الفصل العاشر من رواية جديدة (ظلال وريفة)

فيصل مصطفى

:: كاتب نشـــط::
08-29-2015 05:02 PM


#تناغم الأرواح# (10)

كان شارع النيل خلال سويعات الأصيل يسوده الهدوء بسبب خلوه من ضوضاء السابلة وضجيج السيارات
و ينعش جوه النسيم العليل
و قد غطت اشجار اللبخ الضخمة
من الجانبين باقترانها ببعض
سماء الشارع الطويل
فبدى كتعريشة مترامية الأطراف
يتمتشى تحت ظلالها الوريفة العشاق
من الوهلة الأولى أخذهما مشهد الطبيعة الساحر
و أمسك بتلابيبهما
فظل كل منهما ملتحماً بعالمه الخاص يجوس خلاله
و يكاد أن ينفصل عن الآخر
كأن من يسير بجانبه من المارة
الذين لا يربط بهم سوى الطريق ،
إنفتحت بوابة عالم "مرجانة" على سعتها
وتواردت الأسئلة الصارخة دون إنقطاع
ماذا فعل بها مجتمع العاصمة ؟...
هل سبرت غور الناس حولها ؟.... أم طوت أعرافهم و أساليبهم المتفرنجة كيانها البدوي !!؟...
كيف أدارت حياتها فيما مضى ؟....
هل كانت تعي كنه ما يحدث لها ؟...
متى استطاعت أن تدرك أهمية أن تكون فرداً فاعلاً في المجتمع ؟...
ما الدور الذي يمكن أن تلعبه مع "علياء" و بعلاقتها الوثيقة ب "الفاتح" ؟
كيف يمكن أن تقيم علاقة طبيعية به ؟
لماذا تذهب إلى مأواه دون إحتراز ؟
ألا يستهجن المجتمع هذا الفعل ؟
من أين أتتها كل هذه الجرأة و الجسارة ؟...
( فتاة بتول في وكر رجل أعزب )
هكذا كانت "علياء" تطرح عليها هذا السؤال !!!،،،،
ولكنها لا تبالي
إنها تفعل ما يحلو لها
ماذا تريد منها "علياء" أن تفعل ؟
أنها لا تقترح
لكنها توحي
غير أن "رمانة"
تتجاهل تلميحاتها
و تتوغل في المسير صوب هدف مجهول !!؟...
ربما غامض !!..
و الطريق يبدو بعيداً وقبض الريح
كمدائن السراب !!؟...
و ماذا في ذلك ؟...
ما أجمل مدائن السراب
الخيال المجنح
والأحلام الوردية
والأرواح الهائمة
في سديم لا نهائي
ما اسعدها بذلكَ !!...
"الفاتح سلمان" يقدم لها كل هذا
و هي معه
في معيته
بين جدران مأواه الأثير
تستشعر إنسجاماً
وتناغماً هارمونياً بين أرواحهما
ماذا بعد ؟...
أليس هذا بكافٍ ؟...
هذه منح و هبات
لا تنالها إلا المحظيات في بلاط الملوك و الأمراء !!؟؟....
الحياة ضنينة
كما خبرتها
لا تعطي الا بمقدار
وأحياناً تقبض يدها
وتصادر الهبات
ألم تعش هذا العنت و العناء
و ذل الحاجة في مواسم الجفاف
و حين يفيض النيل ويطمح
فيغمر القرى و المدن الصغيرة…
و تكف وسائل الانتقال عن الحركة
و تنقطع أسباب الحياة
و تظل مسقط الرأس
في عزلة موحشة
كرصيفاتها من القرى الأخرى
ما هذا الذي يحدث لها الآن ؟...
ما لها تثير كوامن النفس ؟...
هل أتت به إلى هنا
ليعيشا معاً هناءة الطبيعة و سحرها
أم لمحاكمة الذات و جلدها ؟...
ما أعجب الإنسان !!!...
لا شيء يرضيه
حاجته لا تنقصي
دوماً يظل يرفع سقف مطلوباته !!....
و يسعى حثيثاً لمزيد من الكسب ....
بالأمس حلمت بأبي
كان قوياً و متماسكاً
يضع يديه حولي
و يضمني إلى صدره في حنان بالغ
حكى لي عما يجده من آلام
في بعدي عنه ؟؟...
لسبب خوفه على مصيري
كان يظن أني لا زلت القروية الساذجة
التي لا قبل لها بدهاليز المدينة و أقبيتها
و ما يمكن أن يحدث لي في غابة الأسمنت هذه ؟...
و قبل أن أسكت هواجسه و أغلق باب مخاوفه ....
صحوتُ على صوت "علياء" وهي تستحثني على النهوض
للحاق بميعاد بدء اليوم الخيري الذي تقيمه جمعيتنا !!....
لم استطع أن أبدي إعتراضاً
لكني استشعرت حزناً جارفاً
لقلق أبي و توجسه
لا سيما و أن ذكرى رحيله لا زالت حية
لم تندمل جراحها بعد
هل كانت زيارة روح أبي في الحلم
مساندة لي في المضي قدماً فيما شرعت في السير فيه ؟؟...
أم نبوءة بمصير قاتم ؟
وقتها لم أعر الحلم إهتماماً
غير أني الآن
و أنا داخل هذا المشهد
و الحال يغني عن السؤال
أتلمس أشواق "الفاتح سلمان"
و أهفو لاشباعها عبر جسدي
بل عبر كياني كله روحاً و جسداً
كنت أترسم خطاه
رغم أني أسير في محاذاته
وقع الحافر على الحافر
تتوارد خواطرنا
و نقرأ دفقة الشعور
التي تصدر من كلينا
قبل التعبير عنها
أسبقه ؛؛؛؛
في تجسيد رغائبه
و يقود أزمة توقي المتأجج
أتوق إليه و أنا بين يديه
تهزني سعة رؤيته
و عباراته المؤجزة
في نقل فكرة ما
تنسرب أفكاره إلى وجداني
كالأخبار التي تثلج الصدر
يهتز كياني ويقشعر بدني
وهو يتحدث عن أشواقه النبيلة
لخلق وطن معافى ، جوهره العدالة الإجتماعية و المساواة
و ظاهره التسامح و قبول الآخر
كاد كعبها العالي أن ينكسر حينما خطت متسارعة للحاق به قبل أن يقتعد إحدى كنبات شاطئ النيل المتناثرة على طول الشارع من مقرني النيلين الأبيض و الأزرق حتى مبنى وزارة التربية و التعليم تلقي جسدها البض بين ذراعيه مقيلاً لعثرتها و أجلسها بقربه
إستردت أنفاسها
إستأنفا السير بمحاذاة الشاطئ
بعيداً عن المدخل الخلفي للقصر الجمهوري
إستوقفها الديدبان
رجلان يقفان كتمثالين من الشمع
على جانبي المدخل، لا يحركان ساكناً
بل لا يرمشان !!!....
شاكين السلاح على كتفيهما
ربما لا يتنفسان !!...
كأن على رأسيهما الطير
ما أدهشهما
تماثلهما في كل شيء
كفرسي رهان
حاولتُ الإقتراب منهما
لكن "الفاتح"
منعني
كدت أن أرفع رآية العصيان
و قبل أن اتراجع
لمحت خطاً أحمرَ
يصدني قسراً
هل كان صارماً ؟...
أم أن نظرته الجانبية
لها مفعولاً سحرياً
كنت أحياناً إحتار
و يتملكني إحساس غامض
يجعلني كقطعة الصلصال
بين أصابع مثال حاذق
طيعة و قابلة للتشكيل
خطا فخطوت خلفه
كان ساهماً
حاولت قراءة قسمات وجهه
لإستبطان دواخله
إصطدمت بمتاريس عصية
كففت عن المحاولة
و إكتفيت بالتشبث بذراعيه
* * *
كاد قرص الشمس أن يتوارى تماماً خلف الأفق حينما وجدت نفسي لأول مرة
أفكر بصورة جادة و عميقة
في شكل العلاقة التي تربطني ب"رُمانة"
هل هي صداقة ؟....
زمالة ؟...
رفقة ؟...
حب ؟...
عشق ؟...
خطوة أولى لمشوار طويل خاتمته سعيدة !...
عتبة مؤداها إلى مدخل مؤسسة إجتماعية
يطلقون عليها "بيت الزوجية"
لكن !..
ألم تحدد موقفاً عدائياً ضد مؤسسة الزواج ؟....
ألم تقل أكثر من مرة
و في أكثر من موقف
إنها مؤسسة بالية و مهترئة
و لعلها أُسست لحفظ النوع
هكذا ظل "الفاتح سلمان" يطرح وجهة نظرته هذه أمام ضلعيه و ظلوا يبحثون عن صيغة أخرى بديلة ؛؛؛؛ و إختلفت الآراء
و يومها إعتبر "محمود منصور" إن
"الفاتح " أطلق الكلام على عواهنه و جزافاً !!؟...
وقد ضغط على اللفظين الأخرين ضغطاً شديداً
كأنه يضع خطين تحتهما
ثم اردف قائلاً ؛- (هذا الرأي فيه غلو وتجني على منظومة اجتماعية راسخة على مدار التاريخ.. ولا يمكن إلغائها أو استبدالها على إي حال من الأحوال) !!؟...
وقتها لم أكن قد تعرفت على "مرجانة" لذلك لن أتزحزح قيد أنملة عن موقفي ، بل أصررت عليه بصورة قاطعة
حتى إن "لبن" الذي كان دائماً ينحاز إلى أرائي و يقف معي ضد اعتراضات "محمود منصور" وجدته يتخذ موقف المحايد في بادئ الأمر ثم لم يلبث أن ناصبني العداء وجهر به كلما تجدد الحديث حول تلك القضية !.... الآن فقط
تسير بجانبي
صدى وقع خطانا
يرن في الحنايا متناغماً
كمعزوفة درويش متجول
امتدت يده متسللة خلسة
فإلتقط يدها دون ممانعة من جانبها
كانت المرة الأولى التي يستشعر فيها
احساساً مغايراً لما عهده في الأخريات !!؟...
لم يجد توصيفاً معبراً للمشاعر
التي تملكته وهو يحتضن يدها الصغيرة ؛؛؛
هل يمكن أن يصف جيشان
العواطف بالطزاجة
أم يقول عنها انها حارة وملتهبة !...
ربما حميمية وصادقة !...
كيف تكون العواطف صادقة ؟...
هذا لا يُدرك بل يُحس !...
كاللوحة التشكيلية أو المعزوفة الموسيقية !!!....
كأنه تيقن من دلالة هذا التفسير
فتمادى في احتوائها جميعاً بعينيه الوالهتين
تمايلت في غنج وأولته صدرها الطامح ؛؛؛؛
خاف أن يصدر عنه فعل فاضح في قارعة الطريق !!؟....
مسيطراً على جوارحه
طلب منها أن توسع من خطوها
حتى يتمكنا من اللحاق بمشاهدة بداية العرض ؛؛؛
و قبل أن يقاربا دار الخيالة
كانت السماء قد تلبدت بالغيوم الداكنة
و إعتكر وجهها
و برق البرق
و أرعد الرعد
و لم تمض هنيهات حتى هطل المطر الوشيل ؛؛؛؛
و أحالهما إلى عصفورين بللهما القطر ؛؛؛
و من محاسن الصدف أن تتوقف سيارة أجرة بجانبهما
و عند تقاطع شارع وزارة الداخلية مع شارع النيل ترجل الفاتح عن التاكسي ونقد السائق أجرته بعد أن طلب منه أن يوصلها إلى مبتغاها في حي أم بده بمدينة أم درمان ...
ثم واصل سيره عبر الأمكنة الجافة
بعيداً عن البرك التي خلفتها الأمطار
و لم تنفك زخات متقطعة منها تضرب متنه ؛؛؛؛
و واصل سيره و قد تبلل هندامه دون أن يتوقف إلى أن رست به قدماه عند مدخل ميدان الأمم المتحدة حيث عثر بعد جهد جهيد على إحدى مركبات الديوم الشرقية التي تعبر حي نمرة إتنين وهي في طريقها لاستكمال خط سيرها المحدد مسبقاً ؛؛؛؛
* * *



[email protected]




تعليقات 0 | إهداء 0 | زيارات 456
 
أعلى أسفل