ثم يحضر البكاء

عبد الناصر ميرغني

:: كاتب نشـــط::

لم يكن الضجيج الصادر عن الرجال -المتشرذمين في مجموعات غير متناسقة تترامى على طول الشارع الضيق- يتناسب مع الحدث الذي يهيئون المكان له , بدأت الخيمة التي تُنصب تأخذ شكلها شيئا فشيئا , وبكاء النساء في داخل بيتنا يتصاعد تدريجيا , وزادت المهام التي أكلف بها ؛ لجلب بعض الأشياء من الجيران , أو لإبلاغ الخبر إلى من لم يحضر بعد أو لم يَسمع به , وللمساعدة في بعض المهام المنزلية , كنت أسلك أطول الطرق , وأتوقف للعب مع الرفاق في كل مشوار .
انتشيت لهذه الحركة النشطة التي كسرت جمود ورتابة بيتنا وشارعنا , اختفى أبي وعمي وجارنا "محمود" , ذهبوا - كما فهمت من حديث بعضهم - لإحضار الجثمان , كان الشباب من الأقارب والجيران يعملون في نصب خيمة العزاء , بينما الشيوخ الجالسون في ظلال أسوار البيوت , أو تحت شجرة "النيم" يتبادلون - في أحاديث أقرب إلى المسامرة- موضوع الموت , والفناء , والبعث والحساب , بينما الشباب يمسحون العرق في ضيق وتبرم والسجائر موضوعة في جوانب أفواههم, كنت أنحشر بين هؤلاء وأولئك , غير مبال بالزجر حين يزجرونني , ومنتفخا بالتكليفات السخيفة التي كانوا يكلفونني بها أحيانا .
عند دخول الجثمان إلى البيت تصاعد بكاء النساء بصورة هستيرية , دخلت مستطلعا فرأيت عيني أمي منتفختين وهي تنشج , فخرجت إلى الخيمة , وجلست على الأرض في أحد الأركان , وأتى أبي الذي كان طوال الوقت يتحرك دخولا وخروجا في حيرة وقلق , وجلس على كرسي في الجزء المسقوف من الخيمة , يدخن صامتا وقد طأطأ رأسه , التقت نظراتنا في إحدى المرات , فرأيت في عينيه المحمرتين انكسارا لم أعهده فيهما , وسحابتين تحلقان في سمائهما , كان يمص دخان سيجارته في ذهول , وينسى نفث الدخان , فيتصاعد سعاله , سارع بخفض عينيه , وأحسست بوخزة في صدري .
قبل سنتين , وبمجرد انتهاء عامي الدراسي الثاني , أخبرتني أمي أن أستعد ؛ لأني سأسافر إلى القرية بصحبة عمي ؛ لأرى جدي بناء على رغبته , كان السفر في الصحراء لثلاثة أيام ذهابا , ومثلها عودة تجربة رائعة , تلك التكوينات البديعة من الكثبان والرمال المتموجة والجبال المتناثرة , والوديان تفترشها كرات ثمار الحنظل , والشجيرات الشوكية , والصعود والنزول من الشاحنة مرارا وتكرارا عند المقاهي الصحراوية , وعند انغراز إطاراتها في الرمال , ثم مشهد الانحدار نزولا لمعانقة النيل مرة أخرى , والعبور إلى الجزيرة التي تغفو تحت ظلال النخيل في المركب الشراعي .
لكن الشهور الثلاثة التي قضيتها مع جدي كانت مربكة جدا , نظر إلى حين دخولي عليه أول مرة نظرة شرسة , وتحسسني كما يتحسس الشاري خروفا يشتريه للذبح , ومصمص فمه , ثم سألني مستنكرا : ألا يوجد لديكم ما تأكلونه هناك ؟ كانت مواقفه مني ومن ما يصدر عنى متناقضة تماما , كان يتبسط معي ويلاعبني , ويتهدج صوته في الحديث معي حنوا أحيانا , ويصرخ في ويشتد في القسوة في كثير من الأحيان , نسيت أكثر ما حدث بيني وبينه , ولكن بعض الصور ما زالت عالقة في خلفية الذاكرة المعتمة , أتذكر ركوبي على الحمار خلفه ذهابا إلى المدينة الريفية , والعودة بغنيمة من حلوى (الطحنية) وقصب السكر , وأتذكر (كورية) الحليب النيئ وصراخه في لإرغامي على شربه , ووجهه المتكدر , وتقيئي لِمَا شربته خلف سور المنزل , سألت جدتي عن ذلك , فتملصت حينا ثم تمتمت : ربما يكمن السبب الشبه الكبير بينك وبين أبيك . وأخبرتني ذات مرة أن هناك خلافا طال أمده بين أبي وجدي , وأنهما لم يتقابلا منذ عشر سنوات , وأن حضوري لزيارته كان جزءا من السعي في الإصلاح بينهما من بعض ذوي القربى .
سافر أبي إلى القرية قبل شهرين , وعاد بجدي مريضا , فلزم المستشفى وكانت أمي تمرضه , ذهبت لزيارته مرات بصحبة أبي , كان الصمت هو السائد في حضور أبي , وحينما يتركني معه ويغادر كان جدي يطلب مني الجلوس بجانبه , فأجلس على حافة السرير , ويداعب هو شعري أحيانا وأنا أكتب في كراستي أو أداعب لعبة ما , وكان يطلب مني أن أحكي له تفاصيل يومي , أو يسألني عن أشياء سبق وأن حدثته عنها , فهمت بطريقة ما أنه كان يريدني أن أملأ الفراغ بصوتي , في إحدى المرات التفت إليه فرأيت تلك النظرة المنكسرة التي رأيتها لاحقا في عيني أبي ودمعتين تجولان في عينيه .
رُفع الجثمان مع بكاء النساء المتصاعد , وانشغلت أنا بلعبة خدمة المعزين , غسل الأيدي وتقديم الشاي , وبعد يومين رفعت الخيمة وانصرف المعزون , وعاد إلى الشارع وإلى بيتنا الإيقاع الرتيب , مع شيء الحزن يهوم في المكان كسحابة خفيفة من الدخان .
تسللت في المساء إلى الغرفة المعتمة التي كان الجثمان مسجى فيها , كان الصمت حاضرا بقوة , وشيء ثقيل يسيطر على المكان , جلست ممسكا في يدي شيئا ما أقلبه , تذكرت ركوبي خلف جدي على الحمار , والحلوى (الطحنية) , وعيدان قصب السكر , وبدأت أشعر برائحته تعبق في المكان , وصورته تنبض عبر الغرفة , ونظرة الانكسار في عينيه , ثم أخذ قلبي يرتج بقوة , وبدأت الدموع تنساب من عيني , وأنا أنشج بصمت في الظلام .
جود دائم ‏17‏/12‏/2015
 
رد: ثم يحضر البكاء

يا إله السماء
أستاذي عبد الناصر
الموت في حضرتك له عبق ورائحة غير التي عهدناها
تلبسه ثياباً لا تليق الا بالعشاق فتجعلنا نعشق لعبة الموت التي جردتها ريشتك ولا أقول قلمك
أكثر ما شدني تقمصك العميق لشخصية الصبي كأنك وهبته لوحاً وفرشاة ليرسم صورةً يراها بعينيه البريئتين
دم بخيرٍ ولا انفض يراعك من مداد
 
رد: ثم يحضر البكاء

أخي منصور , تسلم أولا وأخيرا , وثانيا :هذا الولد تطؤه الدنيا كل يوم لا يريد أن يفارقني , أعاني من تغربه , ويعاني من تغربي , وتبقى هذه المنحدرات تقودنا لننغمس في الأحداث من داخل المشهد .. تحياتي أخي وكل مودتي ..
 
أعلى أسفل