اغترابات

عبد الناصر ميرغني

:: كاتب نشـــط::
ها أنت الآن كخاتمة للرحلة تدلق ما تبقي في دواتك من الحبر , تكسر الألواح , وتقطع خيط مسبحتك ؛ لتتراكض الحبات في كل الاتجاهات , كخيول تشم رائحة الآتي من تخوم المروج , ترفع راية مهترئة , وتستسلم , منتصرا أو مهزوما , تتساقط في خدر متاهات الخرائط , التي يرسمها رماد الأحلام , الأحلام التي تبجحتْ حينا , تصاعدَت مع الدخان ؛ لتتلاشى في المدارات الباردة , وتدحرجَت حينا مع المياه الأسنة ؛ لتتعفن مع العتمة في المستنقعات , تستسلم , منتصرا أو مهزوما , لم لا , فما من خطوط بعدُ لِتُعْبر , كلها أمست وراءك , فحين حاصرك فرسان الدرجات النارية , والسيارات اللامعة , والمكاتبِ المطعمة بالعاج والخلفيات الزرقاء ؛ لتنقر عليها الأصابع اللامعة المصقولة , حملت صندوق قبيلتك , أوقدت شموعا , وألقيت به إلى أحضان النيل , ولم تبصر به عن جُنُب , ما من خطوط لتعبر , حتى حراس المتنزه قد ملوا مصارعتك , شاكستهم حتى اكتسبت حق الاستحواذ على مملكتك الواهية , والآن تتسلل من بين فرجات السياج فيتغافلون عنك , كأنك ظل لنجمة شاردة هجرها السرب , تمضي إلى الموعد , حيث تُجلد بألف سوط , فتتكور على نفسك كعلامة استفهام , تنزف دما رماديا .
تنحدر إلى أسفل الجرف , تتسلق جذع شجرة (اللبخ) العملاقة , تُتْكِئ الجسد الهالك القديم , على الغصن الغليظ الممتد أفقيا فوق مياه النيل الرمادية , المياه النابضة , التي تشوبها بقع مائلة إلى الحمرة , تحدق عبر فرجات الأوراق إلى الضوء المترقرق , كدموع في عيون باكية زرقاء , تحك ظهرك على الغصن العتيق , تبرم خصلات شعرك الخشن المتلبد , الذي طال أغصانا جانبها التشذيب , تترنم بأغنية قديمة باهتة يابسة ساقطة الأوراق , تصطحب صهيل خيول من حمى وهواجس , تزرع في قلبك شوكا , تقطعها , تستدير لتستلقي على بطنك مدليا يديك على جانبي الغصن , كنمر عجوز يستريح , تتأمل مياه النيل تنسال تَحْتَكَ , تنبض في همس , تتنهد , وحين تتنهد يرتفع صدر النيل , يعلو فيضانا , لكنْ يتوقف قبل حدود ملامسة الدفء.
كل شيء ينسال ؛ ليختفي في حفرة , أو في ستارات الظلام , أو في رمال صحراء , أو في قلب ضعضعته الشروخ المتوالية , وما من شيء أخبر بانكسارات القلوب مثل هذا العجوز الذي يجرجر رجليه المتقرحتين لملايين السنوات , عبر الأدغال والمروج والصحارى , عبر هذا الزخم الممتد من التواريخ الموحلة من الهزائم والخيبات , من المجاعات والانتفاضات , صعودا وهبوطا , من المنبع وحتى المصب , يَشْرَق بدموعه فيفيض , ويُستنزف فيُمْحَل , تهوي إليه أفواج البراءة من عمق الصحراء البكر ؛ لتسكر بخمر حضارات آسنة , تتمرغ في أحضانها وتمضي للتسكع في الشوارع الخلفية والأزقة , لتمثل ملهاة الأعمى الذي يحمل على كتفيه كسيحا يدله على الطريق , هذا العجوز الذي لقحته الفراشات في مواسم البريق الكاذب , وزعماء القبائل وشيوخ الصوفية والشعراء المتشردون في مواسم انكسار أخرى , يتأوه في الليل كعذراء ساهرة , فيتدله في حبه العشاق , فيتنهد , وحين يتنهد يرتفع صدره , يعلو فيضانا , لكن يتوقف قبل حدود ملامسة الدفء.
كل شيء ينسال , ينسال من نقطةٍ تبدأ وثبة متعثرة , وتمتد تأرجحا , وتنتهي عجزا مطلقا , من لحظةٍ تمتنع على كل الفصول , حبلى بكل الألوان , تستحيل فضاء رماديا مهدرا بلا تاريخ , بلا ماض ولا حاضر , ولا مستقبل ؛ ليتحتم الرحيل, في اللا معنى , واللا زمان , واللا مكان , عبر بلاد وأزمان موغلة في النكران , عبر أناس يمتهنون الجحود , جحودَ عرقِك ونزيفِ وجعِك ؛ ليستحيل صفرا يحفظ خانات الكسور العشرية والمئوية والـ ... , تبا لك , إلام تتباكى , وأي جحود ؟ وأنت استدرت نقطة تتلاشى , مجردة من ردود الفعل , هنا , قبل أن تنتحر في التلاشي هناك , وتأتي لتضع زهورا على قبر شبح تركته هنا قبل قرون ؛ لتغني ملهاتك في ليالي التردد والانتظار والتشرد , ثم تنطفئ حين تلج الضفة الأخرى للغيبوبة , ككل انسيال يبدأ عجزا , وينتهي عجزا , يتدحرج , يسقط ؛ ليحتضنه النيل , ويتنهد , وحين يتنهد يرتفع صدره , يعلو فيضانا , لكن يتوقف قبل حدود ملامسة الدفء.
هنا تشرخت قديما , شرَّحتك العيون الوقحة , فخرجت متدحرجا , وعبرت المنافي تدحرجا , تحاصرك عيون الثلج , فتتكور كفقاعة في محطات القطارات , وزوايا الحدائق المعتمة , تناجي المصابيح المكسورة , والقطط المتشردة , وتحلم بالاستلقاء في قاع النيل الدافئ , تتمرغ في الطمي , وتدخن واضعا رجلا فوق الأخرى , وها تعود متدحرجا , مهزوما آلاف المرات , مختزلا في اللاشيء , تثير زوابعَك فيمتصها سراب الصحارى خلف الضواحي , وغابات الأسمنت المسكونة بالنمل , وتستكين فيتراكم عليك الغبار والرماد , رماد الذكريات والنجوم الخامدة , حتى الأغنيات التي تحاولها دندنة تستحيل نشازا وصفيرا مخنوقا , يلفظها النيل ويتنهد , وحين يتنهد يرتفع صدره , يعلو فيضانا , لكن يتوقف قبل حدود ملامسة الدفء.
تخرج ؛ لتتدحرج في الصباحات , فتستحيل خطاك ضياعا , نثار رماد, اغترابا في الذات التي لم تكتمل أبدا, لم تجد جزءها المسروق في العناء , بقيت شيئا جائعا عطشا , يتمرغ حنينا إلى دفء مجهول , في الذات التي تشظت اغترابا في الأحلام التي تتساقط كجلد أجرب يتسلخ , في الأماني التي فقدت صلاحيتها, بحكم التقادم , بحكم التيه في المدارات المتعفنة لزمن متصالح مع الانحطاط , ومهووس بتخليف الركام في الخمارات , وزوايا الدروشة , وممرات المدارس , وقلوب الرضع الحابين على عشب الحرمان , وعيون الشيوخ الملتفين حول النار ؛ للتسامر بالسعال والتنهد , واجترار الحكايات القديمة , وفي منابر الشعراء التي لوثها لعاب التواطؤ والانكسار , وحين تغسلها أمطار ثورات الفوضى , تنحدر ؛ لتستقر في قاع النيل , فيتنهد , وحين يتنهد يرتفع صدره , يعلو فيضانا , لكن يتوقف قبل حدود ملامسة الدفء.
وها تتسلل كاللص ؛ لتنزوي وتمارس عشقك الآثم للتنصل من الانتماء, من تحمل جريرة المعادلات الكاذبة, التي صغتها في غيبوبة سكر ما , في ليلة رمادية من زمن رمادي , في جزيرة محروقة من وطن تعتق رماده حتى صار شفافا كاللا شيء , تتسلل مخمورا بالخواء ؛ لتلتف بعباءة الضجيج , ضجيج السيارات المشحونة بالأموات , ضجيج السمار المهووسين بسرقة البهجة الآسنة , التي تصطنعها نكات فاحشة مضغت حتى زالت نكهتها , البهجة التي تحمل رائحة خمر رخيصة فاسدة .
تتسلل كقط مهزول تطارده عصابة كلاب مسعورة ؛ لتذوب قليلا , في غيبوبة مسروقة من هيمنة وجود مستبد , قبل أن تصحو مفزوعا وسط الركض اليومي المجنون لخيول محمومة تنتهك حرمة غيبوبتك , تنتهك حِمَى النيل وما في قاعه من الصناديق والذكريات , فيتنهد , وحين يتنهد يرتفع صدره , يعلو فيضانا , يعلو نبضا يعلن عشقا / حلما غازل رؤاك المعتمة , يغمرك الدفء ... أخيرا , يستحيل رحما , تحتويك , ترحل بك بين المجرات حيث الضوء الناعم ينبض ترحيبا وبشاشة , والنجوم التي تتراقص في أثوابها اللؤلئية , يستحيل الصهيل والحمحة أجراسا خافتة , تصطحب ترنيمة المهد , وها يداخلك النعاس/السكينة/اليقين , بعد قرون من التوهج , وفوضى الحرائق , والخطى المتكسرة في دروب التيه .
جود دائم ‏21‏/12‏/2015
 
رد: اغترابات

سلمت يمناك وعز يراعك عبدالناصر .

اقف احترماً وتقديرا
 
أعلى أسفل