، كحرباء خلعت عباءتها "قلت ساعتها مسكينة العباءة صنعوها من اجل الحشمة فصارت ستاراً للدعارة" خلعت ملابسي بمساعد الفتاة التي أطفأت النور وأضاءت لمبة حمراء، ذاك النور سبحان من اكتشفته، أنه يضي الجسد قبل الغرفة، هل الشيطان أحمر اللون؟ أضجعنا معاً حتى كاد الليل أن ينقضي، بين وطأة وأخرى كانت تحكي لي قصتها، قصة لن أصدقها، أبي وهو رجل متدين يقول:
- من صدق النساء كذب الرسل!!
هذه الحكمة معلقة على حائط غرفة أبي، وأومن أنا "من صدق العاهرات كذب نفسه"، حتى أمي تقول:
- ياولدي لا تصدق النساء!
لذا أسمح لنفسي تكذيب نفسي ولا تنسوا أن الكذب ملح الكلام، قالت الفتاة وهي عارية:
- أسمي حنان، طالبه جامعية بكلية علمية وأهلي من الأقاليم، أبي رجل فقير...
بقلبي قلت:
- مساكين الفقراء كل جريمة تبتديء وتنتهي بهم، وبذهني ساعتها لو كان الفقر رجلاً لقتله كما قال الإمام على، ولو كانت أنثى لتزوجتها يقول الشاعر آدم!
واصلت حنان سرد قصتها:
- ضاقت بي الدنيا ولم أجد من سبيل سوي بيع جسدي لمن يبحث عن متعة عابرة مثلك...
جملتها الأخيرة أعادت لي بعض من أيمان فسألتها:
- لماذا لا تكفين عن هذه المهنة القذرة؟
جفلت، لا إراديا غطت صدرها بطرف الملاءة، كدت أضحك على تصرفها تذكرت بيت شعر كلماته تقول "حتى عاهراتنا أشرف فهن يضعن القرش تحت الوسادة"، انتبهت حنان أنها غطت صدرها:
أجابتني على سؤالي:
- كثيراً فكرت أن أهجر هذه المهنة....لكن!
سألتها بلا اهتمام:
- لكن ماذا؟
زفرت وهي تهبط برجليها مبتعدة عني
- لن يسمحوا لي!!
دفعتها عن صدري وسألتها:
- من هم؟
أجابتني وقد خفضت صوتها
- الجماعة!
عاجلتها وأنا أحدق فيها
- من تعنين بالجماعة؟
تهربت من سؤالي بسؤالها لي
- اخبرني من أنت؟ وماذا تعمل؟
قلت لها بصدق مخلوط بكذبة صغيرة
- كنت صحفياً والآن تاجر بمدينة القضارف جئت أبحث عن بنت جملية ورقيقة تسمى حنان!
ضحكت وسألتني
- هل وجدتها؟
أشحت برأسي، أعادت سؤالها
- هل وجدت حنان؟
رفعت يدي إلى جبيني كالذي يفكر في أمور متشابكة وقلت لها:
- يبدو أني سأجدها!
قالت وهي تخربش بيديها على صدري العاري
- هل تأخذني معك إلى القضارف؟
قلت لها
- ممكن! ولكن هل الجماعة يوافقون؟
أرتجف جسدها أكثر من أنتفاضته ليلة البارحة وهي بحضني، وقالت:
- سأحاول إقناعهم!!!
قلت لها صادقاً
- يمكنني مساعدتك..
قالت لي
- لا أريدك أن تدخل معهم في معركة خاسرة..
فكرت ربما تكون محاسن هي صاحبة القرار، سألت حنان:
- هل تقصدين بالجماعة محاسن؟
ردت بسرعة:
- محاسن ليست أكثر من وسيط للجماعة..
زادت إجابتها الأمر غموضاً، ألح خاطر ربما يقف خلفها رجل ذو منصب وجاه ولربما موسسة أمنية، ألححت عليها لمعرفة قصتها مع الجماعة، هلع أعلن عن نفسه بعينيها زاد خوفي، فألححت عليها لمعرفة من تعني بالجماعة، همست لي:
- هل تقدر عليهم؟
قلت لها وقد تقمصتني روح ماكرة
- أنا أقدر على الشيطان!!!
أجابتني بهمس واجف:
- الشيطان تلميذ بليد لديهم!!
بلهفة سألتها وجسدي يرتعش
- من هم؟
رفعت أصبعها ووضعته بين شفتي
- اصمت..
رأيت الخوف مرسوماً على جبينها، أمرها لي بالصمت أشعرني بخطورة موقفي، نهضت وارتديت ملابسي على عجل وكذلك فعلت حنان، هممت بالخروج قائلاً في نفسي:
- من حسن إسلام المرء تركه ما لايعنيه، نعم إسلامي حسن رغم نزواتي الصغيرة....
أمسكت حنان بيدي وقالت:
- ألن تأخذني معك إلى القضارف؟
قلت لها وأنا اتجه نحوها بكلياتي:
- والجماعة.
أرخت رأسها للأرض وردت:
- اجلس حتى أخبرك بهم وبعدها أنت حر تأخذني أو تدعني معهم..
تشتت ذهني، دعكت جبيني بيمناي، وحنان تستعجلني:
- ماذا قلت؟
حدقت فيها، دنت مني وأمسكت يدي وجذبتي لأجلس قربها بالسرير، كانت ترتجف كعصفور مبلل بماء دافئ، الحيرة تملكتني برهة، وضعت رأسها بشعره الغزير على صدري، استنشقت عطر ليلة أمس، انبطحت على السرير، انحنت حنان ويدها تداعب صدري، وأشاحت بوجهها وقالت:
- لو تقدر تخلصني من الفيلاني!
.شي ما جعلني أقف ولم ادعها تكمل جملتها...
- ماذا قلت ؟
ضحكت:
- لماذا قمت فجأة؟
أمسكتها من كتفيها وصرخت فيها
- هل تعرفينه؟
سألتني
- من ؟
قلت لها
- الفيلاني !
أتسعت حدقتيها
- هل أنت تعرفه؟
- دعك مني هل أنت تعرفينه؟!
بارتياح كأنما تقول شيئا عادياً
- هو صاحب هذا المنزل!
انشطر رأسي، وجدت نفسي أنهض واقفاً وصور شتى تمر أمامي لحسناوات بقطار الجاسوسية، ماتا هاري، كارمن موري، سيبيل ديكور، أوديث، سايمون، أمينة المفتي، وأخريات كثر، ربما يكون الفيلاني زرع جهاز تصنت وكاميرا تصوير بغرفة حنان، اجتاحتني حالة مزيج بين الخوف والغضب، ثقبت بنظري جدران الغرفة وأرضيتها، رفعت الملاءة ونفضت السرير، انحنيت تحت السرير ويدي تتحسسان الأرض، وحنان تقترب مني وبقهما سؤال وحيد "ما دهاك؟ لم اكترث لسؤالها، صرت ابحث، ولسان حالي يقول أنج بنفسك قبل مداهمة الفيلاني وزبانيته الغرفة، ألتفت نحو حنان وأمسكتها بقوة من كتفها وصرخت فيها:
- أجيبيني بصدق هل تعملين مع الفيلاني؟
نفضت يدي بعنف:
- هل أنت مجنون؟
زاد هياجي صرخت فيها ويدي بعنقها:
- ماهي علاقتك بالفيلاني؟
نزعت يدي عن عنقها وقالت بانفعال صادق:
- هي علاقة عاهرة برجل، وإن كان يعد الفيلاني رجلاً!!
متهالك القويى جلست على السرير أغمغم
- اعذريني ياحنان!
جلست حنان بقربي ويدها على صدري تقول لي برقة وحنية
- لماذا انزعجت من معرفتي بالفيلاني؟
ثم واصلت حديثها حين رأت صمتي
- هو ليس من الرجال الذي يهتمون بالنساء لكنه من أنصار "خلف" وقد حاول ضمي لجماعته لأتجسس على زبائني ولكني رفضت، صدقني!!
حديث حنان نزع عن قلبي خوفي ولكني التزمت صمتي ووأدت رغبتي بأن أروي لها علاقتي بالفيلاني، أمسكت حنان عن الكلام، ضربتني على صدري
- هل تعرف الفيلاني؟
حدقت فيها طويلاً ولم أرد عليها، سألتني
- لماذا تحدق في وجهي؟
تنهدت وزاد تركيز بصري فيها، نهضت مبتعدة عني، نظرت فيها متمعناً، قوام رشيق شعر مرسل يلامس عجيزتها، تساءلت:
- كل هذا الجمال يستباح من أمثالي من التعساء، هل الفيلاني سبقني؟
ضحكت من جهلي حنان قالت قبل قليل : ليس له رغبة في النساء، عدت لموضوع الفيلاني، فسألتها:
- ماهي علاقتك أنت بالفيلاني؟
جذبت نفساً وقالت وهي تحني رأسها
- قلت لك هو صاحب هذا المنزل!
عاجلتها
- كيف ذلك؟ هل محاسن تعمل معه؟
قبل أجابتها تخيلت الفيلاني وقد تمددت سلطاته وصارت بعض المومسات يعملن لحسابه، أجابتني حنان:
- الفيلاني يحمي بسلطاته محاسن!
بحزم قلت لها وقد تملكتني شجاعة
- هل يمكن أن أقابله؟
أفرجت عن بسمة يانعة، وقالت
- يمكن أن أدبر لك لقاء بمحاسن
صمت أدير فكرتها برأسي، سألتني
- هل تود أن تلقاها؟
قلت
- لا بأس! أين هي؟ وهل توافق؟
ابتسمت حنان وضعت يدها على جبيني وهي تنحني فوقي:
- لاشي يمنعها! وهي على كل حال امرأة كبيرة في السن لاحول ولاقوة لها!!
رفعت يدي وضعتها فوق يدها وقلت جاداً
- حدثيني عن محاسن..
جذبت يدها ضربت صدرها بهلعٍ..
- أنت لا تعرفها؟
ضحكت:
- لا أعرفها..
قالت حنان:
- محاسن كما قلت لك كبيرة البيت أو المديرة هنا، في شبابها كانت لها نشاط ثقافي، حين نجلس معها في غياب الزبائن، تحكي لنا، حياتها وكيف أن عشاقها كانوا كتاب وصحفيين، وكيف أنهم كانوا يلتقون في المقهى الكبير بالخرطوم، فجأة صحت في حنان:
- هل كانوا ينادونها بفاتنة المقهى؟
حدقت فيّ حنان ويديها مجتمعتين على صدرها البضْ
- الم تقل أنك لا تعرفها؟
سألتها وأنا أتمالك رجفة بجسدي..
- هل هي فاتنة المقهى؟
ردت حنان:
- هي قالت ذلك، لكن يبدوا أنها صادقة ولا تنسى أنها أدت فريضة الحج
قاطعت حنان:
- هل حاجة محاسن عرجاء؟
قالت وقد اتسعت حدقات عينيها
- اذن أنت تعرفها؟
أجبتها صادقا
- كنت أعرفها أيام شبابها حين كانت فاتنة المقهى الكبير ولكن مرت عقود لم أقابلها والآن أود مقابلتها، صمت طال بيننا، قطعته حنان بنهوضها، قائلة..
- انتظرني لحظة..
بعد خروج حنان مرت اللحظة ثقيلة، عدت فيها بذاكرتي لتلك الأيام بالمقهي الكبير، تعجبت من مصائر الشلة، عمر السكير وسليمان،وآدم وحسين،قطعت تذكري حنان وهي تقف أمامي على جبينها ترتسم بسمة تحمل معاني عديدة!
- بعد قليل ستقابلك حاجة محاسن!
قلت لها:
- ومتى أقابل الفيلاني؟
ضحكت ضحكة ناعمة وقالت:
- بعد حاجة محاسن!
وأضافت
- لا أفيدك!
سألتها مندهشاً:
- كيف لن تفيدني!!!
قالت
- انني لا أستطيع الاقتراب منه وحوله شلة من الساقطين..
بلغت حيرتي مداها ونما حب استطلاع قاتل بداخلي فقلت لحنان بعنادٍ طفولي:
- أود مقابلة الفيلاني قبل محاسن..
قالت:
- حاجة محاسن هذه هي بغرفتها أمّا الفيلاني يغيب ويحضر ولا أعلم متى يحضرّ؟
جملتها أعادتني لحالتي الطبيعية ورضيت أن اكتفي الآن بمقابلة حاجة محاسن، خرجنا ويد حنان بيدي نحو غرفة حاجة محاسن، ونحن نسير قلت لها:
- ثمن الليلة تحت الملاءة!
لم ترد بل جذبت يدها عن يدي، رجعت مسرعة إلى الغرفة، تبعتها عائداً، تناولت القروش ومدتها لي قائلة:
- لا أريدها خذني معك إلى القضارف!
- خذيها هدية مني..
بعد ممانعة اسلتمتها، وقالت وهي خارجة:
- اجلس على السرير هيئ نفسك لمقابلة الحاجة!!
بعد خروج حنان عدت إلى الغرفة، أنطلق ذهني يستحضر حواري مع فاتنة المقهى قبل سنوات بالمقهي الكبير، كانت مهمتي في استنطاقها ميسورة وسهلة، يقول الرجال أن النساء اللائي طرحن الحياء خلفهن، يملن إلى الثرثرة، في اللحظة التي تفقد الفتاة بكارتها تفقد الحياء. وما أنا إلا احد هولاء الرجال، كنت احتاج لصبر أيوب لأسجل كلمات فاتنة المقهى، ذات مساء قبل المساء الذي ظهر فيه الفيلاني بالمقهى الكبير، رأيتها قادمة تترنح في مشيتها، ومن فمها تتطاير كلمات السباب والشتائم بفتوة نسائية جذبت الكرسي وجلست قربى، كان شعرها كعادتها كاشفاً وترتدي قميص به فتحه واسعة تكشف الصدر، لو كانت لها نهود مشرئبة لبانت، فكما هو معلوم أن نهديها أصبحا كقربة ماء، قبل أن تنهي سيل الشتائم حضرت شلة المقهى، نادت النادل الاريتري الذي أحضر لها كوب قهوة كما طلبت، حاول القاص الباهت مداعبتها:
- تشربين وحدك؟
لطمته بيدها قائله
- أمشي أشرب مع أمك العاهرة!
هذا الرد ألزم بقية الشلة الصمت، ثم ألتفتت نحوي
- أنت تود معرفة أخبار اللوطي؟
قلت لها وأنا أرسم بسمة على فمي
- نعم أود معرفة ما لديك من معلومات عن جلال..
صرخت بعهر أصيل
- أنا لا أعرف جلال بل أعرف اللوطي هل تود معرفته؟
غمز لي حسين
- قول لها نعم..
توكلت وقلت
- نعم..
قالت:
- دعني أكمل فنجان قهوتي..
انتظرتها حتى صبت القهوة في جوفها، دنت برأسها مني، فاستنشقت عطراً يفوح من جسدها، نفس العطر الذي استنشقته في مراهقتي وأنا بين فخذي حواء العاهرة، من فم محاسن تفوح رائحة خمر وطني، وضعت الفنجان بيد الباهت، ودفعته بيدها على صدره، بتعتعة قالت:
- جلال الذي أعرفه أنا صار أسمه محمد الفيلاني..
قاطعها القاص الباهت:
- كلنا نعرف ذلك!
رفعت يدها ولطمت الباهت، وصاحت فيه:
- قم وغادرنا!
بخفة نهض حمل صفعته بخده وخرج، بعد مغادرته ضحكت فاتنة المقهى
- هو مثل الفيلاني رغم دمامته!
قال لها ادم
- الفيلاني لا يضاهى في الشذوذ!
حدقت فيه
- هل أنت تعرف الفيلاني أكثر مني؟
واسترسلت قائلة:
- أنا أعرفه وأعلم كم قضيب دخل بدبره!
تدخلت أنا...
- اخبريني بقصة الفيلاني مع التنظيم الملحد..
ضحكت بعهر فاضح وقالت:
- التزم جلال مجبراً باتفاقه مع التنظيم الملحد، هل يستطيع ألا يلتزم؟ هييي... عندهم ورقة الفضيحة، والله صار ينقل لهم يومياً تفاصيل مشاريع وهمهمات تنظيمه الديني، بعد كل مستند يخاطبه مسؤول التنظيم الملحد، كان حبيبي وأنا رفضته، قاطعها سليمان السجمان..
- لماذا رفضتيه؟
ردت ضاحكة على سليمان
-هيييي.. هذا سر تنظيمي!!
ثم لكزت سليمان على صدره..
- انت زاتك جريت ورايي ورفضتك!!
التفتت نحوي قائله:
- لو تود إتمام الحكاية خلي الجماعة ديل يصمتوا وما يقاطعوني!!
طلبت من الشلة عدم مقاطعتها، سألتني:
- هل صمتوا؟
قلت لها، نعم لن يتكلم أحد منهم.
سألتني للمرة الثانية
- كلهم؟
قلت وصبري في الرمق الأخير
- نعم كلهم..
سألتني
- نحن واقفين وين؟
قلت:
- لها حينما ذهب جلال لمسئول التنظيم..
- آه المسئول وهو يستلم التقرير منه قال له: :اطمئن سرك في بئر، وما درى جلال المسكين..
شعرت أنها قالت مسكين متعاطفة مع جلال، رشفت رشفة من قهوتها وواصلت:
- إنّ جميع شعب التنظيم الملحد على علم بحادثة اغتصابه، بل يعلمون تفاصيل حاول التنظيم الديني سترها، وذلك بإغراق جلال في أنشطة عديدة، فقد أصبح المؤذن بالمدرسة ورئيس جماعة الفكر، الفكر الذي يفتقده كما يقول خصومه، وأنا أيضاً أقسم بشرفي جلال لا علاقة له بالفكر، كدت أقول لها شرفك غالي، مضت تحكي كأنما تقرأ في كتاب الفيلاني ساعدته قوته الجسمانية في تنفيذ شهواته، فقد كان قصير القامة ومربوعها كوتد، يديه بهما ضخامة رغم الندوب التي أحدثتها الكلاب حين نهشته صباح مولده بالمزود، ألين قطعة بجسم جلال هي مؤخرته..
قالت جملتها ثم مالت نحوي متسائلة:
- هل تعرف الرجل الذي وجده؟
قبل أن أجيب بالنفي قالت
- إنه زوج أختي...
واسترسلت:
- ما قلت ليك إنا عارفه أي حاجة عن جلال السمين، لا تنخدع بصوته الرجولي والله حين تأتيه الحالة الكلبية يصبح صوته أرق من صوت فتاة بالغة ومحتفظة بختانها!!
ارتفع ترمومتر النفاق عندي فهمست مقاطعاً:
- فتاة مثلك تماماً..
رمقتني بمكر ودفعتني بيدها على صدري..
- دع النفاق، والله لا أذكر متى فقدت عذريتي، ربما وأنا طفلة!
خشيت أن أرد عليها وأفقد بوصلة حديثها عن الفيلاني، تبسمت وتحدثت عن العذرية والبكارة والختان الفرعوني باستنكار، وان المرأة عقل وليس قطعة لحم يحشر فيها الرجل قطعة لحم!
ارتفعت ضحكة فاجرة من محاسن وقالت بعدها:
- والله الرجال لا يهتمون برأس المرأة إلا لحظة القبل أو الواحدة تمص ليه ذكره!
شعرت أني تورطت في حديث لا أريده، أدرت دفة الكلام إلى الفيلاني فسألتها:
- يقولون أن الفيلاني كان يحبك!
- أنا ما في إنسان ماحباني!!!
تململت في جلستي..
- أرجوك واصلي حديثك عنه..
- هذه رغبتك أنت، ولكن لا بأس، المهم كان يغطي رأس جلال شعر غزير اسود اللون فيما مضى ولكن في سن البلوغ صار ابيضاً، لذلك البياض قصة متداولة بين التنظيمين سأحكيها لك..
- التنظيم الديني يقول إن بياض شعر جلال نتيجة لكثرة الوضوء، أما التنظيم الملحد يزعم أن الحيوانات المنوية التي صبها الترزي بجلال تسربت حتى بلغت شعر رأس جلال وكسته بلونها. هنا لم تتمالك فاتنة المقهى من حبس ضحكة فاجرة، ختمتها بقولها:
- طبعاً التنظيم الملحد كلامه صحيح!
ألم أقل لك كان زعيمهم يحبني، قصة حبنا كانت مشهورة، لذا أنا أعرف تفاصيل علاقة جلال بهم، وأول من علم باسمه الحركي الفيلاني، هذه من اللحظات التي لا أنساها قط، هل تنسى الفتاة أول من قبلها؟ وهل تنسي الفتاة لحظة فقدت بكارتها، ارتبط اسم جلال الحركي بلحظة فض بكارتي! قضي جلال مرحلة الثانوية مبراً بوعده للتنظيم الملحد، بل تطرف أكثر وصار يقترح على تنظيمه مؤامرات صغيرة كعقله ضد التنظيم الملحد، قبل مباشرة العمل في تنفيذها يكون التنظيم الملحد قد ألم بتفاصيلها فينشرها بصحيفته الحائطية، لم يشك أحد في جلال، المتزمت كما يطلقون عليه، وقد كون التنظيم المتدين لجنة للبحث عن كيف تسربت مشاريعه، وقد أوكل لجلال رئاسة اللجنة، قبل أن تجتمع ذهب جلال للمسئول الأعلى بالتنظيم الملحد، يطلب منه ما يريدون من اللجنة، دخل جلال على المسئول، قبل جلوسه سأله:
- كيف حال دبرك ياجلال؟
لم يرتجف جلال:
- أتعبتني خالص!!
قالها ضاحكاً، ابتسم المسؤول..
- كم قضيب أدخلته؟
ضرب جلال الطاولة وقال:
- جميع أعضاء التنظيم!!
واسترسل
- لكن جماعتكم ديل غلبوني عديل كده!!!
قهقه المسئول
- جماعتك ماكفوك؟
رد جلال
- ديل الواحد قضيبه صغير قدر عقله..
تبسم المسؤول ثم رسم صرامة على جبينه:
- موضوع اللجنة نحن نريد منك أن تنسب التسريبات لرئيس التنظيم بالمدرسة..
حاول جلال مقاطعته لكن المسئول نهض:
- انتهي الاجتماع يالوطي.
ومضت فاتنة المقهى قائلة:
- أطاع جلال المسئول الأعلى ونسب التسريبات لرئيسة بالمدرسة، الذي نفي التهمة عن نفسه ولكن ثقة الطلاب في جلال، أعطوه أذناً صماء. تصمت فاتنة المقهى، يعاجلها سليمان السجمان
- واصلي حديثك..
تنفث دخان سيجارتها بوجهه وترد عليه
- بالجامعة تمرد جلال على التنظيم الملحد، لأن المسئول الأعلى بالتنظيم قد انضم للتنظيم الديني، وقد قابل جلال في احدي الاجتماعات، اضطرب جلال لوجوده، فما كان من ذاك المسئول إلا أن قال:
- جلال أرجوك قدم استقالتك الآن..
أندهش الأعضاء لهذا الطلب، فجلال له أقدميه بالتنظيم وقد قام بأعمال جليلة وقد كان كادر عنف، طالما انتصر على بقية التنظيمات، قبل زوال الدهشة كان جلال قد سلم المسؤول استقالته، وهمّ بالمغادرة، خاطبه المسئول
- استمر في مسئوليتك فقط أعكسها يا جلال..
ثم التفت المسئول نحو الحاضرين وقال:
- تعرفون أني كنت المسئول بذاك التنظيم وكما تعلمون لكل تنظيم غواصة بالتنظيمات الاخرى، وجلال كان غواصتنا فيكم..
قاطعها حسين:
- هل كنت عضو في التنظيم الملحد حتى تمتلكين كل هذه المعلومات؟
تدخل أدم..
- إنها معلومات متاحة للجميع!!
ضحك سليمان السجمان وأعلن جهله..
- أول مرة أسمع بها..
تأففت فاتنة المقهى من جدالهم ونهضت مغادرة المقهى، كادت تقع على الأرض، ركضت إليها أسندها، في هذه اللحظة سمعتها تقول:
- كل معلوماتي حقيقة لا تقبل الجدال.
معلومات فاتنة المقهى، أدخلتنا في جدال، يقول سليمان السجمان
- إنها تختلق وتألف ومجانبة للصدق!!
آدم يصر موكداً صدق معلوماتها، انتحى بي حسين جانباً وقال بوثوق أجهل مصدره عن تاريخ جلال:
- أصبح جلال يتحرج من ميوله الجنسية، وهي ميول انزعج منها تنظيمه الديني، واستغلها التنظيم المعارض، أحياناً يضطر تحت إلحاح ميوله التي يغلف بها تمرده في نقل الأسرار..
- لو لم تركبني لن أخبرك.
يقول للمسئول الأعلى، المسئول الأعلى شاب نشأ بقرية والده عمدتها، لذا تربي على قيم ترفض اللواط، يرد على جلال بحزم:
- لن افعل ماتوده مني..
ويواصل حديثه الزاجر
- لا تنسي يا لوطي أن سرك عندي..
بمياعه يضحك جلال
- ألعب غيرها..
ولكن عندما يجد جلال من يشبع رغبته، تختفي ميوله ويتحول لرجل عادي بشعره الأشيب، رغم الخواتم التي يزين بها أصابعه، ومضى حسين يصب في أذني:
- الفيلاني صار يرتاد المنتديات الثقافية يبشر بنظريته عن علاقة الثقافة بالتراب، وكما تعلم أن المنتديات يرتادها إعداد كبيره من الشبان، وقد لاحظ البعض أنّ الفيلاني يدخل كلمات فاحشة في مداخلاته، وقد تزمر البعض، وذات مرة تم طرده من احد المنتديات بمدينة أم درمان، أتتنا صرخة لها دوي من فاتنة المقهى، قطعت حديث حسين، انتبهنا لها، حسبناها غادرت المقهى ولكنها عادت وجلست على مقعد خلفنا، صاحت فينا:
- الفيلاني يأتي إلى المنتديات ليس ليبشر بنظريته يا وهم! إنما هم مكن أرسله لكم!!!
نهضنا وتحلقنا حولها:
- ماذا قلت؟
أجابت
- الفيلاني جاء يؤدي دوراً مرسوماً.
قالت جملتها وغادرتنا، لحقت بها
- أكملي لي قصة الفيلاني..
بتعتعتها تلك أجابتني
- يوم الجمعة القادم.
طرقت حنان باب الغرفة، طرقة قطعت تذكري وأعادتني لجلستي بالغرفة بمنزل حاجة محاسن، دخلت حنان ضاحكة بحبور
- أنت محظوظ وافقت الحاجة على مقابلتك، هيا معي..
نهضت وخرجت معها، مررنا بغرف صغيرة منخفضة السقوف، تنطلق منها صيحات اللذة وأخرى تتسلل منها شتائم وكلمات بذيئة، طرقت حنان الغرفة وصاحت:
- أمي محاسن الضيف معاي..
أتاها صوت واهن..
- ادخليه..
انزوت حنان مفسحة لي الطريق لأدخل، رأيت امرأة علا الشيب رأسها، بين تجاعيد وجهها عينين صغيرتين، مكان خدها الناعم ترهل جلد خشن، الخد الذي كتب فيه آدم قصائد. ساقيها أصبحتا رقيقتان، نفس الساقين اللتان كتب فيهما حسين قصيدته اليتيمة "بضة وبيضاء كذيل الخروف الأسترالي" كانت حاجة محاسن تجلس وسط سرير منخفض، بيدها مسبحة وقد غطت رأسها بخمار أبيض، حجمها أصبح ضئيلاً، هذا الجسد الذي سال من أجلة لعاب سليمان السجمان، تذكرت الاشتهاءات التي تعم رواد المقهى الكبير حين حضورها، مدت لي يدها وهي جالسة قائلة:
- اجلس الكبر عقل الرجلين...
جلست على مقعد خشبي جوارها، خاطبتني
- حنان قالت إنك تريدني في موضوع!
قلت وأنا أتمعن فيها
- ألم تعرفيني؟
قالت
- يأتينا رجال كثر، هل أنت تعرفني؟
ابتسمت وقلت
- هل بالخرطوم أحد لا يعرف فاتنة المقهى الكبير؟
زادت طقطقة المسبحة بيدها، ودنت برأسها مني ببصرها الكليل تتمعن، وقالت:
- هل أنت من الشلة؟
قلت لها:
- نعم أنا وآدم الشاعر وحسين وعمر السكران وسليمان السجمان، أنا الصحفي!
أفرجت عن بسمة وتنهدت
- آه يا زمن!!!
عاجلتها
- كان زمناً جميلاً!!!
قاطعتني بحكمة:
- كل زمن الشباب جميل... وواصلت حديثها الهاديء
- كانت شلة جميلة، آدم الشاعر كتب ثلاثون قصيدة يتغزل في جسدي، وسليمان كان يلاحقني، الوحيد الذي لم يغازلني هو أنت! والفيلاني أمّا المناضل الملحد كان يتجنبني لأني اعرف إسرار علاقته بصديقة لي، انتهت بطريقة بشعة، ذهبت مع أحد الأشخاص إلى غرفته بغياب زوجته، أغواها بمبلغ كبير من المال، وهما في عريهما أخذ ملك الموت أمانته، صاحبنا أحس انه يضاجع في جثة هامدة، ليعرف كيف يتصرف، وكانت فضيحة كبري!!!
قلت لها:
- أذكر هذه القصة لقد كانت حديث المجتمع؟
ردت محاسن كأنها تغوص في سرداب عميق
- الشخص الذي ماتت بين يديه صديقة المناضل الملحد أصابه جنون!
قالت جملتها متحسرة على مصير الفتاة كما بدأ لي، قلت أنقلها إلى موضوع الفيلاني...
- هل تذكرين آخر وعدك لي أن نلتقي يوم الجمعة حتى تكملي قصة الفيلاني...
أخرجت ضحكة خفيضة وقالت:
- هذا اليوم لا أنساه قط!!!
سألتها مستعجلاً
- لماذا لاتنسينه؟
قالت:
- لأنه غير مجرى حياتي!!
سألتها:
- كيف؟
تنهدت وقالت بأنّها قصة طويلة!
سألتها:
- هل يمكن أن اعرفها؟
ضغطت على المسبحة بكفيها المعروقتين، وقالت:
- هذا زمن بعيد، كان جميلاً، فترة الشباب، ربنا يغفر لينا، عملنا ما يعجز الشيطان عنه...
رددت خلفها "ربنا يغفر للجميع"
ساندتني:
- حتى الفيلاني ربنا يغفر ليهو!!!
حدثتني نفسي بمداعبتها فقلت
- أذا غفر للفيلاني سيغفر للجميع!
كأنها توقعت جملتي:
- ربنا قال وسعت رحمتي كل شيء، وشيح إدريس قال لي إبليس لمّا سمع بهذه الآية فرح لظنه أنه ضمن هذا الشىء!
نقلت محاسن حديثها:
- أين بقية الشلة؟
قلت لها:
- مازال عمر يعاقر خمرته، وآدم ابتعد لمدينة بعيدة، وحسين اختفي لا أعرف له أثراً!!!
صفقت بيديها:
- السبب يعود للفيلاني! لكن أنت تود أن أخبرك عنه!
قلت لها هذا وعدك قبل سنين..
قالت:
- قلت لك أتذكر وعدي ولم أنسه، كان مفروض نتقابل يوم جمعة، لكن الفيلاني أراد شيئاً آخر! ذلك اليوم الذي أخبرتك عنه كان احد جماعته موجود سمع حديثي، وقد نقله له واخبره بموعدنا يوم الجمعة، هل تذكر في نفس الليلة تمت إزالة المقهى الكبير، قررت أنا لكي لا ابتعد عنه، اتخذت لي مكان قرب إطلالة المقهى، أبيع القهوة والشاي، وهكذا صرت أتدبر أموري، وكما تعلم أن البلدية كانت تطاردنا رغم إننا ندفع لها أتاوات، وكنت أهرب مرة، ومرات أخرى يقبض فيها علي، ادفع الغرامة وأعود لمزاولة مهنتي، في احدي المرات تم القبض على، أذكر ذلك اليوم تماماً، كان نفس يوم الجمعة الذي وعدتك فيه! خرجت من البيت وقلبي يحدثني أن شيئا سيحدث! أخذوني لمكان غير الذي كنت أقاد إليه، مبنى جميل بساحته أشجار ظليلة، قادوني لمكتب أنيق وقد عاملوني معاملة حسنة، لا ضرب، لاشتائم، وقدموا لي ماء بارد، أخبروني أن احد المسؤلين يريدني في مهمة خاصة، جاء هذا المسئول وناداني باسمي..
- يامحاسن... يافاتنة المقهى الكبير!!
رفعت بصري نحوه، المصيبة أنه الفيلاني بأردافه البارزة.... "تبسمت حاجة محاسن، واستغفرت، واصلت حديثها..
- فار الدم بعروقي وصرت أصيح بصوت عالٍ الفيلاني بتاع الترزي، الفيلاني بتاع الترزي!!!
زادت بسمته وهو يقترب مني، مد لي يده، صافحته ببرود صامتة كنت، جلس قربي..
- هل عرفتني يافاتنة؟
أجبته
- كيف لا أعرفك؟
وكدت أقول له:
- كما أعرف الترزي، لكني صمت..
قال لي الفيلاني:
- أرجو أن تنسى موضوع الترزي، لا تحكي عنه لأحد من الشلة، وأنا أعرف أن لديك موعد معهم اليوم!
وأشار بيده نحو جماعته وقال:
- كل واحد منهم بحياته ترزيّ ولكن نحن نحتاج لك في أمر وطني يدر لك مبلغ محترم من المال...
قلت له مستنكرة:
- أكثر الله من أمثالك، فقط أتركني أبيع قهوتي بسلام..
تبسم الفيلاني وقال:
- أنت اكبر من بائعة شاي، ونحن نقدر وطنيتك ولن ترفضي العمل معنا..
ارتجفت وهممت بالنهوض
- هل تريدني أن أتجسس يافيلاني؟
ضحك
- الموضوع ليس تجسساً؛ بل خدمة وطنية، ولن تكلفك شي، فقط سيكون لديك بيت باسمك ونحن نزورك في مرات محددة ومعنا بعض الزميلات اللائي جنى عليهن الدهر!
قلت له
- بشرط ألا تقبضوا علي!
ارتفعت ضحكته وقال:
- شرط وحيد هو لا تسمحي لأي ترزي بالحضور إلى البيت..
قلت له فقط؟
خفض صوته ودنا مني وقال:
- ألا تربي كلب... أنا أخاف من الكلاب!
كدت أقول له أنت أسوأ كلب ولكني صمت، صمتي شجعه ليقول
- نحن سنحميك من أنفسنا ومن غيرنا، لكن إذا رأيت أحداً من الصعاليك اخبرينا!
صحت فيه منتفضة:
- أنا لن أبيع شلتي بثمن..
تبسم وقال
- ولو كان الثمن غالي؟
لم أرد عليه هممت بالنهوض، وضع يده على كتفي، أزحتها بعنف، أعادها وهو يقول:
- لن يأتي احد منهم لمنزلك يا محاسن يا رمز الوطنية!!
نادى أحد أتباعه وقال له:
- اصطحب معك محاسن لمنزلها الجديد!
قال لي الفيلاني وأنا أهم بالخروج مع أزلامه..
- اذهبي لتستلمي منزلك وسأحضر لك في المساء..
قبل أن انهض للخروج سمعت الفيلاني يصيح:
- أين مولانا؟
قلت في سري متعجبة:
- هنا يوجد مولانات!!!
سمعت مولانا يرد
- نعم سيادتك..
الصوت جعلني ألتفت نحوه، فعرفته أنه المناضل الملحد! هل تذكره؟
قبل اجابتي واصلت حاجة محاسن
- جاء المناضل الملحد يتبسم وصافحني
- أهلاً يامحاسن!
وقال كلام كثير عني للفيلاني مثل: محاسن نعم الاختيار ياسيادة العميد، محاسن أحسن من يدير المنزل، والفيلاني يرد بانشراح: نعم، نعم، خرجت مع الرجل بسيارة مظللة حتى وصلنا هذا المنزل، ناولني الرجل المفتاح وقال:
- هذا منزلك!
دخلت المنزل وجدته مفروش ومؤثث، كان الوقت كما أذكر عصراً، في المساء جاء الفيلاني ومعه بعض الأصدقاء والصديقات كما قال لي، جلسوا على الكراسي بساحة السور، تلصصت عليهم، تخيل أن لهم أسماء أخرى احدهم ينادونه بشاي العصر وآخر بقهوة الضحى، ومنهم من ينادونه بمريسة ست أبوها، ويخاطبون بعضهم بصيغة الانثيى، يافلانة وياعلانة، حتى شجارهم كشجار النساء، ياقهوة الضحى سرقت راجلي! وشاي العصر خطف راجل مريسة ست أبوها! والله لو سمعت كلامهم تظن أنهم نساء... ناداني الفيلاني
- أسمعي يا محاسن، هذا البيت ملكك وما نحن إلا ضيوف عندك! ونحن سنحميك ونحمي البيت..
قلت له:
- تفضلوا خذوا راحتكم..
تلك كانت أول ليلة، عند الفجر خرجوا بعد أن منحوني مبلغاً كبيراً وبعدها صار يأتي الفيلاني في فترات متباعدة، مصطحباً معه فتاة، يقول لي هذه الفتاة يتيمة دعيها تعمل هنا: وهذه نحتاج لها في عملنا، وهذه طالبه فقيرة، بالتأكيد لم أصدق كلامه، كل خميس يأتي معه شيخ أبكر، هل تذكره؟
قبل إجابتي قالت:
- هو الشيخ الذي كان يمارس الشذوذ مع الفيلاني بزعم علاجه، كان يأتي معه الفيلاني كل يوم خميس يقضيان الليلة عندي، ويوم الجمعة يغتسلان ويذهبان إلى الصلاة، هل فاجرة أنا أم هم؟
توقفت حاجة محاسن عن الحكي لأن ضحكة حادة أربكتها، ناولتها كوب ماء جرعت منه جرعات، وعادت لقصة الفيلاني وشيخ أبكر...
- مرة في يوم خميس رفض شيخ أبكر الدخول مع الفيلاني وطلب المبيت مع واحدة من بناتي وكان له ما أراد. غضب الفيلاني من موقف شيخ أبكر وطرد الفتاة التي نام معها ذاك اليوم! هكذا استمر الحال بي، وقد اشتهرت واشتهر بيتي وصارت لي علاقات مع أناس كبار في الحكومة، كانوا يأتون مع الفيلاني الذي أراد أن يعمل منتدى أدبي يبشر فيه بنظريته، تخيل الشيء الوحيد بعد الترزي يتذكره الفيلاني هي نظرية التراب الوطني. بعد طرده من مهنته، أتاني بحالة تدعو للشفقة، ولكنه اختفى والآن لا أعرف له عنوان. لكن حين تضيق به الظروف يأتيني ويرتاح يوم أو يومين ويختفي، صمتت حاجة محاسن، أنا أحدق في تجاعيد الزمن على وجهها الذي نز عرقاً، سألتها:
- ياحاجة حدثيني عن حجتك؟
رفعت يدها بمسبحتها ومسحت وجهها وقالت:
- بعد العمر ده قلت أمشي أحج إلى بيت الله، سألت إمام الجامع هل يمكن أن أحج بقروشي؟ طردني وهو يتعوذ، كدت أقول له
- والله العظيم بناتك الثلاثة وامرأتك زبونات دائمات عندي!!!
لكني لعنت إبليس، وكل أبالسة الإنس والجن، إمام الجامع يستحق اللعنة أكثر من إبليس، عليك الله إنسان أمام جامع يحتكر الرحمة؟ ولأن نيتي صادقة في التوبة، قلبي حدثني أمشي لشيخ آخر، وفعلاً ذهبت إلى الشيخ يوسف، وهو زول صالح، لقيتو قاعد ومعه عدد من الناس، لم اخجل منهم، سألته:
- يا شيخ يوسف أنا القدامك دي مرة مسلمة وموحدة وعملت كيت وكيت وناوية الحج رأيك شنو؟
قال لي أمشي حجي ساكت الله بقبل توبة العبد مهما عمل وأنت غير (كسيسك) ده عملت حاجة؟
ضحكت حاجة محاسن بعمق حتى أغرورقت عيناها بدمع شفيف وقالت
- والله الشيخ قال لي الكلام ده قدام الناس..
مشيت الحج وجئت راجعة وأنا تائبة، الحمد لله، في الحج دعوت للشلة ودعوت للفيلاني..
قلت لها وبذهني وآدم:
- هل الفيلاني مسكين؟
ردت:
- كلنا مساكين، ثم واصلت ما تعرض له الفيلاني في طفولته ليس له فيه ذنب...
سألتها:
- ما مصير العاملات معك بهذا المنزل؟
قالت بيقين:
- البنات ديل ما بطردهم وقروشهن ما يدخلن علي، ربنا يغفر لي ولهن.
بلغ الإعياء مبلغة بحاجة محاسن، بهدوء نهضت وغادرتها، لحقتني جملتها عند الباب..
- كان لقيت الفيلاني بلغه سلامي..
قلت:
- سألقاه..
وجدت حنان عند الباب، تقدّمت معي حتى الباب الخارجي، قالت لي:
- لا تنس القضارف!
التفت نحو حنان وقلت لها صادقاً: سآتي قريبا وآخذك إلى القضارف.








الفصل الخامس




لم أعد إلى القضارف، نفسي حدثتني باكمال قصة الفيلاني، أخذت وقتاً كبيراً مني، يجب أن تنتهي، نطّ خاطر مشاغب يحثني للبحث عن عمر الطيب، ربما يفيدني رغم سكره المستمر الذي حال في السابق بيني وبين مقابلته، بذلت جهد كبيراً لألتقيه، وأنا أتذكر جملته التي قالها لحظة حضور الفيلاني إلى المقهى قبل سنوات:
"أقسم بأباريق الخمر سأعرف سر العلاقة بين الفيلاني والفتاة "
قلت ربما تحصل عمر على معلومات تفيدني في بحثي، تتبعته في أماكن اندهش الذين رأوني أدخلها، دخلت خلسة الخمارات البلدية، ذلك لأن التنظيم الديني الذي ينتمي له الفيلاني تشدد في إغلاق البارات لحظة استلامه السلطة، وأسندت إلى الفيلاني مهام أمنية كما أشاع التنظيم الملحد، وهي إشاعة تحولت إلى حقيقة كما علمت من آدم وحاجة محاسن، هذه الإشاعة أو الحقيقة أصابت الشلة بذعر وخوف من ملاحقة الفيلاني لهم، كما خشيت أنا أيضاً ربما يعلم تتبعي لسيرته القذرة، أنا أعرف نفسي جيداً لست بالبطل لو ألتقاني الفيلاني قبل مباشرته في تعذيبي سأعترف وأقر بذنوب وآثام لم أرتكبها، وسأورط الذين لا أعرفهم والذين أعرفهم، وأنا أخشي الفضيحة أيضاً، ربما يأتون بي شاهد ملك أشهد على الشلة زوراً وبهتاناً وإفكاً. تنط من تلافيف الذاكرة اللعينة حكايات الفيلاني تدفعني دفعاً لمواصلة مهمتي النبيلة، هكذا وصفتها، ألا يحق لي ذلك؟ كما يفعل سليمان السجمان حين يفتخر بنفسه، وجملته التي صارت لازمة للشلة "أريد أن أحفز نفسي لإعجابي بها". لا علينا، المهم في أثناء بحثي عن عمر الطيب، سمعت إشاعات كثيرة، منها أنه توفى غرقاً، وأخرى تزعم أنه اغترب، والذي أضحكني قول أحدهم إن عمر الطيب قد ترك الخمر وذهب إلى الحج والآن أمام بمسجدهم، وأقسم ناقل الخبر أن عمر الطيب أصبح لا يغادر صحن المسجد ويؤذن للصلوات الخمس، هذه القصة ذكرتني قصة قديمة تقصها أمي عن رجل معروف لدينا، رجل يعمل موزعاً للخمر بين الشاربين، كنا نراه دائما يترنّح في مشيته، كنا نركض خلفه صائحين.. السكران الحيران.. قالت أمي:
- انه كان إماما للمسجد، وحافظاً للقرآن منذ طفولته نشأ على التدين حتى تزوج بامرأة من أسرة معروفة، عندما دخل عليها تلك الليلة خرج منها سكراناً ومن يومها أصبح يسكر صباح مساء، لا احد يعرف السبب، وختمت أمي قولها:
- أصبح يطارد الأطفال ويجبرهم على إتيان الفاحشة به.
لذا لم أستبعد أن عمر هجر الخمر ولزم المسجد، تذكرت جملة سليمان
- كل المناضلين بالسودان حين يهرمون يعودون إلى التدين، لأن دينكم ادخله رجال المتصوفة وهم أهل محبة وشعارهم "الماعنده محبة ماعنده حبة".
أكد لي أحداً لا اذكره الآن أنه كان بالمعتقل وقابل عمر هناك، كل هذه الأقاويل زرعت بقلبي كسل وقتلت بداخلي الأمل بلقاء عمر الطيب وهممت بتجاوزه والبحث عن سليمان السجمان، وكانت خيبتي أكبر، فقد عملت أنه عاد إلى موطنه، وهنت عزيمتي، كدت أتجاوز مشروع كتابة سيرة جلال، ولكن يبدو أن الأقدار أرادت أمراً آخر، ذات نهار كنت أتسكع بلا هدف، أطالع لافتات المباني، وأركل برجل غاضبة حصى وحجارة، وجدت نفسي وسط شارع مزدحم بقلب الخرطوم، وهو شارع يعج بالعمال وباعة متجولين ولصوص وبائعات الشاي والقهوة، أسمحوا لي الإقرار بضعفي إمام القهوة، وكم رددت جملة قالها محمود درويش في رائعته "الزمان بيروت المكان آب القهوة ضد الوقت، القهوة ضد الكلام ولو كان كلاماً رقيقاً مثل تحية الصباح يفسد القهوة). ويقول صديق لي:
- إن القهوة أخت الذكاء وأم القوة الجنسية.
بكل شوقي للقهوة بارحت الطريق وانحرفت نحو بائعة القهوة، قبل جلوسي على أحد مقاعدها المتناثرة طلبت كوب قهوة، ابتسمت البائعة بسمة تجارية وأمرتني بالجلوس، جلست وأنا أستعجلها..
- القهوة... القهوة.
ردت بعد مسحها مظهري بعينين فقدتا بريقهما..
- حاضر..حاضر..
توهطت في جلستي مهيأ لكوب قهوة دافئ، خاطر مشاغب نط برأسي وتذكرت محاسن كيف انتقلت بأوامر الفيلاني من بائعة قهوة إلى بائعة متعة، كانت بائعة القهوة في سن تسمح للفيلاني بالتقاطها، بها جمال زاده الفقر بهاء، التفت نحو رجل يجلس قربي، أشركته في الحديث تزجية للوقت، فليذهب محمود درويش وجميع الشعراء إلى الجحيم، وسيجدون بقاع الجحيم الفيلاني يتوسط أبو لهب وأبي بن كعب، ويتزعم قوم لوط، تلك اللحظة وأنا في انتظار كوب القهوة، رأيت عمر الطيب يجلس بجانبي، هتفت:
- يا سبحان الله، لعنة الفيلاني تلاحقني!!
سهوت عن كوب القهوة وبائعته واتجهت بكلياتي نحو عمر الطيب، كان نحيفاً شاحب الوجه، بيده فنجان قهوة يرتجف، ساهم النظرات، بعينيه بريق يلمع، صرت أحدق في عمر الطيب، رمقني هو أيضاً، ابتسمت له، جفل حتى سالت القهوة على ساعده، ارتفعت بسمتي إلى قهقهة وسألته..
- ألم تعرفني؟
وضع قهوته على الأرض وحدق في وجهي بوجه خائف
- هل أنت هو؟
أجبته
- نعم ياعمر الطيب..
نهضت أحضنه، مد لي يده المرتجفة، كادت تطفر دمعة مني كففتها بيدي، سألني:
- هل عرفت؟
- نعم عرفت ياعمر أخي..
يبدو أن كلمة أخي أذهبت عنه تردده، سألني
- أين الشلة ؟
قلت له:
- كل واحد ذهب يبحث عن حل، مخافة أن يصيبهم من الفيلاني ما أصابك!
قلت جملتي وأنا اعني ما أقول.. تف عمر على الأرض أوف..
- جلال القذر يريدني أن أصبح مثله..
قلت له
- حاشاك يا عمر..
صفق بيديه وهمس ضاحكاً بمرارة
- مازالت مؤخرتي مصونة!
ذهلت من نطق عمر جملته، فقد كان رغم إدمانه يتحاشى النطق بكلمات تخدش الحياء، ومازالت جملة سليمان السجمان.
"عمر رغم إدمانه، أنيق المفردات"
لازالت حية متداولة بين الشلة، لم أصدق إذني مما سمعته فسألته:
- ماذا قلت ياعمر؟
قال بعدم اكتراث:
- مؤخرتي مازالت سليمة، ولمْ، ولن ينال مني الفيلاني الكلب!
وجدتها فرصة لأسئله:
- كيف قابلك جلال؟ وأين؟
كأنما صببت فوق جبينه ناراً، أرتجف وتلفت يميناً ويساراً وأومأ لي نحو بائعة القهوة، ثم دنا برأسه مني..
- ربما تكون منهم!
ترك قهوته ومضي، نهضت أتبعه وبائعة القهوة تصيح:
- القهوة ياأستاذ!... القهوة.. القهوة..
لحقت بعمر أمسكته من يده، بهلع جفل، نظر إلى يدي الممسكة به ورفع بصره نحو وجهي وتمتم
- جعلونا لا نثق في أحد!
استدرك
- الفيلاني وجماعته!
تحرك عمر وأنا أتبعه، كان يبصق على الأرض وعلى السماء ويتكلم مع شيء لا مرئي، ابتعدنا عن بائعة القهوة، بمكان مهملٍ جلسنا، زرع عمر المكان بناظريه يبحث عن طمأنينة لن يجدها، جلس قربي وهمس:
- هل تصدق أن جلال أصبح مسئول كبير، له مكتب وسكرتيرات حسناوات؟ وأن اسمه صار الفيلاني!
قاطعته:
- هل تتكلم مازحاً ياعمر؟
- هذه هي الحقيقة التي اكتشفتها مؤخراً أن جلال صار يسمى الفيلاني..
- دعك عن هذا هل هو من أعتقلك؟
أجابني عمر وهو يتنهد:
- نعم ولم يكتفِ باعتقالي، بل أسمعني كلاماً بذيئا!.
اعتدلت في جلستي وقلت لعمر:
- قُص على الذي دار بينكما؟
تنهد قائلاً:
- هذا موضوع طويل ويحتاج لجلسة بمكان آمن!
ضحكت:
- أين جرأتك وإقدامك يا عمر؟
أجابني بنبرة حزينة:
- لو قابل عنترة الفيلاني وهو بمكانه تحيط به شرذمته لأصبح مثل هبنقةَ!!
أطرقت أجتر معلوماتي عن جلال الذي صار الفيلاني، تنهدت...
- من بلغ مأمنه بان مكره، جلال بلغ أكثر من ذلك..
رفعت رأسي نحو عمر الطيب وقلت له كاذباً
- فلنذهب لبائعة قهوة أخرى تربطني بها صلة قرابة!
نهض وقال
- إذا كانت قريبتك لا بأس
نهضنا وتحركنا نحو قريبتي المزعومة، كان عمر يسير بسرعة غريبة أكاد بعد جهد ألحق به، وصلنا إلى محلها وجلسنا، أدهشني معرفتها بعمر الطيب، تجاوزت تلك المعرفة قلت لعمر:
- أرجوك قُص لي الذي حدث بينكما!
نظر لي مليئاً وقال:
- إذا كانت هذه رغبتك فلا بأس سأقص عليك ما حدث...
قلت له:
- كلي أذن صاغية لك..
أعتدل بجلسته وبدأ يحكي
- في تلك الليلة المشئومة، كنت مع الشلة بالمقهي كعادتنا، ألا تذكر انسحابنا حين حضور الفيلاني إلى المقهى ذاك المساء؟
قلت:
- كيف لا أذكر انسحابكم!
تلفت عمر ومال برأسه نحوي وقال:
- قبل انسحابنا كنا نتناقش في مواضيعنا التي تعرف! ولكن بعد ظهور الفيلاني بالمقهي تداولنا في طريقة ننجو بها من الفيلاني لأنه عرف المقهى الكبير، أول من علق سليمان السجمان..
- ستمر عليّ ظروف بائسة، هولاء الذين استلموا السلطة سيُعيدون العلاقة مع رئيسنا وسأفقد كمعارض له الدعم..
قال له القاص الباهت بغبائه المعروف:
- أنت سوداني وأجنبي ما عليك إلا احتفاظ بالجنسية السودانية وتمزيق الجنسية الاخرى...
ضحك ادم وقال:
- مشكلتي أنا أكبر لأن هولاء هم جماعة جلال وسينتقم مني!
قاطعه حسين خائفاً:
- كلنا في الهم شرق!!
وكنت أنا تلك اللحظة أحمل زجاجة خمر بحقيبتي، لا أبالي بالسياسة كما تعرفني، ولكن حديث آدم جعل فؤادي يرتجف، لجلال ثأر معي، لا أظنك تعرفه...
أجبته
- أبداً لا اعرف ثأركما!
قال عمر
- ذات مرة كنت مخموراً وقابلني جلال وطلب مني أن أمارس معه اللواط، وبما أنني ثمل صرخت فيه بصوت عالي أسبه، تقيأت كل المعلومات التي تتداول بين الشلة عن سيرته، فاجتمع الناس فأخبرتهم بما دار، وكان من بينهم النادل الاريتري، هل تصدق أن الفيلاني حاول إغراء ذاك النادل ليتجسس علينا وحين رفض أبعده إلى دولته مخفورا!!! فلنعد لقصة اعتقالي ومقابلة جلال أو الفيلاني، أذكر تلك اللحظة بتفاصيلها المرعبة، كنت أسير في الشارع العام، أحمل مشروبي الروحي داخل ملابسي الداخلية، أنت تعرف عقوبة من يجدون عنده خمر، نعم كنت قد شربت بعض الكاسات، وقفت أمامي سيارة تايوتا سوداء كقلب الفيلاني، وسمعت صوت يناديني عمر... عمر..، كان صوتاً غريباً، التفت إلى مصدر الصوت، رأيت بعض الملتحين على المقعد الخلفي للسيارة، انطلقت أصواتهم: عمر تعال، عمر تعال، دنوت منهم فجأة وجدت نفسي مرمياً داخل صندوق السيارة وأحذية ثقيلة فوق ظهري وعنقي والقهقهات تتعالى، انطلقت السيارة بسرعة كدقات قلبي،"هنا تبسم عمر" وقال:
- أكيد السكرة ضاعت سدى، المهم السيارة تلك الليلة جاست أحياء كثيرة بالعاصمة كلما وقفت بمكان ينادون اسماً، وحين يأتي يقذف به قربي، وأحياناً يهبطون منها محدثين ضوضاء وفرقعة سلاح يقتحمون منزلاً ويحضرون شخص يرمونه قربي، ويهتف احدهم لواحد يجلس جوار السائق:
- قبضنا المطلوب سيادتك!
يرد عليه
- تبقى لنا ثلاثة..
دخل هذا الصوت أذني أنه صوت لشخص أعرفه، يخرج مخلوطاً بنخنخة، هنا صرخت في عمر متسائلاً:
- أنه صوت جلال؟
- نعم إنه صوته وقد تأكدت من ذلك! فلنعد لتلك الليلة، في منتصف الليل امتلأت السيارة بأمثالي، طيلة هذه الساعات تنهال علينا اللعنات من أصحاب اللحي المدججين بالسلاح، كلمات جارحة تتخللها ضحكات أناس منتصرين، عند الفجر توقفت بنا السيارة بمدخل أحد المباني، هبطت منها اللحى تتبع أصحابها، سمعت أرجل تتراكض، صرخ فينا أحدهم:
- أنزلوا ياخونة!
جاوبه صوت منهم:
- قفوا مكانكم لاتنزلوا! ثم بصوت آمر قال لصاحب الأمر الأول:
- لا تسمح بنزولهم قبل أن تعصب أعينهم!!
أتم جملته، فجاء آخرون وعصبوا أعيننا، وبعدها أنزلونا وقادونا عبر ممرات عديدة نهبط درجات ونرتفع درجات وبعض الأيادي لا نراها تصفع وأرجل تركل فينا، وشتائم مريرة تنهال علينا، كلها عن الأعضاء الجنسية لنا ولأمهاتنا وأخواتنا، احدى اللكمات التي أصابتني رمت الزجاجة مني، راودتني رغبة ملحة بتناولها ولكن يد أحدهم سبقتني نحوها، أدخلنا غرفة أغلقها علينا أحدهم ومضي، لا أطيل عليك مكثنا زمناً لا نعلمه يوم أو أكثر. فتح باب الغرفة فسمعت صوتاً يناديني:
- عمر... يا عمر
نهضت فتلقفتني يد غليظة وجرتني للخارج معها كلمة أرتجف لها جسدي
- أخرج يالوطي!
قادتني تلك اليد وصاحبها يسب منسوبي التنظيم الملحد ويلكزني، مررت بنفس الممرات التي عبرناها لحظة دخولنا، يبدو أنهم كانوا مخمورين ينتشرون فيها، إنها زجاجتي التي دفعت فيها دخل يوم كامل، صاحب اليد القوية كان يردد في كل مرة:
- هذا هو اللوطي الجديد!!!
وصوت آخر:
- أحضرت لكم عروس عذراء..
وأنا أرتجف رعباً..
- قف هنا ولا تتحرك..
أمرني أحدهم، سمعت صوت باب يفتح له صرير، وأصوات أرجل صاحب اليد القوية ترتطم بالبلاط، فعلمت أنها تحية عسكرية لمقام أكبر، وأنا أكاد أموت من الخوف، هذه أول مرة في حياتي أُعتقل، جاء صاحب اليد القوية وفك العصابة عن عيني، فرأيته، كاد يغشى على من هول ما رأيت، سألت عمر بلهفة:
- من رأيت؟
أجابني متعجباً
- أكاد لا أصدق..
قلت أستعجله
- من رأيت ياعمر؟
أجابني
- رأيت المناضل!
صرخت فيه متعجباً:
- رأيت المناضل الملحد؟
رد على بحزم:
- نعم المناضل الملحد هو صاحب اليد القوية!
سألت عمر عن رد فعل المناضل الملحد، أجابني:
- كان رده قهقهة كريهة وبصاق على وجهي..
ومضي عمر يقول:
- المناضل الملحد كان أكثرهم قسوة وأشدهم إصرارا على التعذيب، أمّا صاحبنا جلال فأمره عجيب معي، صمت عمر كأنما يستجمع لحظات قاهرة مر بها وقال بحرقة:
- فتح الباب وخرج منه شخص قادني لمكتب كان مفاجأة لي، لقد وجدت جلال الذي أعرفه بمؤخرته وكرشه يجلس خلف طاولة تتوسط الغرفة وحولها طاولات صغيرة يجلس عليها بعضهم، ثبت بصري في جلال، نفس جلال الذي أعرفه وتعرفه أنت، الجسد الأنثوي والشعر الغزير، نعم شعر رأسه أسود ناعم يبدو لي أنه صب كمية مهولة من الصبغة أزالت البياض الذي كان يكسو شعره، قال الذي أدخلني:
- هذا هو الخائن سيادة العميد فيلاني..
ضحك الفيلاني وسأله
- كيف دخل إلى مكتبي؟ هل عبر الباب؟
رد المناضل الملحد:
- نعم سيادتك..
ضرب الفيلاني الطاولة بيده وأمره
- مثل هذا يدخل عبر النافذة وليس عبر الباب!!
بيده القوية أمسكني من عنقي وجذبني...
- هيا اخرج عبر النافذة وادخل عبرها تنفيذاً لأوامر سيادته!
نظرت للنافذة، نافذة تقسمها مواسير حديدية إلى مربعات صغيرة، لا تبعد الواحدة عن الاخرى بضع سنتمترات، بصوت واهن تشفعته:
- كيف ادخل عبرها؟
نهض الفيلاني ونظر إلى كالذي ينظر إلى حشرة وأخرج من بين أسنانه جملاً وقال:
- الذي ولد خائناً يظل خائناً، أليس كذلك ياعمر ياطيب؟ أين فصاحتكم بالمقهى الكبير؟ كيف تود إسقاط حكومة ولا تستطيع الدخول عبر نافذة؟ كلكم خونة، آدم الشاعر الفاشل كان هنا، صار يبكي كطفل... تدخل المناضل الملحد
- لكنه كتب قصيدة مدح في سيادتك!!
رد الفيلاني:
- قصيدة عفنة كأنه كتبها بمؤخرته!
بصوت خفيض قلت له
- أستاذ جلال.. قبل أن تكمل جملتي خروجها من فمي
صفعني:
- أنا العميد الفيلاني وليس جلال ياحشرة! هل عرفت أسمي؟
وجدت نفسي ويدي على خدي أقول له بمذلة:
- العميد الفيلاني!!!
انطلقت قهقهات وكلمات من الذين يجلسون حول الطاولات الصغيرة، "الحشرة آمنت" "هذا أول الغيث" "الليلة لدينا عروس جديدة" وكلمات أخرى... وأنا واقف تحرك الفيلاني عائداً إلى طاولته، أشعل سيجارة، وهو يتحرك بمقعده يمنة ويسرى، صك أذني سؤاله...
- هل فيكم من يرغب في هذه الحشرة؟
نهضوا من مكامنهم وتقدموا نحوي، أناس غلاظ لهم أجساد ضخمة، زحفوا نحوي وأنا واقف كمسمار، التفوا حولي يتفحصون جسدي الذي كان جثة تلك اللحظة، سمعت احدهم يرد على عميدهم:
- ليس به ماينتعظ له القضيب!
وقال آخر وهو يدفعني بيده:
- ياسيادة العميد الفيلاني مثل هذه الحشرة تعذيبها أنْ تريها القضيب فقط!
نط ثالث...
- سيادتك أعطوني له أضاجعه هذه الليلة!
قهقه العميد الفيلاني وقال له:
- أنت فحل لهذه الدرجة حتى تنوم مع عمر الطيب؟
ضحك ورد:
- لن أمارس معه أي شي بل سأخرج له قضيبي واجعله يمصه!
قال العميد د الفيلاني:
- لا، عمر الطيب وشاكلته تعذيبهم بأن نحضر له جماعة غلاظ يهتكون عرضهم!
صفق الجميع وعادوا لمقاعدهم، وأنا صار جسدي كتله أسمنتية، أتتني شجاعة بل تهور فقلت للفيلاني:
- اتق الله!
كأنما شتمت أمه حينما قلت أتق الله، رأيت بعينيه شرر وانتفض بمقعدة حرك رأسه يمنة ويساراً...
- أنت ياحشرة تأمرني بتقوى الله، هل تعرفه أنت؟ أذن سأريك التقوى..
ذهب ذهني يستحضر مناظر كثيرة أعرفها وأخرى تناقلتها الألسن عن ممارسة الشذوذ بالمعتقلين، وكنت أظنها خيال خصب، وأساطير تلصقها المعارضة الملحدة، ولكن أصدقك القول ما رأيته لا يصدق! رغم كلامهم القبيح إنهم أجبن خلق الله، ولا يثق أحدهم في الآخر، في احدى اللحظات أمرهم الفيلاني بالخروج، خرجوا وتركوني عارياً مع الفيلاني الذي تأكد من إغلاق النوافذ ودنا مني وقال بصوت أنثوي:
- ياعمر الآن نحن وحدنا وأريد منك أنْ تنفذ طلبي القديم !
علمت ما يريده فقلت له:
- يا سيادتك أنا لا أعمل عمل قوم لوط!
انفعل ومسك قضيبي وقرصني فيه وقال بذات الانفعال:
- الضخامة هذه تضيع ساكت!
أصدقك القول خلع ملابسه ورقد على الأرض ورفع مؤخرتة نحوي وترجاني...
- ياعمر إنشاء الله تمسحو بس!!
قلت له:
- لا استطيع !
نهض وارتدى ملابسه كذلك فعلت أنا، فتح الفيلاني النوافذ والباب وهو يصرخ ويتوعدني، علي أثر صراخه اقتحم المكان شرذمته، هجموا على ونزعوا ملابسي وصرت عارياً، بإشارة من الفيلاني أعادوها لي لكنهم احتفظوا بسروالي الداخلي، أعادوني إلى الحبس، بتلك الغرفة الضيقة، وجدت بها بعض المعتقلين بحالة يرثي لها، أغلق الباب الذي احدث صريراً أرتجفت له أجساد المعتقلين المكومة، قبل أن أستبين وجوههم فتح الباب فوقف احد كلاب الفيلاني بيده سروال داخلي ملطخ بدم، أشهره أمامنا وسأل:
- لمن هذا السروال؟
لم يرد عليه أحد، فأعاد نفس السوال، ثم توجه نحوي منادياً
- ياعمر هل هذا السروال يخصك؟
بانكسار قلت له:
- نعم...
انطلق يضحك وجاوبته ضحكات من آخرين، وعيون المعتقلين شعرت بها امتلأت شفقة. رغم معاناتهم واسوني وقصوا على قصصاً مرعبة مروا بها، والله لو سمعتها لن تصدقها، من أين أتى الفيلانيون بهذه الطرق البشعة في التعذيب؟ وحشية ما انزل الله بها من سلطان، فجور وفسوق، العياذة بالله! لكن أصدقك القول أصدق الناس بالمعتقلات.
جملة عمر جعلتني شعرت بطعنة في قلبي وتمنيت تلك اللحظة لو كنت اعتقلت.هربت من أمنيتي فقلت لعمر:
- قابلت آدم وأخبرني أن الفيلاني وجماعته أدخلوا له عصاه غليظة في مؤخرته!
ارتجف عمر وأتكي بيديه على الأرض وقال وهو في تلك الحال:
- لم يدخلوا لي عصاه وإن هموا بذلك، لكن أقسى ما مررت به الفيلاني أمرهم بأجراء اللازم! أحدهم اخرج قضيبه يهز فيه ويدنيه من فمي، ويد قوية أخرى تدفع رأسي من الخلف وتدنيه من القضيب المنتصب وصاحبها ينهرني بسخرية:
- ألحس يامناضل!
والقضيب يقترب من فمي.... هنا صمت عمر الطيب وبان تشنج على جسده، وانأ أحدق فيه بذهول، قطع ذهولي تقيوء عمر الطيب إمامي، تقيأ كما يتقيأ كلب سعران، طلبت له كوب قهوة، وجلست قربه صامتاً أتمعن فيه وهو يرشف القهوة، نز عرق غزير بلل قميصه المهتريء وسال على خديه، أشفقت عليه بائعة القهوة ومدت له بكوب ماء قائلة:
- اغسل وجهك!
أطاعها وغسل وجهه ويديه، وأستلقى على ظهره في الأرض! انتظرته صامتاً وقد اشتبك التعجب والشفقة بعيني بائعة القهوة فقالت:
- له زمن بهذه الحال، يأتيني يشرب قهوته يكلم نفسه وحده، استغربت لحديثه معك، حين يأتيني يجلس صامتاً لحظة حضور أي إنسان ينتفض بهلع وخوف ويختفي...
طالت جلستي وعمر مستلقٍ على الأرض يغمغم بكلمات مبهمة ويهز يده في الفضاء يطرد ما لا أراه أنا ولا غيري، ضحكت بائعة القهوة وقالت:
- دعه ينام!!
حيرة أربكتني، لا أدري ماذا أفعل من أجل عمر الطيب، هبّ من رقدته فجأة وركض يصيح لا...لا. وهو يضع أصابع يديه على فمه، تبعته بنظري حتى اختفيى، وإنا بجلستي أجتر حديثه، توقفت عند جملة قالها في أثناء حديثه، عن قصيدة كتبها آدم يمدح بها الفيلاني، تساءلت هل كتب آدم قصيدة مدح في الفيلاني؟ أين أجدها؟ آدم ذكرها لي ونفى كتابته لها! تذكرت قول سليمان...
- لا تثق بآدم أنه يعلن عكس مايبطن..
وأطلقت العنان لتفكيري، نبهتني بائعة القهوة:
- القهوة صارت باردة يا أستاذ!
قلت لها:
- لا رغبة لي في القهوة...
نهضت وغادرتها.





















الفصل السادس


امتلأ قلبي حقداً على الفيلاني، وزاد إصراري على كتابة سيرته القذرة، حقدي نزع عني الخوف من الفيلاني فأصبحت آتي بسيرته بكل مجلس، في المقاهي والمطاعم والأسواق الشعبية، في وسط المدينة وأطرافها. أبث معلوماتي بإضافات مختلقة، ولسان حالي يقول أنا الغريق فما خوفي من البلل! أصدقكم القول كنت أحياناً أشعر بتفاهة تصرفي، قلبي يحدثني أن من أشتغل بالناس مات غماً، أحاول حينها نفض سيرة الفيلاني وطرحها عن شئوني، لكن تذكري لتصرفاته مع الشلة يزيد من وتيرة عزمي على ملاحقته، وأقول تذكير السفيه بما يفعل يعد نضالاً، ونحن بهذه البلاد نشكو من قلة المناضلين، أشرفهم وأتقاهم الذي لم يحمل حتى عصاه ليتوكأ عليها عانق عنقه حبل المشنقة، ومناضل آخر انتحرت في قلبه رصاصة، ومناضل ثالث قضى سنين من عمرة بالسجن، قلة المناضلين وكثرة القذرين أناخت بكلكل البلاد، قلت لنفسي وأنا اجتر معلوماتي الفقيرة عن المناضلين، التي تؤكد تبجح سليمان السجمان ذات أمسية بالمقهى الكبير:
- إن المثليين ببلادكم أضعاف مضاعفة بالنسبة لمناضليكم!!
وهو تبجح كاد يحدث شجاراً بينه وآدم، ارتفعت حرارة الكلمات بينهما لم يطفئها سوى الجملة الثلجية التي تفوه بها حسين "الفيلاني وحده امة من المثليين"، المهم في الأمر قلت لنفسي أشجعها، لابد من النضال، ولو كان نضالاً كنضال أحد أبطالنا بكتب التاريخ المدرسي، الذي قتل انجليزي في لحظة سكر وهرب بحمار أعرج. كبطولة جدي كما تزعم جدتي انه حارب مع جيش المهدي ولكنه مات بمرض تافه لا يقتل عصفور. عدت لثرثرتي عن الفيلاني بكل مكان تطأه قدمي، أول قطرة تنزلت عن سيرة الفيلاني ألتقيها بعد كد وتعب، حدثت بمكان قصي بالمدينة، كنت بضاحية من ضواحي الخرطوم، الضواحي يسكنها الفقراء ونازحي المجاعة ومشردي الحروب، عكس المثل "الأشراف يقطنون الأطراف" قابلت بذاك الحي الطرفي شاب يدعي على حامد، يلم بتفاصيل عن محمد الفيلاني، لحظتها كنت أتابع برنامج ثقافي عبر التلفاز، على الشاشة فتاة أكاد أقسم أن لها نصيب وافر من الهبالة، المساحيق التي على جبينها تخفي ترهل خدودها، لها شفاه كشفاه سكرتيرة مدير التحرير، ربما بحياة المذيعة مدير تحرير! يقول أبي بحكمة متزمتة "اهتمام الانسان بمظهره يدل على قبح دواخله" قرب الفتاة يجلس شاب محياه يدل على غباء متوارث، وبينهما الفيلاني، يرتدي زياً كاكي وعلي كتفة نجوم تلمع، سألني على حامد:
- هل تعرف المتحدث؟
صدمني سؤاله فالتفت إليه بدهشةٍ:
أعدت عليه سؤاله
- هل تعرفه أنت؟
كان رده ضحكة ماكرة، قلت في سري صار الجميع يعرفون الفيلاني، وأنا أملأ ناظري من الشاب، ربما يكون أحد زبانية الفيلاني، يصر آدم...
- جماعة الفيلاني من سيماهم تعرفهم!
تذكرت جملة آدم وعادت ذاكرتي لتلك الليلة بالمقهي الكبير وآدم يقلد البعض، أذكر قوله أن جماعة الفيلاني يسير أحدهم منحني الظهر، يسير خطوات قليلة فيقف يمسد مؤخرتة بيده ثم يسير خطوات أخرى فتعود اليد لملامسة الموخرة، هكذا دواليك، قلت لنفسي لن ادخل مع هذا الشاب النكرة في حوار حتى ينهض لأراه كيف يسير ليطمئن قلبي، ولكن الشاب الملحاح صار يكرر في سؤاله:
- هل تعرف المتحدث؟
وكأنما التصقت مؤخرته بالأرض! توهط بجلسته يعيد ويكرر نفس السؤال، وأنا في انتظار تحركه ليطمئن قلبي، شجعني بعد المكان وقلت للشاب رداً على سؤاله:
- نعم أعرفه واسمه الفيلاني!
قلت جملتي وأنا على أهبة الاستعداد لمغادرة المكان، الضحكة العالية من الشاب ذهبت بهواجسي وقد ختمها...
- هذا أتفه مخلوق!!!
هنا زال رعباً كان قد حل بقلبي، وطمأنينة هانئة غشيني، كدت اهتف فرحاً، التقرير سيكتمل! التقرير سيكتمل! اقترب الشاب مني وتدفق بل لفظ بفمه سيل كلمات:
- أنا شاب من شمال السودان، أسمي على حامد، أعرف بعض المعلومات عن جلال جيب الله، هذا الذي تراه بشاشة التلفاز يتحدث عن الثقافة، فقد التقيت به بالجامعة وكان زميلي بالتنظيم الديني الذي غادرته مغاضباً، هذا شخص بلا قيم وبالتأكيد ليست لديه أخلاق!
رسمت على وجهي تعبيراً صادماً، أولاني اهتماما حينما أعتدل في جلسته:
- أنا لم أقابل إنساناً دنيئاً كالفيلاني، أعرفه منذ أن طالباً بالجامعة كما قلت لك قبل قليل والجامعة كما تعلم تضم جيوشاً من البشر، فيهم المتدين وغير ذلك باختصار الجامعات خليط غير متجانس..
بلهفة سألت علي حامد:
- أخبرني بكل ماتعرفه عن الفيلاني؟
حدق في وجهي باندهاش، حاولت قتل دهشته:
- أنا أكتب في تقريراً عن القذرين!
أجابني بضحكة لا تفسر، زدت إمعاناً للنظر فيه، إمعاني النظر نحر ضحكته، وفتح شهيته للكلام...
- الفيلاني وحيد عصره، هذا قملة آدمية!!
أضحكني الوصف فسألته:
- هل أنت شاعر؟
اعتدل في جلسته وقال ويداه تساعدان فمه..
- في مراهقتي كتبت شعراً في بنت الجيران كما يفعل كل مراهق عربي ألم يقل نزار قباني "إذا أحب الفتى العربي كتب شعراً"؟
شعرت بحديثه إبرة تثقب قلبي، آه، بنت الجيران، كتبت فيها قصائد تلين قلب الحجر، كل صبح أنتظرها على الطريق، حين أشاهدها أرمي بيد مرتجفة خطاب رسمت عليه قلبين يخترقهما سهم، وأتوارى، يشقشق عصفور قلبي حين أراها تنحني وتلقط خطابي، طيلة شهور أرمي خطاب إثر خطاب، ولم ألتقى رداً حتى الآن. مسحت ذكرى تلك الأيام والتفت إلى على حامد...
- كل من يحب الشعر شاعر، والشعراء أنواع أولهم الذي يحول حياته إلى قصيدة!
أمسكني على حامد من يدي وقال ضاحكاً بانشراح:
- اذن أنا شاعر..
وصار يحكي لي عن حياته، استمعت له بضجر فحياته تشبه حياة إنسان سوداني ولد، وتعلم، وأحب، وعمل، ومات بحسرة على وطن يحكمه الفيلاني وأمثاله، وبين مولده ووفاته ردد جمل فقدت قيمتها زفرها بعض السودانيين،"نحن شعب من الأسود تقوده قردة"، "كل أمريء في السودان في غير مكانه، السيف عند بخيله والمال عند جبانة والقلم عند جاهله"، ونحن عرب العرب"، ونحن الساس ونحن الراس"، ونحن أولاد ناس والدنيا عارفانا"، نحن أخذنا من الزنوج فحولتهم ومن العرب شجاعتهم!!! أنهى على حامد قصة حياته الرتيبة وعاد إلى علاقته بالفيلاني قائلاً:
- هذا ليس إنسان بل قملة آدمية كما قلت لك..
لم أعلق بل وضعت يدي تحت ذقني أنظر إلى على حامد فمضى يقول:
- افترقنا أنا وجلال ولم نتقابل إلا بعد سنوات وقد أطلقنا عليه أسم الفيلاني!
هنا صحت فيه:
- لماذا أطلقتم عليه هذا الاسم؟ إنه أسم غريب!
رد على حامد وقد ضم يديه إلى بعضهما:
- فعلاً هو اسم غريب، أما كيف أطلقنا على جلال الفيلاني كنا جلوس نختار أسماء حركية لبعض الأعضاء، أذكرهم طالبان وطالبة، الطالبة أطلقنا عليها أسم فاطمة المخملية وهي الآن زوجة ولها عدة أولاد، والطالبان كان أحدهما الفيلاني، ابتدر رئيس الحلقة الاقتراحات فقال نسميه "الفيلاني"
انفتحت أفواهنا
- قلت ماذا؟
استغربنا الااسم كاستغرابك أنت واستغراب كثيرين، رأى رئيس الحلقة تساؤلنا فقال:
- علمتنا التجارب أن الاسم الغريب أو إذا شئتم الدقة الاسم الشاذ يرسخ، هل لاحظتم أن جميع المسئولين في البلاد لهم أسماء غريبة؟
وصار يعدد في أسماء المسئولين، الحقيقة لفت نظرنا لمعلومة كنا نجهلها وهي أن معظم الرموز السودانية لها أسماء شاذة أو غير متداولة...
أنهى على حامد معلومته وواصل يحكي:
- كنت رئيس التنظيم بالجامعة، وأنا من دبّر زواج جلال بزوجته الأولى، كما تعلم نحن من أدخل فكرة الزواج الجماعي، وكان جلال في تلك الفترة تربطه علاقة بزميلة لنا، فتاة من الأسر العريقة بالبلاد...
قاطعته كما كان يقاطع سليمان السجمان الشلة حين يدور حديثهم عن الأصول النقية للسودانيين...
- معظم الأسر المشهورة بالسودان أصلها من غرب إفريقيا وربما من الفولاني وهم يطلقون على أنفسهم الشعب الدعاة...
رد على حامد:
- هذا موضوع فيه اختلاف كبير..
وعاد لقصة الفيلاني
- زوجة الفيلاني من الأسر المعروفة وقد انضمت إلى تنظيمنا بالجامعة إثر طردها من تنظيمها الأول الذي الصق بها تهمة الزنا، أصدقك القول كانت لا ترد يد لامس ونحن نعرف ذلك، ولكن التوبة تجب الذنوب، وضعناها تحت المراقبة لمدة ستة أشهر وأغرقناها في أنشطة دعوية، وكنا نعرف ميول جلال نحوها، ونحن نعرف أيضاً انحرافه الجنسي، وقضية اغتصاب الترزي له، وقد حاولنا ستر تلك القضية، المهم كي لا أطيل عليك تمت الزيجة بينهما، أذكر تماماً وقت زفافهما، كان عصراً وعند المغرب كان الفيلاني معنا بالمقر، قبل أن أحضنه مسالماً نفر مني..
- إنت عندك علاقة جنسية بزوجتي؟
تراجعت
- أنا يافيلاني؟
: نعم أنت!
انفعلت فيه وقلت له:
- زوجتك سبقك لها الآلاف ورغم ذلك هي أشرف منك يا بقية الترزي، بالتأكيد ندمت على حديثي عنها، وذهبت منه مغاضباً. بعدها لم أقابل جلال، مدة عشر سنوات قد تأتيني معلومات متقطعة عن جلال وزوجته، كذلك انقطعت علاقتي بالتنظيم الذي صنفني ضمن المعارضة...
سألت على حامد
- لماذا ابتعدت عن التنظيم؟
أجابني منتفخاً كمناضل تسلم السلطة
- الفيلاني وأمثاله..
ثم ألتفت نحوي وقال:
- أود أن أقص عليك بعض تصرفات جلال التي تذكرتها الآن..
بدوري أوليت على حامد كل اهتمامي مصغياً لما يقول..
- أذكر أول يوم بالجامعة أقمنا احتفال لاستقبال الطلبة الجدد، وكان من بينهم جلال الذي نعرفه من قبل، كفتوة بالتنظيم، كما تعلم لكل تنظيم فتوة، أذكر قول أحدنا "أن الفيلاني ليس من أنبياء التنظيم ولكنه من السفهاء النافعين" نعم هو سفيه لكنه ليس بنافع، المهم أقمنا الاحتفال وقد بدأ بتلاوة القرآن، الذي أصر الفيلاني على القيام بذلك، كان صوته جميلاً وهو يرتل القران، ولقد اختفت (النخنخة) التي بصوته، وبعده تقدم طالب وقرأ قصيدة للشهيد هاشم الرفاعي التي مطلعها "أبتاه ماذا قد يخط بناني الحبل والجلاد ينتظراني" وهي إنجيل لجيلنا، تلك اللحظة همس جلال بأذني:
- هذا الشبل له أرداف مغرية!!!
لم أهتم بتعليقه واعتبرته دعابة منه، وهكذا استمر الاحتفال الذي تخلل وقفات لأداء الصلوات، أذكر عند صلاة المغرب أتاني الطالب الذي قرأ قصيدة هاشم الرفاعي مضطرباً، وقال:
- لدي شكوى!!
قلت له:
- خير إن شاء الله؟
أجابني:
- جلال طلب مني أن أمارس معه اللواط!
هونت الأمر على الطالب
- أستره حتى نبت في الأمر!!
مضت تلك الليلة وأنا مهموم بشكوى الطالب، صرت أراقب تصرفات جلال، وكانت النتيجة أنه يعاني من انفصام في الشخصية، جمعت جميع تصرفاته وذهبت للمسئول العالي بالتنظيم خارج الجامعة الذي صدمني وبذر بذرة الشك في صدري بقوله:
- إن لجلال روح طيبة في جسد خبيث!
وطلب مني كما طلبت أنا من الطالب صاحب الشكوى ستر جلال، بحجة أن لا تتخذها التنظيمات الاخرى ذريعة للنيل من تنظيمنا، ولم أكتف بذلك بل قررت مواجهة جلال بشكوى الطالب، دعوته إلى مكتبي، جاء وكنت خلف طاولة وأمامي مقعد جلس عليه جلال، حاولت كسر حاجز الصمت وانتقاء كلمات مناسبة، لكن جلال فاجأني:
- الولد صاحب الردف وافق!
قلت له:
- وافق على ماذا يا جلال؟
ابتسم
- لا تتغابي... وافق على الموضوع!!
تغابيت وسألته
- أي موضوع ؟
زادت ابتسامته
- الأرداف الجميلة يعني يغنوا فيها؟
هنا بلغ غضبي مداه وسألته:
- هل يعني أنك راودته عن نفسه؟
لم يجبني مباشره بل صار يثرثر ثرثرة عن الشهوة والشباب وباب التوبة المفتوح، وذكر لي أسماء عديدة لمفكرين وكتاب لهم شهرة جمع بينهم الشذوذ، يبدو أن صمتي شجعه للاستمرار في ترهاته، فنسب الشذوذ لبعض الرموز الدينية وشخصيات نعتبرها قدوة، لم احتمل تجديفه، انفعلت فيه وطردته، والقصة الثانية التي لم أستطع بعدها الاستمرار بالتنظيم، هي أن معلومات تحصلت عليها فحواها أن جلال مزروع في تنظيمنا لصالح تنظيم بيننا وبينه عداوة، وقد أخبرت الأعضاء بذلك فاجتمعنا به لمناقشته، نفى الموضوع جملة وتفصيلاً، أغرب ما في الأمر حين التحاقي بالتنظيم الآخر علمت الحقيقة أنهم زرعوه وأمدهم بمعلومات، بعد تلك المواجهة صار جلال يبث بين الطلبة سمومه، ومن بينها أنه نسب لي ممارسة الشذوذ مع زميل لي، حملت غضبي وذهبت إلى رئيسنا خارج التنظيم، منفعلا كدت أن أضربه إذا ردد جملته الغبية "لجلال روح طيبة بجسد خبيث" أذكر تلك اللحظة جيداً دخلت المكتب فهالني ما رأيت شاهدت جلال عاري الجسد يرقد على بطنه ورئيسنا بقضيبه المنتصب يقف خلفه، تراجعت وأنا مصصم على مغادرة التنظيم والانضمام للتنظيم الآخر الذي كنت احمل له عداوة وقد تسببت في إيذاء منسوبيه، وتلك قصة أخرى!
ومن يومها لم أعد للتنظيم ولم أقابل جلال. رغم سمومهم التي بثوها عني، إنهم فصلوني لسوء السلوك ولشكوك تحوم حولي بتسريب معلومات التنظيم. مرت سنوات عديدة، كدت أنسى جلال الذي صار اسمه الفيلاني كما أخبرتك، وقد علمت أنه صار يرتاد المقهى الكبير بقلب الخرطوم، يتابع المثقفين، وله نظرية عن التربة وأثرها في الثقافة السودانية، وأحيانا أقرأ له مقالاً بالصحف عن نظريته، وكنت أتجنب المقهى حتى لا ألتقيه لأن احد الإخوة أسر لي إن الفيلاني يبحث عني، وقد أخبرني ذلك الأخ إنني الوحيد من يعرف الفيلاني الذي لم يرمه بالسجن، ولكن يبدو أن لعنة من يسمي الفيلاني تلاحقني.
في انتقالي بالتنظيمات قد التحقت بطائفة دينية حديثة الوجود بأفريقيا والسودان، وقد تبرع لها احد منسوبيها بمقر بوسط الخرطوم، واشترط علينا عدم طرد من يأوي لهذا المقر، في هذا المقر كان يأتينا البعض، ومن بينهم جاء الفيلاني، حين شاهدته تذكرت ماضيه فار الدم بعروقي، هل أطرده وأتناسى شرط المانح للمقر؟ أخبرت بعض الإخوة بتاريخ جلال وطلبت منهم الحذر في تعاملهم معه، قررنا مواجهته بحقيقة أنه يعمل بالأمن، لكن أحد الإخوة كانت لديه معلومات أنهم تخلصوا من الفيلاني قبل فترة، المهم مكث معنا بالمقر ينام ويأكل الطعام، وللفيلاني نهم للطعام الذي كان متوفراً بمقرنا، مرت شهور وجلال بالمقر يقرأ كتبنا ويناقشنا حتى اقتنع بفكرتنا، وتناسي نظرية التراب التي كان يبشر بها، أو هكذا توقعنا، بالمقر عدد من الطلاب وكنت المسئول عنهم وأصبح جلال يساعدني في هذه المهمة، ولكن صرت اسمع الشكاوي من الطلاب وتذمرهم من سلوك جلال في الليل، انه عندما ينامون يتحرك وسطهم جلال ويده تجوس بين أرجلهم، واقسم احدهم أنّ جلال قبض على قضيبه وادخله بفمه، قررت مواجهته وطرده، ولكني قلت في نفسي لأختبره أولاً، في احدى العطلات قررت أن أقضيها بالمقر لما علمت إن الفيلاني سيظل به أيام العطلة، في أول ليله ونحن وحدنا، تناومت ويبدو أن الفيلاني تناوم ولم ينم، قبيل الفجر تحرك الفيلاني واقترب مني بجسده، مد يده تبحث بين فخذي، اضطراب أصابني فأمسكت بيده وصرخت فيه، كان رد فعله أن أطلق شخيراً بصوت عالي كأنه يغط في نوم عميق، أبعدت يده، بعد مضي ساعة أو ساعتين أتي بنفس الحركة، نهضت بسرعة أضأت النور، وعاد الفيلاني لشخيره، ظللت على حالي حتى انبلج الصبح فقلت له:
- يافيلاني لا أريد أن أراك هنا!
سألني ببراءة:
:- هل أتيت منكراً؟
اغتظت منه
- نحن لا نقبل المثليين أمثالك...
صمت الفيلاني وخرج يطنطن... ومضى حامد يحكي..
- قد همني الأمر جداً نقلت الشكاوى لزميل لنا بالمقر، الذي استمع لي جيداً وبعدها قال لي:
- كنت أود أن أخبرك بالمشكلة التي أوقعني بها جلال..
اندهشت
- أنت أيضاً أدخلك بمشكلة؟
- نعم، وصار زميلي يحكي، حكي ما أقوله لك الآن بتفاصيله، كأنما حدث لي أنا..
- ذهب معي جلال لمنزل أقرباء لي عدة مرات، وهناك رأى قريبة لي تعمل بالتعليم، فأعجب بها وأراد الزواج بها، وكما تعلم يا صديقي أخبرت والد الفتاة، الذي قال لي:
- نحن نعرفك أنت ولا نعرف صاحبك، لو ترى فيه خير نحن لانرفض لك طلباً..
لا أطيل عليك قلت لهم:
- جلال إنسان على خلق ودين، المهم تمت الزيجة وبعدها سافرت لمدة أسبوع وحين حضوري وجدت أهلي يموتون من الغيظ، وقريبتي تولول وتصرخ:
- حرام عليك تعرسني لزول مجنون!!!
وقال أبوها بغضب:
- نحن عملنا ليك شنو تربطنا بصاحبك؟
شعرت بكبر جُرمي وأنا استمع لتصرفات جلال ضد زوجته، التي أعرفها حق المعرفة، قالت لي:
- تخيل أول ليلة يدخل على قال لي
- سأحولك لأتعس امرأة في الدنيا!!!
اندهشت من حديثة الذي واصل فيه:
- لودايراني أركبك جيبي أبوك يركبني أول...
وسألني:
- ليه أبوك يشتغل ترزي؟
قبل ما أرد على حديثه خلع ملابسه وصار عارياً ورقد على بطنه وقال لي:
- ادخلي أصبعك الكبير هنا!
مشيراً بيده إلى دبره، وضعت يدي على خدي محتارة في المصيبة التي أمامي، وجلال يصيح:
- قلت لك ادخلي أصبعك هنا!!!
رددها مرات عديدة، وأنا كأنما تلبسني شيطان صرخت فيه
- أنت لست رجلاً طلقني!
هدأ وصار ينتحب وقد أعتدل في جلسته يهمس...
- الترزي الملعون.. الترزي الملعون! الترزي هتك عرضي، أنا لست رجلاً!!!
نهض مرتدياً ملابسه وخرج، من تلك الليلة لم نشاهده حتى الان، ولا أريد أن أراه! وألان أريد أعادة ورقة طلاقي منه!!
تمالكت نفسي وقلت لها
- سامحيني لم أرد لك ألا الخير!!!
خرجت من غرفتها وأنا أكاد أموت من الغيظ، ظللت أبحث عن جلال، وجدته سميناً بطيناً بمقر الهيئة وحين شاهدني لم يبدر منه شي كأنما لم يرتكب جريمة، نفس الفيلاني القديم أراد مصافحتي، تحاشيت يده الممدودة، وأنا بغيظي سألته:
- لماذا هجرت زوجتك..
أجابني إجابة لم اعرف مغزاها..
- أبوها ترزي وأنا الترزية ديل عندي معهم ثأر.
كتمت انفعالي وطلبت منه
- أرجوك أعطني قسيمة المرأة.
نهض وبحث بين الكتب وأخرجها، تناولتها واعدتها لقريبتي..
صمت على حامد لحظة يصفق بيديه متعجباً وصار يحكي:
- قلت لصديقي أن الفيلاني مريض وليس على المريض حرج، ولكن تخيل أن الفيلاني اختفى بعد ذلك فترة من الزمان، قلت لك كنت أشاهده أحياناً بالمقهى الشهير الذي يرتاده أهل الثقافة والأدب، وقد علمت انه عاد يبشر فيهم بنظريته عن التراب!!
سألت على حامد:
- هل جلال أو الفيلاني يعمل بالأمن؟
أجابني بثقة:
- نعم، لكنهم طردوه بعد أن استنفذ أغراضه، لكنهم أسندوا له مناصب جديدة، لا تنسي أن تنظيمهم لا يلفظ من تلوث..
سألته:
- أخبرني عن فترة جلال بالأمن؟
أجابني:
- لا أعرف عنها الكثير ولكني سمعت أن احدهم قال له: يا فيلاني أنت فاشل. لكن الأمر المهم أن قريب الزوجة الثالثة للفيلاني موجود معي بالغرفة الاخرى، أنتظر لحظة آتيك به، قال جملته ونادى أحد الأشخاص...
جاء الرجل، شاب يبدو عليه سيماء التدين، يحمل مسبحته بيده، صافحني وجلس وهو يتمتم بدعاء ديني، انهى أدعيته ومسح بيديه على جبينه، وجال بعينيه بيني وعلي حامد وقال:
- إن شاء الله خير!
قال له على حامد:
- صديقي هذا صحفي يود تسجيل حياة الفيلاني حتى يكون عظة لغيره من الناس!
رد الرجل بعد استغفار وتعوذ
- بالرحب والسعة كل الذي أعرفه عن الفيلاني هذا أنه رجل بلا ضمير، عديم الوفاء، أدخلني في مشكل مع أهلي لولا معرفتهم بي لظنوا بي الظنون، تعرفت به ونمت بينا ما يسمى صداقة ذهب معي ذات مرة لزيارة قريب لي، وفي تلك الزيارة رأى ابنته وهي معلمة سبق لها الزواج وقال أنه يود الزواج بها، وقد تم الزواج الذي أدخلني.
قاطعه على حامد:
- قصة الزواج أخبرت بها الصحفي فقط هو يود أن يقابل قريبتك!
بسرعة نهض الرجل ومد يده نحوي وقال:
- هيا بنا لها!!
خرجت معه وأيدينا متشابكة، تركنا على حامد بغرفة الجالوص، يتابع البرنامج الثقافي، يستمع للفيلاني يبشر بنظريته المضحكة... ابتعدنا أمتاراً قليلة لحقتني صرخة على حامد:
- أذهبا أود أن استمتع بترهات الفيلاني!






























الفصل السابع


في طريقي إلى زوجة الفيلاني الثالثة، برفقة قريبها، قطعنا الطريق بصمتي واستماعي لكلمات قريبها عن الفيلاني، كان بين كل كلمة وأخري يستعيذ من الشيطان ويستغفر، ومن جمله التي استقرت بذهني تلك اللحظة، "كنت أود الموت قبل أن أرى ما حدث لقريبتي من الفيلاني"، "كادت تجن" "بل جنت حقيقة"، و"والدها لولا تديّنه لارتكب جريمة في الفيلاني القذر"!!
"أستغفر أكثر من مائة مرة، وتعوذ مثلها عدداً، ويعود يحكي بغضب عن الفيلاني:
- رذل، قميء، لم أقابل أحدا مثله في الخسة، تخيل بعد كل الذي ارتكبه بحقي وحق قريبتي لا يستحي حين أكون في مجلس يأتي ويجلس ويحاول أن نتبادل النقاش، صددته كثيراً لكنه عديم الحياء، ذات مرة أغاظني وكنت مع بعض الأصدقاء سألني:
- كيف أحوال زوجتي؟
قلت له:
- أي زوجة ياعنّين!
رفض وصفي له بالعنين بانفعال وأخرج من فمه البغيض كلمات يعف اللسان عن ذكرها، وكدت أشتبك معه في عراك لولا تدخل الجالسين، قطعت استرساله حين سألته:
- هل الفيلاني عنّين؟
أجابني بانفعال
- عنين، وخصي كمان!!
قلت له:
- استغفر!
استغفر وقال:
- العياذة بالله منه..
سألت قريب زوجة الفيلاني
- هل قربنا من الوصول؟
أجابني:
- ها نحن إمام المنزل..
منزل من الجالوص بداخلة غرفة أو اثنتين، رحب بنا رجل نحيف له لحية، قال قريبها لي وأنا أصافح الرجل الذي استقبلنا..
- هذا والد زينب علي!!
قادنا والد زينب وكلمات الترحيب لم تبارح شفتيه إلى غرفة صغيرة، جلس ثلاثتنا بالغرفة، جلت ببصري فيها، كل ما بداخلها يدل على يد فنان طبيعي، الاسرة مغطاة بملاءات لونها منسجم مع لون الغرفة الداخلي، نافذتيها عليهما ستائر بنفس لون الملاءات، لفت نظري لوحة كبيرة لعدة كلاب تطارد غزالاً، الغزال يبدو أن الأنياب أصابته بجروح، ينزُّ دماً من ظهره، تساءلت سراً هل أتى الفيلاني باللوحة؟ وأضمرت أن أسأل عنها زينب! أعدت بصري إلى والد زينب، يرتدي جلباباً أبيض وبيده مسبحة بلورية ينعكس منها ضؤ سماوي، لحيته مشذبة وشاربة يستقر بيقين فوق شفتيه اللتان لا يعرفان سوي التسبيح والأدعية، حدثني قريبة عنه قائلاً:
- إنه صحابي ضل طريقه إلى قرننا هذا..
تململ والد زينب واعتذر بطريقة كأنه ارتكب جرماً، قائلاً:
- البيت بيتكم أنا ذهاب إلى عملي
خرج وتركنا بالغرفة، بعد خروجه تكلم قريبه عنه بكلمات محبة صادقة، واستدرك يتذكر الفيلاني...
- رجل مثل هذا تربطه الأقدار بشخص كالفيلاني؟ إنها من عجائب الأمور، إنهما طرفي نقيض، قريبي نموذج للإنسان الكامل، أخلاقا وخلقة، منذ نشأته الأولي لم تخرج منه كلمة تغضب أحد، أمّا الملعون الفيلاني فالعياذة بالله منه!
انفعل قريب زوجة الفيلاني وعلا صوته..
- الفيلاني أقذر مخلوقات الله! لا علاقة تربطه مع قريبي أليس كذلك؟
كدت أقول له نعم هناك علاقة تربط قريبك بالفيلاني وبذهني تلك اللحظة جملة سمعت مدير الحرير يقولها بتبجح فج. "هناك علاقة يمكن إثباتها رياضياً بين أي شئ وشئ"
أعاد سؤاله:
- هل تجد علاقة بيننا والفيلاني؟
قلت له هذه المرة:
- هذا المستحيل الرابع، لأن المستحيلات ثلاثة الغول والعنقاء والخل الوفي..
انشرح صدره لردي فنادى
- زينب.. زينب...
جاءت، امرأة في العقد الرابع من العمر، عليها مسحة جمال سوداني أصيل، ترتدي ثوباً ابيضاً، بترحاب وحياء، صافحتنا، ثم خرجت وعادت تحمل لنا كوبا ماء بارد وقهوة وجلست معنا، وضعت الإناء اعتذرت لنا عن انقطاع الكهرباء، لأن الوابور معطل، قال لها قريبها:
- صديقي هذا صحفي ويريدك في موضوع..
تساءلت بنفور
- صحفي ويحتاج لي؟
قلت لها
- نعم احتاجك في موضوع يخصك!
قالت مندهشة
- ليس عندي موضوع يهم الصحافة!
ضحك قريبها وقال
- صديقي يريد أن يكتب عن الفيلاني!
قاطعته بصوت صارخ ويديها تتحركان يمنة ويسرى وهي تبتعد في جلستها مني..
- العياذة بالله، وهي تنظر نحوي، بعينيها خوف
عاجلها قريبها
- صديقي ليس مثل الفيلاني ولكنه يريد أن يوثق لحياته..
قاطعته بصرامة وهي تعنيني بالسؤال
- ألم تجد غيره، هل الرجال انتهوا؟
أجبتها:
- الرجال موجودون لكن الشاذين نادرون!
قاطعتني:
- معك حق مثله لن يتكرر في الحياة، أعوذ بالله منه!!
قلت لها:
- أحكي لي تفاصيل ايأمك مع الفيلاني ؟
ابتسمت بمرارة
- لم تكن أيام بل ساعات أو جزء من ليلة مشئومة..
رفعت طرف الثوب وغطت به رأسها، كأنها تغوص في ماضٍ بعيد، ونحن في انتظارها، استعجلها قريبها
- زينب لا تخجلي أخبرينا بجميع كلمات الفيلاني تلك الساعات، ليس وحدك من أساء له..
ابتدرت حديثها
- ما كنت أتمني أن تأتي سيرة الفيلاني بفمي، لولا نصيحة الطبيب!
تدخل قريبها قائلاً
- زينب بعد تجربتها مع الملعون دخلت في حالة صمت، لا تكلم أحد مما دعانا للذهاب بها إلى طبيب نفسي وهو من أوصاها بالتحدث عن تجربتها..
استلمت الحديث بعده زينب
- ربما ارتكبت في حياتي خطيئة، وأراد الله تطهيري منها، ومازلت حتى الان استغفر كلما تذكرت اللحظة التي عرفت فيها الفيلاني، أولاً أنا زينب علي، معلمة بمرحلة الأساس وقد سبق لي الزواج من قريب لي، توفى لرحمة ربه، كان نعم الزوج، أما زواجي من الفيلاني، كأنما كان قدر مقدر من الله، في احد الأمسيات أتى أبي واخبرني أن رجلاً تقدم له يريدني زوجة، قلت لأبي:
- هل تعرف أهله؟
- اخبري أنه صديق لقريبي وقال إنه من أسرة معروفة وذو خلق ورجل متدين، قلت لأبي:
- أهم خصال الرجل التدين..
رفعت رأسها نحوي فقابلي وجه صبوح يكسوه جمال طبيعي، وقالت:
- أبعد إنسان عن الدين وجدته هو! وبما أنه سبق لي الزواج كان زواجي بجلال مبسطاً، نسيت أن القول، نحن من وسط السودان وقد هاجرنا للخرطوم وقطنا بحي عشوائي، ذكرت هذا لان جلال الملعون، أسمح لنفسي بهذا الوصف، قلت الملعون قد اشتري لي وابور النور الذي ترونه الان، في أول ليلة يختلي بي جلال، تمعنت فيه جيداً، كرش مترهلة وردف أكبر من ردفي وغطي بياض شعره بالحناء، بدا لي وسيماً رغم أن نتوءا كريه المنظر على زراعه الأيمن، ولكن انتبهت لخواتم كثيرة تزين أصابعه، وعقد نسائي يطوق جيدة، وتمائم عديدة بذراعه، صوته كان تلك الليلة أرق من صوتي، قلت له هل تقلد صوتي يا الفيلاني؟
ليتني لم أسأله، انطلقت الكلمات منه وهو يمسد في بطنه وعلى شفتيه بسمة ماكرة، وقال لي:
- أولاً أسمي ليس الفيلاني!
قاطعته ويدي على صدري
- هل أنت جاد في قولك؟
رد ببجاحة
- أنا دعارة النساء لاتنفع معي، قلت لك الفيلاني ليس اسمي ومن الان ناديني كما كانت تناديني أمي!
قلت له
- بماذا كانت تناديك؟
أجابني
- جلال، هل سمعت؟
قلت له:
- نعم سمعت، لكن لماذا ينادونك الفيلاني؟
ابتسم بزهو وقال:
- هذه قصة طويلة، هل تودين معرفتها؟
ابتسمت بدوري، الابتسامة الوحيدة في وجهه، وقلت:
- بما أنني زوجتك يجب أن أعرف!
نهض وتخلص من عدة تمائم بذراعه وقال لي وهو واقف يولي وجهه للمرآة ويده تداعب بطنه...
- اسمي الرسمي جلال جيب الله، ولكن في التنظيم اتخذت اسم الفيلاني، وهو الاسم الذي أمهر به مقلاتي الفكرية، كما تعلمين أنا المفكر الوحيد بالبلاد! قهقه وواصل حديثه: يجب أن تفتخري أن زوجك مفكر!
قلت له:
- هذا شرف لي!!
تغضن جبينه وسألني مستنكراً
- قلت شرف؟
رددت جملتي
- شرف لي أن أتزوج مفكراً!
زاد انفعاله
- أنت تعرفين الشرف؟
كتمت غيظي ليواصل جلال كلامه الفاحش
- من الآن ناديني بالفيلاني المفكر فقط!
أجبته:
- حاضر..
جاء وجلس قربي وهو يقول كالذي يحدث نفسه
- أنا الفيلاني الفحل، ما مهم أن أفقد شرفي بطفولتي، أن روحي طيبة، جسدي هو الخبيث، لكني سأنتقم من جميع الترزية في العالم!!
قطعت همهمته:
- أسمعني معك ياجلال..
أبتسم وقال لي
- أسمي بفمك جميل، ردديه ثانية..
أطعته وردت أسمه وهو يزداد انتشاء، وانتفخت أوداجه، ثم عاد صوته الأنثوي، يتحدث وجسمه يتمايل كأي أنثى، يقول
- أنا صاحب نظرية التراب الوطني، وهي نظرية تفسر لك الأدب والثقافة السودانية، وقد همت منظمات عديدة بسرقة فكرتي! لكن هيهات!
أدخل مفردات بلغة انجليزية غريبة على مسمعي مثل أركولوجي وانطولوجيا، وهو يتحدث عن نظريته وأنا أحدق فيه مذهولة، رأيت بعينيه بريق مخيف تلمعان كعيني قط حوصر في غرفة، نهضت وتحركت مبتعدة عنه، أمسك يدي زاجراً:
- أجلسي يا..
معليش أعذروني لاستطيع النطق بهذه الكلمة!
تدخل قريبها:
- الطبيب قال يازينب فضفضي..
أشاحت بوجهها، وقالت:
- خلع الملعون ملابسه وناداني ياعاهرة!!
بفجور وعنف أخرج قضيبه وهزه بيده وقال لي بحزم
- هل شاهدت أكبر منه؟
قبل إجابتي واصل حديثه
- إن الذي دخل بدبري وأنا صغير أكبر منه!
ذهلت من حديثة وتعوذت، أرتدى جلال ملابسه وقال لي:
- فقط تزوجتك لتشاهديه فقط، يحرم على كسك الكبير ده..
تبلمت ولم أستطع الكلام، تلك اللحظة علمت حكمة الله في خلق الحشرات، لأن بعض الناس كالحشرات، جلال هذا حشرة مواخير، وانا في حالتي تلك شاهد لوحة الكلاب فتنمر على وهم بتمزيقها، حلت بينه واللوحة، لهذا السبب أشبعني كلامه البذيء، خرج وتركني وحيدة أكفكف في دموعي، هممت بالخروج عندها عاد وانبطح على السرير قربي وصار يبكي بكاءً بحرقة صادقة، وضعت يدي على خدي أنظر فيه، بيده جذب سرواله وقال لي:
- ادخلي يدك هنا!
وأشار إلى موخرتة، كدت أتقيا، رفضت طلبه ودفعته برجلي بعيداً عن سريري، أرتدى سرواله وخرج. صرخت فيه بغيظ..
- طلقني يا قذر! طلقني يا قذر!
صمتت زينب وهي تلم عليها ثوبها، وبعينيها دموع حاولت أنْ تخفيها، عمّ صمت مرير جلستنا، كنت أطرق برأسي للأرض وذهني مشغول بتحليل سلوك الفيلاني، قادني التفكير إلى المقهى الكبير وتساءلت كم فيلاني احتواه؟ في تلك الأيام اجتهدت في معرفة المثليين من رواد المقهى الكبير، وكنت أظن أنهم يتشابهون، وأنهم اقرب إلى النساء في كلامهم وسلوكهم، كأسامة جارنا،أحصيت عددا من ظننتهم مثليون، وقد خاب ظني في الذين وصمته بالمثلية، وحين أخبرتني الشلة أن الفيلاني مثلي الجنس رفض عقلي تلك الفكرة تماماً،نعم لا يخلو من بعض أوصاف المثليين، قطع تذكري قريب زوجة الفيلاني حين قال لي وهو يضع يده على كتفي...
- هيا بنا...
قبل نهوضنا قالت زينب علي:
- انتظرا لأخبركما بما حدث بعد ذلك...
التفتنا نحوها، فقالت:
- بعد تلك الليلة التعيسة مع اللعين كلما حاولت أن أتكلم يقف شيء ما بحلقي يمنعني من الكلام، كنت أود إخبار العالم كله بنذالة الفيلاني، لساني لم يطاوعني، أشارت إلى وقالت:
- ذهبت إلى طبيب نفسي والحمد لله أنا الآن بخير ولكن اللعين لم يتركني، فقد علمت أنه كان يأتي إلى المدرسة بغيابي ويتحدث عني بكلام فاحش، وأحيانا أجد كلمات على حائط المدرسة تسبني وتسب أهلي، تربصت به لكني فشلت، لأنه لا يأتي إلا يوم عطلتي، مما دعاني أن أحضر إلى المدرسة في يوم عطلتي فرأيت الفيلاني بردفه الكبير وقد أخفى بياض شعره بلون أسود فاحم، رأيته يخط على سور المدرسة (زينب على العاهرة ) وقفت قربه وصرخت فيه:
- ماذا تعمل يا قذر؟
التفت نحوي كأنه حجر وقال وهو يرسم بسمته اللزجة..
- كنت أمسح هذا الكلام الفارغ!!
قلت له:
- أمسحة أمامي بلسانك وإلا سوف أنادي من يؤدبك!!!
بخنوع لم أتوقعه انحنى بلسانه البذي يسمح كتابته، انتظرته حتى أنتهى وطردته، وهذه آخر مرة أراه فيها.









الفصل الثامن

اعترافات زينب كانت وقوداً أشعل رغبتي في متابع سيرة الفيلاني، التي كلما هممت بتجاوزها ونسيانها نطت كلمات زينب، والانحطاط الذي وصل إليه الفيلاني يدفعني لتسجيل سيرته، وقد ساهم القدر في تتبعي لهذه السيرة القذرة، وبذرة الانتقام للشلة تفاعلت مع رغبة شخصية عندي. في أحد الاحتفالات التي تقيمها المنظمات الأجنبية، بمناسبة يوم عالمي، وما أكثر الأيام العالمية، تلقيت دعوة للحضور، فكرت بالاعتذار ولكن خاطر مشاغب قتل فكرتي، نما بداخلي حب استطلاع قادني إلى الحفل، أمثال هذه الحفلات يقيمها الأثرياء وترتادها بناتهن، ربما أجد فتاة ثرية تحيى شوقي القديم لهن، عند حضوري وجدت الساحة مكتظة بالمدعوين والمدعوات، نساء من مختلف الأعمار ورجال عليهم سيماء النعيم، يجلسون حول طاولات تناثرت فوق عشب حديقة المبنى، وكاسات الشراب يطوف بها عليهم ولدان مرد يشبهون أسامة جارنا، أذكر جلست بأحدى الطاولات رصت عليها أكواب وأصناف من الفواكه، نستمع لكلمات رتيبة، وأغنيات تشدو بها فرقة غنائية مغمورة، كان معي بالطاولة ثلاثة رجال، اندمجوا مع الغناء، يتراقصون ويتمايلون ويرشفون كأساتهم، لفت نظري امرأة وطنية كانت هي مركز الاحتفال، كأسها يجول بين يدها وفمها، تتلوى في الرقص كأنها خلقت من لحم فقط، في احدى رقصاتها وضعت الكأس مترعة على جبينها ورقصت، ولم يندلق ما في الكأس، جذبت عيون السكارى وشدت نحوها عيون النساء، تتبعتها بنظري مندهشاً لبراعتها في التثني، أنهت رقصتها وتناولت الكأس وأفرغته دفعة واحدة، وقذفته إلى أعلى وتناولته قبل وصوله الأرض بطريقة جعلت الأيدي تصفق أعجاباً، جذبت كرسي وجلست عليه أتى لها أحدهم بزجاجة أخذت تشرب وتشرب، قلت بتعجبي لجاري، يبدو أنه متردد على مثل هذه الاحتفالات:
- من هذه المرأة؟
رد على بسؤال:
- ألا تعرفها؟
قلت له:
- هذه أول مرة أشاهدها!
قال:
- هذه فاطمة جلال، زوجة الفيلاني الثانية..
جملته سرقت اهتمامي بقوامها المستقيم كشجرة نيم، ووجهها كامل الاستدارة، ومن عينيها ببريقهما المدهش، وجدت نفسي أرجع للخلف وهمست لجاري..
- قلت من؟
قال لي وهو يرشف كأسه
- أنها كانت زوجة الفيلاني! وإنها أشهر مدمنة سودانية، ولكني أعذرها لأنها تحملت ما لا طاقة لأحدنا بتحمله! يكفي أنها تزوجت أقذر المخلوقات...
وجدت نفسي أقول:
- كل هذا الجمال عبث به الفيلاني!!!
وعادت ذاكرتي لموضوع السيرة القذرة، وصرت أفكر كيف أقابلها، تذكرت نصيحة مدير التحرير "أهم صفات الصحفي الجرأة والإقدام". انتظرت حتى انتهى الحفل، وغادر البعض المكان، نهضت وتحركت من جلستي، دنوت منها، أو بالأحرى تطفلت على حياتها الخاصة، مدت لي كأساً مترعة حتى حوافها بخمر يطفو على سطحها قطع ثلج، قلت في سري (التخابثُ يُجدي)، أبعدت كأسها بلطف وقلت:
- آسف لا أشرب!
اتسعت حدقتيها، هذا الاتساع أبرز جمال عينيها، ربما من اجلهما تعلق بها الفيلاني، جرعت الكأس وسألتني:
- لماذا لا تشرب، تدينٌ أم مرض؟
قلت لها باسماً:
- لا هذا ولا هذا!
ردت ضاحكة بصوت عالٍ:
- كنت أنا مثلك!!!
أنهت قهقهتها وهمت بالابتعاد عني، عاجلتها أعرفها بنفسي..
- أنا صحفي وأود أن أجري معك حواراً عن المنظمات....
شهقت شهقة أرتجف لها الكأس وسالت خمرته على صدرها وسألتني:
- ماذا قلت؟
- أود أن أجري معك حواراً...
مسحت الخمر التي سالت على صدرها وقالت:
- يمكن أن نتقابل بمنزلي، وهو قريب من هنا...
سعدت بموافقتها وقلت لها..
- صباح الغد سأكون معكم!
قالت:
- أتمنى أن نلتقي مساءاً هل لديك مانع؟
قلت
- أنا كذلك أرى المساء أنسب...
أدرت وجهي للخروج فسمعتها
- لكن ماهو موضوع الحوار؟
بسرعة أجبتها وأنا أخطو عائداً نحوها
- عن الزواج!!
غطى وجها سحابة حزن، ورفت جفنيها، رأيت حالتها فعاجلتها
- عن الفيلاني تحديداً
وواصلت حتى لا أدع لها فرصة للتفكير
- أعلم أنك كنت زوجته..
حدقت متمعنة في وجهي ومسحت جسدي بنظرات فقدت ثباتها وتنهدت وقالت
- هل تعرفه؟
قلت لها:
- أنا أحد ضحاياه وأريد أن أنتقم منه...
قالت
- اذن لا مانع لدي كلنا في الظلم سواء!!
ودعتها مصافحاً وقلبي ازدادت ضرباته من الفرح، عدت إلى البيت وأنا بتلك الحال، أرتب في أفكاري وأستحضر المعلومات التي حصلت عليها عن الفيلاني، سأسأل فاطمة عن تصرفات الفيلاني حينما يرى ترزياً، وأسألها ليست كل الأسئلة اشتياق كما قال المتنبي، أبي كان يردد على مسمعي:
- لا تسأل الناس ولو إلى أين هذا الطريق، فالسؤال مذلة!!
ومدير التحرير الغبي يتبرع بجهله"
- أكثر من الأسئلة يا أنت!
تسانده السكرتيرة من بين شفتيها المتورمتين دوماً:
- أكثر من الهلات، هل؟ هل؟ هل؟
جرت أسئلة كثيرة بخلدي تحتاج لإفصاح، بحثت بين كتبي عن سلوك الرجال الذين تعرضوا لاغتصاب في طفولتهم، أنجدتني الكتب بمعلومات لا تنطبق على الفيلاني، جارنا أسامة رغم تحذير أبي وامتعاضي أمي، وأحاديث أندادي بالحي عن علاقتهم به بمنزل حواء العاهرة، لم أسمع انه تشاجر مع أحد، بل اتفقوا على انه إنسان طيب ومسالم، وعلاقته مع النساء جميلة، ولم يتعرض لاغتصاب في طفولته، أخبرني سليمان أن المثلية مرض تسببه نقص الهرمونات الذكورية وازدياد الهرمونات الأنثوية، استحضرت تلك الأيام لأقارن جارنا أسامة بالفيلاني، أنهم طرفي نقيض، الأول مسالم تكسوه دعة والثاني قملة آدمية كما وصفه على حامد، قميء مضر كالسجائر حسب زعم سليمان..
أصبح الصبح، نهضت بنشاط أرتب أوراقي ودواخلي استعداد لحوار سيكشف لي الكثير المثير، ارتفعت الشمس وانا أنتظر، هذا أطول يوم بحياتي، حين غابت الشمس كدت أصفق لغيابها فرحاً. تماما كما يصفق السكارى لغياب الشمس لتبدأ أمسياتهم، ارتديت ملابسي بسرعة وخرجت متوجهاً إلى منزل فاطمة، وفمي يردد طلاسم عديدة عن سيرة الفيلاني، مررت بشارع القصر نفس المكان الذي اعتقل فيه آدم الشاعر، أخبرني أبي أن هذا الشارع كان يسمي شارع فكتوريا، وهي ملكة انجلترا التي أراد الخليفة عبدا لله التعايشي تزويجها ليونس ود الدكيم بعد إعلان أسلامها! ويصر سليمان السجمان أن القصر كان به أحد الحاكم الانجليز المثليين، أذكر ساعتها ضحكت من حديث سليمان، لأنه أسقط عن دواخلي بطولات جدودي، أنهم انتصروا على مثليين، غادرت شارع القصر مررت ببنك المزارع وقفت "من هنا أعتقل آدم" طالت وقفتي أسترجع قصة اعتقاله، أمضغ في كلماته "لن ادع العاهر ابن العاهرة يهنأ" تحركت إلى شارع جامعة الخرطوم، كلية غوردون سابقاً تذكرت قصص المثليين من الانجليز مع الطلبة السودانيين التي طفحت بها منتديات المثقفين، ينسبون المثلية لغوردون، بهذه الجامعة كان الفيلاني يبحث عن من يشبع رغبته، وفيها التقي بفاطمة جلال، وفيها بدأ يبشر بنظرية التراب الوطني، بعد شارع الجامعة انحرفت يسارا حتى وصلت منزل فاطمة جلال طرقت الباب، فتحت لي الباب، يبدو أنها رأتني عبر نافذة ما، قالت:
- أدخل...
دخلت وصافحتها، نامت يدها في جوف كفي، سرى بجسمي تيار تخلل مسامي دبيب لذيذ، سارت أمامي كأميرة، وأنا أتبعها، قادتني إلى غرفة تتوسط البيت، وجدت بها كرسيان وطاولة وحيدة، أمرتني بالجلوس فجلست على أحد الكرسيين، لم أستطع إبعاد عيني عنها، تمتلك جمال نادر، وجهها بتقاطيعه المنسجمة وهدب عينيها منسدلاً، وفم كالذي يتغني به الشعراء، شعرت بنظرتي تثقبها فابتسمت. بذاك الفم الجميل استأذنتني..
- دقيقة واحدة يا أستاذ!
دخلت فاطمة غرفة أخرى، وطفقت أنا أمسح الغرفة بنظري، لوحة للموناليزا على الحائط الأيمن للفنان العالمي دافنشي، سمعت الشلة بالمقهى الكبير تصفه بالمثلية، تحت اللوحة، بإطار مذهب لوحة لمنظر طبيعي، وبالجانب الآخر صورة كبيرة لفاطمة، وتحتها شهادة جامعية تخصها، يبدو أن انشغالي بجو الغرفة جعلني أسهو عن عودتها ووقوفها خلفي...
- هل أعجبتك غرفتي؟
التفت نحوها
- أنها غرفة فنان!
قالت وهي تبتسم..
- كل الشعب السوداني فنان..
قالت جملتها وبين يديها تحمل زجاجة خمر، وضعتها على الطاولة وقالت وهي تهم بالجلوس..
- أعذرني الحديث عن الفيلاني لا أتحمله وأنا كاملة الصحو!!
قلت لها مشجعاً:
- صبي لي كأس!!
نظرت نحوي
- قلت أمس أنك لا تشرب، هل تظن الخمر ذهبت بذاكرتي؟
قلت لها
- أود إن أتعلم الشراب معك..
ضحكت بصفاء وقالت:
- السكارى زادوا عدداً!
صبت لي كاس وعبّت لنفسها آخر، جرعته ووضعت الكأس الفارغ على الطاولة، وقالت ويدها على عنق الزجاجة...
- الفيلاني اللعين بسببه أدمنت هذه الخمر أجد فيها سلوى وتنسيني له، قلت مواسياً:
- ما أكثر ضحاياه!!!
سألتني وهي تحدق في وجهي ونفضت شعرة تدلت على جبينها:
- قلت أنك احد ضحاياه كيف ذلك؟
قلت:
- سأقص عليك بعد أن أسمع ماساتك معه!
قالت:
- أتمنى أن تبدأ أنت أولاً حتى تسري الخمر بجسدي...
علمتني الحياة أن السكارى أكثر الناس ثرثرة فقلبت أن أحكي قصة وهمية عن علاقتي بالفيلاني، فقلت بتمهل كلمة أثر كلمة حتى تسري الخمر بجسد فاطمة:
- كما تعلمين أنا صحفي في قسم الاجتماعيات، وكانت تأتيني قصص مرعبة عن عصابة تختطف البنات وتغتصبهن، أوكل لي مدير التحرير متابعة القضية، قابلت أول فتاة تعرضت للخطف فأخبرتني، إن من الذين اختطفوها رجل له أرداف كبيرة، قاطعتني فاطمة صائحة:
- إنه الفيلاني!
قلت لها:
- نعم هو الفيلاني من اختطف تلك الفتاة التي لم يغتصبوها بل صوروها عارية، أمّا فتاة الاخري فقد قالت أن مختطفها قادها لمكان به الفيلاني وقد سألها عنك أنت...
شهقت فاطمة وارتجفت يدها فاهتزت الزجاجة
- سألها عني أنا؟
قلت وأنا أحدق فيها
- سألها عنك وطلب منها أن تحضرك له..
المهم تناولت تلك القضايا وقد رمزت للفيلاني بأحرف تعمية، أتاني في اليوم التالي هائج يسب ويلعن وقال أنه سيلقنني درساً لن أنساه! بعد خروجه ناداني مدير التحرير وطلب مني الكف عن هذه القضية واخبرني أن السلطات أمرته بإيقافي عن العمل، صرت عاطلاً فترة من الزمن، قابلني في يوم آخر الفيلاني وأخبرني أنه وجد لي عملاً محترماً، قلت له لا أريده، مضىي وتركني بعد قليل جاءت عربة عليها بعض الشبان وطلبوا مني الذهاب معهم لمكاتب الأمن، هناك قابلت الفيلاني، أحاط بي مجموعة من جماعته وجردوني من ملابسي والتقطوا له صوراً عارياً، صاحت فاطمة:
- صدقت أنها أسلوبه...
قلت لها:
- وأنا الآن أتتبع قصته ليُعيد لي صوري، تناولت فاطمة الزجاجة وعبتها بجوفها ووضعتها على الطاولة فارغة وقالت:
- أنا أيضاً أريد صوري من الفيلاني، وأريد أشياء أخرى!!!
نهضت فاطمة وذهبت للثلاجة وعادت تحمل زجاجة أخرى، وضعتها بعنف على الطاولة، قلت لها:
- هذا يكفي!
قالت:
- هل سمعت القول: أنت كالإسفنج تمتص الحانات ولا تسكر، هكذا أنا صرت، ومازلت أذكر أول جرعة سقاني لها اللعين!
صمتت فجأة ومسحت عرقاً نز على جبينها ومدت يدها نحو الزجاجة، صبت كأس مترعة وعبتها بجوفها، وقالت:
- لقد فكرت في قتل نفسي مراراً...
أشعلت سيجارة ومن خلال دخانها قالت لي:
- لقد تأخرت كثيراً! هذه سيرة أود أن يعلمها أي إنسان لتكون عظة...
مسحت اثأر غضب ظهر تجاعيد على جبينها وواصلت:
- ما كنت أحسب أن للحشرات فوائد، ولم أظن أن العقرب والثعبان ودواب الأرض، والحشرات التي نجدها تسرح في وحول التواليت، لم أظن أن مثلها يوجد بين بني البشر، حتى التقيت بجلال!!
صمتت فاطمة وسرحت بتفكيرها، أكملت تنهيدة حرى، وقالت:
- أنا من مدينة طرفية جئت إلى الخرطوم للدراسة بجامعتها، كنت أميل للكتاب والشعراء وهذا جعلني ارتبط بشاعر ينتمي للتنظيم الملحد، جذبتني نحوه ثقافته العالية، وكلماته التي تدغدغ الحواس، أذكر أول مرة نجلس مع بعض وبثني أشواقه سألته كما تساءل أي فتاة في مثل موقفي...
- ماذا يعجبك فيّ؟
رد بسرعة بيت شعر مازلت أحفظه (حنينك طيف، وطيفك ضيف، أحب الضيوف فلا تسأليني أحبك كيف)... استمرت علاقتي معه سنوات عدة، كتب في عدة قصائد، أجملهن كانت عن عيوني، لا أود ذكر الأسباب التي أنهت العلاقة بيننا، ولكنها كانت صدمة بالنسبة لي، وهذا ماجعلني ارتبط بعلاقة مع جلال الذي كنت أراه يجلس وحيداً منبوذاً بحديقة الجامعة، كانت سيرته القذرة متبادلة بين الأفواه حكايات وأساطير عديدة سمعتها عنه، وكان حبيبي السابق حينما نمر ونشاهد جلال يقول لي:
- هذا شخص مزروع بيننا من الحكومة وأجهزتها الأمنية!!!
المهم كنت أتحاشاه وأعلم أن الاشتهاء يطل من عينيه وهما تتبعانني، أحياناً كنت أشفق عليه من جلسته وحيداً في ذلك الوسط الطلابي، أذكر ذات مره تجرأ ودخل في نقاش مع حبيبي عن الثقافة والأدب، كان رأي جلال أن ما يكتب الآن هو تمرين على الكتابة وليس كتابة، هذه أول مرة أسمع صوته، كانت الأحرف تخرج من منخاريه، أذكر رد عليه حبيبي ضاحكاً بسخرية يتمتع بها:
- من علمك هذا؟ هل هو الترزي؟
ضجت الساحة بضحكات مستفزة، تلك اللحظة شعرت بشفقة نحو جلال. طلب مني حبيبي الخروج، قبل ابتعادنا سمعنا خلفنا من يهمس الترزي لم يترك فيه شئياً، خرجنا وتركناه وأنا أعلم أن عيونه تتبعني، المهم بعد نهاية علاقتي كأي أنثى قررت الارتباط بجلال لأغيظ حبيبي السابق وأنتقم منه وما كنت أدري أني بهذه العلاقة أنتقم من نفسي، علاقة ماكنت أحسبها تحيل حياتي إلى جحيم، حضرت ذات صباح مبكرة إلى الجامعة، وجدت جلال يجلس وحيداً كعادته، يقرأ في كتاب، وقربه كرسي خالي، جلست على الكرسي، شعرت به يتلصص على جسدي، نسيت أن أقول لك أن أجمل عضو بجسدي هو رجلي، رفعت الفستان وكشفت عنهما أزادت بحلقة جلال فيهما، تشجعت وسألته:
- ماذا تقرأ ياجلال؟
أنزل الكتاب من على وجهه وناولني الكتاب، لا أذكر الآن عنوانه، كنت مشغولة بأمر آخر هو كيف أرمي جلال في شباكي، جئت لأصيده، تصفحت الكتاب وأعدته له شاكرة، تشجع جلال:
- أنا أقدم لك دعوة لشرب القهوة...
صمت ولم أرد، نهض جلال وتحرك وأنا أهييء نفسي لبداية علاقة جديدة، جاء جلال يحمل كوبين من القهوة، وضعهما على الطاولة، تبادلنا كلمات عن الطقس والحياة الجامعية، كان يقاوم التصاق عينيه بساقي، وهذا يفرحني كأي أنثى، في تلك الساعة اخبرني جلال عن تنظيمهم الديني قائلاً:
- نحن نحتاج لك فيه، وأنت لاتشبهين التنظيم الملحد...
صمت ولم أرد عليه، ربما حسب صمتي رضي لأني رأيت بسمة فرحة على محياه، افترقنا على أن نلتقي صباح الغد، خرج جلال معي فأوصلني إلى محطة المواصلات، في الطريق كان لا يكف عن مدح سلوكي وأخلاقي. من هنا بدأت علاقتنا، في أثناء علاقتنا كنت اسمع الزملاء يهمسون مستنكرين كلما شاهدونا معاً، والزميلات ابتعدن عني، وقال لي احدهم بفجور، كما تخليت ساعتئذ...
- يا فاطمة من نبي إلى غبي!!!
وآخر وجدنا بمكتبة عامة فصرخ في وجه جلال أمامي
- ابعد عن هذه البنت..
ثم التفت نحوي وقال بحزم الواثق:
- جلال هذا من رجال الأمن..
التفت نحو جلال الذي انطوى على نفسه وغادر المكتبة وتركني بها، وقابلني زميل آخر وهمس لي:
- إنّ الذي أراك تسيرين معه، رجل ناقص!!
استبعدت كل هذه الأقاويل واعتبرتها كيد سياسي وقتل شخصية كما تفعل التنظيمات، صدقت دفوعات جلال عن نفسه، والذي وثق علاقتي به انه يحمل نفس الاسم الذي يحمله أبي، استمرت علاقتنا شهور عديدة، طفنا منتديات المثقفين، بأم درمان والخرطوم، كان جلال يناقش ويدعو لنظريته التي أعجبت بها أنا أيضاً، الآن أراها نظرية فطيرة ومضحكة، لم تخلُ علاقتنا من بعض التوترات، التي كنت أتغاضى عنها، أذكر منها، كنا نود الذهاب لحفل زفاف زميله لي وقلت لجلال:
- سأذهب للترزي!!
هذه الجملة أحدثت فيه تأثيراً كبيراً، اأنفعل غاضباً وأسمعني كلمات حادة، والتوتر الثاني عندما وجدني جلال مع أحد أعمامي بالسوق العربي، عرفته به:
- ياجلال هذا عمي..
تصافحا، وفي المساء سألني جلال:
- ماذا يعمل عمك؟
أجبته:
- إنه ترزي بالحي...
كان جالساً فوقف ويده سبقته لمؤخرته، وغادرني وتركني وحيدة، آه، تحملت إهانات كثيرة وتجاوزت عن كلمات كانت تصلني عن علاقتنا، ويبدو أنّ جلال فقد الإحساس بالكرامة، كلما ذهبنا لمنتدى سمعنا كلمات تتطاول عليه، كان يلوذ بصمت مما يضطرني للتدخل مدافعة عنه، الحق حق طيلة معرفتي به لم أشاهد عليه تصرفاً يثبت ماسمعته، يقولون الحب أعمى، كانت تأتيني خطابات مجهولة المصدر تحذرني منه، أطلعه عليها، كان يبتسم ويتجاهل التعليق عليها، كابتسامته حين يخرج من شيخ أبكر، هل تعرفه؟
أجبتها كاذباً بالنفي.. قالت وهي تشعل سيجارة:
- شيخ أبكر شخصية مريبة بالنسبة لي، يبدو أنه غريب في هذه البلاد، من الذين يمارسون الدجل والشعوذة، لكن جلال يعتقد فيه، كنت أذهب معه لشيخ أبكر حين يشاهدنا يجمع أشياءه وينهض يحضن جلال ويمد لي يده ببرود، ويقود جلال ويدخلان غرفة صغيرة يمكثان فيها ساعة أو ساعتين ويخرجان، جلال يخرج منشرح الصدر وقد ذهب تكدره والشيخ يمص في شفتيه، أدهشني تصرفهما فسألت جلال، صب على أذني كلمات عن علم الباطن وكرامة الشيوخ، أنهت فاطمة سيجارتها وقالت تواصل حديثها...
- مرت على لحظات فكرت فيها بقطع علاقتي معه، احدى هذه المرات كان قد مضى على علاقتنا أربعة أعوام، قابلت جلال بحرم الجامعة وطلبت منه الجلوس وحدنا، لأمر مهم... اتخذنا من ركن قصي مكاناً لجلوسنا، كنت وأنا أسير بقربه تناوشني أفكار شتى، لا أطيل عليك، عند جلوسنا قلت له:
- ياجلال أنا أريى أن علاقتنا لاتسير السير الطبيعي للعلاقات!
نهض وقال:
- أنا أيضاً قلت ذلك، أرجو أن تعودي لحبيبك الأول!
قلت له:
- أنا حرة أرتبط بمن أرغب!
كأنما لطمته بصخرة، انفجر
- لن أدعك أنت لي وسترين!
قلت له وأنا أغادره
- أفعل ما بدا لك!
عدت إلى البيت وشعرت بحملٍ ثقيلٍ فارقني، ندمت على أيامي التي ضاعت سدى بصحة الفيلاني، جلست أجتر بتفاصيل تلك الأيام، غمة سوداء انزاحت، ولكن يبدو أن الفيلاني لم يذهب للبيت مثلي، ذهب يدبر أمر ما ليعيدني إليه، حاولت الاتصال ببعض الصديقات لأزف لهن الخبر، تكاسلت وقلت اترك الأمر حتى أقابلهن غداً بالجامعة، قبل أن ينقضي ذاك اليوم سمعت طرقاً على الباب، جاوبت الطرقات دقات قلبي واجفة، كنت وحدي وصار لزاماً على فتح الباب... تحركت نحوه، قبيل وصولي اندفعت شلة من الشبان شاهري أسلحة، كأنهم ذاهبون إلى معركة بأحراش الجنوب، التفوا حولي بأسلحتهم كأفلام رعاة البقر، دفعني أحدهم بالسونكي على ظهري والبقية تصرخ أخرجي أمامنا، دفعوني خارج البيت سبقني احدهم وفتح باب عربة سوداء كقلب جلال، ترجل شابان عن العربة..
- ادخلي بلا إزعاج!
سألتهم وأنا داخل العربة
- إلي أين؟
أجابوني:
- ستعرفين!!!
انطلقت بنا العربة بسرعة جنونية، ونحن نقطع المسافة كنت أسألهم كل لحظة:
- إلي أين تقودونني؟
فكان أجابتهم صمت كثيف! واشتبكت نظراتهم وعلى شفاههم بسمات مقززة، وحين أكثرت من الأسئلة أومأ الذي يقود العربة برأسه للذين يحيطان بي أن يغلقا فمي، اخرج احدهم قطعة قماش سوداء من جيبه وعصب بها عيوني وفمي، العربة تسير بسرعتها الجنونية، صار قلبي كنوبة بيد متصوف، يدق ويدق، دارت العربة عدة دورات، ترتفع وتنخفض والسرعة واحدة توقفت العربة وهبط منها سائقها وتركنا أنا ومن يحيطون بي بها، مرات ثوان بغيضة لي، سمعت صوت أميزه يقول لهم:
- أنزلوا العاهرة!
إنه صوت جلال، استغربت وتساءلت أذن هو من خطفني، أنزلوني من العربة وقادوني وأنا معصوبة العينين عبر دهاليز وممرات عديدة..
- أجلسي هنا!!!
خاطبني احدهم بعد أن فك العصابة عن عيني، جلست على كرسي مهترئ، وانأ أبحلق في الغرفة، بها صور عديدة لأجساد رجال تسيل منها دماء، وأخري لفتيات عاريات، وأسهم تشير إلى مكان اللذة بأجسادهن، وسمعت أصوات لأناس تحت سياط التعذيب، وأنين مكبوت تخرجه حناجر لا مرئية لي، فتح الباب ودخل منه جلال الذي أعرفه جيداً، يرتدي جلابية وعمامة ويحمل بيده مسبحة حباتها تضئ، راسماً على وجهه بسمة تبدو بريئة، شهقت لمرآة وصرخت:
- جلال! جلال!
زادت بسمته وهو يدنو مني:
- اسمي الفيلاني، وأنا عميد بهذا المكان ياعاهرة، يابقية العاهرين!!!
بعدها أعطاني ظهره ونادى أناس آخرين فجأة اكتظت الغرفة بشبان مفتولي العضلات، قال لهم جلال:
- أخلعوا عنها ملابسها والتقطوا لها صوراً وأنتم تضاجعونها!
لم أحتمل الموقف فصرخت:
- جلال! جلال! أنا خطيبتك!
أقترب مني وصفعني قائلاً:
- أنا لست جلال ياعاهرة!!
ثم ألتفت نحوهم
- ابتدأوا العمل بسرعة!
دب نشاط مريب فيهم، وأنا ارتجف رعباً، كانوا أكثر من خمسة شبان، هجموا على جسدوا ليجردوني من ملابسي، قاومت لكن هيهات، مزق أحدهم قميصي فأنزلق عن جسدي، نظرت له مستعطفه، لكن صدمتني قهقهات يطلقها جلال الوغد! في هذه اللحظة وانأ أقاوم حضر أحدهم، شاب مفتول العضلات وخاطبهم:
- أبعدوا عنها أتركوها لي!
رفعت بصري نحوه كادت الشهقة تقتلني، أنه اعدى أعداء جلال، أشتهر في محيطنا باسم المناضل الملحد، كان هو الآخر يرتدي جلابية وبيده مسبحة أيضاً، جاءوا له بكرسي جلس قربي، ويده ترفع ملابسي ويغطي صدري المكشوف، شعرت نحوه بميل جعلني أسأله:
- أي ذنب جنيته حتى أعامل كمجرمة؟
وقف
- ألست أنت من رفض الفيلاني؟ هل توجد جريمة أكبر من هذا؟
أنفتح فمي
- أنا لم أرفض جلال!!
صرخ المناضل الملحد:
- ليس عندنا إنسان بهذا الاسم!
تدخل جلال:
- أنا العميد الفيلاني ياعاهرة،
ثم ألتفت نحو المناضل الملحد
- أخبرها بذلك!
سألني المناضل الملحد:
- هل عرفت اسم الذي ترفضينه ياكلبة؟
بمسكنة وانكسار قلت:
- نعم.
خرج جلال وتبعه المناضل الملحد وتركاني موثقة اليدين على الكرسي عارية تماماً، دخل بعدهم شاب يبدوا التخنث على مشيته يحمل كاميرا ألتقط لي عدة صور وخرج يتثني في مشيته، وأنا أستحضر تفاصيل علاقتي مع جلال ربما أتيت مايغضبة! واٍستحضر تعليقات معارفي عنه، قطع هذياني دخوله، وقف أمامي مبتسماً وعرض على الصور التي ألتقطها لي المصور المخنث..
- هذه صورك ياعاهرة سأطلق سرحك وسأحتفظ بهذه الصور عندي حتى يتم زواجي بك...
قال جملته هذه ونادى الشبان الذين أتوا بسرعة وفكوا وثاقي وقادوني خارج المبني. صمتت فاطمة وقد تعكر الدم بشرايينها لتلك الذكري وارتجف جسدها وجف اللعاب بحلقها، تناولت كوب خمر وعبته بجوفها. مسحت فمها من أثر الماء وواصلت حديثها:
- كنت منهكة حين وصلت البيت ارتميت على السرير، الحمى تأز جسدي كله، هلاويس وكوابيس احتلت ذاكرتي، أطياف لأناس اعرفهم رحلوا قبل سنوات زارتني، طيف جلال بهيئة ثعبان يلفت حول عنقي وحبيبي السابق أراه على قمة جبل فارداً يديه يناديني، نسيت أن أخبرك أن البيت الذي أسكنه يملكه أبي وخصصه لسكنه أي احد من الأسرة يأتي العاصمة. وتلك السنوات كنت أسكنه وحدي، زارني جلال ثاني يوم، كان باسماً كأنما الذي حدث ليلة أمس لا يعنيه، يحمل مظروفاً، جلس قربي، فتح المظروف وأخرج منه الصور التي التقطت لي ليلة أمس، وصار يعرضها أمامي واحدة تلو الاخرى، وأنا أكاد أتقيأ، أدخل الصور بمظروفها ووقف...
- غداً تأتين للمكتب وتنضمين للتنظيم وسنعلن ذلك في ندوة وسط الطلاب تتحدثين فيها عن أسباب تركك للتنظيم الملحد وانضمامك لتنظيمنا، وإذا رفضت هذه الصور عندي أنا سأوزعها لكل طلاب الجامعة ياعاهرة...
ارتفعت درجة حرارتي وكاد رأسي ينفجر، صور بشعة، فضيحة واضحة، غادرني النوم وأنا أبحث عن حل لمشكلتي، حتى أشرقت الشمس، قبل نهوضي من النوم سمعت طرقات على الباب، فتحته فشاهدت نفس العربة السوداء عليها شبان ملتحون وبداخلها يجلس جلال، ناداني..
- هيا للندوة!!
كأني كنت مخدرة ركبت معهم العربة وانأ أرتجف من الذي أقدم عليه، أخرج جلال زجاجة خمر ومدها لي...
- أجرعي جرعة الشجاعة...
بلا إرادة أخذت الزجاجة وأفرغتها بجوفي، وجلال يقهقه بانتشاء مريب، همس بأذن أحدهم فاشتركاء في ضحكة فاجرة، ذهبنا للجامعة وجدت المكان مكتظ بالطلاب والطالبات، دخلنا الخيمة المنصوبة، جلست وجلس جلال بجواري بزهو بغيض، سمعت أحدهم عبر المايكروفون يصيح:
- ظهر الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، الان نقدم لكم أخت فتح الله بصيرتها وأخرجها من ظلمات الكفر إلى النور المبين، الأخت الطاهرة فاطمة جلال!!
دوى التصفيق وجلال يدفعني من ظهري بنشوة منتصر....
- قومي!!!
نهضت وكنت أحس بخدر بجسدي، يبدو أن الخمر أشتعل مفعولها، تقدمت نحو المنصة، قلت كلاماً كاذباً عن تنظيمي السابق فوصفت أتباعه بأفظع الألفاظ. لم أستطع مواصله حديثي، لأني رأيت الوجوم على وجوه الأصدقاء القدامى ومن بينهم حبيبي السابق، تلك الصورة مازالت عالقة بأذني كلما تذكرتها هربت إلى كاسات الخمر، جاء أحدهم واعتذر للحضور للإرهاق الذي أصابني بحجة أنني كنت أصلي حتى الصبح تكفيراً عن أيامي بالتنظيم الكافر، كدت أصرخ فيه كاذب.. منافق... ولكني شعرت بثقل برأسي وخدر بلساني... تنهدت فاطمة وقالت:
- هل اكتفي جلال بهذا؟ لا بل أتى بأشنع تصرف، تصرف يشبهه تماماً لقد أرسل صوري لحبيبي السابق، لينتقم منه، ولكنه كان أنبل من جلال، لقد أرسل لي الصورة مع كلمات رقيقة (لقد وقعت يافاطمة بين أنياب شيطان ونحن نعرفك).. في اليوم الثالث أتاني جلال وأخبرني انه حدد أيام زواجنا، وقال لي:
- أنا ذاهب لأهلك لمقالبه والدك!
كنت مسلوبة الإرادة لا أعي ما حولي، لم أرفض أو أوافق، أغرب ما في الأمر جلال ذهب لأهلي وقابل أبي وحدد موعد زفافنا، في هذا اليوم تجددت بشاعة جلال، قام أبي بدعوة الناس لحضور عقد القران، وقد أولمنا وحضر الناس ولكن جلال اختفى، بحثنا عنه ولم نجده، وكانت تلك أقسى ساعات في حياتي، استدركت، كنت أظن ذلك، لكنها كانت بما لقيته بعد ذلك لاشيء، أبي رجل متدين ومعروف بمدينتنا، ذلك اليوم أصيب بذبحة صدرية، لم يتحمل الحرج الذي أدخلته فيه، المهم لملمنا أطرافنا، وقد أضطر أبي للحضور إلى الخرطوم للبحث عنه، بعد جهد قابله وسأله عن سبب غيابه، قال إن أمه كانت مريضة بالرغم من معرفتي أن أمه قد توفيت وهو صبي، لكن أبي لم يعرف هذه الحقيقة، المهم اقنع جلال أبي بموعد أخر للزفاف، أيضا غاب جلال عن الموعد مما اضطر أخي الأكبر الذي كان بالخرطوم أن احضره معه في اليوم الثاني، وقد تم العقد بغيابه، كل فتاة تفرح لحظة أن يكون زوجها قربها ليلة الزفاف، أمّا أنا فقد كنت مذهولة من تصرفات جلال، رفض وضع الحناء بيديه كما جرت العادة، وكان بعينيه بريق غريب، يتلفت يمنة ويسرى، ينهض من قربي ويجول وسط الناس ويأتي يجلس، ينف بصوت عالٍ، حاولت معرفة الذي يوتره، سألته وقد حاولت أن يكسو سؤالي رقة:
- مالذي يزعجك؟
نهض ثانية وقال:
- هل عندكم ترزي ؟
قلت له صادقة:
- نعم أخي ترزي..
فزع سجل حضوره بعينيه، وضرب على المقعد بيديه بتشفي، وسألني
- قلت أخوك ترزي؟
- نعم ياجلال..
بسرعة سألني
- أين هو الان؟
قلت له:
- لقد توفى!
المهم انتهت ذاك الاحتفال وذهبنا أنا وهو إلى الفندق، الذي كان فجيعة كبرى... دعني أولا أجرع عدة كاسات حتى استطيع أن احكي قصة ليلتي بالفندق مع القذر!
في أقل من دقيقة عبّت فاطمة زجاجة الخمر بجوفها ومسحت فمها بكم قميصها وأشعلت سيجارة استمرت تحكي...
- ونحن بالفندق فاجأني جلال بقوله: هل أخوك ترزي؟
بتعجب أجبته:
- الآن هو في رحمة الله...
بهدوء مصطنع قال لي:
- أوصفيه لي؟
قلت:
- من تقصد؟
انفجر في والكلمات تنطلق من فمه النتن..
- أخوك الترزي؟ هل كان بالخرطوم، هل كان يُدرّس القرآن؟
وجدت نفس مجبرة على الرد عليه فقلتُ:
- أخي الترزي مات وأنا صغيرة لا أعرف شكله حتى أوصفه لك!
سألني:
- هل مات في الستينات؟
أجبته
- يبدو ذلك!
أرغى وأزبد، نهض من قربي وذهب نحو الحمام خلع ملابسه وجاء نحوي عارياً ماداً كرشه الضخمة أمامه وقال لي بفجور:
- أوعى تظني أني احبك! فقط أردت إن اهزم عشيقك السابق...
ذهلت وأنا استمع لكلمات كالرصاص يخرجها جلال من فمه النتن..
- كلما في الأمر أن توجيهاً صدر لي أن أبعدك من عشيقك اليساري، أنت أغبى إمراة أشاهدها في حياتي، وجهك مثل الماعز وصدرك صار كقربة الماء لان عشيقك عبث به كثيراً ياعاهرة!!!
وأنا أرتجف رعباً من كلمات جلال التي أتبعها قهقهة بشعة بعدها سألني
- لماذا لا تردين؟
صمت وغطيت وجهي بالملاءة، اغتاظ وصاح مناديا بصوت أنثوي..
- ياشيخي يا راجلي تعال...
ثم ألتفت نحوي وخاطبني:
- أنا تزوجتك لرجل آخر أنا وأنت زوجات له!
أنهى كلامه دخل علينا شيخ أبكر عارياً، صاح مفتعلاً الإزعاج
- مالك يا امرأة...
ظننت أنه يخاطبني أنا ولكن دهشت حين رد عليه الفيلاني..
- لا شيء فقط أريدك اليوم أن تنوم مع ضرتي!
قال جملته وأشار نحوي، تقدم شيخ أبكر وأمرني..
- خلاص جهزي نفسك!!!
قال جملته والفيلاني ملتصقاً به، هنا لم أعد احتمل غادرت الفندق في تلك الليلة، مازالت كلماته تطن بأذني وانا أجمع ملابسي بالحقيبة..
- تعالي هنا، أنت شرموطة وأنا لوطي!!
وانطلق يقهقه بصوت عالٍ..
- آي أنا لوطي، لاطني الترزي وسأنتقم منكم جميعاً.
في صبيحة الغد كانت صوري العارية ملصقة على جدران حينا، منزلنا قد نال العدد الأكبر منها، أجتمع أهلي يستفسرون عنها، قلت لهم:
- إن الذي تزوجني رجل معتوه وقد أخذ لي هذه الصور البارحة ونحن بالفندق.
مسحت فاطمة دمعة سالت تحت جفنها، وزفرت بحرقة...
- آه ليت الأمر توقف عند ذلك! تخيل هذا الحقير، اختفي وأنا صرت معلقة لا أنا طالق ولا حرة! حملت جروحي وجئت إلى الخرطوم أبحث عنه، بعد جهد علمت أنه طرد من الخدمة وانضم لمذهب ديني وافد على البلاد، وقد استأجر له أحد أتباعه منزلاً بوسط الخرطوم، وحدي ذهبت له بذاك المنزل، وجدته قد ازداد سمنة، وتضخمتْ أردافه، حينما شاهدني أفرج عن بسمة أغضبتني، مد لي يده لأصافحه، لا إراديا وضعت يدي خلف ظهري كما يفعل هو حين تأتي سيرة ترزي بحديثي، قلت له بجفاء:
- أريد أوراقي يا أنت!
بذات البسمة الكريهة دخل وعاد ناولني ورقة حريتي، استلمتها وعدت فرحة لأهلي... قالت جملتها وتناولت الزجاجة وعبت ما تبقي بها بجوفها، ثم نهضت قائلة:
- هذه الفضفضة كنت احتاجها، وأنا شاكرة لك صبرك على حديثي، وأرجوك أن تخرج ولا تسألني بعدها!
احترمت طلبها ونهضت مودعاً، عند الباب نادتني، عدت إليها، قالت لي
- حتى تكتمل دراستك عن الحقير قابل زوجته الأولى..
وجدت نفسي اسألها:
- هل تعرفينها؟
قهقهت طويلاً ومدت يدها نحوي قائلة:
- أدخل!
دخلت أتبعها، جلسنا في ذات الطاولة، قالت لي:
- هذه الجلسة لا تحتاج لخمر!
ساندتها
- ما شربناه يكفي!!
نفضت شعرها وقالت:
- يا أستاذ قصة زوجة الحقير الأولى قصة مضحكة كما حكاها لي هو نفسه في ليلة زفافنا قائلا لي:
- هي فتاة من طبقة مترفة وتزوجتها لسبب وحيد لأني حين أبول فيها أحس بنفسي أبول في طبقة المترفين، وهي فتاة لا تخلو من هبل، قصيرة كقضيبي هذا... أخرج قضيبه ليريني له، رأت فاطمة اشمئزار على جبيني قالت لي، لا يهمك ومضت تروي لي كلمات الفيلاني عن زوجته الأولى...
- وجهها مستدير وشعرها غزير، وهي وحيدة أهلها تزوجتها بإرهابي لأهلها عبر سلطتي وأخذت منها صوراً، وطردتها في تلك الليلة.
وانطلق الفيلاني يضحك بهستيريا. صمتت فاطمة فترة وقالت لي:
- الغريبة أني حين قابلتها، وجدتها عكس ذلك، فتاة جميلة وذات خلق نبيل، وصارت بينا صداقة جميلة، والآن أتمنى أن تلتقي بها، سألتها بطمع:
- أين أجدها؟
قالت:
- فاطمة؟ اسمها مريم محمد وهي معلمة بمدينة كوستي.
قلت لها:
- كوستي مدينة كبيرة وأنا لا أعرف بها أحداً؟
قالت:
- اذهب وانزل بفندق المدينة وستأتي إليك مريم! وداعاً أيها الصحفي الهمام!
خرجت منها وقد نويت أن التقي بمريم!










الفصل التاسع

خرجت من منزل فاطمة وأنا أردد جملتها الأخيرة "أذهب إلى الفندق وستأتي إليك مريم محمد"، دخلت غرفتي ونمل النعاس اشتبك بنمل الخمر بجسدي، تراءت أمامي أطياف الشلة بالمقهى الكبير وطيف فاطمة يبتسم بسخرية، تذكرت شاعر يردد "حتى النوم جفاني"، أرق احتل جثتي الممدة فوق السرير، لعنت الفيلاني وخاطر مشاغب يدغدغني، ماذا تجني من تبعك قصة تافه لشخص قذر؟ أشعر بإحباط تغمرني لي حالة من العبث، هواجس اتخذت صدري مطارات لها، زميلي الصحفي يقول إن مهنة المتاعب تخرج منها بضعف النظر واحدوداب الظهر وفقر الجيب وعداوة الناس، انتصر نمل النعاس على نمل الخمر فاستغرقت في نوم، عند انبلاج الفجر نهضت وبرأس شرنقة صداع، ابتلعت حبة اسبرين، قبل استقرارها بحلقي كدت اهتف كارخميدس وجدتها وجدتها، لكني تمتمت "الأسبرين أعظم اكتشاف الانسان ربما اكشفه انجليزي مثلي الجنس"، ارتديت ملابسي وخرجت وشيطان يهمس لي أكمل انتقامك! ضحكت ضحكة باهتة وغمغمت بكلمات أمي، اليتيم لا يحتاج إلى وصية ليبكي، مررت بإطلال المقهى الكبير، يقول أهلي العرب، الوقوف بالإطلال يشحذ الذاكرة ويعبئها بمواجع، كان المقهى الكبير أو ماتبقى منه يضج ببشر يتشابهون في القصر، ذات مرة قال سليمان السجمان أننا صرنا قصار لرداءة الغذاء، قلت له:
- هل نسيت من بيننا آدم؟
بسرعة ماكرة رد:
- هذه طفرة وراثية ً
قال حسين
- أخشى بعد جيل وأكثر سنصبح أقزاماً...
تجرأت وقلت لهم:
- لا يخلو طويل من هبل!
أغضبت كلماتي آدم. غادرت أطلال المقهى الكبير، توجهت نحو الميناء البري، لأسافر إلى مدينة كوستي، في الطريق إليه كنت ارتب الفوضى التي اجتاحتني، قررت الجلوس بمقعد يحمل رقم أعداد ضحايا الفيلاني، فصرت أحسب، عمر الطيب، سليمان السجمان، آدم، حسين، محاسن، حنان،علي حامد، زوجات الفيلاني الثلاث، توقفت عن العد قائلاً:
- بهذه الطريقة سأجلس بالمقعد الأخير!!!
عند وصولي كانت زحمة المسافرين أو الفارين من الخرطوم تسد الطريق أمام نافذة التذاكر، البعض يقول الزحمة فيها الرحمة، بحثت عن هولاء البعض، تفرست في الأوجه، اقترب مني احدهم هامساً:
- مسافر إلى أين؟
- إلى كوستي!
مسحتني بخبث عينيه وجال بهما بسرعة برق في الزحمة وهمس
- عندي تذكرة!
اتفقت معه واستلمت تذكرتي، كم دفعت فيها؟ هذا لا يهم، اخترت مقعداً يسمح لي بمشاهدة معالم الطريق من الخرطوم إلى كوستي، سأمر بمدينة ربك، مدينة ترك الانجليز بها مصنعاً للأسمنت، كلما أنتج أسمنت كلما تقلصت بيوت الطين والقش وزادت مباني الطوب أو المباني الحديثة، مدير التحرير كان ينحاز إلى مباني الطين وهذه حسنته الوحيدة، قبل مدينة ربك توقف البص بالجزيرة أبا التي انطلقت منها شرارة الثورة المهدية، التقى فيها الخليفة عبدا لله التعايشي بالمهدي ويبدو انه اخبر المهدي بقصة زواج الرجلين، ذات مرة همس لي ياسين السمين أن الجزيرة أبا مدينة خالية من الخطايا، سكانها يدينون بالولاء للمهدي الذي يحرم التمباك والسجائر والاختلاط وبالتأكيد يتشدد في ممارسة الشذوذ، وأكد لي ياسين أن سكانها أتوا من غرب السودان ومن غرب أفريقيا وقد زعم أنهم لا يعرفون الشذوذ الجنسي، وتبجح:
- إن الشذوذ عادة عربية!!!
انفعلت فيه وبخاطري ساعتها قول سليمان السجمان أن الانجليز هم من ادخل الشذوذ في البلاد، رغم احتجاجي على سليمان ساعتها ولكني الآن بانفعال قلت لياسين رداً على إلصاق هذه التهمة بالعرب...
- الانجليز هم أصحاب هذه الصنعة أمّا العرب فلهم دين يحميهم...
يبدو أني لم أفلح في كبح جماح ياسين، فقد ضحك بسخرية وقال
- لماذا لا يحمي الدين الفيلاني؟
ألقمني حجراً وجدت نفسي في موقف عصيب هل أنكر شذوذ الفيلاني؟ أم أقر بهزيمتي؟ فلزمت صمتي، رغم ضحكة ياسين المنتصرة. حين تحرك البص، صرت أطالع الذي سجلته بذاكرتي عن سيرة الفيلاني القذر، وقفت عند اهتمامه بتصوير ضحاياه عراة، والمصير الذي ينتظره، عندي إيمان راسخ أنّ من زنا يزني ولو في عقر داره، سمعت أبي يقسم حين يدور الحديث عن جارنا أسامه..
- من دخل فيه لا خير فيه!
فاطمة قالت إن الفيلاني كان يصلي وهو سكران، وحدثتني عن اعتقاده برجل أمي يبيع عروق يظن أنها تنفع وتضر، وقصت على أنها ذهبت ذات مرة معه لذلك الرجل، كان يضع أمامه رؤؤس طيور نافقة وجذوع أشجار وزهور ذابلة ولديه كتاب كله طلاسم، وأن الفيلاني كان يطيع ذلك الرجل، وأن التمائم التي بذراعه أشتراها منه، وسليمان السجمان قال مفتخراً:
- إن بلادنا تخلو من أمثال الفيلاني!!!
عمر الطيب الذي لا في النفير ولا في العير كما يقولون لم ينجُ من شرور الفيلاني، قال لي:
- إن الفيلاني طلب منه إن يذهب معه إلى محاسن أو البيت الوطني كما قال ليمارسا اللواط..
آدم أقسم لي أن جماعته التقوا بالفيلاني بعد طرده من الخدمة بمنتدى أدبي يبشر بنظريته عن التراب الوطني أوهموه أنهم جماعة ثقافية تهتم بالفكر والثقافة وطلبوا منه أن يذهب معهم ليبشر بنظريته عندهم بمنتداهم، ذهب الفيلاني معهم، فرحاً بانتشار نظريته، حين وصلوا إلى مكان مظلم هجموا عليه ركلاً وصفعاً والشتائم تتطاير منهم نحوه، أحدهم قال:
- دعوه لي أهتك عرضه..
رفضوا ذلك وقالوا لصاحبهم
- لا تنجس قضيبك بمؤخرة قذرة!
هنا صاح الفيلاني
- والله مؤخرتي نضيفه.. والله مؤخرتي نضيفه!
وحكي لي على حامد...
- إن الفيلاني كان لا ينام على ظهره كما ينام الناس إنما كان ينوم على بطنه، وأقسم لي أن الفيلاني في نومته يضع يديه الاثنتين على مؤخرته!!!
وتذكرت قصة آدم مع الفيلاني بالمعتقل، وحكايته ببيت محاسن فاتنة المقهى مع احد المثليين اكتشف الفيلاني أنه مثلي! قالت لي محاسن:
- ذاك اليوم كان من أغرب الأيام، جاء الفيلاني وحده سألته عن شيخ أبكر طنطن بكلام مبهم لسوء الحظ كان معي بالبيت أحد المثليين جلس معه الفيلاني فجأة سمعت الصراخ والصياح ذهبت لهما وجدت الفيلاني سألته مالك يافيلاني؟ قال لي باستنكار..
- هل يمكن لترزي أن يكون خول؟
قلت له
- الوظيفة لا دخل لها بميول الانسان!
لم يقبل كلامي إنما طلب مني طرد ذاك الرجل خارج البيت وعدم السماح له بدخول المنزل بحجة أنه يسي إلى الترزية، لأني أعرف عقدته من الترزي قلت له أطيب خاطره..
- حاضر يافيلاني
تذكرت، وتذكرت. في تذكري وصلت مدينة ربك، وقد شغلني الفيلاني عن التمتع بمناظر الطبيعة التي بولاية النيل الأبيض، سكر كنانة أعجوبة الصناعة السودانية كما توهمت حكومة النميري، ولم أتمتع بمشاهدة مصنع عسلاية ومصنع الأسمنت بمدينة ربك حيث توقفنا لينزل بعض الركاب، تراكض بعض الباعة المتجولين، ونساء يحملن أطعمة فوق رؤؤسهن، وبائعي فواكه، أناس متربون تعلوهم غبره، ضحكت لخاطر ماكر..
- هل يعلم هولاء أن بعض الرجال يأتون الرجال شهوة، وهل شاهدوا الفيلاني؟ وهل من بينهم أحد له صلة قربى بمريم محمد؟
أسئلة أعلم لا إجابة لها، تحرك البص إلى مدينة كوستي عبر كبري أنشأه الانجليز لتمر عبره القطارات إلى أطراف السودان الغربية والجنوبية، قال لي ذات مرة سليمان السجمان ونحن نتحدث عن الفيلاني..
- إن السكة حديد أسرع ناقل للشذوذ الجنسي!
حاججته..
- السكة حديد تنقل البضائع والناس وتنقل الثقافات.
وصلت مدينة كوستي مرهقاً لطول الطريق، دلني أحد المواطنين على فندق المدينة، نزلت بالفندق الكبير كما أوصتني فاطمة جلال، كان الفندق خالٍ من الرواد ـ كنت النزيل الوحيد، صاحب الفندق رجل ستيني يساعده ابنه في إدارة الفندق، اختار لي غرفة تطل نافذتها على شارع، وقال لي
- هذه الغرفة لا يوجد بها بعوض!
الإرهاق الذي لازمني قاد النوم إلى فراشي، لحظة وضعت رأسي وأطبقت جفني ودخلت في نوم عميق، صبيحة اليوم التالي تأكدت من كذب صاحب الفندق، البعوض أدمي جسدي، نهضت فجراً لأتجول في شوارع المدينة ومقاهيها، تزجيه للوقت، وإلماماً بمعالم المدينة التي طالما سمعت عنها، أكبر ميناء نهري على نهر النيل العظيم، النهر الذي قدسته ديانات قديمة وعبده سكان مصر، كوستي مدينة لها طعم خاص كما يفتخر أهلها، معظم كتاب البلاد من كوستي أو قضوا فيها فترة من عمرهم، أشهر شاعر سوداني وأشهر روائي وأقدم كاتب قصة، وأول من كتب مسرحية، وأول من غنى، وأشهر موسيقي "موسيقى التم تم" أتت بها غانيات من كوستي التي اتخذت أسمها من خواجه يوناني، هي مدينة حديثة الوجود، لا تشبه المدن الاخرى، أهلها شعارهم "كوستي الربة لا يوجد بها مسيد ولا توجد بها قبة" هذا الشعار أغضب حكومة الفيلانيون فأكثروا من أنشاء القباب والمساجد بها، قبل خروجي من غرفتي بالفندق نظرت عبر النافذة رأيت أطفال المدارس يملئون الطريق، فتذكرت أن مريم محمد معلمة بأحدى مدارس هذه المدينة، أسرعت في الخروج من الفندق أتبع الطلاب، أول مدرسة وصلتها "مدرسة فاطمة الزهراء".. قلت ربما مريم تعمل بها، جلست أراقب وذهني يستحضر هيئة مريم محمد كما سمعتها من فاطمة جلال، امرأة قمحية اللون، قصيرة القامة شعرها فاحم وأكثر ما يميزها اتساع عينيها، شاهدت بعض المعلمات يسرن نحو باب سور المدرسة، حدثتني نفسي بسؤالهن عن أستاذة مريم محمد، بحجة أني قريبها! تراجعت عن فكرتي، وصرت أتسكع بلا هدف، قادتني رغبة قديمة لشاطئ المدينة، أذكر أنّ سليمان السجمان قال لي:
- كوستي تشتهر بأسماكها!
تدخل آدم:
- الأسماك تزيد نسبة الذكاء..
الشاطي عبارة عن مزرعة سمك كبري، نساء وفتيات وشبان، هولاء يأكلون بشهية وآخرون يعدون أسماكا أخرجوها للتو من النهر، حسب كلام آدم تكون نسبة الذكاء عندي قد بلغت أعلى مستوى، عدت إلى الفندق وبطني تغرغر بما ألتهمته من سمك، دخلت غرفتي في انتظار حضور مريم محمد كما قالت فاطمة جلال "مريم ستأتي إليك بالفندق". للانتظار حرارة بالفؤاد، وله مذاق بطعم الفاكهة الطازجة، وانتظار النساء كتبول كلب أسود على سجادة الصلاة، والغربة في المدن مرض أعجز الأطباء، الغربة ولحظة الانتظار موت، قلق وأرق وضربات قلب بصدري، كنت لحظتها أفرك يدي وأبندل عيني وأحرك قدمي، أجلس فوق السرير واهبط منه، حركات لا إرادية قمت بها، تبولت دون رغبة في البول، طلبت طعام وبطني محتفظة بغرغرتها، أتحرك نحو باب الغرفة أهم بسؤال صاحب الفندق، أتراجع وعيني تجولان عبر النافذة ربما أرى مريم، كلما ارتفعت الشمس كلما قل صبري، كادت الشمس تنتصر في عراكي معها، بهمة متضعضعة خرجت نحو استقبال الفندق، سألت موظف الاستقبال:
- هل سأل عني أحد؟
ابتسم ابتسامة كأنها وزّعت على موظفي الاستقبال، بسمة لاتحمل معنى، كطعام السجناء بدولة يحكمها دكتاتور، وقفت أمام البسمة البلهاء انظر، اكتملت بسمة الموظف وتحولت إلى حروف "لم يسأل أحد عندك! عدت إلى غرفتي لعلي أسترح قليلاً وأعود إلى الخرطوم، فليذهب الفيلاني إلى الجحيم، ندم كثيف تسربل ذاكرتي، كيف سمحت لنفسي أن تصدق كلمات فاطمة؟ أبي يقول من صدق النساء كذب الرسل، طالما نصحني حين زواجي "شاور المرأة وخالفها" ليت أبي علم أن زوجتي تشاورني وتخالفني، الشاعر آدم قال حين رفضته احدى البنات قال: المرآة هي كذبة الطبيعة وخدعتها، طرقات خفيضة كقبلة مراهق أشتر على الباب قطعت تذكري، قلت ربما ريح، ارتفعت الطرقات، نهضت وجدت موظف الاستقبال ببسمته المرسومة يحمل هاتفاً:
- اتصال من أجلك!
شقشق عصفور فرح بصدري وقلت أخيراً صدقت فاطمة وكذب أبي وفلاسفة كثر يذمون النساء، وضعت سماعة الهاتف بأذني فسمعت كلمات أنثوية تتدفق:
- أستاذي أنا مريم محمد، وقد أخبرتني فاطمة بموضوعك وأنا على أتم استعداد وقد أرسلت لك تفاصيل علاقتي مع اللعين وحياتي وستأتيك بعد قليل، وأرجو أن تفيدك، ولا تنسي أن تبلغ سلامي إلى فاطمة جلال وأنصحها بترك الشراب.
هكذا أنهت المكالمة التي كانت كما ترون من طرف واحد. أعدت الهاتف لموظف الاستقبال، استلمه ومازالت بسمته بمعناها الأول، ناولني كراسة صغيرة قائلاً:
- هذه أمانة لك!
تعجبت وسألته بدعابة
- هل جاءت الكراسة عبر الهاتف؟
بنفس البسمة المرسومة رد:
- أتى بها أحد لا أعرفه!
حملت الكراسة وعدت مسرعاً إلى غرفتي، بشوق ولهفة مبررة، فتحت صفحات الكراسة، في الصفحة الأولى كتب بخط واضح بيت شعر، الخط بلون أحمر داخل مستطيل أزرق
إن حظي كدقيق فوق شوك نثروه وقالوا لحفاة يوم ريح أجمعوه!! في الصفحة الثانية رسم لامرأة نزعت نهديها عن صدرها ووضعت كل نهد بكف، في الصفحة الثالثة مكتوب: : هان من بالت عليه الثعالب، في الصفحة الرابعة وجدت تنبيه بين قوسين (من يطالع هذه المخطوطة عليه كيل برميل من اللعنات على الحشرة الآدمية المسماة الفيلاني) وتحتها مكتوب: هذه عذاباتي، وفي بقية الصفحات الرسالة بدأت أقرأ فيها:
- اسمي مريم محمد، الطفلة الوحيدة لموظف بالخدمة المدنية، أمي نالت قدراً من التعليم، وهذا يعني أن حياتي حياة فتاة من الطبقة الوسطى، ولدت بمدينة الخرطوم، لقد كان أبي رجل متدين ولكنه كما يقولون ديمقراطي، تدرجت في التعليم الحكومي، فأنا خريجة جامعية، من كلية علمية، رغم ميولي الأدبية، كتبت في شبابي شعراً وخواطر كانت تعجب صديقاتي، في الجامعة كنت عضواً نشطاً بتنظيم يصفون اتباعية بالإلحاد،رغم أن أبي ينتمي للتنظيم الديني، وكان بين التنظيمين مشادة كلامية وضرب بالعصي والسكاكين، وكانت تربطني علاقة عاطفية مع زميل لي، ومن أدبيات تنظيمنا إقامة العلاقات الجنسية قبل الزواج مباحة، وقد مارست تلك العلاقة مع حبيبي، ليغفر الله لي وكانت من ثمرة تلك العلاقة أن حبلت، وهنا تهرب مني حبيبي، بل أكثر من ذلك سعي لفصلي من التنظيم بحجة أني فاقدة للشرف، رغم علمه أنه الرجل الوحيد الذي كنت أمارس معه الجنس، في أحد الأيام جئت إلى الجامعة، كعادتي مررت على صحف الحائط التي تعج بها الجامعة، وقفت أمام صحيفتنا، ولم ألحظ عيون الطلاب التي تطيل النظر في بطني، وهم يهمسون،قرأت في الصحيفة، بيان لجماهير الطلاب الشرفاء، لقد تأكد لنا إن الزميلة (م) (م) تمارس الرزيلة والآن تحمل ببطنها ثمرة ما ارتكبت! وبما أننا شعلة نضال، قرر الحزب فصلها نهائياً ونوكد للبعض إن دعوتنا للمساواة بين الرجل والمرأة لاتعني أن يستغلها البعض للرزيلة، حين انتهيت من قراءة البيان كوابيس عديدة ضجت برأسي، بحثت عن حبيبي بين الطلاب، شاهدته يجلس وسطهم يضحك بفرح، والعيون تثقبني، اقتربت منه لم أعطه فرصة ليهرب مني، بكل ما املك من قوة صفعته، رفع يده يتحسس صفعتي، وفغر فمه، بصقت نحوه وخرجت غاضبة، لا تسألني عن الجنين! لقد كان في شهوره الأولى، الإجهاض قيل لي في حالتي ليس به حرمة، ولقد كان!
من الطلاب الذين كانوا حولي تلك اللحظة التي كنت أقف فيها إمام بيان فصلي، طالب ينادونه بجلال وأحيانا ينادونه بالفيلاني، فأنا أعرفه كعضو بالتنظيم الديني وقد دخلت معه في مشادة كلامية ذات يوم، كنت كالغريق الذي يتشبث باوهي الأشياء، قال لي ذلك الطالب:
- هذا كيد سياسي نحن نعرفك رمزاً للشرف، نحن نحتاج لك أكثر منهم...
كانت كلماته رغم نفاقها الواضح، بلسم شفاء لروحي، لا أطيل عليك، انضممت للتنظيم الديني، هل تود تفاصيل انضمامي للتنظيم الملحد؟ وهي تفاصيل عادية لفتاة مراهقة لها ميول أدبية، وشاءت ظروف تلك المرحلة أن تكون بعض عضوية التنظيم الملحد من الشعراء والكتاب ولهم نشاط ثقافي راتب، ومن خلال هذا النشاط كانوا يستقطبون الأعضاء، حضرت أول منتدى ولقد أعجبني ما سمعته من شعر، شعراء يتغنون بالوطن والحبيبة، ومن خلال هذا المنتدى صرت عضواً بالتنظيم، وأقمت علاقة مع زميل لي، وحصل الذي كتبته في الأسطر السابقة، أما كيف صرت عضواً بالتنظيم الديني؟ حين قرأت خبر فصلي بالصحيفة الحائطية، تملكتني رغبة جامحة في الانتقام من حبيبي، وبما أن المرأة في مجتمعنا الشرقي وسائل انتقامها من الرجل محدودة، ولكن المرأة الشرقية حين تود الانتقام من الرجل تنقم من نفسها! قررت الانضمام إلى التنظيم الديني، وشجعتني الكلمة التي قالها جلال وانأ أقرأ خبر فصلي "نحن نحتاج لك أكثر منهم" ذهبت إلى مكتب التنظيم الديني بالجامعة، كانت فرحتهم كبيرة بانضمامي لهم، وانتظمت بخلية تتكون من عدد محدود من الأعضاء، يرأسهم جلال، ومن هنا بدأت علاقتي بجلال، أو قل بدأت علاقتي بالتعاسة... كان يوليني اهتمام خاص، ويقول بفخر:
- أنا من كسبت مريم للتنظيم..
أذكر أول ليلة أقامها لي التنظيم الديني بعد التحاقي به كادت تحدث كارثة، جاء دوري لأعلن انضمامي كمفاجأة للتنظيم الملحد، وقفت على المنصة والهتافات تعلو "ظهر الحق وزهق الباطل أن الباطل كان زهوقا" و قلت وسط الهتافات:
- أنا مريم محمد أعلن انسلاخي من التنظيم الملحد وانضمامي إلى التنظيم الديني..
ارتفع صوت قطع حديثي..
- لو جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا عسى أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين!
ثم انبرى حبيبي السابق لي بصوت جهوري:
- هذه المتحدثة كانت حبيبتي وقد حملت سفاحاً، ثم التفت نحوي..
- أين ابني؟
اضطربت وكدتُ أقع على الأرض من هول المفاجأة، زملاء حبيبي صاروا يهتفون "مريم حامل.. مريم حامل، مريم عاهرة.." تصدى لهم جلال ورفاقه، انسللت بكآبة إلى البيت، أداري نفسي من الفضيحة بالاختباء عن الأعين، أنت تدري الوسط الطلابي، تنتقل فيه الإشاعة كما تنتقل برقية تتحدث عن انقلاب عسكري بين وكالات الإنباء، آه من تلك الأيام. سأحاول أن أكون حيادية قدر الإمكان في حديثي عن جلال الذي اشتهر باسم الفيلاني، كان هو رئيسي، أشهد الله انه كان حريصاً على الواجبات الدينية، وكان أحيانا أذهب معه إلى بائع عروق محبة وطلاسم أخرى يزعم أنها تجلب الحظ وتبعد الشر والحسد عن الإنسان، كنت أرى فرحاً غريباً حين يلتقيان، يهمسان ويدخلان غرفة كئيبة، لا أدري ماذا يحدث بينهما ولم أسأل الفيلاني عن ذاك الرجل، ولكن بعدما تعرّفت بزوجته فاطمة جلال أخبرتني أن تلك العلاقة علاقة مشبوهة، وأعجبني في جلال أن له ميول أدبية، وقوته الجسمانية أستعملها لحمايتي مرات عديدة، كما يحب مناداته بالمفكر، في اجتماع لخليتنا اقترح بعضنا فكرة زواج جماعي حتى نكون أسر نموذجية، تحمست لها وبدأت الاستعداد لأول زواج جماعي، واقترح على أن أبدأ بتسجيل اسمي، وقد فعلت، في نفس الليلة اخبروني أن الفيلاني اخبرهم بنيته تسجيل أسمه كزوج لي، لم أمانع قلت ليس فيه ما يرفض، هكذا تم زواجي بالفيلاني النجس، كان زواجاً جماعياً لأكثر من مائة شاب وشابة بالجامعة، أقيم الاحتفال بإستاد الخرطوم، أذكر ذلك اليوم جيداً، أبي رفض الحضور، وأمي رأت في طريقة زواجي فضيحة، المهم تم زواجنا، قبل خروجنا أتي بعض الزملاء للتهنئة، رأيت الفيلاني متوتراً كلما صافحت أحدهم، المهم خرجنا عند باب الأستاذ وكنا متماسكين الأيادي... جذب يده مني قائلاً:
- إلى أين نذهب؟
قلت له بفرح حقيقي:
- إلى بيتنا أو بيتكم!
قال بصوت خفيض:
- بيتنا لا تدخله عاهرات!!!
اندهشت وسألته:
- ماذا قلت؟
قال وهو يخفي اضطرابه..
- تذكرت قصة صديقين تعودا السكر يومياً بمنزل الأول ولنُسمّه حسن، وكانت لحسن عادة قريبة وهي كلما انتصف الليل طرد صديقه: أخرج..اخرج، تكررت العادة عدة مرات، أراد الصديق الآخر أن يسكر حسن معه ببيته وهذا ما حدث وحين انتصف الليل صاح حسن في صديقه..
- أخرج من بيتي!
رد عليه الصديق:
- هذا بيتي وليس بيتك ياحسن!
وحسن يصر على الطرد، فما كان من الصديق إلا أن ذهب إلى الغرفة الأخرى وأحضر زوجته وقال لحسن:
- لتقتنع إن هذا بيتي فهاهي زوجتي...
هنا صاح حسن:
- وأيضاً تحضر العاهرات إلى بيتي..
حين أنهى الفيلاني حكاية صاحبيه قرقرت بضحكة صافية وهي الضحكة الوحيدة التي مرت عبر شفاهي... أكملت ضحكة السعادة وحين التفت نحو جلال لم أجده... تلفت أبحث عنه وأنا بملابس الزواج، جلست كما أذكر على حجر أنتظر، حتى كاد الليل أن ينقضي ولم يظهر، صرت وحيدة واضعة رأسي بين يدي أفكر، وسط تعليقات تصك أذني من العابرين، أين أختفي؟ ولماذا احتفي؟ لم يجدها عذراء! وذهني يستحضر تصرفات الفيلاني منذ أن عرفته، تذكرت جملة قالها ذات مرة عن احدى زميلاتنا ضحكت بصوت مرتفع.. ارتفاع ضحكة الأنثى تدل على أنها بذلت جسدها لرجال كثر!!
حاججته..
- ليس كل امرأة تضحك لها تجارب.
قال بحسم:
- أنا لا أتزوج امرأة تضحك بصوت مرتفع!
هنا تذكرت ضحكتي لقصة صاحبيه فعلمت أنه اختفى بسببها... زرفت تلك اللحظة دمعاً غزيراً، ورأسي يضج، كيف أقابل أهلي، وماذا يقول عني الناس، فكرت كثيراً، ولم أجد أمامي سوى الذهاب لأهلي، وهذا ما حدث، حملت انكساري وذهبت إلى منزلنا كانت طامة عند أبي، وأمي رغم فرحتها بعودتي وحيدة انهالت على ببكائية حزينة، المهم مضت أيام ولم يظهر الفيلاني، فازداد تأزمي، وأمي تلح على طلاقي منه قلت لها هذه رغبتي، لكن أين أجده؟ بحثنا عنه في كل مكان، أحياناً نسمع انه أغترب، ومرات يأتي من يتبرع لنا بمعلومة أنه شاهد الفيلاني وقد تزوج، وذات مرة قرأت له موضوع بصحيفة ثقافية، كلمات كلها طلاسم، لم أفهم سوى صورة الفيلاني وتعليق الصحيفة أنه مفكر سوداني، ذهبت إلى مقر تلك الصحيفة أسأل عنه... فعلمت أنه يأتي في أوقات متباعدة، فرحتُ أبحث عنه في المنتديات الثقافية، لأنه يبشر بنظريته عن التراب وأثره في الثقافة بتلك المنتديات، وأخبروني أنه اليوم مساء سيكون بمنتدى بأمد رمان، ذهبت لذلك المنتدى فعلمت أنهم طردوه، عدت إلى البيت ولزمته، وحالتي تسوء يومياً، أنقذني أبي حين ألحقني بوظيفة معلمة بمدينة كوستي، جئت إليها.. لكن هل انتهى مسلسل الفيلاني؟ ياليته انتهى، أخبرتني أمي وأنا هنا بكوستي، إنه أتاها يطلبني بحسبان أنها زوجته، وحكت لي القصة الآتية:
- ذات صباح أتاني رجل والشيب يغطي شعر رأسه وله أرداف متدلية وقال لي:
- أنا زوج مريم!!
قلت له:
- هل أنت جلال؟
انتفض
- أنا لست جلال أنا الفيلاني..
قلت له:
- مريم زوجها اسمه جلال جيب الله ونحن نريده المعلون...
لم يرد على واختفى عن نظري، قلت إنه أحد المجانين... ولأن أمي لا تعرف أن جلال اسمه الفيلاني وافقت على وصف من أتاها بالمجنون.هل اكتفى الفيلاني؟ إن شروره لاتنتهي، كثرت زياراته لأمي بصور شتي في منتصف الليل، وفجراً، مما حدا بي لزيارتها والاطمئنان عليها، كيف علم الفيلاني بحضوري إلى الخرطوم؟ لحظة دخولي البيت، دفع الباب شلة من الرجال الملثمون، يصيحون:
- أين مريم؟ أين العاهرة؟
لم تتحمل أمي الصدمة مما سمعت فأغشي عليها، أقترب مني احدهم:
- أنت مريم؟
قلت له:
- نعم، ماذا تريدون مني؟
جذبني بعنف كاد يخلع يدي..
- هيا أمامي إلى زوجك!
بقوة قادوني معهم في سيارة إلى مكتب بقلب الخرطوم، أدخلوني غرفة، وأغلقوها كان بالغرفة سرير، بعد خروجهم دخل شيخ أبكر وخلفه الفيلاني ببسمته الكريهة..
- أهلا يا زوجتي!!
قلت له منفعلة:
- أريد قسيمتي ياالفيلاني!
زادت بسمته..
- مازلت تحفظين اسمي، ماشاء الله!!
ومضى يقول:
- كيف حفظت اسمي ولم تحفظي شرفك ياعاهرة!!
صمت وجسمي يرتجف، اقترب مني، قائلاً:
- أنا المفكر الوحيد في هذه البلاد ونظريتي عن الثقافة سرقوها مني كما سرقوا شرفك، وأود أن أخبرك ليست لدي رغبة فيك وسأمنحك قسيمتك فقط إذا وافقت أمك أن أتزوجها لمدة يوم واحد!!!
انشطر عقلي وأيقنت من جنون الفيلاني، قلت له:
- أمي تجاوزت العقد السادس كيف تريد أن تتزوجها؟
رد علي:
- أمي في عمر أمك حين تزوجها أبي، أرفض أن تقولين أنني أبن لقيط، أنا جلال جيب الله وأمي فاطمة الحلبية...
وانطلق يُقهقه بصوته الكريه، أنهى قهقهته الهستيرية واقترب مني..
- لن أمسك بسوء فقط أريد أمك..
- قلت لماذا أمي؟
أجابني:
- لأني مفكر أحب أن أختلف عن الآخرين...
في أثناء حديثه انفتح الباب ودخلت نفس الشلة يقودون أمي، كانت بحالة يرثى لها، حين رأتني حضنتني وهي تترجى في الفيلاني:
- ياولدي أرحمنا، نحن عملنا ليك شنو؟ لوتود زوجتك بسنة الله تعال تم زواجك!!!
صاح فيها:
- أصمتي، أريد إن أتزوجك أنت وبهذا أكون تزوجت البنت وأمها!
فتحت أمي فمها بدهشة ويدها دقت صدرها، وقالت:
- هذا الحديث لا يرضاه الله ولا يرضاه الرسول!!
ضحك الفيلاني:
- بل أرضاه أنا!
تدخلت أنا وقلت:
- أعطينا فرصة نفكر!
رفض قائلاً:
- الآن أنتما زوجاتي!!!
ردت أمي بانكسار
- خلاص وافقنا!!
ضحك وقال وهو يرفع جلابيته ويكشف عن عورته...
- انظرن له إنه نائم لا يقدر عليكن لذا سامحتكن، ولكن شيخي سيقوم باللازم!!!
في هذه اللحظة ظهر لنا شيخ أبكر تنحنح وخاطبني:
- أنا بقدر عليك أنت وأمك!
كانت دهشتي عظيمة حين شاهدت شيخ أكبر يقف أمامي ويتفوه بكلماته البذيئة التي اختلطت بضحكات الحضور، أمي أغمي عليها فانهارت فاقدة الوعي، انحنيت فوقها أصيح..أمي.. أمي.. بصعوبة حملتها فوق كتفي، هذه اللحظة صاح جلال في جماعته وقال لهم وهو يفتعل التأثر:
- ارجعوهن إلى البيت..
حملت أمي وخرجت، طلب مني الشبان الركوب معهم في العربة لتوصيلنا، كدت أرفض ولكن إرهاقي وأمي كجثة على ظهري رضخت لهم.. (في الطريق تذكرت قصة في التاريخ تروى عن الشيخ فرح ود تكتوك حلال المشبوك أنّ أحد الملوك لديه بنت جميلة وأراد الزواج بها وطلب فتوى من الشيخ فرح فقال الشيخ لرسل الملك: قولوا للملك تيرا ود الخادم العويرا زوجت ليك بنتك الكبيرا على سنة البغال والحميرا)... أعادوني وأمي إلى البيت وانقطعت إخبار الفيلاني ومازالت قسيمة زواجي بطرفه ولا أريدها....
مريم محمد
أنهيت قراءتي كراسة مريم، وضعتها بحرص داخل حقيبتي، وغادرت كوستي إلى الخرطوم. آليت على نفسي غسل ذاكرتي من الفيلاني طوال رحلة العودة، كلما طلت ذكراه نفضتها بسرعة.

الفصل العاشر
عدت من كوستي غانماً، لم تخيب فاطمة ظني، راودتني رغبة لزيارتها وشكرها، لكن الرغبة لم يكتمل نموها، وأدتها في تشرنقها، يكفي ما جمعته من مادة تصلح للنشر، مكثت ببيتي أرتب في أوراقي، أخذت وقتاً طويلاً، داهمتني الملاريا، وهي نصيبي من كوستي، انتقاماً على التهامي سمك نيلها الأبيض، حمى الملاريا التي حلت بجسدي تختلف عن حمي أبو الطيب المتنبي التي تزوره مساءً، إنها تلتصق بجسدي كزواج كاثوليكي، يقولون معظم المجانين هم ضحايا الملاريا، حمى الملاريا جعلت الشخصيات تقفز من الأسطر وتصبح كائنات من لحم ودم وعاطفة، كانت تحضر في أوقات مختلفة، أبدرها طيف آدم، يجيئني قصيرا دميماً يتلو قصائده، بعدها يأتي حسين يحمل حقيبته ويده تضم يد القاص الباهت، أمّا المناضل الملحد فكنت أشاهد طيفه ملتصقاً بجسد كاتب قصص الأطفال، عاريين، سليمان السجمان أراه يبكي وينتحب وياسين يمسح في دموعه، أمّا زوجات الفيلاني كنت أشاهدهن يحمل هراوات يضرب بها الفيلاني وهو يصيح، ولكني توقفت عند طيف محاسن يأتيني فارداً يديه فوق مبني الكعبة المشرفة، وأرى المقهى الكبير وقد تحول إلى حديقة غناء بها شقشقة العصافير وهديل القمري ونوح البلوم، طيف حنان أراه بصورة أستاذة تحاضر طالبات كلية علمية.
أحاول طرد الأطياف بقراءة آية قرآنية، أتعوذ وأبسمل فيأتي طيف شيخ أبكر، أسرع في القراءة، يقطعها طيف جارنا أسامة، أهرب منه لحديث أبي:
- لا تقرأ القرآن وأنت نجس، أطوي المصحف وأضعه بجواري، أمسك القلم لأكتب، كلما كتبت سطراً عادت أطياف الشخصيات، وأحاول أن أقبضها بكفي الممدودة نحوها لكنها تختفي، باستثناء طيف الفيلاني كان يبتعد قليلا عن يدي الممدودة كان يأتيني بشكل مؤخرة كبري كمتاهة، يلفظ خراء نتن الرائحة، يقذف الخراء كتلة أثر كتلة تراكمت الكُتل بهيئة جبل أسود على هامته طيور لها مخالب من لهب، كدت أصرخ من بشاعة ما أرى، تأتي صورة محاسن فتذوب الجبال وتنمو مكانها إزهار عطرية، تقطف حنان احدى الزهرات وتضعها على انفي استنشقتها، فتختفي الحمى، تعوّذت جلست أكتب، كلما سجلت سطراً عادت الحمى لصهيونيتها فتحتل جسدي، وتحولني إلى فلسطيني، ورغم ذلك مكثت بمحبسي لا أغادره، مرت أيام، لسبب لا أدريه انقطعت عني الملاريا أخذت أطفالها، الهلوسة، والحمى، وغابت، قطعت انقطاعي عن الناس وهجرت محبسي الإرادي وخرجت، قادتني الظروف إلى مدينة أم درمان، تذكرت حاجة محاسن وقررت زيارتهما، لأعرف إخبارها وإخبار حنان، ولأسباب أخرى لا داعي للإفصاح عنها، ليس الجنس من بينها، كيف لرجل كهل التفكير في الجنس؟ ذهبت إلى الحي حيت يوجد منزلها، انطلق ذهني يستحضر سنوات بعيدة وأنا أسير نحو منزل حاجه محاسن، معالم الطريق تغيرت، كما تغيرت أنا، آه ما أجمل أيام الصبا، ذهبت برونقها وأتي بعدها بياض الشعر واحدودب الظهر وكل البصر، وتساقط من الذاكرة شقاوة الشباب. حين وصولي إلى منزل حاجه محاسن،وقفت إمامه،أسترجع أحاديث كثيرة عن المومسات، وأقارنها بأخلاق حنان التي رفضت ثمن ليلتي معها، وحواء العاهرة هي معلمة الجنس لأبناء حينا، نحن ندين لها بفك طلاسم الكبار عن الجنس، وحاجة محاسن كيف انتقلت من التفريط في الدين إلى الإفراط في التدين، خرجت بنتيجة أننا نطلق الأوصاف والنعوت ونحن نجهل أسرار الحياة، قبل أن اطرق الباب تساءلت ربما تكون حاجة محاسن رحلت إلى مكان آخر، آثرتُ الانتظار، رأيت شيخاً عجوزاً يجلس أمام باب المنزل، أصلع الرأس، يتكيءُ على عصاه، يكاد يغفو في جلسته تلك، بين الفينة والأخرى ينش الذباب، حين يسمع حركة يلتفت نحو مصدرها ويعود لحالته، انتظرت أراقب بحرص بخيل، خرجت شابة من المنزل يكاد جسدها يخلو من الملابس، ناولته طعاماً، بيد مرتجفة أستلمه منها، وضع الإناء على الأرض، وصار يلتهم فيه كان يأكل بطريقة بشعة، يملا كلتا يديه بالطعام ويحشره بفمه، تساقطت قطع على الأرض، شاهدته يجمعها ويعيدها إلى الإناء، انتظرته حتى أنهى طعامه، مسح وجهه بيديه باتساخهما، دنوت منه، سمعته ينف ويتجشأ، اعتقل دهشتي حين بال، كان البول يتسرب عبر ملابسه، تعوذت وقررت الابتعاد، في هذه اللحظة رأيت فتاة تخرج وتقف عند باب المنزل معها رجل، تبادلا كلمات وتهامسا، وحركا جسديها بطريقة أكدت ظني، ابتعد الرجل وعادت الفتاة إلى داخل المنزل، ارتفع يقيني وقلت هذا منزل حاجة محاسن ولابد، تقدمت بخطوات بطيئة، اقتربت من الكهل، رميت عليه التحية، لم ينبث ببنت شفه، حرك وجهه نحوي وعاد لاتكاءته على العصاة، قلت في نفسي ربما بأذنه وقر، رفعت صوتي بالتحية، وكأني أخاطب صخرة، اقتربت منه أكثر لطمتني رائحة زنخة تنبعث منه، تحركت نحو الباب، نظرت خلال ثقب، فشاهدت فتيات عاريات كاسيات ورجال يتمايلون في مشيتهم، أيقنت إن هذا مقصدي، طرقت الباب، فتحت لي شابة الباب دنوت برأسي نحوها وسألتها بوقار:
- هل هذا منزل حاجة محاسن؟ وهل هي موجودة؟
ضحكت بخلاعة ووضعت يدها على وسطها وهزّته..
- نعم هذا منزل حاجة محاسن، هل تريدها أم تريدني أنا؟
تمعنت فيها، فتاة لاتتجاوز العقد الثالث من عمرها، لو عاد لي الشباب لأجبتها..
- جئت من أجلك...
نفس الجملة التي قلتها لحنان..
أجبت الفتاة
- أريد الحاجة وحنان!
مسحتني بنظرة من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، أطالت النظر في جيبي، قالت لي:
- هل أنت قريبهما؟
قلت لها:
- بل زبون قديم!
- ادخل!!
تبعتها، قادتني كما قادتني حنان سابقاً، مررنا بغرفة حنان فسألت الفتاة:
- هذه غرفة حنان؟
قالت وهي تمشي أمامي..
- غرفتي أنا، حنان مع حاجة محاسن بغرفتها..
صمت وتبعت الفتاة، وقفت أمام غرفة حاجة محاسن ونادت
- حنان عندك زبون!
أطلت حنان برأسها عبر النافذة، التقت أعيننا، نفس الوجه بوجنتيه، شعرها تخلله بياض، لم تعرفني، دنوت منها..
- جئت لأقودك إلى القضارف!
برهة رأيت عينيها تشعان وتومضان..
- هل أنت هو؟
قلت:
- نعم ياحنان!
أعادت رأسها لداخل الغرفة وظهرت عبر الباب..
- مرحب بك تفضل، حاجة محاسن تصلي، أدخل..
دخلت جاءت لي حنان بماء بارد، وأجلستني بالقرب منها على السرير، نفس الغرفة التي قابلت بها حاجة محاسن، لم يشملها التغيير الذي هجم على جسد حنان وجسدي وجسد حاجة محاسن، كانت حاجة محاسن تصلي، انتهت حاجة محاسن من صلاتها، اقتربت حنان منها وأسندتها لتجلس على السرير، بعد جلوسها وضعت المسبحة جانبها، وسالت حنان بصوتٍ واهنٍ...
- قلت شنو؟
رددت أنا قبل حنان:
- أنا من الشلة بالمقهى الكبير!
أجابتني:
- أهلاً، نظري ضعف!!
ثم سألتني:
- هل قابلت الفيلاني؟
قلت لها:
- لم أبحث عنه!!
تدخلت حنان
- كيف لم تقابله؟ كيف دخلت؟ إنه جالس بالخارج أمام الباب!!
اتسعت حدقتي وارتجف جسدي..
- ماذا تقولين ياحنان؟
قلت لك:
- الفيلاني خارج الباب..
حاولت النهوض لأخرج، أمسكتني حنان من يدي
- اجلس حتى نكرمك!
قلت لها:
- أود أن أتحدث مع الفيلاني!
أطلقت ضحكة...
- إنه لايسمع، عائش في دنيا أخرى!!
ومضت تقص عليّ
- كان يحمينا ويحضر لنا الزبائن، حينما كان في السلطة، ولكنهم رفدوه، وتخلصوا منه، وكبر في السن، جاء لحاجة محاسن، يطلب المساعدة، وطبعاً أنت تعلم أنها لا تنسى العُشرة، عينته خفيراً في الليل، وطبعاً نظره ضعف وجسده تهالك، لاينفع ولا يضر! ذهبت قوته السابقة وبطشه، وصار حتى أطفال الحي يهزئون به، ويحصبونه بالحجارة، ويصيحون فيه الترزي جاء، لا أعرف كيف عرف الأطفال قصة الترزي؟ كان ينتفض فيهم ويحاول أن يركض خلفهم ولكن قوته تخونه...
حين أنهت حنان حديثها، كانت حاجة محاسن قد دخلت في اغماءة، نظرت لها وعقلي يستحضر تاريخها، سبحان الله، هل ظلمناها كما قال آدم؟ أم كلنا مظاليم؟ تحركت إلى الخارج لأرى الفيلاني، وجدته يلحس في صحن الطعام والذباب اتخذ صلعته مطاراً، وقفت أنظر فيه واستحضر تاريخه الأسود، شعر رأسه تساقط وكرشه تدلت أمامه وردفه ترهّل خلفه، نادينه الفيلاني، جلال، رفع رأسه ونظر لي، وجهه صار كقربة ماء، والعينين غارتا، لحقت بي حنان وقالت:
- لا تتعب نفسك هو الآن في دنيا أخرى!
عدت معها إلى الداخل وهي تثرثر عن مصير الفيلاني، قاطعتها
- كيف تعرفت به أنتِ يا حنان؟
تنهدت وقالت:
- لا تسألني كيف جئت إلى هنا كيف؟ المهم جئت!!
كما قلت لك كان الفيلاني يأتي كل يوم خميس ومعه الشيخ يدخلان غرفة محاسن يقضيان ساعة وساعتين، لكن أول مرة أقابله جاء كما جئت أنت، حاولت أن أقوده لغرفتي كزبون، تراجع مني إلى الخلف وقال كلمات لم أفهمها، كانت الحروف تخرج من منخاريه، أنقذت الموقف محاسن قائلة:
- حنان أبعدي عن سيادته..
ونادته..
- الفيلاني تعال هنا، أين رفيقك؟
بذات الصوت الذي لايبين قال لها:
- هرب مني ولكن من هذه؟ أريدها هي!!!
ضحكت محاسن وقالت له:
- خلاص من خلف إلى أمام؟
طنطن...
- فقط أريدها!!
نادتني محاسن:
- ياحنان ريّحي سعادته...
وهمست لي:
- لا تطمعي فيه ليس به شيئ!
دخلت أنا والفيلاني الى غرفتي أحضرت لنا محاسن شراباً قائلة:
- هذا لسعادته!!!
تناول الفيلاني الزجاجة وشرب منها، وناولني، تمنعت لم يقسم أو يصر إنما شربها لوحده ووضعها فارغة على الطاولة ونام على بطنه يشخر، نهضت وتحركت إلى غرفة محاسن وأخبرتها قالت:
- مسكين دعيه ينام...
عدت لأنام قربه، أبعدني بيده، جلست بالسرير الآخر، سمعته يكلم نفسه بصوت عالٍ:
- أنا تعس، أنا شقي، ولدت لحظة الانقلاب العسكري الأول ودخلت المدرسة لحظة الانقلاب الثاني وتخرجت مع الانقلاب الثالث.. أمّا الترزي، صار يردد في كلمة الترزي مرات عديدة، وأنا كأنما مسني شيطان جلست صامته أتعجب، وهو يكلم نفسه فجأة كثور هب وجلس على السرير يبكي بحرقة، حتي أشفقت عليه، وطلبت منه أن يكف عن البكاء، ويقص على مايعانيه، خلع ملابسه وأصبح عارياً، وعاد إلى رقدته على بطنه ثانية، وضع يديه على مؤخرته وقال لي:
- ادخلي هذه الزجاجة هنا!
وأشارا الى مؤخرته، أطعته وحملت الزجاجة، كانت من الصنف الكبير، قلت له:
- إنها كبيرة سعادتك!
قال:
- أدخليها وهزيها...
حين دنوت منه همس:
- حق الترزي أكبر منها!
أدخلت الزجاجة وصرت أدخلها وأخرجها مراراً... حتى كلت يداي قلت له:
- هل أخرجها؟
صاح:
- لا... لا دعيها!!
تركت الزجاجة معلقه بين إليته ونمت، عند الفجر نهض الفيلاني، اخرج الزجاجة وشمها وقال:
- إنها مقدسه احفظيها أراحتني تماماً!!!
وبعد ذلك حكى عن نفسه، إنه مفكر كبير، وأنه صاحب نظرية أدبية وسياسية، وطلب مني أن أجمع الفتيات لأمر هام، عملت ما طلبه مني جاءت جميع الفتيات إلى غرفتي، أجلسهن الفيلاني، وبدأ يحاضرهن عن نظريته، قوبل باستهزاء وسخرية، خرجت الفتيات وصرت وحدي أستمع لنظريته التي لا أفهمها في الأيام التالية تحول الفيلاني لشخص آخر لئيم قاسي القلب، لا تعرف الرحمة طريقاً إلى قلبه، تخيل: اعتقلني بمكتبه وصوّرني عارية وهددني!!! وقال لي:
- لو تركت هذا المنزل سترين!!!
صمتت وأنا أحثها على الكلام، بعد فترة قطعت صمتها وقالت:
- اعذرني لا أستطيع الحديث أكثر من ذلك!!
قلت لها:
- هذا يكفي ياحنان!!
ودعتها وخرجت من منزل حاجة محاسن التي كانت تغط في نوم عميق، عند الباب وجدت الفيلاني بجلسته نظرت أتمعّن فيه، رأسه تساقط عن الشعر، عنقه بها طيات، يديه صارتا كجلد تمساح، راودتني رغبة في مخاطبته، صرت أنادي:
- الفيلاني، العميد، جلال!!!
لم يستجب لندائي، فكرة ماكرة احتلت فمي فقلت:
- علي الترزي!!
ارتجف جسد الفيلاني ويديه عادتا لمؤخرته، وجدت نفسي أقول، سبحان الله، ومضيت أردد قول حاجة محاسن يغفر الله للفيلاني إنه أصيب في شبابه برجلٍ لئيم، شوّه روحه، وأراد أنْ ينتقم من الجميع.

30يونيو 2011 محمد خير عبدا لله
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

أستاذي محمد خير عبدالله
لك التحية والتجلة .. وصبحك الله بالخير
عدت بعد غربة لراكوبتي الحبيبة أتفقد رائحة مدادك بين السطور حتى أسرتني بروايتك أو سيرة مبعثرة بدواخلها سير كثيرة لا أظن لحظة أو أشك أنها من بنات الأفكار .. بل هي حقيقة كثير من المهمشن في بلد يلفظ أبناءه ويلوك الآخرين منهم . أستاذي محمد ألا تكف شهرزادك عن الكلام المباح وغير المباح؟ فقد أدركني الصباح وأنا ما أزال متسمراً صوب هذه الرواية المفعمة بشتى المرارات لواقعٍ ربما لا يفقه الكثيرون عنه شيئاً وإن كان منفراً ومراً ..
أخالفك الرأي عزيزي في قذارتها إن كنت تعنيها لفظياً ولكن أوافقك في قذارة حقيقتها ومضمونها الذي - ويا للأسف - هو من الحقيقة بمكان ..
أكتب لك الآن وقد شارف الصبح على الولوج بيد أني لم أكملها مع وعدي بالعودة فقد أكملت للتو خمسة فصول منها .. إن كتب الله لي عمراً
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

الجميل منصر، تعليقاتك الرحيبة كمحيط صارت بوصلة لكتاباتي/ كنت أظن وكثير من الظن خير/ ان ذاكرتي المليئة بجراثيم ومحبطات لن تجد من يقف عندها، جزالك الله كل خير أصدقك انا لا اكتب بل تكتبني الكتابة لقد قلت للأصدقاء الآن اكتب في رواية دينينة وعند نهايتها أصبحت لا دينينة ، المهم ياجميل كاذي أذا قلت لم تعجبني تعليقاتك، ولك مودتي
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

لكل القراء شكري فقط كنت اتمني تعليقاتكم حتي أستفيد منها في كتاباتي القادمة
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

قرأت ماكتبت أراك دلقت مدادك.. فيما ينفر من كتاباتك، بين الأدب والفسوق خيط رفيع..أدب حائط المرحاض.. قذارة انغمس فيها قلمك.. وفوق ذلك لا أنكر أنك أديب بارع وولك نفس الرواية ومستقبلها ومهارتك السردية لاتخفى.. لكنك تهدرها بقذارة! يمكن أن تصوغ أحداث نصوصك بمفردات عالية الجودة ووسامية المعنى.. دون اللجوء إلى الاسفاف فاللغة العربية فى أحشائها الدر كامن. لقد فرغت من قراءة رواية الؤلؤة لللأديب الحائز على نوبل جون شتاينبيك..لذلك فشلت تماما فى هضم نهجك الذى تكتب به عن الغرائز وتقحمها داخل النص اقحاما فيفقد بنائه ويثير الغثيان.. بعتذر منك ولكن هذا ماشعرت به فى روايتك..استخدم المفردة الرفيعة فى نصوصك تجد نفسك فى صفوف الأولى مع الكتاب والأدباء المبدعين..وفقك الله
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

وددت تسجيل حضوري هنا الى حين اكمال قراءة هذا العمل الروائي المتفرد .


------------------------------------------
لي عودة مؤكدة ببعض الملاحظات ..
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

لقد كتب فى العنوان رواية قذرة ..
وكرر وأكد على قذارتها .. من أراد فاليدخل .. ومن يكره القذارة والروايات ذات الروائح النتنة فاليبتعد ..
يا لذكاء الكاتب ويا لصراحته حد الوقاحة لتخرج لنا عملاً أدبياً لا تعرف تضحك أو تبكى أو تتمنى أن يصيبك الزكام ..
وهنا روعتها ....
لأنها لا تشبه كل الروايات ولأنها لم تجد قلماً أحمراً ليحذف كلمات أو ينقى أخرى أو يضيف
فهل كان عليه ان يضيف لأعلان قذرة .. ممنوع دخول المهذبين وكل مصاب بأزمة الأدب النظيف ..
حتى لا يتغلغل القارئ المهذب فى الكلمات ويعرف المعنى من وراء القذارة ليلطخ داخله قبل ان يتلطخ بمداد حبر ملفوف {بأوراق المرحاض}
وحتى لا تتهيّج أذمة الأدب النظيف فتسعل وتخرج من فمها طعم بلغم الكلمات النافرة

ظللت أقرأ كل ساعة جزء .. وأخرج لأتنفس الهواء وأعود .. حتى اكتملت
ورغم النشاذ الا ان ما يحتويه من كلام هو واقع غير مغلف بورق السولفان ولا عرف الغسيل اليه طريقاً ..
انها رواية خاااام فتح كاتبها قلبه وعقله ولسانه على مصرعيه ولم يخيطها بحروف الخجل ولا العرف الأدبى للكتب المعروفة لدينا
وهنا تفردها ..
رواية قذرة صحيح ولكنها رائعة لدرجة القذارة نفسها ...
النقد جميل .. والمقارنة ليس معناها سقوط الجديد ولا انهزام الكلمات
تحياتى محمد خير عبدالله ..
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

شكرا لجميع التعليقات والمعلقين ويبدو اني سا ستفيد منها كثيرأ، تحياتي لكل من اطلع، ربما بالرواية لكامت قذرة وهي عن قصد كما قال الشاعر حميد/ كت بذيئاً مع مايو قدر بذائتها مع الشعب السوداني
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

عزيزي منصور انا في انتظار تعليقك بعد الفصل الخام الذي وقفت عنده لأنني فرغت من كتابة رواية اكثربذاءةقبل نشرها اود رايك في هذه السيرة القذرة
 
رد: سيرة قذرة( رواية قذرة جدا جدا

الرواية من اجمل ما قرأت وتدل على عبقرية الكاتب والهامه في تحدثت عن واقع قذر مسكوت عنه لشخصيات سيطرت على السودان من عالمها السفلى المنحط لكن لدي بعض التحفظات ليس فقط بسبب قذارة الالفاظ المستخدة التي قد يرى الكاتب انها ضرورة فرضها واقع الرواية وانما باسباب اخرى ايضا .
ارجو ان يسمح الكاتب بالتواصل عبر البريد او اي طريقة يراها مناسبة
لك الف تحية استاذ محمد خير
 
سملت يمناك محمد خير وخضر الله يراعك .
حقيقه ادهاش حد الروعة وروايه تستحق النشر على اعلى المستويات .
اتمنى ان تسمح لي بفتح بوست اخر بنفس الاسم وبنفس التفاصيل فقط لتكبير الخط وتفصيل الاجزاء ليكون كل جزء منفصل تحت الاخر حتى تسهل القراءه والمتابعه ( النظارات تعبانه معانا )
كل الود وعاطر التحايا .
 
الأستاذ الجليل محمد خير عبد االه: أرجو أن تكون موفور الصحة والعافية، وقلمك ما زال مشرعاً ومدادك لم يجف
أتذكر ؟ منذ عشرة أعوام وعدتك بالعودة إلى روايتك وها أنا أوفي بوعدي (أن تأتي متأخراً)،،،
صدقني لقد لعبت بي الحياة ولم تكل عن ركلي طوال هذه السنون التي ربما أعيت يوسف الصديق عن تفسير كوابيسها، ولا أكذب عليك فقد نادمتها أياماً علها تسكر وتلهو عني، ولكنها كانت يوماً عن يومٍ تزداد نتانةً وبؤساً ،،،
والآن في محاولة بائسة مني للعودة قمت بطباعة روايتك ومحاولة تناولها من جديد، وربما أعود مرةً أخرى لأكتب لك، ربما بعد عشرٍ أُخر إن كان في العمر من أخريات ...
أتمنى أن تصلك حروفي هذه ولو بعد حين ...
دم بخير ...........
 
أعلى أسفل