أقصوصة (ذات صباح) ..

عبد الناصر ميرغني

:: كاتب نشـــط::
بدأت خيوط من الضوء المتشرب بألوان قزح , تتسلل من بين فرجات الستار , الذي تداعبه نسمات فجر ندي ؛ لتغازل المنطقة المظللة -بين النوم واليقظة- بعدم الرغبة في مغادرة الرحم الدافئ ؛ للتشرد في متاهات يوم جديد , تتشتَّتْ في مساراته أشواك أقدار عابثة , ولكن شيئا مختلفا ناعما وورديا كان يهوم في المكان , يداعب استفاقتي , يتسلل عبر المسام , يراقص توجساتي منسابا عبر شراييني , فيُكسب روحي خفة , ويصقل الأشياء فتبدو كاللآلئ .
بدت الغرفة أوسع وأجمل , ورنَّت في فضائها أجراس هامسة وأنيسة , اختفت تشققات الأثاثِ والجدرانِ , الخرائط التي تاهت فيها مغامراتي الصامتة , الخرائط التي تبلورت حولها محاولاتي لخلق شيء ما من خواء الوحدة والتنهد , الخرائط التي كانت أدواتِ عبثي وتكسيري للوقت وتكسري فيه .
تناغمت الأشياء التي كانت شظايا تَخِذُ اتكاءات نظراتي , وتشحذ الحواف الحادة في ملامح التفاصيل اليومية الوقحة , والرؤى المتكررة المتكسرة في عبثية الاصطدام بالجدران الزجاجية السميكة , والهواجسِ التي تتناسخ كصدى في كهف مظلم , تشكلت من فوضي كتبي وملابسي وبقايا الطعام وأعقاب السجائر المبعثرة هنا وهناك لوحة توحي بالألفة والحميمية .
أخذت أستفيق شيئا فشيئا , محاولا أن أتلمس في خوف وتوجس معالم هذه النقلة الصباحية المفاجئة , هذه الإشراقات الحانية , أجتهد في الطفو فوق عتمة خدر الرحم الدافئ , فأوشك أن أمد يدي ؛ لأتحسس أضواءَها الدافئة .
الجزء النابض مني يتساءل : من أين تراه يهطِل هذا المطر الناعم ؟! فتتواثب في الخلفية الزرقاء مشاهد قديمة , امتداد رملي لا نهائي , نهارات مصقولة بالشقاوة والعبث السري , ثم التلاشي في حواف السديم المعتم ليوم معدوم الملامح , نقود معدنية متناثرة أجمعها ليلا ؛ لتتبخر من تحت الوسادة صباحا , وتترك خلفها حسرة ومرارة , جداول الماء المنسابة في الصباحات الخريفية , قطرات الندى المتراعشة على أوراق (السنا مكة) بين البرك المتقطعة , وقطة بيضاء ربيتها زمنا في حالة من حالات فقدان التوازن , وكانت تذيبني خضرة عينيها , ومواؤها المتلمق .
أسكرتني حالتي الشعورية , وبدأت علامات الاستفهام تتقافز في الفراغ مشاغِبة , عصرْتُ برتقالة الذاكرة مستجديا , لم يتقطر منها شيء , فغادرت لذة الخَدَر كارها ويائسا.
تدحرجت مدفوعا بين الفراغات فراغا , تنقلت بين الوجوه المنطفئة مأسورا في فجاجة التحايا الروتينية , ارتججت في حافلة متهالكة متهدلة الأوداج , انحشرت في زخم كلمات المحاضر التي استغاثت بعقلي بلا جدوى , تلاشيت في ضجيج ازدحام مقصف الكلية , كوب الشاي نداء عاجل يفرض طقوسه , ومشهد صامت يتقن فن البوح الصوفي , لا شيء أروع من الاختفاء من حشرية الآخرين , الذين يتسللون إلى مفاصل الرؤى , فتفقد الأشياء اتجاهاتها , وتماسكها , لا شيء أروع من الهروب من تذمرات الذات والضياعِ اختباءً في ضجيج وزخم الآخرين , هكذا يفرض اللاشيء خدره اللذيذ .
مع امتداد يدي نحو لذة الكوب المتصاعدة , يملأ الفراغ وجه (نون) , يُشع حضورُها اليوم شيئا مختلفا , مختلفا تماما , ناعما وورديا , تدنو كسحابة تترى , مضمخة بروائح (الخُمْرة) و(الضريرة) و(الدعاش) , كان لها في ما مضى ظل آخر , باهت ومسطح , والآن يوشحها ظل آخر, طيف مختلف , براق , وكثير التفاصيل , تحيتها تناغم لذة النداء العاجل , وتغازل طقوسه , بلورة تمتص الضوء , وترسله إشعاعات بآلاف الألوان , تحيتها تتسلل عبر مسامي , وتكسب روحي خفة , كانت (نون) لوحة في إطار من الزجاج السميك , وأصبحت لوحة تمازج ألوانَها نسمةُ الصباح الندية , تحيتها تخلع الإطار , تلبس ألوان قزح , وتتشابك مع خيوط الحلم المشعة من قطرات رحيق برتقالة الذاكرة .
تتوهج الاستضاءات في الخلفية الزرقاء , الفضاء يتسع كابتسامة طفولية , تخرج (نون) من بوابة بين الشلالات والأدغال الكثيفة , وتحلق بجناحين من قزح , وهج من الضوء اللؤلئي يغازل الأخضر اليانع , يرسم مشاهد المستقبل الوردي نغمات من كونشيرتو الكمان , الدرب يمتد مفروشا برمل ناعم , تمسك بيدي , وتخطو بخفة بقدمين حافيتين خطوات راقصة في سرمد شفاف , عند المفترق تختفي التوجسات والمرارة والحسرة والرؤى المشرخة , عند المفترق تقبلني , قبلة دافئة ناعمة ووردية , شفافة كوردة في حلم , وعند المفترق من الحلم تولد الصباحات الجديدة.
‏جود دائم ‏30‏/11‏/2015
 
أعلى أسفل