إلـي الــقـــــصـــر ( قصة قصيرة )

Mohamed Hassan

كاتب جديد
لم يستطع النوم أن يزور جفونه فى تلك الليلة .. وبعد ان أدى صلاة الفجر فى الزاوية الصغيرة بجوار منزله , هم أن يتكئ على حائط المصلى فى الصف الاخير ليناجى ويشكر ربه العظيم .. لكن المصلين على قلتهم ازدحموا من حوله والكل يبارك له ويشد على يده بحرارة .. نعم كان فوزا كاسحا لكنه متوقع .. ما قدمه طوال السنين الماضية كان يشفع له لدى الجماهير .. استقبل تبريكاتهم بحفاوة وبصبر.. اخيرا صافح أخرهم وغفل عائدا الى منزله .
وفى شارع قريب من الزاوية شق سكون ساعات الصباح الاولى حديث حاج عثمان وهو يتحدث بفخر : " تصدق يا بشرى أنا بعرفه من زمن كان بلعب كورة بالشورت " .. سكت برهة ليفسح المجال ليسرح خيال بشرى لير ما رأه .. واصل حاج عثمان حديثه : " كان من زمان هادئ ومؤدب وأصلو ما كان بتعالى على زول حتى بعد بقى مشهور وبظهر فى التلفزيون " .. تسلم بشرى خيط الحديث قائلا : " يا حاج أسمع كلامى .. تفتكر تانى بعد البهرجة حيجى الحلة أو حتى … " قاطعه الحاج ولمحة غضب تبدو على عينيه : " يا بشرى انت ما بتعرفه .. انت رحلت قريب .. أنا بقول ليك بعرفه من كان شافع .. الزول دا غير التواضع والخير ما شفنا منه شئ .. لو كان بتكبر كان اتكبر زمان , الراجل دا المقعده معانا العشرة بس .. دا مرتاح لو عايز يسكن كافورى بسكن " .. و واصل الطريق الانصات اليهما وهما يختفيان عند ناصيته .
عاد صاحبنا الى منزله و وجد بيته الذى تركه نائما فى أحضان الليل يفيض بالاقارب وأهل الحى ويضج بالتبريكات وتطلق جدرانه زغاريد سعيدة كوجه خالته التى استقبلته بأحضان مسرورة .. وكما حدث فى المسجد , العديد من الأيدى الفرحة والأصوات المهنئة والوجوه المسرورة .. وعلى عتبة الباب خلف صاحبنا دخل عثمان جزار الحى الستينى يجر ثورا .. وربما الفرحة العارمة أو هى الخبرة الطويلة التى ساعدته فى حمل واضجاع الثور بكل بساطة .. تكبيرة عالية فذبح ثم زغرودة شقت عنان السماء .
أغلق صاحبنا باب غرفته فتسربت أصوات الخارج كطنين نحل بعيد .. سجد لربه طويلا .. همس قلبه " أى نعمة أنعمت على بها يا آلهى أم هى امتحان عسير غلف فى ثوب هدية مزركشة " .. داهمته زوجته وأبناءه .. توالت أسئلة الغبطة الحيرى.. طمئن الجميع.. سيذهب ويعود ليلا بعد أن يضع لبنات الطريق الأولى .. قاطعته أخر العنقود : " يعنى ما حنمشى معاك يا بابا " .. حملها وهو يقبلها ثم قال : " حأرجع نهاية اليوم زى ما بحصل دايما يا عسل " .
بدل ملابسه بثياب رسمية .. خرج فاستقبلته الهتافات والحماس يتقافز من حناجر المبتهجين .. جالسهم فتنحنح محجوب المتفلسف _ كما يقال له فى الحى _ وهو يعدل نظارته الضخمة قائلا باسلوب مذيعي الأخبار : " هل ستضع يدك فى يد أصحاب اليسار المتطرف ؟ " .. وقبل أن يجيب عريس الليلة هتف أحدهم : " يا يوسف أعفينا من فلسفتك دى " فتعالت الضحكات .
أصوات سرينة تتعالى عن بعد فتشرئب الأعنق خارجا وتعاود النساء اطلاق الزغاريد حتى سكينة البكماء شاركت بصرخة تحاكى الزغرودة الى حد ما .. وتدخل البدل السوداء التى يحملها أصحاب الصدور المنتفخة والعضلات البارزة .. وفى مقدمتهم كبيرهم وسماعة أذن تتدلى على جانب عنقه الأيمن فحيا صاحبنا بتحية عسكرية نالت اعجاب حاج أب دومة فتقدم نحو كبيرهم وأدى مثلها وفى حماس قال من بين أسنان الطقم : " أنا صول قديم يا سعادة " .. فتجاهله ذو سماعة الأذن وقال لصاحبنا : " سعادتك الموكب جاهز " فابتسم وقال بهدوء : " موكب عديل ! .. أنا قلت تجو بعربية واحدة .. وتانيا أنا مدنى بلاش العسكرية دى " ..فصفق الجمع الغفير وسار صديقنا أو فالنقل أنه حلق على أكف الحضور حتى أجلسوه بسيارته التى انطلقت خلف دراجة المرور .
ومن النافذة المعتمة شاهد الحى يعدو خلفه فى سعادة .. وتمر الأماكن أمامه وتتداعى الذكريات فى عقله ..هنا لعب .. هنا تشاجر .. هنالك أحب .. هنا تظاهر .. هنالك يعمل .. ابتسم كصقر ظافر .. حلمه يتحقق.. عدل قميصه الأبيض .. هذا القميص سيصبح الثوب الرسمى لجميع العاملين معه ليتذكروا أن يظلوا نظيفى السر والعلن واليد ! .. تحسس الخطاب الذى سيلقيه اليوم .. لن يصدق أحد اذا ما أخبره أنه كتب هذا الخطاب منذ كان فى العشرين من عمره .. عدل فقط بعض الفقرات لتواكب الأحداث الأخيرة.. قطع ذكرياته كبيرهم الجالس بجوار السائق : " وصلنا سعادتك " .. كانت البوابة مفتوحة على مصراعيها وعلى جوانبها جنود بلباسهم الأخضر والأبيض وعازفو الموسيقى يستعدون بآلاتهم .. هتف صاحبنا قبل أن تجتاز السيارة البوابة العالية : " توقف " .. كبح السائق جماح عربته فتوقف الموكب ونظرة حيرى تطل من أعين قائد الحرس .. ابتسم صديقنا وربت على كتفه مطمئنا وهبط من السيارة .. ساد الصمت والجميع يفكر فى " البرتكول " الذى أخترق .. تجول صديقنا بنظره فى المكان وابتسامته لا تفارقه.. اختار منطقة ما وذهب اليها وفعل أغرب شئ شاهده المستقبلون .. جلس على ركبته ويده تتحسس الأرضية المسفلتة وابتسامته تتسع وتتسع .. مر من هنا فى سنوات مراهقته بصحبة صديق له .. كانت الشمس تشارف على المغيب والسيارات تعدو كأنما تسابق الشمس فى العودة الى البيت ..كانا يبحثان عن عنوان تائه منهما .. فأقترح صديقنا أن يسئل أحد الجنود الواقفين أمام البوابة.. وعندما اقترب منهم تقدم الجنود نحوه ثم صرخ أحدهم : " ثابت " .. وتقدم صاحبنا وخياله المراهق أوحى له أنها مزحة .. فأعاد الجندى الكرة : " ثابت " .. ثم وضعوا أسلحتهم فى وضع الاستعداد .. التكة المميزة أجبرته على التوقف وأعينه ترسل نداء دهشة .. صرخوا به أن يجثو على ركبته و أن يرفع يديه فنفذ أوامرهم والغريب أنه كان يضحك وازداد ضحكه عندما شاهد صديقه يعدو هاربا ويختفى عند الناصية .. وبعد ما تبين للعسكر حسن نيته أطلقوا سراحه وهم يخبرونه أن هذه منطقة محظورة وكان يمكن أن يطلقوا نيرانهم لو تقدم خطوة .. وعندما عاد وجد صديقه لاهثا عند الناصية : " دى سلامة .. أنا قلت قتلوك " .. فضحك وهو يخبره أنه يوما ما سيدخل من هذه البوابة رافع الرأس .
قال قائد الحرس فى حيرة : " فى حاجة سعادتك " .. فوقف صاحبنا قائلا : " لا شئ .. ذكريات الطفولة فقط " .. وعبر البوابة مطأطأ الرأس عندما تذكر دخول حبيبه الى مكة .. ومن خلفه أطلق الجنود عنان موسيقاهم العسكرية .. مسدلين الستار على الانتخابات النزيهة وخطوات صديقنا فتحت سماوات الديمقراطية الحقة وخطابه التاريخى الذى تسمر الشعب بأجمعه على الشاشات للاستماع اليه كان اللبنة الأولى نحو رحاب النهضة .
 
رد: إلـي الــقـــــصـــر ( قصة قصيرة )

مرحب بيك يامحمد حسن بيننا
كتابة جميلة ,,,,, وننتظر مثل هذا اليوم الذي يدخل فيه القصر رجلا جاء عبر طموحات هذا الشعب الصابر
 
رد: إلـي الــقـــــصـــر ( قصة قصيرة )

الأستاذ محمد حسن:
كتابتك تفصح عن مكنون رحب للغة البوح ومسراج الخيالات الفصيحة ..
لم أجد نفسي إلا وأنا أعدو بخيالي خلف شخوص القصة وتفريعاتها الديكورية التي منحتها مكانة ومتانة تجعل من كل أحداثه جسداً واحداً إذا إشتكى منه عضواً بلذة الوصف تتداعى له سائر الجسد بالرقص والطرب ..
بعيداً عن مضمون النص - فالأحلام مشروعة للجميع ولو على ورق - أتت اللغة سهلة منقادة تجثو على قلم وكانت الأحرف جزلى والخيال خصب.
دم بخيـــر
 
أعلى أسفل